المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأنعام ‌ ‌وآيتها: 165 نزلت بعد الحجر هذه السوره مكية إلا بعض - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌سورة الأنعام ‌ ‌وآيتها: 165 نزلت بعد الحجر هذه السوره مكية إلا بعض

‌سورة الأنعام

‌وآيتها: 165 نزلت بعد الحجر

هذه السوره مكية إلا بعض آيات فمدنية، وآياتها خمس وستون ومائة، نزلت بعد سورة الحجر. وقد نزلة دفعة واحدة.

فعن ابن عباس أنها نزلت ليلا جملة.

وهى تناسب سورة المائدة في أغراضها المختلفة.

ومن ذلك محاجة أهل الكفر.

ففي سورة المائدة دار الحجاج مع أهل الكتاب. وفي سورة الأنعام دار الحجاج مع من في مكة من المشركين والمبتدعين والمكذبين بالبعث والنشور.

ومن ذلك أنهما - كلتيهما - تضمنتا أحكام الأطعمة، إلى غير ذلك من المناسبات وتنفرد - بكثرة ذكر الشرك والمشرك والمشركين - فقد ورد ذلك فيها في عشرين موضعا.

‌ومن مقصدها:

1 -

تقرير وحدانية الله تعالى - وما يجب له من صفات الكمال، وهدم عقيدة الشرك، وتقويض أركانه. بالحجة والبرهان.

فقد قال العلماء في هذه السوره: إنها أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور.

وعليها بنى المتكلمون أصول الدين.

وقد بين الله تعالى - في صدرها أنه يستحق الحمد وحده، فإنه هو الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وذكر أن الكافرين يعدلون به آلهتهم، حيث جعلوها شركاء له في الألوهية، مع أنهم يقرون بأن هو الخالق لهذا الكون دون ألهتهم. كما قال تعالى:

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ

} (1).

(1) العنكبوت، من الآية: 61

ص: 1192

ثم يتبع ذلك بالآيات البينات، الدالة على وحدنيته تعالى، حتى يصل إلى محاجة إبراهيم لقومه في شأن عبادة الأصنام والكواكب.

وقد جاءت تلك المحاجة في أسلوب التنزل مع المشركين والتظاهر بأنه - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - يسايرهم في عائدهم، ليثبت لهم - في النهايه - فساد عبادتهم لها، ويقول لهم:(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)).

ثم يستمر السياق من آن لآخر، يذكر الناس بعظمة الله تعالى وتفرده بالألوهية، حتى تنتهى قبيل نهاية السورة بقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ

(164)).

2 -

التنبيه إلى خطإ الكافرين في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وبيان أنهم وصلوا من العناد، إلى أنهم لو نزل عليهم كتاب من السماء ولمسوه بأيديهم، وتحققوا من نزوله من السماء، وكان هذا الكتاب يدعوهم إلى الإيمان بالرسل - لزعموا أنه سحر مبين، وجاء فيها عبد ذلك بيان فساد رأيهم في طلب أَيكون الرسول ملكا، وإذ أنه لو نزل بصورته الحقيقة لهلكوا؛ لأنهم لا يحتملون لقاءه. ولو نزل بصورة بشر لالتبس الأمر عليهم.

3 -

تسلية الرسول بما أصاب الرسل قبله من سخرية أقوامهم بهم وتكذيبهم إيهاهم، وتهديد مكذبى الرسل بمثل عقابة المكذبين قبلهم.

ثم يمضى الحجاج بين الرسل وبين قومه، في أنحاء السورة، ويبين تارة أن على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا. وتارة أُخرى أنهم إن يروا آية لا يؤمنوا بها، ويقولوا سحر مبين.

ثم تمضى السورة في هذا الحوار، بين الحق الواضح والباطل الفاضح، حتى تدمغهم وتدحض حججهم.

ص: 1193

4 -

فقدان الكفار ميزات الإِنسانية، فهم مَوْتَى، والموتى لا يستجيبون إِلى الحق، وهم صم وبكم في الظلمات؛ وتهددهم بالإِبادة إِن استمروا على كفرهم:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)} .

5 -

بيان الرحمة الإِلهية بالإِنسان وأَن الكفار {

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ

[91]}.

وتذكر أَن الله أَمر الرسول أَن يقول - ردًّا على هذا الافتراءِ - {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ

[91]}.

