المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاقتصاد في النفقات - من أحكام الفقه الإسلامي وما جاء في المعاملات الربوية وأحكام المداينة

[عبد الله آل جار الله]

الفصل: ‌الاقتصاد في النفقات

الكتب واحد وهو القرآن والسنة، وغالبها متّفق عليه والحمد لله، وإنما اختلفوا في فهم بعض النصوص أو في صحّتها وضعفها، وكلهم مجتهدون، رحمهم الله تعالى وغفر لنا ولهم.

اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لِمَا اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ص: 9

‌الاقتصاد في النفقات

التوسط والاعتدال في إنفاق النفقات خلق فاضل، بين خُلُقين مذمومين متطرِّفين، وهما: الإسراف والتبذير، والبخل، والشُّح، والتَّقْتير.

فإن الله تعالى امتنّ على العباد بالأموال ليشكروها باستعمالها في مرضاته، وليقوم بها أَوَدُهم1، ويُنفقوا منها في الواجبات والمستحبّات، وحرّم عليهم تبذيرها والإسراف في إنفاقها في غير الوجوه المشروعة، قال تعالى:

1 اعوجاجهم.

ص: 9

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 1 وإذا كان لا يحبّهم فهو يبغضهم ويَمْقتهم.

والسرف: إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي، والسرف بالمأكولات التي تضرّ بالجسم. وإما أن يكون بزيادة الشَّرَه والتنوّع في المآكِل والمشارِب والملابس فوق الحاجة. وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام.

فالسرف يبغضه الله، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى ربما أدّت به الحال إلى أن يعجز عن ما يجب عليه من النفقات.

وفي الحديث: " كلوا واشربوا والبسوا وتصدّقوا في غير إسراف ولا مخيلة " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح.

وقد نعى الله على قوم تعجّلوا شهواتهم، وأذهبوا طيّباتهم في هذه الحياة، فقال:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} 2.

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} 3 أي: أشباههم في السَّفَه، والتبذير، وترك

1 سورة الأعراف، الآية:31.

2 سورة الأحقاف، الآية:20.

3 سورة الإسراء، الآية:27.

ص: 10

طاعة الله، وارتكاب معصيته. فإن الشيطان يدعو إلى كل خصلة ذميمة؛ فيدعو الإنسان إلى الشح، والبخل، والإمساك، فإنْ عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير، وإنفاق الأموال بالباطل والمحرّمات؛ كاشتراء الاسطوانات والبكمات والأشرطة التي سُجِّلت فيها الأغاني المحرّمة، واشتراء الصور ذوات الأرواح، وكإنفاق المال في الدخّان الخبيث الضار بالصحّة والاقتصاد. فكلّ ذلك وما في معناه فالنفقة فيه نفقة بغير حق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النار يوم القيامة" أخرجه البخاري.

وقد مدح الله المؤمنين بالعدل في إنفاقهم بقدر الحاجة، فقال:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 1 أي: لم تصل نفقتهم إلى حدِّ السَّرَف، ولم تنقص إلى حد البُخل، وكان إنفاقهم بين البخل والتبذير بقدر ما تقوم به حاجتهم، وتندفع به ضروراتهم.

وقد حدَث التوسُّع الزائد في هذه الأوقات في النفقات والولائم والحفلات، حتى وصلت إلى حدِّ الإسراف والتبذير.

1 سورة الفرقان، الآية:67.

ص: 11

وهذا ضررٌ عظيم مخالِفٌ للشرع، ومضارُّه شاملة للغني والفقير.

وقد جعل الله الأموال قياما للناس، تقوم بها المصالح والمنافع، فمن صرفها في غير وجهها الشرعي فقد ضيّع الأمانة المُلْقاة على عاتقه، وهذا النوع من النفقة لم يضمن الله للمنفق خلفها.

إنّ هذا التوسُّع يُرغم العاجزين ومن ليس لهم مقدرة بالتزام ذلك مجاراة للأغنياء والقادرين، فلو أن الرؤساء والأغنياء الذين هم قدوة لغيرهم التزموا الاقتصاد في النفقات، واتّفقوا عليه، لشكروا على ذلك، وكان فيه خير للمجتمع، قال تعالى في الحَثِّ على هذا السبيل:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} 1 فإنك إن قصّرت بالنفقات، وبخلت بالواجبات؛ لامك الناس على الإمساك، ولاموك على البخل، وإن أسرفت في الإنفاق فوق طاقتك، نفد ما عندك، فأصبحت حاسر اليد فارغها. فالاقتصاد من أسباب بقاء المعيشة ودوامها فإنه "ما عالَ من اقتصد".

