المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القوة في الدين .. كيف نراها واقعا في حياتنا - مقالات موقع الدرر السنية - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌دراسة علمية شرعية

- ‌بين (مقاصد الشريعة) و (مقاصد النفوس)

- ‌بـ اسم سبتمبر

- ‌على هامش حجب المواقع وإيقاف القنوات

- ‌أبشركم .. مسلسل القعقاع حقق أكثر نسبة مشاهدة

- ‌حَتّى لا يَتَهاوَى القٌدَواَت

- ‌نظرة في الاتجاه العقلاني المعاصر ومظاهره

- ‌الإرجاء الفكري

- ‌الضوابط الشرعية…رؤية ليبرالية

- ‌منع غطاء الوجه والتذرع بالذريعة

- ‌الفتوى ومسألة الحرية

- ‌الثورة الإصلاحية وكَشْفُ المُغَطَّى

- ‌القول الشاذ في الفقه الإسلامي ودعوى اكتشاف الإسلام من جديد

- ‌جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة

- ‌أين أخطأ المقاصديّون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (1/ 2)

- ‌أين أخطأ المقاصديّون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (2/ 2)

- ‌عنيف القول ولطيفه تجاه السلف

- ‌التسامح العقابي مع المبتدع وضرورة الإتقان المعرفي

- ‌خبراء في الفكر والفلسفة ولكن

- ‌فاضح القرّاء

- ‌زجر أهل العلم والتقوى للمتساهلين بالفتوى

- ‌شبهة حرية المنافقين

- ‌القصة من أوّلها

- ‌اليهود وجريمة البحر

- ‌الاختلاط بين الجنسين وظاهرتي السعار والشذوذ

- ‌الضوابط الشرعية بين الثوري والمهدي

- ‌عصر دبلجة الواقع

- ‌المُفْتُون المَفْتُونُون

- ‌التوازن الفكري

- ‌متى يحسن الرد على المخالف

- ‌الخطاب الإصلاحي والإشكاليات المتجذرة

- ‌اقتلني ومالكًا

- ‌كسوف العقل

- ‌الموقف الشرعي الصحيح من وفاة أهل الضلال

- ‌توحيد (الإصلاحيين)

- ‌مقترح لصد الهجمة الليبرالية

- ‌حديث: ((رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء))

- ‌إصلاح "الإصلاحيين

- ‌توقير الفلاسفة وتعظيم الحرية .. في صحافتنا الموقرة

- ‌صيانة الدين والمجتمع من تعديات أهل الأهواء (1)

- ‌(حاصروا غزة وبلاد المسلمين، فحاصرهم الله ببركان أيسلندا)

- ‌العقيدة أولاً: مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي

- ‌وقفات مع مؤتمر (ماردين دار السلام)

- ‌ماذا يريد السلفيون من منتقديهم

- ‌فتنة القول بجواز الاختلاط (2/ 2)

- ‌الصحوة والمناطقية

- ‌ماهي منجزات الصحوة

- ‌الانتخابات أسقطت كل الأقنعة في العراق

- ‌(قلب الأدلة على الطوائف المخالفة) للقاضي

- ‌ساعة وفاء

- ‌الاحتجاج بالخلاف ديانة أم مخادعة لله

- ‌إيجابيات الخطاب السلفي

- ‌في إعمار دارفور .. نزرع ويحصد غيرنا

- ‌نقد الخطاب السلفي…وغياب القيم

- ‌مسألة: حدود عورة المرأة أمام المرأة

- ‌تعامل السوق السعودية بالتورق خطر قادم يوقعها في أزمة مالية كبيرة…عضو الشورى الأطرم محذرا: سندات القروض "ربوية" من بدئها لمنتهاها

- ‌الأزهر بين التطوير والتطويع

- ‌بيان مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية

- ‌هدم الأقصى

- ‌بيان رابطة علماء المسلمين لنصرة إخواننا في فلسطين

- ‌ياهؤلاء: شكراً لكم

- ‌حتى لا نعرض مشاريعنا للتقبيل

- ‌القوَّة في الدِّين .. كيف نراها واقعاً في حياتنا

- ‌(ميمري) و (إيباك) .. الأذرعة المتكاملة

- ‌الباطنية: سلالة الفرس المجوس

- ‌إعادة قراءة الولاء والبراء

- ‌معايير تحديد أولويات المواجهة

- ‌حرس الحدود والمسلك الأبلق

- ‌التعلم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (1)

