الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم البيع إلى أجل وبيع التورق والعينة والقرض بالفائدة
1
للشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه.
أما بعد:
فقد سُئِلت عن حكم بين كيس السكّر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالاً إلى أجل، وهو يساوي مبلغ مائة ريال نقدًا.
والجواب عن ذلك:
أن هذه المعاملة لا بأس بها، لأنّ بيع النقد غير بيع التأجيل، ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذّ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل، وظنّ ذلك من الربا، وهو قولٌ لا وجه له، وليس من الربا في شيء، لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجلٍ إنّما وافق على التأجيل من
1 انظر كتاب: "كلمات مختارة" للمؤلف ص 137 142.
أجل انتفاعه بالزيادة، والمشتري إنما رضيَ بالزيادة من أجل المُهْلَة وعجزه عن تسليم الثمن نقدًا، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على جواز ذلك، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهِّز جيشا، فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل.
ثم إنّ هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} 1، وهذه المعاملة من المدايَنات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة، وهي من جنس معاملة بيع السَّلَم، فإن البائع في السلم يبيع من ذمّته حبوبا أو غيرها ممّا يصحّ السلم فيه بثمن حاضر، أقلّ من الثمن الذي يُباع به المسلم فيه وقت السلم، لكون المسلّم فيه مؤجّلاً والثمن معجّلاً، فهو عكس المسألة المسؤول عنها.
وهو جائز بالإجماع. وهو مثل البيع إلى أجلٍ في المعنى، والحاجة إليه ماسّة كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل، سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم، وتأخير تسليم الثمن في مسألة البيع
1 سورة البقرة، الآية:282.
إلى أجل. لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكّر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه، وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها فهذه المعاملة تسمى مسألة "التورق"، ويسمِّيها بعض العامّة "الوعدة".
وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين:
أحدها: أنها ممنوعة أو مكروهة، لأنّ المقصود منها شراء دارهم بدارهم، وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
والقول الثاني للعلماء: جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها، لأنه ليس كل أحد اشتدّت حاجته إلى النقد يجد من يُقْرِضه بدون ربا، ولدخولها في عموم قوله سبحانه:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع} 1، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} ، ولأنّ الأصل في الشرع حِلُّ جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة.
وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد، فليس موجِبا لتحريمها ولا لكراهتها، لأن مقصود التُّجّار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل، والسلع
1 سورة البقرة، الآية:275.
المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يُمنع مثل العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة، فإن ذلك يُتّخذ حيلةً على الربا.
وصورة ذلك: أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة، ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه. فهذا ممنوع شرعا، لِمَا فيه من الحيلة على الربا، وتسمّى هذه المسألة: مسألة العينة، وقد ورد فيها من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما ما يدلّ على منعها 1.
أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة: فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة، لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجلٍ، وباعها إلى آخر نقدًا من أجل حاجته للنقد، وليس في ذلك حيلة على الربا، لأن المشتري غير البائع.
ولكنّ كثيرًا من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة؛ فبعضهم يبيع ما لا يملك، ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلّمها للمشتري، وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي. وكِلَا الأمرين غير جائز، لِمَا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حِزام:"لا تبع ما ليس عندك" رواه الخمسة.
1 حديث عائشة رواه الدارقطني، وحديث ابن عمر رواه أحمد وأبو داود.
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك"1، وقال عليه الصلاة والسلام:"من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيَه" 2، قال ابن عمر رضي الله عنهما:"كنا نشتري الطعام جزافا، فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا"3، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أيضا: أنه نهى أن تُباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رِحالهم. رواه أبو داود والدارقطني.
ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتّضح لطالب الحق: أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها، بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها إلى ملكه.
ويتضّح أيضا: أنّ ما يفعله كثيرٌ من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري، أو إلى السوق أمر لا يجوز، لِمَا فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولِمَا فيه من التلاعُب بالمعاملات وعدم التقيّد فيها بالشرع المطهّر. وفي ذلك من الفساد والشرور
1 رواه الخمسة وصحّحه الترمذي وابن خزيمة والحاكم.
2 رواه مسلم.
3 متّفق عليه.
والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله.
نسأل الله عز وجل لنا ولجميع المسلمين التوفيق للتمسّك بشرعه، والحذر ممّا يخالفه.
أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربويّة فيه، فهي التي تُبذل لدائن بعد حلول الأجل ليمهل المدين ويُنظره، فهذه الزيادة هي التي كان يفعلها أهل الجاهلية، ويقولون للمدين قولهم المشهور:"إما أن تقضي، وإما أن تربي". وقد مَنَع الإسلام ذلك، وأنزل الله فيه قوله سبحانه:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 1، وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة، وعلى تحريم كل معاملة يُتوصّل بها إلى تحليل هذه الزيادة، مثل: أن يقول الدائن للمدين: اشتر مني سلعة من سُكّر أو غيره إلى أجل، ثم بِعْها بالنقد وأَوْفِني حقِّي الأول. فإن هذه المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي يتعاطاها أهل الجاهلية، لكن بطريق آخر غير طريقهم.
فالواجب: تركها، والحذر منها، وإنظار المدين المعسر حتى يسهِّل الله له القضاء.
كما أنّ الواجب على المدين المعسر: أن
1 سورة البقرة، الآية:280.
يتّقي الله ويعمل الأسباب الممكنة المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين، ويبرئ به ذمّته من حقّ الدائنين.
وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق فهو ظالم لأهل الحق، غير مؤدّ للأمانة، فهو في حكم الغني المماطل، وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَطْل الغني ظلم" 1، وقال عليه الصلاة والسلام:"لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته"2. والله المستعان.
ومن المعاملات الربويّة أيضا: ما يفعله بعض البنوك وبعض التُجّار من الزيادة في القرض إما مطلقا، وإما في كلّ سنة شيئا معلوما.
فالأول: مثل أن يقرضه ألفا على أن يردّ إليه ألفا ومائة، أو يُسكنه داره، أو دُكّانه، أو يعيره سيّارته، أو دابّته مدّة معلومة، أو ما أشبه ذلك من الزيادات.
وأما الثاني: فهو أن يجعل له كل سنة أو كل شهر ربحا معلوما في مقابل استعماله المال الذي دفعه إليه المقرِض، سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة.
فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرّف فيه كان قرضا
1 رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
2 رواه البخاري تعليقا، والنسائي، وصحّحه ابن حبّان.
مضمونا، ولا يجوز أن يدفع إلى صاحبه شيئا من الربح إلا أن يتّفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك المال على وجه المضاربة بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما، والباقي للآخر. وهذا العقد يسمى أيضا القِراض، وهو جائز بالإجماع، لأنهما قد اشتركا في الربح والخسران، والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل، إذا تلِف من غير تعدّ ولا تفريط لم يضمنه، وليس له عن عمله إلا الجزء المشاع المعلوم من الربح المتّفق عليه في العقد.
وبهذا تتّضح المعاملة الشرعية والمعاملة الربويّة.
والله وليّ التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه1.
1 انظر: فتوى مفتي الديار السعودية السابق، الشيخ: محمد بن إبراهيم، بجواز مسألة التورق في مجلة "البحوث الإسلامية"، العدد السابع، ص 51.
وانظر: "الإرشاد إلى معرفة الأحكام" لابن سِعدي، ص 98.