الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
ولنختم هذا البحث بما ورد في الكتاب والسنة من تحريم الربا والتشديد فيه:
ففي هذه الآية تهديد شديد، ووعيد أكيد لمن لم يترك الربا، وذلك بمحاربته لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأي ذنب في المعاملة أعظم من ذنب يكون فيه فاعله محاربا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بعض السلف:"من كان مقيما على الربا لا يتوب منه كان على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه".
وفي قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أنّ آكِل الربا لو كان مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حقّ الإيمان، راجيا ثواب الله في الآخرة، خائفا من عقابه؛ لَمَا استمرّ على أكل الربا، والعياذ بالله تعالى.
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا
1 سورة البقرة، الآيتان: 287 279.
يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1.
ففي هذه الآية وصف آكِلي الربا بأنهم يقومون من قبورهم يوم القيامة أمام العالم كلهم كما يقول الذي يتخبّطه الشيطان من المس؛ يعني: كالمصروعين الذين تصرعهم الشياطين وتخنقهم. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "آكِل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يُخْنَق"، ثم بيّن الله ما وقع لهم من الشبهة التي أعمت بصائرهم عن التمييز بين الحق والباطل فقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} ، وهذا يحتمل أنهم قالوه لشبهة وقعت لهم، وتأويل فاسد لجئوا إليه كما يحتجّ أهل الحيل على الربا، ويحتمل أنهم قالوا ذلك عنادًا وجحودًا. وعلى كِلَا الاحتمالين فإنّ هذا يدلّ على أنهم مستمرّون في باطلهم، منهمكون في أكلهم الربا، مجادِلون بالباطل ليدحضوا به الحق. نعوذ بالله من ذلك.
1 سورة البقرة، الآية:275.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1. ففي هذه الآيات:
نهى الله عباده المؤمنين بوصفهم مؤمنين عن أكل الربا، ثم حذّرهم من نفسه في قوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ} ، ثم حذّرهم النار التي أُعدّت للكافرين، وبيّن أن تقواه وطاعته سببٌ للفلاح والرحمة:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.
وهذا كله دليل على تعظيم شأن الربا، وأنه سبب لعذاب الله تعالى ودخول النار، والعياذ بالله تعالى من ذلك.
وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه} 3. {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} 4.
1 سورة آل عمران، الآيات: 130 132.
2 سورة النور، الآية:63.
3 سورة الروم، الآية:39.
4 سورة البقرة، الآية:276.
فالربا لا يربو عند الله ولا يزداد صاحبه به قُربة عند ربه، فإنه مال مكتسب بطريق حرام، فلا خير فيه ولا بركة، ولو أن صاحبه تصدّق به لم يُقبل منه، إلا إذا كان تائبا إلى الله تعالى من ذلك الذنب الكبير، فيتصدّق به للخروج من تبِعته عند عدم معرفته لأصحابه، وبذلك يكون بارئا منه. أما إن تصدّق به لنفسه فإنه لا يُقبل منه، لأنه لا يربو عند الله، بينما الصدقات المقبولة تربو عند الله، وإن أنفقه لم يبارك الله له فيه لأن الله يمحقه أو يمحق بركته، فلا خير ولا بركة في الربا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبِقات". وذكر منها الربا. متّفق عليه.
وعن سمُرة بن جُندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدّسة، حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى شطّ النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فمه فردّه حيث كان، فجعل كلما أراد أن يخرج رمى في فمه بحجر فيرجع كما
كان. فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟، قال: آكِل الربا" "رواه البخاري".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكِل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء". رواه مسلم وغيره.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه". رواه الطبراني، وله شواهد.
وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من الربا وبيان تحريمه، وأنه من كبائر الذنوب وعظائمها، فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من هذا الأمر العظيم، وليتب إلى الله تعالى قبل فوات الأوان وانتقاله عن المال، وانتقال المال إلى غيره، فيكون عليه إثمه وغُرمه، ولغيره كسبه وغُنمه.
وليحذر من التحيّل عليه بأنواع الحيل، لأنه إذا تحيّل فإنما يتحيّل على من يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، ولن تفيده هذه الحيل لأن الصور لا تغيِّر الحقائق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "إبطال التحليل" "ص 108": ". فيا سبحان الله العظيم!، أيعود الربا الذي قد عظّم الله شأنه في
القرآن، وأوْجب محاربة مستحلّه، ولعن أهل الكتاب بأخذه، ولعن آكله وموكِله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلاً، إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها. أم يستحسن مؤمن أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرِّم هذه المحارم العظيمة، ثم يبيحها بنوع من العبث والهزل الذي لم يقصد، ولم يكن له حقيقة، وليس فيه مقصود للمتعاقدين قط".
وقال في "ص 137": ". وكلما كان المرء أفقه في الدين وأبصر بمحاسنه كان فراره من الحِيَل أشد". قال: "وأظن كثيرًا من الحيل إنما استحلها من لم يفقه حكمة الشارع، ولم يكن له بُد من التزام ظاهر الحكم، فأقام رسم الدين دون حقيقته، ولو هدي إلى رشده لسلّم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأطاع الله ظاهرًا وباطنا في كلِّ أمره".
أسأل الله تعالى أن يوقظ بمنّه وكرمه عباده المؤمنين من هذه الغفلة العظيمة، وأن يقيهم شُحّ أنفسهم، ويهديهم صراطه المستقيم، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 1.
1 انظر: "بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين" للمؤلف من صفحة: 277 إلى صفحة: 309.