- ‌التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (2)

- ‌التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (3)

- ‌التعليم المختلط في الصفوف الأولية نظرات علمية (4)

- ‌التعليم المختلط في الصفوف الابتدائية نظرات علمية (5)

- ‌كيف بني تحريم الاختلاط

- ‌حديث الأسوة

- ‌لا تجعل قلبك كالإسفنجة

- ‌حينما يكون الإسلاميون سفراء لليبرالية

- ‌خطأ القول بأن الإمام الشافعي غير مذهبه في مصر مراعاة للعوائد والبيئة المصرية

- ‌تكثير الأتباع بالوحي لا بالابتداع

- ‌احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي

- ‌الشذوذ في القول

- ‌الاختلاط بين "محكم" الوحي و"متشابهه

- ‌تتبع الرخص

- ‌مقدمة كتاب ((منهج الأشاعرة في العقيدة)) الطبعة الجديدة

- ‌قصة الحوثيين

- ‌من الذي اخترع لفظ (الاختلاط)

- ‌الصحفي .. المفتي

- ‌إتباع الصراط في الرد على دعاة الاختلاط

- ‌درس عملي في المحكم والمتشابه

- ‌توضيح المبهمَات في مسألة كون جدة ميقات

- ‌التحصينات الشرعية من أنفلونزا الخنازير وغيرها

- ‌ونحن أيضاً، سنصدعُ بالحقِّ

- ‌الترجيح في حكم النشيد

- ‌جواب سؤال عن كتاب: (ظاهرة الفكر التربوي)

- ‌الفرق بين بيت الله الكعبة وسائر الجامعات المختلطة

- ‌إنها لإحدى العبر

- ‌الاختلاط .. (هَمٌّ) و (وَهْمٌ)

- ‌مفهوم الاختلاط بين التأصيل والتضليل

- ‌الموالاة: معناها ومظاهرها

- ‌الحرم المكي ومضاعفة الأجر فيه

- ‌وسائل الأعداء في إفساد المرأة وأساليبهم

- ‌رائد الإبداع طيب الأثر إشارات وعبر من سيرة ومؤلفات الشيخ بكر

- ‌نوازل الصيام [1/ 2]

- ‌انتقاد "القول التمام

- ‌رسالة إلى أئمة المساجد بمناسبة شهر رمضان المبارك

- ‌مسألة السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الخطباءُ وأفكارُ المنبر

- ‌النشيد الراحل والغناء الحاضر

- ‌حركة الإمام أحمد بالصورة

- ‌مسألة زواج السَّيِّد الشريف من غير الشريفة، والعكس

- ‌التقدم إلى الوراء

- ‌نسبيَّة الحقيقة في الفكر الليبرالي

- ‌الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (1/ 4)

الفصل: ‌القوة في الدين .. كيف نراها واقعا في حياتنا

‌القوَّة في الدِّين .. كيف نراها واقعاً في حياتنا

.. ؟

مشهور بن حاتم الحارثي

المتأمل في التاريخ يجدُ أنَّه ما من دينٍ ظهَر وانتشر -سواءً أكان حقَّاً أم باطلاً- إلَاّ كان وراءه فئة تؤمن به، وتعمل له، وتمتثله واقعاً في حياتها؛ ليقوم ذلك الدِّين على أكتافهم، وليكونوا أنموذجاً واضحاً لأتباعه؛ يسترشدون بهم، ويطمئنُّون من جهة تطبيق ذلك الدِّين وتحقيقه.

ولذلك .. عندما أنزل الله عز وجل دينه في هذه الأرض بشرائعه المختلفة، جعل لكلِّ شريعة من الشرائع رسولاً كريماً يبلِّغ ويكون قدوة، وفئة تؤمن وتعمل وتمتثل؛ لتكون عاملةً على إظهار دينها شيئاً فشيئاً، دالَّةً على صحَّته وإمكان تطبيقه، وتهيئة فئات تحمل همَّ هذا الدِّين والعمل له ..