وتذكر لهم: آن القرآن كتاب - أَنزله الله - مبارك ومصدق لما تقدمه من الكتب السماوية وأَن الرسول مكلف أَن ينذر به أُمَّ القرى ومَنْ حولها، وأَن الذين يؤْمنون بالآخرة - أَينما كانوا على ظهر البسيطة - يؤْمنون به، وأَنه لا يوجد أَظلم ممن يفترى الكذبَ على الله، ويدعى أنه أُوحى إِليه شيء. وأَن مَن كذب على الله سيُجزَى يوم القيامة عذاب الهون.

6 -

العودة إِلى دعوتهم إِلى الإِيمان بكتاب الله بصورة محببة، وذلك بقوله تعالى في أَواخر السورة:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} .

7 -

إِبراز حقيقة البعث، وإِقامة الأَدلة عليها، والكلام على الجزاء فيها، ووعْدُ المؤمنين بمزيد الثواب، ووعيد الكافرين بشديد العقاب.

وقد بدأَ الحديث عن يوم القيامة بقوله تعالى في أَول السورة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} ثم قال عز وجل: {

لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ

[12]} ثم قال سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)} ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)} .

ص: 1194

وهكذا مضت السورة تهتم بشأْن الحديث عن البعث. ومصير الناس إِلى ربهم، لكي يتبصروا في عواقب ما هم عليه، ويعملوا للخلاص من العذاب، ونَيْلِ جميل الثواب.

وآخر ما جاء عنه في هذه السورة، قوله تعالى: {

ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [164].

8 -

رسم معالم الدين الحق، ومناهج السلوك الفاضل. وأَعظمها: الإِيمان باللهِ، وتصديق الرسل، والإصلاح في جميع الأَعمال:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)} .

ومن تلك المناهج: أن نُعرِضَ عمَّن يخوضون في آيات الله، حتى في حديث غيره. فإِن نسينا فلا نقعد بعد التذكرة مع القوم الظالمين (1).

ومنها: دوام تذكير الذين اتخذوا دينهم لَعِبًا ولَهوًا، حتى لا تهلك نفس بما كسبت (2).

ومن مناهج السلوك الفاضل أيضًا: إقامة الصلاة، وتقوى الله (3).

ومنها: أَلَّا نَسُبَّ الذين يدعون من دون الله فَيَسُبُّوا الله عَدْوًا بغير علم (4).

ومنها: تأثيم الذين يقتلون أولادهم سَفَها، والذين يُحَرِّمون ما في بطون الأَنعام عَلى الإِناث، ويُحِلُّونها للذكور: {

وَإِن يَكُن مَّيْتَة فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ

(139)} وغير ذالك مما استحدثه المشركون في المطاعم، وحَرَّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله (5).

وقد تبعها ببيان أَن الرسول لا يجد شيخا حرَّمه الله من المطاعم، إِلا أَن يكون ميتةً، أَو دما مسفوحا، أَو لَحْمَ خِنزير، أو ذبيحةً مذكورا عليها اسم غير الله، وأَن المضطر: يغفر الله له (6).

(1) انظر الآية: 68 من سورة الأنعام.

(2)

انظر الآية: 69 من سورة الأنعام.

(3)

انظر الآية: 72 من سورة الأنعام.

(4)

انظر الآية: 108 من سورة الأنعام.

(5)

انظر الآيات من: 138 - 144 من سورة الأنعام.

(6)

انظر الآية: 145 من سورة الأنعام.

ص: 1195

9 -

بيان ما أَنعم الله علينا من إِنشاء جَنَّاتٍ معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أُكُله، والزيتون والرمان، متشابها وغير متشابه.

10 -

وجوب زكاة الزرع، فأوجب عليهم أَن يُؤْتُوا حَقَّهُ يوم حصاده.

11 -

الوصايا العشر التي تعتبر جماعا لشتى الفضائل، من: توحيدِ الله، والبِر بالوالدين، والابتعادِ عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعدم قتل النفس إِلا بالحق، والامتناعِ عن تناول مال اليتيم إِلا بالتي هي أَحسن حتى يَبْلُغَ أَشُدَّه، وإِيفاءِ الكيل والميزان بالقسط،

والعدلِ في القولِ، ولو كان ضد الأَقارب، والوفاء بالعهد؛ واتباع سبيل الله دون غيرها (1).

12 -

وجوب وَحْدة الدين، وعدم التَّفَرُّقِ فيه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ

(159)}.

