المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من أحكام الفقه الإسلاميالمداينة - من أحكام الفقه الإسلامي وما جاء في المعاملات الربوية وأحكام المداينة

[عبد الله آل جار الله]

الفصل: ‌من أحكام الفقه الإسلاميالمداينة

‌من أحكام الفقه الإسلامي

المداينة

لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين الأستاذ بكلية الشرعية وأصول الدين بالقصيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبِعهم بإحسان، وسلّم تسلميا.

أما بعد:

فلمّا كان الدين الإسلامي دينا كاملاً شاملاً لِمَا يقوم به العباد تجاه ربهم من العبادات، وما يفعلونه في أنفسهم من العادات، وما يتعاملون به بينهم من المعاملات. وقد جاء مبيّنا لأحكام ذلك تفصيلاً وإجمالاً، وكان ممّا شاع بين الناس التعامل بالمداينة، وهي بيع الغائب بالناجز أو بالعكس، أو بيع الغائب بالغائب. أحببت أن أبيِّن أحكام بعض ذلك فيما يتأتّى فأقول:

ص: 44

المداينة أقسام

القسم الأول: أن يحتاج إلى شراء سلعة وليس عنده ثمن حاضر ينقده، فيشتريها إلى أجل معلوم بثمن زائد على ثمنها الحاضر. فهذا جائز.

مثل: أن يشتري بيتا ليسكنه أو يؤجِّره بعشرة آلاف إلى سنة، ويكون قيمته لو بيع نقدًا تسعة آلاف. أو يشتري سيّارة يركبها أو يؤجِّرها بعشرة آلاف إلى سنة، وقيمتها لو بيعت نقدًا تسعة آلاف، وهو داخل في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 1.

القسم الثاني: أن يشتري السلعة إلى أجل لقصد الاتّجار بها.

مثل: أن يشتري قمحا بثمن مؤجّل زائد على ثمنه الحاضر ليتّجر به إلى بلد آخر، أو لينتظر به زيادة السوق، أو نحو ذلك، فهذا جائز أيضا، لدخوله في الآية السابقة.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله عن هذين القسمين: "أنهما جائزان بالكتاب والسنة والإجماع".

1 سورة البقرة؛ الآية: 282.

ص: 45

ذكره ابن قاسم في "مجموع الفتاوى""ص 449 ج 29"1.

القسم الثالث: أن يحتاج إلى دراهم فيأخذها من شخص بشيء في ذمّته.

مثل: أن يقول لشخص أعطني خمسين ريالاً بخمسة وعشرين صاعا من البُرّ أسلِّمها لك بعد سنة. فهذا جائز أيضا. وهو السَّلم الذي ورد به الحديث الثابت في "الصحيحين" عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قدِم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلِّفون في الثمار السنة والسنتين، فقال:"من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم".

القسم الرابع: أن يكون محتاجا لدراهم فلا يجد من يقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجّل ثم يبيعها على صاحبها الذي اشتراها منه بثمن أقلّ منه نقدًا. فهذه هي مسألة العِينة، وهي حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، واتّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً لا يرفعه حتى

1 ولا فرق في أن يكون التأجيل إلى وقت واحد، أو أوقات متعددة، مثل أن يقول: بعته عليك بكذا على أن يحلّ من الثمن كل شهر كذا وكذا. الخ.

ص: 46

يرجعوا لدينهم" رواه أحمد وأبو داود.

ولأنّ هذه حيلة ظاهرة على الربا، فإنه في الحقيقة بيع دراهم حاضرة بدراهم مؤجّلة أكثر منها دخلت بينهما سلعة، وقد نصّ الإمام أحمد وغيره على تحريمها.

القسم الخامس: أن يحتاج إلى دراهم ولا يجد من يقرضه، فيشتري سلعة بثمن مؤجّل، ثم يبيع السلعة على شخص آخر غير الذي اشتراها منه. فهذه هي "مسألة التورُّق".