ولكن .. عندما يدبُّ الضَّعف في تلك الفئة المؤمنة العاملة -على اختلاف أزمانها- سواءً من جهة العلم أو العمل، فإنَّ ذلك الضَّعف ينعكس تلقائياً على ظهور ذلك الدِّين وأتباعه .. حتى يضمر أو يتلاشى.

وكان من حكمة الله عز وجل أنْ جعل في هذه الأمَّة المحمديَّة، والشريعة الخالدة الأبديَّة، فئة تؤمن بدينه، وتعمل له، وتمتثله واقعاً عملياً في حياتها ما دام هذا الدِّين في الأرض، لا يعتريهم الضَّعف، ولا يسيطر عليهم اليأس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) (1) ..

وقد دلَّ الحديث على أنَّ هذه الطائفة القائمة بأمر الله عز وجل قد تمَّ حفظها من ضرَرَيْن:

أولاً: حفظها من ضرر الخذلان.

وثانياً: حفظها من ضرر المخالفة.

والفرق بينهما: أنَّ الخذلان ما كان من داخل الصفِّ .. !، والمخالفة ما كان من خارجه (2)، وهذان هما الخطران المحدقان بكلِّ دين أو مذهب يُراد له الظهور والانتشار ..

وما كان لهذه الطائفة المؤمنة أن تبقى قائمةً بأمر الله عز وجل، صامدةً في وجه طوفان المخاطر الداخليَّة والخارجيَّة سوى أنها كانت قويَّةً في دين الله عز وجل أخذاً وعطاءً، تلقياً وأداءً، علماً وعملاً، شريعة ونَهْجاً .. هذا هو الأمر الذي حفظها من حَنَق المخالفين، وخَوَر المخذِّلين المرجفين. ولولا تلك القوَّة الدينيَّة وما تُمْليه من وضوحٍ في التصوُّر والاعتقاد، وحزمٍ في التمسُّك والامتثال، وجديَّةٍ في السلوك والعمل .. ، لانحلَّت تلك الطائفة عند أدنى مؤامرة أو اعتداء، ولكانت تعيش تشتُّتاً في الأمر، وهواناً في العزم، ولما بقيت تقوم لله عز وجل بحجَّة ..

ولذا .. لما كان مدار الصُّمود والبقاء على القوَّة في الدِّين، أَمَر الله عز وجل بها أنبياءه وأقوامهم، فقال تعالى لموسى عليه السلام (فخذها بقوَّة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) (الأعراف:145) وقال لبني إسرائيل (خذوا ما آتيناكم بقوَّة)(الأعراف:171)، وَوصَف الله عز وجل بها نبيَّه داود عليه السلام فقال:(واذكر عبدنا داود ذا الأيْد)(ص:17) أي ذا القوة في الدِّين، بل خاطب الله بها يحيى عليه السلام منذ أن كان في المهد صبياً (يا يحيى خذ الكتاب بقوَّة وآتيناه الحكم صبيا) (مريم:12) لينشأ ذلك الصبي وهو ابن ثلاث سنين كما في قول ابن عباس رضي الله عنه (3) .. على معاني القوَّة والجدِّ والعزم في أخذ الدِّين والتمسُّك به.

(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب المناقب، باب "سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر"، (ح3369).

(2)

انظر: فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله (28/ 416).

(3)

انظر: تفسير البغوي (5/ 121).

ص: 218

إن الأمَّة اليوم بحاجةٍ شديدةٍ إلى استجماع معاني القوَّة في أفرادها؛ ليسعدوا بدينهم، ويُؤدوا حقَّ الله عز وجل فيهم. والناظر في كلام ربِّه سبحانه وتعالى لا تكاد تخطئُ عينه صورتان اثنتان من صور القوَّة في الدِّين لا تتحقق القوَّة إلا بهما:

الأولى: القوَّة في الأخذ والتمسُّك والعمل (خذوا ما آتيناكم بقوَّة)(الأعراف:171).

والثانية: القوَّة في الإعداد والمواجهة والمدافعة (وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة)(الأنفال:60).

