الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنيف القول ولطيفه تجاه السلف
د. عبد العزيز العبد اللطيف
17 رجب 1431هـ
لا يُنْتَظر من الغرب إلا مزيداً من العداء الجلي، أو المكر الخفي لدين الإسلام وأهله، لا سيما مذهب أهل السُّنة والجماعة؛ فقد جاهر ساركوزي فرنسا بأن الحجاب ناشئ عن السلفية، وأما أهل البدع المغلَّظة: كالرافضة وغلاة الصوفية؛ فلا يزالون في كيدٍ دائمٍ، وعداء متلاحق لمذهب السلف الصالح.
لكن البلية أن ينساق بعض متسنِّنة هذا العصر إلى نقد السلفية، وتقويم أهل السُّنة عبر قنوات مأبونة، ومحافل مشبوهة، وربما تدثَّروا بالموضوعية وروح النقد والصدع بالحق. وأما أهل الأهواء والزندقة فهم في عافية من نقد أولئك «الشجعان» ، بل صار الطعن في السلفية حِمَىً مستباحاً، واهتماماً راتباً، وقضية مكرورة مألوفة.
ومع ذلك فإن التطاول على مذهب أهل السُّنة هو علامة الإرث الصحيح، والاتباع التام لسيِّد الأنام صلى الله عليه وسلم؛ فإن قريشاً كانت تسمي نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم تارة مجنوناً، وتارةً شاعراً، وتارةً كاهناً، والروافض يلقِّبون أهل السُّنة بالنواصب، وأهلُ الكلام يسمونهم حشوية ونوابت، وأهل التعطيل ينبزونهم بالمشبهة والمجسمة
…
إلخ (1). وهذا الطعن والهجوم على مذهب السلف قد يكون في غاية النزق والبغي؛ فيكون حافلاً بالكذب الرخيص، والإفك المبين.
ولئن كان هذا البغي والفجور في الخصومة مُوجِعَاً لأوَّل وهلة؛ إلا أنه سرعان ما يعتريه الزوال والانحسار؛ فهو أشبه بقعقعة الصبيان، وهذيان نزلاء المارستان. إضافة إلى أن العداء الصارخ، والحرب المكشوفة قد تبعث يقظة وتحفُّزاً، وتهيُّؤاً للمنازلة والمجالدة؛ فسبحان من قدَّر المقادير وأحكمها؛ فجعل في المحن مِنَحَاً وألطافاً! فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد يسلك الخصوم مسلكاً هادئاً في مكايدة مذهب السلف، فيحرصون على التلطف والمراوغة من أجل تطويع مذهب السلف للتبديل والتحريف، والعصرنة والتنوير؛ فهو مسلك خفيٌّ يكمن مَكْرُه الخفي بإثارة الأغلوطات، وتكلُّف التأويلات، واتباع المتشابهات ابتغاء الفتنة، وقد يتظاهرون بمدح السلفية والاحتفاء بها، فَتَعْظُم الرزية بهؤلاء أشد ممن قبلهم.
وقد يستغرب القارئ الكريم إذا علم أن هذا الكيد الخفي هو سبيل قديم لأهل البدع الذين مردوا على النفاق؛ كما كشفه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي (ت 280هـ) رحمه الله قائلاً: «بلغنا أن بعض أصحاب بشر المريسي قال: كيف تصنعون بهذه الأسانيد التي يحتجون بها علينا في ردِّ مذهبنا مما لا يمكن التكذيب بها؟ قال: لا تردُّوه فتفضحوا، ولكن غالطوهم بالتأويل، فتكونوا قد رددتم بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردٌّ بعنف» (2).
وأظهر مثال على ذاك الهجوم بشقَّيه (العنيف واللطيف) هو الهجوم على شيخ الإسلام ابن تيمية وتراثه النفيس؛ فقد شَرِق الخصوم قديماً وحديثاً بهذا الإمام الرباني ومؤلفاته، وتكالبوا عليه، وأجلبوا بخيلهم ورَجِلِهِم، فما زاده ذلك إلا رِفعة وقَبولاً، وأضحت مؤلفاته ملء السمع والبصر، وفي شتى الأصقاع والبلدان.
فأقرأ تصانيفَ الإمامِ حقيقةً
…
شيخِ الوجودِ العالمِ الربانِي
أعني أبا العباس أحمدَ ذلك الـ
…
ـبحرُ المحيطُ بسائرِ الخُلْجَانِ
هي في الورى مبثوثةٌ معلومةٌ
…
تُبْتَاعُ بالغالي من الأثمانِ (3)
فمن الكذبات الصلعاء أن ابن تيمية رجع إلى عقيدة الأشاعرة، وآخر يزعم أن ابن تيمية ليس سلفياً. ومن ركام ذاك الإفك الرخيص ما سوَّده أحد المعتوهين المنتكسين من أن ابن تيمية «المتشدد» يعاني أزمة روحية!!.
(1) انظر: الحموية لابن تيمية، ص532، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية: 1/ 386، 3/ 643.