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في جوازها:

فمنهم من قال: إنها جائزة. لأن الرجل يشتري السلعة ويكون غرضه إما عين السلعة وإما عوضها، وكلاهما غرض صحيح.

ومن العلماء من قال: إنها لا تجوز. لأن الغرض منها هو أخذ دراهم بدراهم، ودخلت السلعة بينهما تحليلاً، وتحليل المحرّم بالوسائل التي لا يرتفع بها حصول المفسدة لا يغني شيئا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى"1.

والقول بتحريم مسألة التورق هذه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد.

بل جعلها الإمام أحمد في رواية أبي داود من العينة كما نقله ابن القيِّم في "تهذيب السنن""ص 108 ج 5".

1 رواه البخاري ومسلم.

ص: 47

ولكن نظرًا لحاجة الناس اليوم وقلّة المقرضين ينبغي القول بالجواز بشروط:

1 أن يكون محتاجا إلى الدراهم، فإن لم يكن محتاجا فلا يجوز، كمن يلجأ إلى هذه الطريقة ليدين غيره.

2 أن لا يتمكّن من الحصول على المال بطرق أخرى مباحة كالقرض والسلم، فإن تمكّن من الحصول على المال بطريقة أخرى لم تجز هذه الطريقة، لأنه لا حاجة به إليها.

3 أن لا يشتمل العقد على ما يشبه صورة الربا، مثل أن يقول: بعتك إيّاها العشرة أحد عشر أو نحو ذلك، فإن اشتمل على ذلك فهو إما مكروه أو محرّم، نقل عن الإمام أحمد أنه قال في مثل هذا:"كأنه دراهم بدراهم، لا يصح" هذا كلام الإمام أحمد.

وعليه: فالطريق الصحيح أن يعرف الدائن قيمة السلعة ومقدار ربحه، ثم يقول للمستدين: بعتك إيّاها بكذا وكذا إلى سنة.

4 أن لا يبيعها المستدين إلا بعد قبضها وحيازتها، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلع قبل أن يحوزها التجّار إلى رحالهم.

ص: 48

فإذا تمّت هذه الشروط الأربعة فإنّ القول بجواز مسألة التورق متوجّه؛ كيلا يحصل تضييق على الناس.

وليكن معلوما أنه لا يجوز أن يبيعها المستدين على الدائن بأقل ممّا اشتراها به بأيّ حال من الأحوال، لأنّ هذه مسألة العينة السابقة في القسم الرابع.

القسم السادس: طريقة المداينة التي يستعملها كثير من الناس اليوم.

وهي: أن يتّفق المستدين والدائن على أخذ دراهم العشرة أحد عشر أو أقل أو أكثر، ثم يذهبا إلى الدُكّان فيشتري الدائن منه مالاً بقدر الدراهم التي اتّفق والمستدين عليها، ثم يبيعه على المستدين، ثم يبيعه المستدين على صاحب الدُكّان بعد أن يخصم عليه شيئا من المال يسمّونه السعي. وهذا حرام بلا ريب. وقد نصّ شيخ الإسلام ابن تيمية في عدّة مواضع على تحريمه، ولم يحكِ فيه خلافا، مع أنه حكى الخلاف في مسألة التورق.

والمواضع التي ذكر فيها شيخ الإسلام تحريم هذه المسألة هي:

1 يقول في "ص 74 من المجلّد 28": "والثلاثيّة مثل أن يدخلا بينهما محلّلاً للربا، يشتري السلعة منه آكل الربا ثم يبيعها المعطي للربا إلى أجل، ثم يعيدها إلى صاحبها

ص: 49

بنقص دراهم يستفيد المحلّل. وهذه المعاملات منها ما هو حرام بإجماع المسلمين مثل التي يجري فيها شرط لذلك، أو التي يباع فيها المبيع قبل القبض الشرعي، أو بغير الشروط الشرعية، أو يقلب فيها الدين على المعسر. ومن هذه المعاملات ما تنازع فيها بعض العلماء لكن الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أنها حرام".