13 -

بيان أَن جزاءَ الناس على حسب أَعمالهم، ودرجة انبعاثها عن ضمائرهم ونفوسهم. كما قال تعالى:{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)} ) وأَنه لا تحمل نفس وزر نفس أخرى، {

وَلَا تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (164)}.

وأَن الجزاءَ على الأَعمال يتناول ظاهرها وباطنها. كما جاءَ في قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ

(120)}.

14 -

كما اشتملت - في مقاصدها - على الحث على السياحة، والسير في الأَرض؛ للنظر والاعتبار قال تعالى:

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)} .

15 -

الحث على البحث في علوم الكائنات، لمعرفة سنن الله الكونية الدالة على علمه وحكمته، ووافر قدرته ورحمته، ومن ذلك قوله تعالى:

{إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيَّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ

} إلى قوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَاْ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ في ذَلِكُمْ لَاَيَاتٍ لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2).

(1) انظر الآيات من: 151 - 153.من سورة الأنعام.

(2)

الآيات: 95 - 99 من سورة الأنعام.

ص: 1196

16 -

بيان أَن عالَم الحيوان عالَم عظيم، يشبه - في أُموره الكثيرة - عالَمَ الإِنسان؛ {وَمَا مِن دَابَّةٍ في الْأَرْضِ وَلَا طَاَئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهٍ إِلَّا أمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطنَا في الْكِتَابِ مِن شَىْءً

}. وتعتبر هذه الآية الكريمة أَساسا في علم الحيوان.

17 -

كما اشتملت على أَنه تعالى، كتب على نفسِهِ الرحمة لمن تَاب؛ قال تعالى: {

كَتَبَ ربُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَاب مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54)}.

إِلى غير ذلك من عظائم الأمور، التي احتوتها هذه السورة الجليلة، التي تعتبر أَعظم دستور للحياة الصحيحة، والسلوك النظيف، والعقيدة المستقيمة. وكان نزولها بمكة، في صدر الإِسلام، حكمة من صنع الحكيم الخبير.

بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)} .

المفردات:

{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} : أَي يُسوُّون به غيرَه، تعالى الله عن ذلك.

ص: 1197

{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} : أَي قَدَّر حدًّا معينا من الزمان.

{وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} : أَي وأَجلٌ آخرُ معينٌ عنده سبحانه وتعالى، لا يعلم وقتَ حلوله سواه، وهو وقت البعث والجزاء.

{ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} : أَي ثم أَنتم تَشُكُّون في البعث، وتجادلون فيه.

التفسير

1 -

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ

} الآية.

الثناءُ بالجميل: مستحَق لله الذي أَبدع السموات، بما اشتملت عليه من مجرات عظيمة، ونجوم مُتَّقِدة، وكواكب منيرة، وكائنات وعجائب لا يعلمها سواه. وأَبدع الأَرض وما فيها من يابس وماءٍ، وهضاب ووهاد، وإِنسان وحيوان وزروع نضرة، وثمار نافعة، وغير ذلك من الروائع.

{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ} : لتكون للناس سكنا.

{وَالنُّورَ} : أَي وجعل النور، ليكون مجال نشاطهم، وسرّ الحياة لزروعهم وحيواناتهم.

{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} :

هذا تعجب من النتيجة أَي - مع هذا الإِبداع - الذين كفروا، يسوون ربهم - الذي أَبدع هذه الكائنات - بما لا يملك لهم خيرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا!

2 -

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى

} الآية.

أَفادت هذه الآية: أَن الله تعالى، خلق الناس من طين. وهي تشير إلى المادة التي خلق الله منها آدم؛ أَصل البشرية.

ص: 1198

وإذا كان أَصل الإِنسان من طين، فكل أَولاده - إلى يوم القيامة - يعتبرون مخلوقين من طين أَيضا، باعتبار أَصلهم.

ويجوز أَن يراد من الآية: ما هو مشاهد، من أَن الطين مادة هامة في حياتنا.

فمن الأَغذية التي تكونت من الطين، تحيا الكائنات.

ولتلك الأَغذية دخل كبير في تكوين النطف والبويضات، التي هي أَساس الأَجيال الإِنسانية والحيوانية.

على أَننا لو حللنا مادة الأَجسام البشرية إِلى عناصرها الأولية، لوجدناها من العناصر التي يتكون منها الطين. مثل الكربون والكلسيوم والحديد

إِلخ.

{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} :

أَي ثم قدر حدًّا معينا من الزمان - بَدْءًا ونهاية - لكم في هذه الدنيا، وقضى حدًّا من الزمان، تبعثون فيه: سماه الله عنده وعيَّنه لديه. لا يعلمه سواه.

{ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} :

يطلق الامتراءُ على الشك، والجدل، والإِنكار، مع وضوح الأدلة

وكُلٌّ من هذه المعاني، يجوز أن يراد هنا: أَي ثم أَنتم أَيها المشركون - مع وضوح هذه الدلائل - تَشُكُّون في الحق، وتجادلون فيه، وتصلون في جدالكم إِلى حد الإِنكار و {ثُمَّ} الأُولى: للترتيب الزمني. أَما الثانية: فلبيان تراخيهم في الاستجابة للحق وامترائهم فيه.

3 -

{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ

} الآية.

أَي: وهو الإِلَه المدبر المعبود، في السموات وفي الأَرض.

{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} :

ص: 1199

يعلم ما انطوت عليه قلوبكم، وما تفعلون بجوارحكم علانية.

{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} :

من الخير والشر، فيحصى ذلك عليكم، ليجازيكم به عند معادكم.

وفي هذا استدعاءٌ للإِنسان الشارد عن الله، الغافل عن ذكره، المستخف بشرائعه: أن يعود إلى الله، وأن يخشاه، ويتقِيَ محارمه؛ لأن الله يطلع على كل ما ظهر وما بطن.

{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)} .

المفردات:

{مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} : المراد بالآيات؛ القرآن، أَو ما يعمه، من الآيات الكونية.

{مُعْرِضِينَ} : الإِعراض؛ الانصراف عن الشىء.

{مِن قَرْنٍ} : القرن؛ مدة من الزمان يعيش فيها أَهل عصر (1). وقد يطلق على أهله، وهو المراد هنا.

(1) اختلف في تحديد مدة القرن، وأشهر الأقوال: أنه مائة سنة.

ص: 1200

{مَكَّنَّاهُمْ في الْأرْضِ} : جعلناهم مُتَمَكِّنِينَ من التصرف فيها.

{وَأرْسَلْنَا السَّمَاَءَ} : أَي المطر: وعَبَّر عنه بالسماءِ؛ لأنه ينزل منها. فإِن السحاب سماء.

{مِدْرَارًا} : متتابعا.

التفسير

4 -

{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} :

وما تأتيهم من حجة من حجج ربهم: دالة على وحدانية الله تعالى وصدق رسوله - سواءٌ أَكانت قرآنية أَم كونية - إلا قابلوها بالإِعراض عنها، وعدم التدبر فيها.

5 -

{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ

} الآية.

أَي فقد زادوا - على إِعراضهم - تكذيبهم بالحق حين جاءَهم على لسان محمَّد صلى الله عليه وسلم، من غير تَرَيُّث ولا تفكر.

{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} :

الأَنباءُ: الأَخبار. والمراد بها هنا، ما أَنبأهم الله به من العقوبة على تكذيبهم.

والمعنى: فسوف تأْتيهم العقوبات التي تَوعَّدَهم الله بها، جزاءَ تكذيبهم بالحق، وإِصرارهم على هذا التكذيب.

6 -

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ

} الآية.

أي: أَلَم يعلم هؤلاءَ المكذبون - بمعاينة الآثار، وسماع الأَخبار - كم أَهلكنا قبلهم من أَهل قرن: مكناهم في الأَرض ما لم نمكن لكم، حيث مَنَحْناهم الغِنَى والسعة والاقتدار على التعمير. فعمروا الأَرض، وبَنَوُا الحصون والقصور.

{وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} :

ص: 1201

أَي وأَرسلنا عليهم السحاب يدر عليهم المطر الغزير، وجعلنا الأَنهار تجرى من تحت مساكنهم، وبين مزارعهم. فيستمتعون بحسن مرآها، وجماك جريانها، ولا يجدون صعوبة في الانتفاع بها.

{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} :

أَي فكان عاقبة أَمرهم: أن أهلكنا أهل كل قرن منهم، بسبب ذنوبهم التي كانوا يجتَرِحُونَها، وأوجدنا - من بعدهم - ناسا آخرين يصرون البلاد.

وفي هذه الآية وعيد لأهل مكة، بمثل ما عوقبت به الأمم السابقة، من الإهلاك بكفرهم وذنوبهم، كما أُهلِك هؤلاءِ السابقون، ولم تغن عنهم قُوتَّهُمُ وتمكينهم شيئًا.

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} .

