المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حتى لا يتهاوى القدوات - مقالات موقع الدرر السنية - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌دراسة علمية شرعية

- ‌بين (مقاصد الشريعة) و (مقاصد النفوس)

- ‌بـ اسم سبتمبر

- ‌على هامش حجب المواقع وإيقاف القنوات

- ‌أبشركم .. مسلسل القعقاع حقق أكثر نسبة مشاهدة

- ‌حَتّى لا يَتَهاوَى القٌدَواَت

- ‌نظرة في الاتجاه العقلاني المعاصر ومظاهره

- ‌الإرجاء الفكري

- ‌الضوابط الشرعية…رؤية ليبرالية

- ‌منع غطاء الوجه والتذرع بالذريعة

- ‌الفتوى ومسألة الحرية

- ‌الثورة الإصلاحية وكَشْفُ المُغَطَّى

- ‌القول الشاذ في الفقه الإسلامي ودعوى اكتشاف الإسلام من جديد

- ‌جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة

- ‌أين أخطأ المقاصديّون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (1/ 2)

- ‌أين أخطأ المقاصديّون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (2/ 2)

- ‌عنيف القول ولطيفه تجاه السلف

- ‌التسامح العقابي مع المبتدع وضرورة الإتقان المعرفي

- ‌خبراء في الفكر والفلسفة ولكن

- ‌فاضح القرّاء

- ‌زجر أهل العلم والتقوى للمتساهلين بالفتوى

- ‌شبهة حرية المنافقين

- ‌القصة من أوّلها

- ‌اليهود وجريمة البحر

- ‌الاختلاط بين الجنسين وظاهرتي السعار والشذوذ

- ‌الضوابط الشرعية بين الثوري والمهدي

- ‌عصر دبلجة الواقع

- ‌المُفْتُون المَفْتُونُون

- ‌التوازن الفكري

- ‌متى يحسن الرد على المخالف

- ‌الخطاب الإصلاحي والإشكاليات المتجذرة

- ‌اقتلني ومالكًا

- ‌كسوف العقل

- ‌الموقف الشرعي الصحيح من وفاة أهل الضلال

- ‌توحيد (الإصلاحيين)

- ‌مقترح لصد الهجمة الليبرالية

- ‌حديث: ((رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء))

- ‌إصلاح "الإصلاحيين

- ‌توقير الفلاسفة وتعظيم الحرية .. في صحافتنا الموقرة

- ‌صيانة الدين والمجتمع من تعديات أهل الأهواء (1)

- ‌(حاصروا غزة وبلاد المسلمين، فحاصرهم الله ببركان أيسلندا)

- ‌العقيدة أولاً: مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي

- ‌وقفات مع مؤتمر (ماردين دار السلام)

- ‌ماذا يريد السلفيون من منتقديهم

- ‌فتنة القول بجواز الاختلاط (2/ 2)

- ‌الصحوة والمناطقية

- ‌ماهي منجزات الصحوة

- ‌الانتخابات أسقطت كل الأقنعة في العراق

- ‌(قلب الأدلة على الطوائف المخالفة) للقاضي

- ‌ساعة وفاء

- ‌الاحتجاج بالخلاف ديانة أم مخادعة لله

- ‌إيجابيات الخطاب السلفي

- ‌في إعمار دارفور .. نزرع ويحصد غيرنا

- ‌نقد الخطاب السلفي…وغياب القيم

- ‌مسألة: حدود عورة المرأة أمام المرأة

- ‌تعامل السوق السعودية بالتورق خطر قادم يوقعها في أزمة مالية كبيرة…عضو الشورى الأطرم محذرا: سندات القروض "ربوية" من بدئها لمنتهاها