2 وفي "ص 437 مجلّد 29" قال: "وقول القائل لغيره: أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام" إلى أن قال: "وبكلّ حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل؛ هي معاملة فاسدة ربوبيّة".

3 وفي "ص 439 من المجلّد 29" المذكور قال: "أما إذا كان قصد الطالب أخذ دراهم بأكثر منها إلى أجل، والمعطي يقصد إعطاء ذلك، فهذا ربا لا ريب في تحريمه، وإن تحايلا على ذلك بأيّ طريق كان، فإنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى". وذكر نحو هذا في "ص 430" و"ص 433" و "ص 441" من المجلّد المذكور، وذكر نحوه في كتاب "إبطال التحليل" في "ص 109".

ص: 50

وبعد: فإنّ تحريم هذه المداينة التي ذكرنا صورتها في أوّل هذا القسم لا يمتري فيه شخص تجرّد عن الهوى وعن الشحّ، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن مقصود كلٍّ من الدائن والمدين دراهم بدراهم، ولذلك يقدّران المبلغ بالدراهم والكسب بالدراهم قبل أن يعرفا السلعة التي يكون التحليل بها، لأنهما يتّفقان أولاً على دراهم: العشرة كذا وكذا، ثم يأتيان إلى صاحب الدُكّان، فيشتري الدائن أيّ جنس وجده من المال، فربما يكون عنده سكّر، أو خام، أو رز، أو هيل، أو غير ذلك، فيشتري الدائن ما وجد ويأخذه المستدين، وبهذا عُلم أن القصد الدراهم بالدراهم، وأن السلعة غير مقصودة للطرفين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى" متّفق عليه.

ويدلّ على ذلك: أن الدائن والمستدين كلاهما لا يقلبان السلعة ولا ينظران فيها نظر المشتري الراغب، وربما كانت معيبة أو تالفاً منها ما كان غائبا عن نظرهما مما يلي الأرض،

ص: 51

أو الجدار المركونة إليه، وهما لا يعلمان ذلك ولا يباليان به.

إذن فالبيع بيعٌ صوري لا حقيقي، والصور لا تغيِّر الحقائق ولا ترتفع بها الأحكام.

ولقد حدث أنه إذا لم يكف المال الموجود عند صاحب الدُكّان للدراهم التي يريدها المستدين فإنهم يعيدون هذا البيع الصوري على نفس المال، وفي نفس الوقت، فإذا أخذه صاحب الدُكّان من المستدين باعه مرّة أخرى على الدائن، ثم باعه الدائن على المستدين بالربح الذي اتّفقا عليه من قبل، ثم باعه المستدين على صاحب الدُكّان، فيرجع الدائن مرّة أخرى فيشتريه من صاحب الدُكّان، ثم يبيعه على المستدين بالربح الذي اتّفقا عليه. وهكذا أبدًا حتى تنتهي الدراهم، فربما يكون المال الذي عند صاحب الدُكّان لا يساوي عشر مبلغ الدراهم المطلوبة، ولكن بهذه الألعوبة يبلغون مرادهم، والله المستعان.

الوجه الثاني: مما يدلّ على تحريم هذه المداينة: أنه إذا كان مقصود الدائن والمدين هي الدراهم، فإن ذلك حيلة على الربا بطريقة لا يرتفع بها مقصود الربا، والتحايُل على محارم الله تعالى جامع بين مفسدتين؛ مفسدة المحرم التي لم ترتفع بتلك الحيلة،

ص: 52

ومفسدة الخِداع والمكر في أحكام وآيات الله تعالى، الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور} .

ولقد أخبر الله عن المخادعين له بأنهم يخادعون الله وهو خادعهم، وذلك بما زيّنه في قلوبهم من الاستمرار في خداعهم ومكرهم، فهم يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين.

قال أيوب السِّخْتِياني: "يخادعون الله كما يخدعون الصبيان، ولو أتوا بالأمر على وجهه لكان أهون".

ولقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمّته من التحايُل على محارم الله فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحِيَل"1. وقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله اليهود، حرِّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" 2.

الوجه الثالث: أن هذه المعاملة يربح فيها الدائن على المستدين قبل أن يشتري السلعة، بل يربح عليه في سلعة لم يعرفا نوعها وجنسها فيربح في شيء لم يدخل في ضمانه، وقد نهى

1 قال ابن تيمية: رواه أبو عبد الله بن بطّة وقال: هذا إسناد جيّد.

2 رواه أحمد وأبو داود.

ص: 53

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن1 وقال: "الخراج بالضمان" 2، وقال:"لا تَبِعْ ما ليس عندك"3. وهذا كله بعد التسليم بأن البيع الذي يحصل في المداينة بيع صحيح، فإنّ الحقيقة أنه ليس بيعا حقيقيا، وإنما هو صوري، بدليل أن المشتري لا يقلبه ولا ينظر فيه ولا يماكِس في القيمة، بل لو بيع عليه بأكثر من قيمته لم يبال بذلك.

الوجه الرابع: أنّ هذه المعاملة تتضمّن بيع السلعة المشتراة قبل حيازتها إلى محل المشتري ونقلها عن محل البائع. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلع حيث تشترى حتى يحوزها التجّار إلى رحالهم.

فعن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التُجّار إلى رحالهم. رواه أبو داود.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانوا يتبايعون

1 رواه أحمد وأهل السنن وصحّحه الترمذي وغيره.

2 رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره.

3 رواه أحمد وأهل السنن.

ص: 54

الطعام جزافا بأعلى السوق، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه. رواه الجماعة إلاّ الترمذي وابن ماجه.

القسم السابع: من طريقة المداينة: أن يكون في ذمّة شخص لآخر دراهم مؤجّلة، فيحلّ أجلها وليس عنده ما يوفِّيه، فيقول له صاحب الدين: أدينك فتوفِّيني، فيدينه فيوفِّيه، وهذا من الربا، بل هو ممّا قال الله فيه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1.

وهذا القسم من المداينة من أعمال الجاهليّة، حيث كان أحدُهم يقول للمدين إذا حلّ الدين:"إما أن توفي وإما أن تُربي"، إلا أنهم في الجاهليّة يضيفون الربا إلى الدين صراحة من غير عمل حيلة، وهؤلاء يضيفون الربا إلى الدين بالحيلة.

والواجب على صاحب الدين إذا حلّ دينه: إنظار المدين إذا كان معسرًا، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 2 أما إذا أبراه من الدين فذلك خيرٌ وأفضل.

أما إنْ كان

1 سورة آل عمران، الآيتان: 130 132.

2 سورة البقرة، الآية:280.

ص: 55

المدين موسِرًا فإن للدائن إجباره على الأداء، لأنه يحرُم على المدين حينئذ أن يماطِل ويدافع صاحب الدين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَطْلُ الغني ظلم"1. ومن المعلوم أن الظلم حرام يجب منع فاعله وإلزامه بما يزيل الظلم.

القسم الثامن: من المداينة أن يكون لشخص على آخر دين، فإذا حلّ قال له: إما أن توفي دينك أو تذهب لفلان يدينك وتوفيني، ويكون الدائن الأوّل والثاني اتّفاق مسبقا في أنّ كل واحد منهما يدين غريم صاحبه ليوفيه، ثم يعيد الدين عليه مرّة أخرى ليوفي الدائن الجديد. أو يقول: اذهب إلى فلان لتستقرض منه وتوفيني، ويكون بين الدائن الأول والمقرض اتّفاق أو شبه اتّفاق على أن يقرض المدين، فإذا أوفى الدائن الأول قلب عليه الدين، ثم أوفى المقرض ما اقترض منه. وهذه حيلة لقلب الدين بطريق ثلاثيّة، وهي حرام لِمَا تقدّم من تحريم الحِيَل، وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمّته من ذلك 2.

1 متّفق عليه.