والسخاء المحمود شرعا: هو بذل ما يُحتاج إليه، وأن يوصل ذلك إلى مستحقّه بقدر الإمكان. وليس كما قيل: "حدّ

1 سورة الإسراء، الآية:29.

ص: 12

الجود بذل الموجود"، ولو كان كذلك لانتفى اسم السرف والتبذير، اللذين ورد الكتاب بذمّهما، وجاءت السنة بالنهي عنهما، فمن كان سخيا سمّي كريما مستوجبا للحمد، ومن قصَّر عنه سمّي بخيلاً مستوجبا للذم.

والسخيّ قريب من الله، قريب من خلقه، قريب من الجنة، بعيد من النار.

والبخيل بعيد من الله، بعيد من خلقه، بعيد من الجنة، قريب من النار1.

فجود الرجل يقرِّبه إلى أعدائه، وبخله يُبغضه إلى أولاده.

فالكريم المتصدِّق يعطيه الله ما لا يُعطي البخيل الممسك، ويوسِّع عليه في ذاته وخُلُقِه ورزقِه ونفسِه وأسباب معيشته جزاءً له من جنس عمله:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.

وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

نصيحة

أيها المسلم: أنت أخ كريم، أنت مسلم عاقل، تؤمن

1 انظر: "الوابل الصيِّب" لابن القيِّم ص 76 82.

2 سورة الحشر، الآية:9.

ص: 13

بالله واليوم الآخِر، وتحب ما ينفع، وتكره ما يضر، وتحب الحلال، وتكره الحرام.

أسأل الله تعالى أن يكون كسبك حلالاً، ليكون عملك مقبولاً، ودعاؤك مستجابا.

أخي المسلم: أذكِّرك أن المعاملة بالربا حرام، سواء عن طريق بيع الجنس بجنسه مع الزيادة في أحدهما، أو بغير جنسه مؤجَّلاً، أو غير مقبوض، أو بأن يقرضه قرضا مقابل منفعة، فكل قرض جرَّ نفعا فهو ربا، أو عن طريق البنوك بإيداعٍ فيها وأخذ فوائد ربويّة، أو بالاستقراض منها بفوائد ربوبيّة، أو عن طريق المدايَنة مثلاً: العشر اثنا عشر، أو أقل أو أكثر، أو بقلب الدين على المعسر الواجب إنظارُه، أو يقول: استدن مني وأوفِني، أو يبيع سلعة إلى أَجل ثم يشتريها بأقلّ منه نقدًا.

فكلُّ هذه المعاملات من الربا المحرّم، الملعون فاعله، المتوعَّد عليه بأشد وعيد، لأن الربا من كبائر الذنوب، وقد أحلّ الله البيع وحرّم الربا.

عن جابر رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكِل الربا وموكِله وكاتبه وشاهديْه، وقال، "هم سواء" " رواه مسلم وغيره.

فاللعن معناه: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فكلُّ من

ص: 14

يتعامل بالربا، وكل موظّف في بنك يتعامل بالربا، أو في متجر يتعامل بالربا؛ فإنه ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

وآكِل الربا والمتعامِل به محارب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حارب الله فهو مهزوم، وهو مجرّب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك.

لذا يجب على المسلم أن يتّقيَ الله في نفسه، وأن يبتعد عن المعاملات الربويّة، وعن جميع أنواع الحرام ومكاسبه وطرقه، وأن يتوب إلى الله تعالى قبل أن يموت، فيندم حين لا ينفعه الندم.

اللهم تُب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمّن سواك.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فائدة

أما المعاملات المشروعة التي هي حلال ومباحه فهي البيع والشراء بصدق وأمانة، والقرض بدون فائدة، وبيع السلم بأن تدفع نقودًا بسلعة معلومة إلى أجل معلوم.

ومن الجائز عند الجمهور أن تبيع سلعة بأكثر من ثمنها الحالي إلى أجل معلوم، وفي الحلال بركة وكفاية عن الحرام وبالله التوفيق

ص: 15