إنَّ الأمَّة بحاجةٍ إلى المؤمن القويِّ في عقيدته .. القويِّ في عبادته .. القويِّ في تعلُّمه .. القويِّ في دعوته .... القويِّ في دفاعه .. القويِّ في صَدْعه بالحقِّ ووقوفه أمام سَيْل الشُّبهات والشَّهوات، والفتن والمغريات .. إذا تكلَّم كان قويَّاً واثقاً، وإن ناقش كان قويَّاً واضحاً، وإذا عَمِل كان قويَّاً ثابتاً، يأخذ تعاليم دينه بقوَّة، وينقلها إلى غيره بقوَّة، ويتحرَّك ويدعو في مجتمعه بقوَّة .. لا وَهَن ولا تميُّع .. ولا ضعْف ولا تصنُّع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:((المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز .. )) (1).

ولكي تتحصَّل هاتان القوَّتان بكل صُوَرها وأشكالها، وتُصْبح واقعاً عملياً نعيشه في حياتنا، لابدَّ من استجماع عدِّة أمور هي بمثابة الأُسُس التي يقوم عليها هذا المبدأ الشرعيِّ، (والمقام مقام إشارةٍ لا استفاضة، وهي محاولة استقرائية للآيات الواردة في القوَّة، وحال المأمورين والموصوفين بها):

الأساس الأول: قوَّة الصِّلة بالله تعالى.

إنَّ من أهمِّ أُسُس القوَّة في دين الله عز وجل أن يكون المؤمن قويَّ الصلة بالله عز وجل، كثير العبادة له سبحانه. لما ذَكَر الله عز وجل نبيَّه داود عليه السلام وَصَفه بالقوَّة في الدِّين، وعلَّل ذلك بأنه أوَّاب كثير الرجوع إلى ربِّه عز وجل فقال تعالى (واذكر عبدنا داود ذا الأَيْد إنَّه أوَّاب) (ص:17)، وكان عليه السلام حَسَن التعبُّد لربِّه عز وجل ففي الحديث:"إن أحبَّ الصيام إلى الله صيام داود، وأحبَّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام"(2). ولما أمر نبيُّ الله هود عليه السلام قومه بالاستغفار والرجوع إليه سبحانه بيَّن لهم أنَّ هذه الصلة الحسنة بالله تعالى تزيدهم قوَّة في أمر دينهم ودنياهم (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوَّة إلى قوتكم)(هود:52).

الأساس الثاني: الاستجابة الكاملة لله تعالى ..

ففي قوله تعالى لبني إسرائيل (خذوا ما آتيناكم بقوَّة واسمعوا)(البقرة:93) أَتْبعَ الله عز وجل أمْرَه بأخذ ما آتاهم بقوَّة بأمرٍ آخر وهو السماع المطلق والاستجابة الكاملة له سبحانه، ليدُلَّنا ذلك بطريق الإشارة على أن ممِّا تتحقق به القوَّة في الدِّين سماع أمر الله عز وجل، والإنصات له، والعمل بموجبه، ليتمَّ تحقيق العبودية الشاملة له بعد ذلك. وإذا أعرض الإنسان عن سماع أمر ربِّه تعالى، أو سمع ولم يجب الاستجابة الكاملة التي تُغيِّر محتواه ظاهراً وباطناً كان عُرضة لأن يقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل من الذمِّ وسوء العاقبة (قالوا سمعنا وعصينا وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) (البقرة: 93).

الأساس الثالث: اليقين بنصرة الله عز وجل لدينه.

(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب في "الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وترك المقادير لله"(ح4816).

(2)

رواه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب "االنهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقاً .. "(ح1969).

ص: 219

إن استحضار نصرة الله عز وجل لدينه، وامتلاء القلب يقيناً وصِدْقاً بوعد ربِّه تعالى لابدَّ أن يكون مصاحباً لكل مريد للقوَّة في الدِّين- لاسيَّما زمن الفتن والمحن-، ولذلك عندما أحسَّ أصحاب موسى عليه السلام بخُسران المعركة أمام فرعون وملئه، وظنُّوا انتصار الباطل على الحقِّ .. أظهر الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام -المأمور بالقوَّة في الدِّين- ما كان يحمل في قلبه من يقينٍ وثقةٍ بنصر الله تعالى لدينه وعباده المؤمنين، فقال الله عز وجل -حاكياً حاله وحالهم- (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون (61) قال كلَاّ إنَّ معي ربي سيهدين (62) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كلُّ فرق كالطَّوْد العظيم (63)) (الشعراء).