2 كما في الحديث المتقدّم ص 53.

ص: 56

خلاصة ما تقدّم

وبعد: فهذه ثمانية أقسام من أقسام المداينة؛ بعضها حلال جائز، فيه الخير والبركة، وبعضها حرام ممنوع، ليس فيه إلى الشر والخسارة ونزع البركة، ولو لم يكن فيه إلا أنه يزين لصاحبه سوء عمله فيستمرّ فيه ولا يرى أنه على باطل، فيكون داخلاً في قول الله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاء} 1 وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 2.

فالحلال من هذه الأقسام:

1 أن يحتاج الشخص إلى سلعة أو عقار فيشتريه بثمن مؤجّل لقضاء حاجته.

2 أن يشتري السلعة أو العقار بثمن مؤجّل للاتّجار به وانتظار زيادة السعر.

1 سورة فاطر، الآية:8.

2 سورة الكهف، الآيتان: 103 104.

ص: 57

3 أن يحتاج إلى دارهم فيأخذها من شخص بسلعة يكتبها الآخِذ في ذمّته.

وهذه الأقسام الثلاثة جائزة بلا ريب وسبق تفصيلها.

والحرام من الأقسام الأخرى:

1 أن يحتاج إلى دارهم فلا يجد من يقرضه فيشتري سلعة من شخص بثمن مؤجّل زائد على قيمتها الحاضرة ثم يبيعها على غيره، وهذه مسألة التورّق في جوازها "خلاف بين العلماء" كما تقدّم.

2 أن يحتاج إلى دارهم ولا يجد من يقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجّل، ثم يبيعها عليه بأقل مما اشتراها به، وهذه مسألة العِيْنَة.

3 أن يتّفق الدائن والمدين على أخذ الدراهم العشرة أحد عشرة أو نحو ذلك، ثم يذهب إلى ثالث فيشتري الدائن منه سلعة هو في الحقيقة شراء صوري، ثم يبيعها على المدين، ثم يبيعها المدين بدوره على الذي أخذها الدائن منه. وهذه طريقة المداينة التي يستعملها الآن كثيرٌ من الناس وهي حرام كما سبق عن شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يذكر خلافا في تحريمها كما ذكر في مسألة التورق.

ص: 58

4 أن يكون لشخص على آخر دين مؤجّل فيحل أجله وليس عنه ما يوفِّيه، فيقول صاحب الدين: أدينك وتوفِّيني فيدينه فيوفِّيه. وهذه طريقة أهل الجاهلية التي تتضمّن أكل الربا أضعافا مضافة إلا أنها صريحة في الجاهلية خديعة في هذا الزمان ففيها مفسدتان.

5 أن يكون لشخص على آخر دين مؤجّل فيحلّ أجله ويكون لصاحب الدين صاحب يتّفق معه على أن يقرض المدين أو يدينه ليوفّي الدائن ثم يقلِّب عليه الدين مرّة أخرى. وهذه طريقة الجاهلية مع إدخال الطرف الثالث المشارِك في الإثم والعدوان والمكر والخداع.

فهذه الأقسام الخمسة محرّمة، وقد علمت ما في القسم الأول منها من الخلاف.

واعلم: أنّ الدَّيْن في اصطلاح أهل الشرع: اسمٌ لِمَا ثبت في الذمّة، سواء كان ثمن مبيع أو قرضا أو أجرة أو صَداقا أو عِوَضا لخلع أو قيمة لمتلف أو غير ذلك، وليس كما يظنّه كثيرٌ من العوامّ من أنّ المداينة هي التي يستعملونها، ويستدلّون عليها بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 1 فإنّ المراد به هو

1 سورة البقرة، الآية:282.

ص: 59

الدين الحلال الذي بيّن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حِلّه دون الدين الحرام، هذا كثيرٌ في نصوص الكتاب والسنة تأتي مطلَقة أو عامّة في بعض المواضع، ولكن يجب أن تخصّص أو تقيّد بما دلّ على التخصيص والتقييد.

ص: 60