- ‌الأزهر بين التطوير والتطويع

- ‌بيان مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية

- ‌هدم الأقصى

- ‌بيان رابطة علماء المسلمين لنصرة إخواننا في فلسطين

- ‌ياهؤلاء: شكراً لكم

- ‌حتى لا نعرض مشاريعنا للتقبيل

- ‌القوَّة في الدِّين .. كيف نراها واقعاً في حياتنا

- ‌(ميمري) و (إيباك) .. الأذرعة المتكاملة

- ‌الباطنية: سلالة الفرس المجوس

- ‌إعادة قراءة الولاء والبراء

- ‌معايير تحديد أولويات المواجهة

- ‌حرس الحدود والمسلك الأبلق

- ‌التعلم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (1)

- ‌التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (2)

- ‌التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (3)

- ‌التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (4)

- ‌التعليم المختلط في الصفوف الابتدائية نظرات علمية (5)

- ‌كيف بني تحريم الاختلاط

- ‌حديث الأسوة

- ‌لا تجعل قلبك كالإسفنجة

- ‌حينما يكون الإسلاميون سفراء لليبرالية

- ‌خطأ القول بأن الإمام الشافعي غير مذهبه في مصر مراعاة للعوائد والبيئة المصرية

- ‌تكثير الأتباع بالوحي لا بالابتداع

- ‌احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي

- ‌الشذوذ في القول

- ‌الاختلاط بين "محكم" الوحي و"متشابهه

- ‌تتبع الرخص

- ‌مقدمة كتاب ((منهج الأشاعرة في العقيدة)) الطبعة الجديدة

- ‌قصة الحوثيين

- ‌من الذي اخترع لفظ (الاختلاط)

- ‌الصحفي .. المفتي

- ‌إتباع الصراط في الرد على دعاة الاختلاط

- ‌درس عملي في المحكم والمتشابه

- ‌توضيح المبهمَات في مسألة كون جدة ميقات

- ‌التحصينات الشرعية من أنفلونزا الخنازير وغيرها

- ‌ونحن أيضاً، سنصدعُ بالحقِّ

- ‌الترجيح في حكم النشيد

- ‌جواب سؤال عن كتاب: (ظاهرة الفكر التربوي)

- ‌الفرق بين بيت الله الكعبة وسائر الجامعات المختلطة

- ‌إنها لإحدى العبر

- ‌الاختلاط .. (هَمٌّ) و (وَهْمٌ)

- ‌مفهوم الاختلاط بين التأصيل والتضليل

- ‌الموالاة: معناها ومظاهرها

- ‌الحرم المكي ومضاعفة الأجر فيه

- ‌وسائل الأعداء في إفساد المرأة وأساليبهم

- ‌رائد الإبداع طيب الأثر إشارات وعبر من سيرة ومؤلفات الشيخ بكر

- ‌نوازل الصيام [1/ 2]

- ‌انتقاد "القول التمام

- ‌رسالة إلى أئمة المساجد بمناسبة شهر رمضان المبارك

- ‌مسألة السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الخطباءُ وأفكارُ المنبر

- ‌النشيد الراحل والغناء الحاضر

- ‌حركة الإمام أحمد بالصورة

- ‌مسألة زواج السَّيِّد الشريف من غير الشريفة، والعكس

- ‌التقدم إلى الوراء

- ‌نسبيَّة الحقيقة في الفكر الليبرالي

- ‌الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (1/ 4)

الفصل: ‌حتى لا يتهاوى القدوات

‌حَتّى لا يَتَهاوَى القٌدَواَت

د. حمزة بن فايع الفتحي

9 رمضان 1431هـ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن والاه

وبعد

فإن من الإشعاعات الإيمانية التي ينشرها الله في حياة الأمة المسلمة، بزوغ أنوار تشرق في العلم، والعمل التربية والسمت الحسن، ربما تعلم الناس من هديهم وأخلاقهم أكثر من محاضراتهم ودروسهم، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاتحة الاقتداء، وعنوان الائتساء، من حين ما قال الله تعالى:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الاحزاب: 21].

وجعل الله تعالى منهج الاقتداء بين الناس سنة متوارثة، ينقلها جيل إلى جيل، فقال عز وجل:

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الانعام: 90].

وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].

ولم يحك الله تعالى عشرات القصص القرآني والأخبار التاريخية إلا لمزيد القدوة والاعتبار.

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111].

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].

وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].