كما أن على القويِّ في دين الله عز وجل ألَاّ يستبطئ وَعْد الله تعالى في نُصْرة دينه، وأن يسعى في مؤازرة إخوانه وتذكيرهم بهذا الوعد، اقتداء بفعل موسى عليه السلام -لما استبطأ قومه النَّصْر واستطالوا عَهْد الله فعبدوا العِجْل- (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحلَّ عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي) (طه:86).

الأساس الرابع: الحرص على مذاكرة ما في الكتاب والسنة ..

فكيف لمؤمنٍ يريد أن يكون قويَّاً في دين الله عز وجل، حاملاً همَّ تبليغه وتبيينه للناس، إذا فتَّشت عن قراءته -فضلاً عن مذاكرته- لكتاب الله عز وجل وسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم وجدتها تبلغ من الضَّعف قدْراً كبيراً.، لما أمر الله بني إسرائيل بأخذ ما آتاهم من التوراة بقوَّة أشار سبحانه إلى ما يُعينهم على هذا الأمر فقال تعالى (خذوا ما آتيناكم بقوَّة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) (البقرة: 63) أي: خذوا التوراة بقوَّة واتلوها وادرسوها واعملوا بما فيها لتكونوا من أهل التقوى (1)، فكذلك كل من أراد القوَّة في دين الله عز وجل عليه أن يكون حريصاً على ذِكْر ما وَرَد في الكتاب والسنة، وعلى العمل بموجبه؛ ليَقْوَى في دينه، وليوصله بعد ذلك بإذن الله إلى العلَّة المذكورة في الآية (لعلكم تتقون). وعندما وَصَف الله عز وجل نبيَّه داود عليه السلام بكونه قويَّا في دين الله أخبر سبحانه عن طَرَف من مظاهر هذه القوَّة وأسبابها فقال تعالى (ولقد آتينا داود وسليمان علما) (النمل: 15)، وقال (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) (الأنبياء:79).

الأساس الخامس: عدم الانسياق لرغبات النفس وشهواتها ..

إنِّ المؤمن إذا اشتغل قلبه بالدُّنيا، وتعلَّقت نفسه بشهواتها، صَعُب عليه التقوِّي في دين الله تعالى، والاجتهاد في طاعته، ولذلك لما وَصَف الله عز وجل نبيَّه يحيى عليه السلام -المأمور بالقوة في الدِّين- وَصَفَه مُثنياً عليه بأنه يَحصُر نفسه ويحبسها عن الشهوات والملذَّات المباحة فضلاً عن المحرَّمة، فقال تعالى مخاطباً زكريا عليه السلام (أنَّ الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمةٍ من الله وسيَّداً وحصوراً ونبياً من الصالحين) (آل عمران:39). (2)

الأساس السادس: الارتباط بالصالحين والتقوِّي بهم ..

(1) انظر: تفسير الطبري (2/ 161).

(2)

انظر: تفسير البغوي (2/ 35).

ص: 220

إنَّ على القويِّ في دين الله عز وجل أن يكون على ارتباطٍ وثيقٍ، واتصالٍ متينٍ، بإخوانه الصالحين المصلحين؛ ليشدُّوا من عزمه، وليصدِّقوه في دعوته، وليزداد بهم رسوخاً وثباتاً على أمره .. ، ولذلك سأل موسى عليه السلام وهو المأمور بالقوَّة في الدين- ربَّه سبحانه وتعالى أن يُرسل معه أخاه هارون عليه السلام ليزداد به قوَّةً على قوَّته، فقال تعالى- على لسان موسى-:(وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءاً يصدِّقني إني أخاف أن يكذبون (34) قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون (35)) (سور القصص).