(2)
الرد على بشر، ص 556.
(3)
قالها ابن القيم في «النونية» ، ص 163.
ثم يغالط ذاك المأفون هذيانه السابق فيزعم أن ابن تيمية يقرر أن جميع البشر إلى الجنة (1).
وكذا ما ادَّعاه أحد المتعثرين المتقهقرين من أن ابن تيمية ليس له أي دراسة لكتب المنطق والفلسفة (2).
والحال المذكور آنفاً وإن كان يحكي سفهاً وحمقاً، وجهلاً كثيفاً، إلا أنه يكشف نوعاً من عوارض «الإسقاط» ، أو كما في المثل السائر:«رمتني بدائها وانسلَّتِ» .
ومن المغالطات الخفية ما تفوَّه به أحد المشايخ «العصريين» قائلاً:
وادَّعى أيضاً أن الجهاد عند ابن تيمية لأجل العدوان وليس لأجل الكفر (4).
إن العبارة الأُولَى لا تنفك عن إيهام ومغالطة، وبالرجوع إلى الاختيارات الفقهية للبعلي، نجد أن المقام بشأن أهل الذمة خصوصاً، الذين تجري عليهم الشروط العُمَرِية وما تحويه من الذل والصغار و «الغيار» على أهل الذمة، وليس جميع أهل الكتاب مطلقاً؛ فالكافر قد يكون ذمياً، أو معاهَداً، أو مستَأمَناً، أو محاربِاً، كما أن عيادتهم وتعزيتهم جائزة إن كان يُرجى إسلامهم، ثم إن البعلي حكى اختلاف كلام ابن تيمية في ردِّ تحية الذمي، وهاك العبارة بتمامها «واختلف كلام أبي العباس (ابن تيمية) في ردِّ تحية الذمي، هل تُردُّ بمثلها أو: وعليكم فقط؟ ويجوز أن يقول: أهلاً وسهلاً. ويجوز عيادة أهل الذمة، وتهنئتهم وتعزيتهم، ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة؛ كرجاء الإسلام. قال العلماء: يعادُ الذمي، ويُعرَض عليه الإسلام» (5).
والشيخ المذكور يقول: (مشكلة الناس أنهم يقرؤون «اقتضاء الصراط المستقيم» ولا يقرؤون «الاختيارات الفقهية»).
ولا موجب لهذا الامتعاض، وافتعال هذه الإشكال؛ فالجميع كلام ابن تيمية، والمتعيَّن أن يُنظَر في جميع تقريراته، بل إن تقريراته في «الاقتضاء» أوثق وآكد من تقريرات واختيارات يكتنفها فَهْمُ من جَمَعَها وصنَّفها، كالبعلي.
وبالجملة فإن بتر النصوص، وإهمال بعضها ليس «ترشيداً» - كما يقصد الشيخ المذكور - بل هو «تشريد» ، وبعثرة للنصوص، وتفريق لها.
(1) ينظَر: منصور النقيدان، موقع إيلاف: 22/ 7/2007م.
(2)
ينظَر الدراسة الرائعة التي سطرها عبد الله الهدلق بعنوان: «الهادي والهاذي» في الرد على شغب «السرحان» .
(3)
انظر: مقابلة مع الشيخ عبد الله بن بية في مجلة الإسلام اليوم، عدد 67.
(4)
انظر: مقابلة مع الشيخ عبد الله بن بية في مجلة الإسلام اليوم، عدد 67.
(5)
الاختيارات الفقهية، ص 319.
ومجاراةً للشيخ ومريديه في الاحتفاء بالبعلي؛ فإن البعلي اختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، واختصر اقتضاء الصراط المستقيم، وأسوق بعض ما جاء في مختصر الفتاوى المصرية:«وليس لأهل الذمة إظهار شيء من شعار دينهم في ديار المسلمين، وليس للمسلمين أن يُعِينُوهم على أعيادهم، لا ببيع ما يستعينون به على عيدهم، ولا بإجارة دوابهم ليركبوها في عيدهم؛ لأن أعيادهم مما حرَّمه الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما إذا فعل المسلمون معهم أعيادهم مثل صبغ البيض، وبخور، وتوسيع النفقات، فهذا أظهر من أن يحتاج إلى سؤال، بل قد نصَّ طائفة من العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك على كفر من يفعل ذلك، ولو تشبَّه المسلم باليهود أو النصارى في شيء من الأمور المختصة بهم، لَنُهِي عن ذلك باتفاق العلماء، بل ليس لأحد من المسلمين أن يخصَّ مواسمهم بشيء مما يخصونها به؛ ومن فعل ذلك على وجه العبادة والتقرُّب به، فإنه يُعرَّف دين الإسلام، وأن هذا ليس منه، بل هو ضده، ويستتاب منه، فإن تاب وإلا قُتِل. وليس لأحد أن يجيب دعوة مسلم يعمل في أعيادهم مثل هذه الأطعمة، ولا يحل له أن يأكل من ذلك» (1).
