المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌طرق الكسب الحرام - من أحكام الفقه الإسلامي وما جاء في المعاملات الربوية وأحكام المداينة

[عبد الله آل جار الله]

الفصل: ‌طرق الكسب الحرام

‌طرق الكسب الحرام

قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1 أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحترم ماله كما يحترم ماله، ولأنّ أكله لمال غيره يجرؤ غيره على أكل ماله عند القدرة.

ولَمّا كان أكلها نوعين: نوع بحق، ونوع بباطل، وكان المحرّم إنما هو أكلها بالباطل، قيّده تعالى بذلك، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب، والسرقة، والخيانة في وديعة، أو عارية، أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضا أخذها على وجه المعاوَضة بمعاوضة محرّمة كعقود الربا والقمار. كلها فإنها من أكل المال بالباطل، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح. ويدخل في ذلك أخذها بسبب غِش في البيع والشراء ونحوها. ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أُجرة على عمل لم يقوموا بواجبه. ويدخل في ذلك أخذ

1 سورة البقرة، الآية:188.

ص: 16

الأُجرة على العبادات والقُرُبات التي لا تصحّ حتى يقصد بها وجه الله تعالى. ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا لمن ليس له حقا منها أو فوق حقّه.

فكلّ هذا ونحوه من أكل المال بالباطل، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه، حتى ولو حصل فيه النزاع والارتفاع إلى حاكم الشرع، وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة غلبت حجة المُحِقّ، وحكم له الحاكم بذلك، فإنّ حكم الحاكم لا يبيح محرَّما ولا يُحِلُّ حراما، وإنما يحكم على نحوٍ ممّا يسمع، وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ولا شبهة ولا استراحة، فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة وحُكِمَ له بذلك فإنه لا يحل له، ويكون آكِلاً لمال غيره بالباطل والإثم وهو عالم بذلك، فيكون أبلغ في عقوبته وأشدّ في نكاله. وعلى هذا فالوكيل إذا علِم أن موكِله مبطل في دعواه لم يحل له أن يخاصم عن الخائن، كما قال تعالى:{وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} 1 انتهى من تفسير ابن سِعدي2.

لذا حرّم الله تناوُل الحرام من أي وجه كان، سواء كان رشوة، أو سرقة، أو ربا، أو غلولاً، أو من قمار،

1 سورة النساء، الآية:105.

2 ج 1 ص 110 111 ط. 1.

ص: 17

أو غصب، أو اختلاس من وراء وظيفة، أو غش، أو قيمة شيء محرّم، أو أُجرته "كمهر البغيّ، وحُلوان الكاهن، وكثمن آلات اللهو، والصور المحرّمة، والكتب والمجلاّت والصحف المشتملة على الإلحاد أو الخلاعة، وكثمن الخمر والدخان، وكالأجرة على الرقص أو الغناء أو العزف، وعلى شهادة الزور، وما اقتطع بيمين كاذبة، أو أخذ بغير حق وإن كان حكم به القاضي، إلى غير ذلك من طرق الكسب الحرام.

روى البخاري من حديث خَوْلة الأنصاريّة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة".

وروى الطبراني وأبو نُعيم، عن زيد بن أرقم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ جسد نبت من سُحْت فالنار أولى به".

وفي الحديث: "لا يدخل الجنّة جسد غُذِّي بالحرام". رواه الترمذي.

وروى البيهقي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قَسَمَ بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه، ولا يكسب عبد مالاً حراما فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق منه فيُقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده

ص: 18

إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن" 1.

وفي "صحيح مسلم" حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم "الرجل يطيل السفر، أشعث أَغْبَر، يَمُدُّ يديه إلى السماء: يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنّى يُستجاب لذلك".

ومن المحرّمات: أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير والذهب للرجال، ومثل الاكتساب المحرم: كالربا، والميسر، وثمن ما لا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب، ونحو ذلك.

قال العلماء رحمهم الله: "ويدخل في هذا الباب: المكّاس، والخائن، والسارق، وآكل الربا وموكِله، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، ومن استعار شيئا فجحده، وآكل الرشوة، ومنقص الكيل والوزن، ومن باع شيئا فيه عيب فغطّاه، والمقامِر، والساحر، والمنجِّم، والمصوِّر، والزانية، والنائحة، والدلاّل إذا أخذ أُجرته بغير إذن البائع"2.

وما سوى ذلك فهو حلال، مثل: أكل الطيِّبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام، وشرب الأشربة الطيِّبة، ولباس ما يُحتاج إليه من القطن والصوف وغيرهما ممّا أحلّ الله

1 انظر: "الإرشاد إلى طريق النجاة" ص 43 للشيخ عبد الرحمن الحمّاد العمر.