ومن هذا المنهاج النبوي، ومن المدرسة المحمدية يبزغ علماء وصالحون، ومربون وعباد ينفع الله بعلومهم وأعمالهم وتعبق أخلاقهم ومواقفهم، ويصبحون حديث الناس حسناً وحباً وأقتداء، بسبب صدقهم وعلمهم، وجمال دينهم وإخباتهم.

ومن ثم يصبح لهم قبول عارم، وشعبية هائلة، وصيت زاحف، ومع ظهور وسائل الإعلام المتدفقة، صاروا نجوماً يُهتدى بها، ومنارات يُستضاء بذكرها وفتاويها.

وهذا مكسب باهر للدعوة الإسلامية، خليق بنا أن نحافظ عليه، وأن نعزز جذوره وقوائمه، لأن التربية بالقدوة أفق تأثير باذخ، وسبيل نصر قادم، ورب كلمة، أو وقفة، أو سلوك لعالم رباني، تبلغ ما بلغ الليل والنهار، ولا يزال الناس يتحدثون عن قدوات ربانية كأبي حنيفة وأحمد والشافعي والأوزاعي والثوري وابن المبارك،

وابن باز والألباني وابن عثيمين وغيرهم

لم تنقض مباهجهم، ولا جفت مكارمهم، رحمهم الله تعالى ..

لكن من الملحوظ في هذا الزمان الصعب المتغير، وتعاظم الفتن، وقلة الناصحين، وغياب المنهجية الدعوية المتكاملة، يبدو في الآفاق تناقص في الأخيار، وتهاوِ في القدوات، وخلط في المفاهيم واستفراد الأفاضل المؤثرين، مما يعنى تغيراً في المنهج، وتجديداً في السلوك، ومراجعة في الفتاوى، واستسلاماً للضغوطات، التي تتفق والمنهج الإسلامي القويم.

ولذا أحببت أن أنبّه هنا على خطورة تهاوي القدوات ونقص الفضلاء، كي لا نندب حظنا، ولنحافظ على مكاسبنا، ولنحقق مبدأ (التواصى بالحق)، والتواصى بالصبر، ولتبقى المسألة الدعوية الطاهرة، مصونة عن نقد فادح، أو ثلب ذامٍ وجارح. إن تهاوي بعض القدوات السابقة، والأسماء اللامعة، التي انتفعت بها الأمة، أمر مرير، مكدر للدعوة وأهلها، وفرصة للمنافقين أن يتشدقوا وينتقموا

!

أما بالنسبة لأسباب التهاوي والتغير فهي كالتالي:

1) الاتكال على الشهرة: قال تعالى: {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3].

ص: 13

وهذا نوع من تغير النية، وتكدر مزاهرها، حيث يبلغ العالم مبلغاً عظيماً، وينزل منزلاً كريماً، فيشعر بنشوة روحية، تجعله يعجب بما يحقق وينجز!!

فينقطع عن خيراته السابقة، ويعيش على أركان الشهرة الجديدة، التي جعلت منه أحد نجوم الفضائيات، فيبدأ يختط طرقاً جديدة، ويصدر فتاوى غريبة، ومواقف غير سديدة، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله:(أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أًعرف، قد بليت بالشهرة إني أتمنى الموت صباحاً ومساءً)

وجاء عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله (ما صدقَ اللهَ عبُد أحبَّ الشهرة)

حيث يدرك هؤلاء العلماء مخاطرها، وآثارها اللهيبة على العالم القدوة ومجده الديني، وإخلاصه الخصيب.

2) اعتقاد الراحة التامة: قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

لا يمكن لعقلاء العلماء والفقهاء، أن يستريحوا من عناء الرحلة ومشاق البذل والتوجيه، لأنهم في جهاد دائم، وفي جلاد مستميت، لا سيما والأمة ضعيفة، ولازالت محتاجة إلى علمهم وتوجيهاتهم، فاعتقاد الراحة بعد طول المدة، وبدو الإنجازات، مفض إلى الاستضعاف والسكون، والظهور بوجه جديد، وطرح مغاير، لا سيما والفتن خطافة، والتيارات زاحفة والله المستعان، قال تعالى:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63].