وأمر آخر فيما يخص التهنئة - التي هي محل خلاف - فيما ليس متعلقاً بأعيادهم وشعائرهم المختصة بهم؛ فتهنئة الكفار بأعيادهم حرام بالاتفاق، بل قد لا يسلم صاحبها من الكفر كما قرره ابن القيم تلميذ ابن تيمية (2)، بل قال العلَاّمة ابن عثيمين:«التهنئة بالأعياد؛ فهذا حرام بلا شك، وربما لا يَسْلَم الإنسان من الكفر؛ لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضاً بها، والرضا بالكفر كفرٌ، ومن ذلك تهنئتهم بما يسمى عيد «الكريسمس» أو عيد «الفصح» أو ما أشبه ذلك» (3).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية: «لا يجوز للمسلم تهنئة النصارى بأعيادهم؛ لأن في ذلك تعاوناً على الإثم، وقد نهينا عنه، قال - تعالى -: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، كما أن فيه تودداً إليهم، وطلباً لمحبتهم .. وهذا لا يجوز، بل الواجب إظهار عداوتهم» (4).
ودعوى أن الجهاد عند ابن تيمية لأجل المحاربة والعداون، وليس لمجرد الكفر، فهذه دعوى مردودة مكذوبة، والرسالة المنحولة لابن تيمية في ذلك لا تصح ولا تثبت، كما حرره جملة من العلماء والمحققين كابن قاسم (5)، وابن مانع في رسالة خطية بعثها إلى الشيخ ابن سحمان سنة 1340هـ (6)، بل صنَّف الشيخ سليمان بن حمدان سنة 1382هـ كتاباً مستقلاً يزيد على مائة صفحة في الردِّ على هذه الرسالة المزعومة، وسمى كتابه بـ:«دلالة النصوص والإجماع على فرض القتال للكفر والدفاع» ، كما أن الذين سردوا مؤلفات ابن تيمية: كابن رشيق وابن عبد الهادي ونحوهما، لم يذكروا تلك الرسالة، بل إن هذه الدعوى منقوضة بتقريرات ابن تيمية في كتبه المعتمدة، ورسائله الشهيرة، كما في «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح» (7)، و «الصارم المسلول» (8)، والصفدية (9)، ومجوع الفتاوى ونحوها (10).
(1) مختصر الفتاوى المصرية، ص517، 518 = باختصار، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم: 2/ 515، وجامع المسائل: 3/ 374، والمستدرك على الفتاوى: 3/ 255، ومجموع الفتاوى: 25/ 325 - 331.
(2)
انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم: 1/ 205، 206.
(3)
الشرح الممتع: 8/ 75، وانظر: فتاوى العقيدة لابن عثيمين، ص 246، وكتاب الأعياد المحدثة وموقف الإسلام منها لعبد الله المهنا.
(4)
3/ 435.
(5)
انظر: مجموع الفتاوى: 8/ 5.
(6)
هذه الرسالة الخطية محفوظة في دارة الملك عبد العزيز بالرياض، رقم (263).
(7)
1/ 75، (ط المدني).
(8)
2/ 514.
(9)
2/ 321.
(10)
انظر: 4/ 205، 28/ 349، 358.
قال ابن تيمية رحمه الله: «كل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه فلم يستجب له، فإنه يجب قتاله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
…
» (1).
وأخيراً: فإن على القارئ أن يستصحب أن تراث ابن تيمية يحوي مجاميع متنوعة، ومجلدات كثيرة، بل هو أشبه بالموسوعات المتعددة؛ فلا غرو أن يقع اشتباه وإشكال في مواطن من هذه المؤلفات، أو تَرِدَ عبارات محتملة أو موهمة؛ ومسلك العلم والعدل يقتضي أن يؤخذ بكلام المؤلِّف كله، ويردَّ ما كان مشتبهاً ومجملاً إلى ما كان واضحاً مفصَّلاً؛ فلا يُحتَجُّ بالأغرب منها علي الأغلب، ولا يُشغَب بالمغمور على كلامه المشهور (2).
كما يتعيَّن على أهل السُّنة أن يحققوا الرسوخ في العلم الشرعي، وإحكام منهج السلف، وتحرير مسائل الاعتقاد، والتهيؤ التام لمدافعة الشغب على مذهب السلف، وإبراز القواعد الكلية والأجوبة المتينة تجاه شبهات وأغاليط المخالفين؛ فإن هذا الحِجاج والجدال من أعظم القربات وآكد الحاجات. «قال تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام:83]. قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم؛ فالعلم بحُسْنِ المحاجَّة مما يرفع الله - تعالى - به الدرجات» (3).
(1) مجموع الفتاوى: 28/ 349.
(2)
انظر المدخل إلى آثار ابن تيمية، ص 76 - 78.
(3)
بيان تلبيس الجهمية: 1/ 493.
(4)
مجموع الفتاوى: 14/ 493، 494 باختصار