2 انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب ص 59. وكتاب "الكبائر" للذهبي ص 117.

ص: 19

ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذا إن اكتسابه بعقد صحيح، كالبيع، أو ميراث، أو هِبة، أو غنيمة.

فالحلال بيِّن، والحرام بيِّن، والحلال ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرّمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد أحل الله لنا الطيِّبات النافعة، وحرّم الخبائث الضارّة؛ رحمةً بنا، وإحسانا إلينا، وقد أنزل الله على نبيِّه الكتاب، وبيّن فيه للأمّة ما تحتاج إليه من حلال وحرام. كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} 1، وما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله له ولأمته الدين، كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 2، فما ترك الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حلالاً إلا مبيّنا، ولا حراما إلا مبيّنا. فلله الحمد على ذلك.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فائدة

الحقوق المالية الواجبة لله تعالى أربعة أقسام:

أحدها: حقوق المال، كالزكاة. فهذا يثبت في الذمة بعد

1 سورة النحل، الآية:89.

2 سورة المائدة، الآية:3.

ص: 20

التمكّن من أدائه، فلو عجز عنه بعد ذلك لم يسقط، ولم يثبت في الذمة إذا عجز عنه وقت الوجوب، وألحق بهذا زكاة الفطر.

القسم الثاني: ما يجب بسبب الكفّارة، ككفارة الأيمان، والظِّهار، والوطء في نهار رمضان، وكفّارة القتل. فإذا عجز عنها وقت انعقاد أسبابها ففي ثبوتها في ذمّته إلى المَيْسَرة أو سقوطها قولان مشهوران في مذهب الشافعي وأحمد 1.

القسم الثالث: ما فيه معنى ضمان المتلف، كجزاء الصيد. وألحق به: فدية الحلق والطيب واللِّباس في الإحرام، فإذا عجز عنه وقت وجوبه ثبت في ذمّته تغليبا لمعنى الغرامة، وجزاء المتلف، وهذا في الصيد ظاهر. وأما في الطيب وبابه فليس كذلك، لأنه ترفّه لا إتلاف، إذ الشعر والظفر ليسا بمتلفين، ولم تجب الفدية في إزالتها في مقابل الإتلاف، لأنها لو وجبت لكونها إتلافا لتقيّدت بالقيمة، ولا قيمة لها، وإنما هي من باب الترفّه المَحْض، كتغطية الرأس واللبس،

1 أحدهما وهو قول الجمهور: أن الكفّارة لا تسقط بالإعسار كدين الآدمي.

والثاني: أنها تسقط لأن الله تعالى لا يكلِّف نفسا إلا وُسعها ولأن الواجبات تسقط بالعجز عنها ولعلّ هذا القول أولى. انظر: "نيل الأوطار" ج 4 ص 243.

ولأنّ حقوق الله مبنيّة على المسامحة.

ص: 21

فأي إتلاف ههنا؟.

وعلى هذا: فالراجح من الأقوال: أن الفدية في ذلك لا تجب مع النسيان والجهل.

القسم الرابع: دم النسك، كالمتعة والقِرَان. فهذه إذا عجز عنها وجب عنها بدلها من الصيام. فإن عجز عنه ترتّب في ذمّته أحدهما، فمتى قدر عليه لزمه. وهل الاعتبار بحال الوُجوب أو بأغلظ الأحوال؟، فيه خلاف.

وأما حقوق الآدميِّين فإنها لا تسقط بالعجز عنها، لكن إنْ كان عجزه بتفريط منه في أدائها طولِب بها في الآخرة، وأُخذ لأصحابها من حسناته، وإن كان عجزه من غير تفريط، كمن احترق ماله، أو غرق، أو كان الإتلاف خطأ، مع عجزه عن ضمانه. ففي إشغال ذمّته به وأخذ أصحابها من حسابه نظر. ولم أقف على كلام شافٍ للناس في ذلك.

والله تعالى أعلم 1.

فائدة

كفّارة اليمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام. كما في سورة المائدة، آية رقم:89.

1 نقلاً من "بدائع الفوائد" لابن القيم، (ج 4، ص33 34.

ص: 22

وكفّارة الظِّهار: عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فلم يستطع فإطعام ستِّين مسكينا. كما في سورة المجادلة، آية: 3 4، وهي كفّارة الجماع في نهار رمضان.

وكفّارة قتل الخطأ: عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. كما في سورة النساء، آية:92. وبالله التوفيق.

ص: 23