3) الركون إلى الدنيا: قال تعالى: {فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل: 36].

كثيراً ما تكون مفاتن الدنيا مزلة أقدام العلماء والصلحاء إلا من عصمة الله تعالى.

ولهذا صح قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها))

يفتح على بعضهم الوان المال، وبروق التجارة، وكثرة المباحات والمرفهات، فيميل إليها ميلاً، تضر سمعته، وتعكر درسه ومنهاجه، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم:((أكثر منافقي أمتي قراؤها))

4) ولوج الشبهات: قال تعالى: {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51].

الشبهات أمور دائرة بين الحل والحرمة، تخفى على كثير من الناس، لكن يمهرها حذاق أهل العلم، ومن مهرها، قد يتساهل في التباعد عنها، فيقارفها بحجة الشيوع والغلبة، أو ما يسمى عموم البلوى، أو أنه سيمحوها بغلبة حسناته!! ويجره ذلك إلى استطابة المكروهات، ومن ثم التورط في بليات عظمى، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث النعمان بن بشير رضى الله عنهما:

(وبينهما أمور متشبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع

ويروى عن عمر رضى الله عنه: (من أقام نفسه مقام التهم فلا يلومن من من أساء به الظن)

5) التأكل بالماضي: قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].

ينتج عن الارتياح التام، العيش على مباهج حياة الشباب، من صدق، وصدع، وجد وعطاء سابق، إلى عدم مضاعفة الجهد، والشعور بكثرة الأعباء، وأنه يحتاج إلى مزيد الراحة ومزيد التأمل والابتكار لأحوال تأثيرية جديدة! وهذا قد يكون مزلقاً شيطانياً، وحيلة نفسية تؤدي بصاحبها، وتورثه الكسل وتلبسه التراخي والإهمال.

6) الاغترار بالظالمين: قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} [هود:113].

ص: 14

وهذا شكل من الركون إلى الدنيا، والإعجاب ببعض الظلمة والفساق، ممن لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، لكن يرجو منهم شفاعة، أو نيل وجاهة، أو بلوغ مكانة! فيدنو منهم ويصانعهم، وقد يزين له الشيطان صلاحهم، وإمكانية هدايتهم فيقع في مفاتنهم وشهواتهم، فيضرب في الدين خبط عشواء، وتتساقط كلمته وهيبته في الناس قال تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]

قال الحسن رحمة الله في معناها: (لو تصانعهم في دينك فيصانعون في دينهم)

وجاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن))

7) استسهال الفتن: قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].

الفتن كلمة جامعة لكل مناكد الحياة ومخاطرها وشهواتها، ومفسداتها، وهي تبدأ مع الداعية الصالح، بمشتبهاتها وصغارها، من النظرة واللمسة والمخالطة والإعجاب إلى أن تقع منه موقعاً شديداً، يصعب معه التخلص منها، ما لم ينفر منها، ويجدد الإيمان، ويديم الاستغفار، وقد جاء في الحديث الصحيح:

((تعرض الفتن عرض الحصير عوداً عوداً فأيَّ قلبٍ أُشربها نُكِت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكته بيضاء .. ))

8) إهمال التجديد الإيماني: قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].

صح قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الإيمانَ ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجِّدد الإيمانَ في قلوبكم))

فتجديد الإيمان ضرورة حياتية ودعوية لابد لنا منها لاستكمال الحياة، وعيشها بهناء، وللسلامة من الفتن والأرزاء، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله:(والله إني إلى الآن لأجدّد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلاماً جيداً)

9) نسيان المجاهدة: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

ليس ثمة معيار أعظم من المجاهدة والمحاسبه في زمن الفتن والتخبط والأهواء لأنه درء للباطل وترسيخ للثبات على الحق، وتعميق للإيمان، وإغاظة للمنافقين. فالمؤمن وهو يلتهب بمسيل الفتن والإغراء، لابد له من جهاد نفسي، ومراغمة لما يرى ويسمع، ليسلم له الدين، ويصان الجوهر، ولا تكدر المحاسن، قال تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} قيل معناها إتيان الأوامر، وترك الزواجر، صوناً للنفس، وطاعة لله تعالى.