هذه سته أسس .. أَحْسبُ أنها كفيلة بإذن الله تعالى في أنْ تُحيي فينا معاني القوَّة في الدِّين أخذاً ومدافعة، وتصنع لنا جيلاً يتربَّى على مثل هذا الأمر .. والشواهد على هذه الأسس كثيرة مستفيضة، ولكنِّي رغبت الاقتصار على الاستشهاد بالآيات الواردة في القوَّة والمتعلِّقة بها؛ ليظهر لنا مدى الاتصال بين هذه الأسس وموضوع القوَّة في الدِّين. ولك أن تتأمل معي ما وَرَد في هذه الآية العظيمة وتُقارن بين المأمور به، وشدَّة العقاب المترتِّب على عدم الامتثال .. يقول الله عز وجل -عن بني إسرائيل-:(وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلَّة وظنُّوا أنَّه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوَّة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون)(الأعراف:171) .. قال قتادة رحمه الله في تفسير هذه الآية: "جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذُنّ أمري، أو لأرمينَّكم به .. ! "، وقال الحسن البصري رحمه الله:" لما نظروا إلى الجبل خرَّ كلُّ رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليُمْنَى إلى الجبلِ، فَرَقًا من أن يَسْقُط عليه"(1).

وختاماً .. إنَّ على القويِّ في دين الله عز وجل أن يتحمَّل كل التَّبِعات التي قد تنشأ من أخذه للدِّين بقوَّة .. فمن طبيعة هذا الدِّين أن المستمسك به يلاقي ما لا يلاقيه غيره من الضعفاء المتنازلين .. وذلك من حكمة الله عز وجل، وهي فتنة يمحِّص الله عز وجل بها عباده وأولياءه .. والله تعالى قادرٌ على نَصْر دينه وإعزاز كلمته دون أدنى جُهْد من البشر، ولكنَّ الأمر وُكِل إليهم للابتلاء والتمحيص، قال الله تعالى:(ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض)(محمد:4).

وعلينا أن نسأل أنفسنا سؤالاً: هل نحن ممن يَصْلح أن يكون من هذه الطائفة القويَّة التي تنصر دينها، وتصبر على ما تُبتلى به .. ؟؟ إذا كنَّا نغشى بعض المخالفات الشرعيَّة، ولا نستطيع قيام الليل أو الوتر على الأقل (2)، وكلَّما هبَّت ريحُ شبهةٍ أمالتنا .. ! أو شهوةٍ أناختنا .. ! فإن إحياء معاني القوَّة في أنفسنا قبل الآخرين ظاهرُ العُسْر والصعوبة ..

ولا تخش على هذا الدِّين، فإنَّ الأقوياء في حَمْله والأخذ به والدفاع عنه لابدَّ من وجودهم في كل زَمَن .. وهذه الأمَّة أمَّة ولود .. فما يضعف قويٌّ إلا ويقوى ضعيف، وما يزلُّ عالم إلا ويرسخ آخر، وما يتساهل داعية إلا ويثبت غيره، فإمَّا أن تتحقق فينا معاني القوَّة في الدِّين أخذاً ومدافعة .. وإمَّا أن تجري علينا سنَّة الاستبدال في قيادة هذا الدِّين والتأثير في الناس.

ومن نافلة القول .. الإشارة إلى أن القوَّة في الدِّين لا تتطلَّب عبوساً في الوجه، وضيقاً في الصَّدر، وغلظةً في التعامل، فإنَّ هذا مما يخالف قوَّة الأخلاق عند الطائفة المنصورة، ولنا في سِيَر الأقوياء الأتقياء أسوة حسنة ..

رزقنا الله وإيَّاكم القوَّة في دينه .. وثبَّتنا على شرعه وهدي نبيِّه، وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(1) انظر: تفسير الطبري (13/ 218 - 219).

(2)

ذكرت هذا الأمر لكون صلاة الوتر من آكد التطوعات وقد اختُلف في وجوبها، ولأن لها علاقة مباشرة بموضوع القوَّة في الدين فقد رُويَ عن عقبة بن عامر - وفي سند الحديث مقال- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر متى توتر؟ قال: أصلي مثنى مثنى ثم أوتر قبل أن أنام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مؤمن حذر"، وقال لعمر بن الخطاب كيف توتر؟ قال: أصلي مثنى مثنى ثم أنام حتى أوتر من آخر الليل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مؤمن قوي" أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17/ 304)، (ح838).

ص: 221