10) قلة التواصى: قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].

هذا منهج رباني، أهملناه كثيراً في الإطار الدعوي والعلمي، ولعل من أسباب الإهمال تمنع بعض الدعاة الكبراء من الإصغاء، واعتقاد مطلق الوصاية والتوجيه! وهذا خطأ منهجي لأن العلماء مهما سموا وعظموا، لايزالون في محيط البشرية، التي يعتريها السوء والغفلة والانخداع، فلابد من مناصحتهم وتحقيق مبدأ التواصي معهم، لئلا يجتاحهم العجب والخيلاء، ويستغلوا أو يستزلوا من قبل أعداء الدعوة، وزمر المنتفعين، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم في مسلم:(الدين النصيحة) وفي سنن أبي داود كرر ذلك ثلاثا.

11) تقصير الخاصة: قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9].

ص: 15

ونقصد بهم أحباء الشيخ وتلاميذه وخريجيه، ومن لهم به حظوة، ومعرفة، ويدركون مداخله ومخارجه، وله عليهم الحب والمتابعة، والنصح والتذكر، والإعانة والتسديد، فهولاء هجرهم لشيخهم في زمان الفتن، وعدم نُصْحه وتسديده، قد يؤدي إلى حضور غيرهم، وشعوره بالعزلة، فينبرى إليه غيرهم ممن لا يريد بالشيخ خيراً، وبالدعوة فضلاً وسمعة، فيوقعه في مزالق غير محمودة، ويمرر به أفكاراً مشبوهة، وفتاوى مستغربة.

12) تغيير المساق: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].

من كان يُعرف بالحزم بات للين أقرب! وحامل الجد حامل هزليات الآن، وصاحب الإنكار باتَ رهنَ العقار، والخطيب المفوة، صار فضائياً مموهاً! فقلَّ العمل، وضعف التأثير، وسادت الدنيا، وفترت الجماهير، وقلَّت القدوات، وشحَّت المراجع، وأصبحنا نخوض مع الخائضين، والله المستعان.

قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112].

جاء عن عمر رضى الله عنه أنه قال: (استقاموا والله لله، ولم يروغوا روغانَ الثعالب)

13) مكر المتربصين: قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50].

ومكر المتربصين من أعداء الدعوة، لا ينتهى عند يوم وليلة، أو حادثة أو حادثتين بل تخطيط مستمر، وتربص دائم، وتدبير طويل {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] يبدأ أول ما يبدأ بالرصد والمتابعة ثم الإهداء والاغراء!، قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النحل: 36].

وقد عرضت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألوان الملك والشرف والمال والسيادة، لتعيقه عن هدفه، أو تخفف شدته وقناعته، فأبى واختار الحزم معهم، لعلمه بخطورة ذلك على الدعوة والنفس والأتباع.

وقد كان هذا من منة الله تعالى عليه، أن ثبته وصانه عن مكرهم وإغراءاتهم قال تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الاسراء: 73 - 74].

وهذا في نظرنا من أعظم أسباب تغير القدوات، وعدم إدراكهم بمكر المتربصين، الذي لا ينصب على مجرد الحرب والقمع والاضطهاد، بل يتلون ويأخذ شكلاً دنيوياً وإغرائياً ليتم لهم مسخ الإسلام وإشاعة الفساد والفحشاء من خلال وعاء كبير يسمى (سياسة الاحتواء) ثم إذا أسقطهم، ألقى بهم لنكبات الدهر، وإلى سلة الإهمال. كما قبل:

وقضى حاجتهَ منهم وغشاهم فُضولُ

عنهم استغنى كما استغنى عن النعل البخيلُ.

وهذا مقصد وسياسة لكثير من المتربصين من المنافقين والشهواينين الذين يرون في الإسلام ودعاته، عقبة كأداء أمام مشاريعهم التخريبية والتغريبية، لأنهم، بتعليم الغرب- يدركون أن تحول المجتمعات المسلمة لا يكون إلا عبر عقول داخلية، وجلود عربية، وليست من الخارج، كما صنع في مصر حيث استفيد من الشيخ محمد عبده، ورفاعة طهطاوي، والكواكبي وغيرهم لتمرير بعض المشاريع الفاسدة، وإلى تلبس لباس العلم والفهم والتنوير .. والعلماء القدوات، ورقة رابحة إذا بُدلِّت، وتلوعب بأفكارها ومشاريعها، ولا حول وقوة إلا بالله.

(اللهم ثبتنا على دينك، واحفظ علماءنا وخيارنا من كل غائلة وسوء) آمين.

14) الاجتهاد غير المضبوط:

ص: 16

وهو الآتي في سياق غريب يقفو العجائب، ويحمل الشواذ ويتتبع الرخص، ويستظل بمظلة الذوبان والانهزام، ويخرج عن إرادة الأمة المسلمة، فضلاً عن جمهرة العلماء الراسخين، وقد قال الامام أحمد رحمه الله للميموني:

(إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام)

وقال الناظم: ونزه النفس فلا تشذَّا كذا الترخص ورعاً ونبذاً.

ويقصد هنا الاجتهادات التي تكون في دائرة الشذوذ والأخطاء، ولا يدعمها النظر الشرعي، ويحفها شئ من الاندفاع أو الاغترار أحياناً!! وقد يجعلها صاحبها في إطار التجديد الفقهي، والتفاعل المجتمعي الذي تفرضه المرحلة .. ومن الأمثله هنا: تجويز هجرة الفلسطينيين من أراضيهم لشدة العنت عليهم، وبشبه ذلك منع مقاومة الاحتلال الأمريكى في العراق وأفغانستان بحجة حقن الدماء، ووجود حاكم من الاحتلال، أو ظهور فضلاء الدعاة في قنوات خليعة ذات بعد فكري واستراتيجي هادم، أو الظهور في قنوات صهيونية، وهو الشائع مؤخراً، وتناسي أنه صورة للتطبيع الذي هو من آخر الأوراق البا! قية في أيدي الأمة، وخرقه يعني انكسار الحاجز النفسي لدى الشعوب العربية تجاه الصهيونية الغاصبة. (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) (التوبة:95).

(15)

امتهان القيمة العلمية

يعمد بعض الفضلاء إلى امتهان ونسيان المجد العلمي، والقيمة الفقهية والدعوية الشريفة، التي بوّأه الله تعالى فيقارف أخطاء، ويلم بشبهات، وينزلق في مباحات، ترفع عنها عوام المسلمين!! وهو لايرى فيها غضاضة، فيراه بعض الناس، وتنشر ذلك وسائل الاعلام!! فيفقد شيئا من شعبيته ولموعه، أو ربما طلَع علينا بتعليق حماسي، أو اجهاد جديد، يسوِّغ مثل ذلك! وينسى أن العلماء والقدوات، والدعاه الربانيين لهم (وضع خاص)، ومنزلة رفيعة، ما ينبغى لهم نسيانها أو استسهالها، حتى مما يتعلق بالمروءه، التي منها أشياء لا تلامس المحرمات! ولكنها مروءة، يهتم بها المشاهدون والمتاب! عون ولذلك قال أبو عمروالأوزاعي رحمه الله.

(كنا نضحك ونمزح، فلما صرنا يُقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا إلا التبسم)

فالعالم المقتدى به محل نظر الناس ورصدهم، وكل أقواله وحركاته محفوظة متبوعة، فيجب عليه صون ذلك، لأنه يحظى بوسام علمي وذاتي!! مهما أظهر تواضعه، وعزفه على بشريته! فإنه ركن الدين ومنارته، ويسوغ لغيره ما لا يسوغ له! فكل تساهل وهفوة تشوه الوسام العلمي، وقيمته، كالنكته السوداء تتعاظم مع مرور الأيام، والله المستعان ..

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

ص: 17