المفردات:

{فِي قِرْطَاسٍ} : القرطاس؛ - بتثليث القاف، والكسر أشهر - ما يكتب فيه.

{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} : اللمس؛ كالمس، إدراك الشىء بظاهر البشرة. وقد يستعمل بمعنى طلب الشىء والبحث عنه. والمراد هنا: الأَول.

{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ} : أَي خداع وتمويه.

{لَقُضِيَ الْأَمْرُ} : أَي أَمرُ إِهْلاكهم.

{ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} : أَي لا يمهَلون طرفة عين.

ص: 1202

{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} : من اللَّبْسِ وهو: الخَلط. تقول: لَبَس الحق بالباطل يلبسُه به.

أي خلطه به، حتى اشتبه على الناس.

التفسير

7 -

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ

} الآية.

لقد بلغ الحزن والأَسف، من الرسول صلوات الله وسلامه عليه كل مبلغ، لِتمسُّكِ قومه بالكفر به، مع وضوح برهانه، وقيام حجته.

فبين الله في هذه الآيةِ: أَنه لا سبب لكفرهم، إِلا مجرد العناد والمكابرة.

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} أَي يا محمد {كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} أَي كتابا مكتوبا في صحائفه فلمسوه بأَيديهم، وتيقنوا من معرفته وأَنه منزل من الله عليك.

{لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} :

أَي لقال الذين كفروا: ما هذا الكتاب الذي نزل، إِلا سحرٌ بيِّنٌ واضح التمويه.

وإنما قالوا ذلك، إِمعانا في الجحود والعناد.

8 -

{وَقَالُوا لَوْلَاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ

} الآية.

روى ابن المنذر، وابن أَبي حاتم، عن محمد بن إِسحق، في سبب نزول هذه الآية فقال:"دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومَه إلى الإِسلام، وكلَّمهم فأَبلغ. فقال. زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحرث بن كَلدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأُبَيُّ بن خلف، والعاصي بن وائل بن هشام: لو جُعِلَ معك يا محمد، مَلَكٌ يحدّث عنك الناس، ويُرى معك؟ ". فأَنزل الله في ذلك قوله:

{وَقَالُوا لَوْلَاَ أنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} :

والمعنى: هلا أنزل على محمد ملكٌ نشاهده معه، ويخبرنا أَنه رسولٌ من عند الله، فيكونَ معه نذيرا؟

ص: 1203

وقد أَجاب الله على مقالتهم بجوابين: الأول قوله تعالى:

{وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} :

أَي لو أَنزلنا عليه ملكا، في صورته الحقيقية وشاهدوه بأَعينهم، لزهقت أَرواحهم من هول ما يشاهدون، من غير تأْخير أَوانتظار. أَو لأَن الله أَجرىَ سنته بأَن مَن طلب آية وأجيب لها فلم يؤْمن، عَذبه الله في الحال - عذاب استئصال.

ومن أجل هذا، لم يستجب الله لِمُقتَرَحِ أَهل مكة، حتى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إذا كذبوا، تكريما لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتحقيقا لوعده "وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذَبَهُمْ وَأنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعذِّبَهُمْ وَهمْ يَسْتَغْفِرُونَ"(1).

والجواب الثاني قوله تعالى:

9 -

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} :

أي لو جعلنا النذير الذي اقترحوا إِنزاله معه مَلَكا، لمثلناه رجلًا، لِيَقْوَوْا على مشاهدته وسماع كلامه، لعدم استطاعتهما رؤْية الْمَلَكِ على صورته الأصلية.

ومن أجل هذا، كانت الملائكةُ تأتي الأَنبياء في صورة الإِنس أَحيانا. كما جاءَ جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، في صورة دِحْية الكلبي. وكما أتت الملائكة إِلى إِبراهيم ولوط - عليه ما السلام - في صورة رجال.

ولو جعلناه في صورة بشر ليأنسوا به، لاعتقدوا أَنه بشرٌ، لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاتهِ التي تمثَّل بها. وحينئذ، يقعون في نفس اللَّبْسِ والاشتباه الذي وقعوا فيه، بسبب كَوْن الرسول بشرًا يقترحون جَعْلَه ملَكًا.

وإذا كان إِرسال الْمَلَكِ سيؤَدى إلى هذه النتيجة - أَو تلك - فليس من الحكمة جعل الرسول مَلَكا. بل الحكمة: أَن يكون بشرا من بينهم، مؤيَّدا من الله بالمعجزات حتى يمكن الاقتداء به.

(1) الأنفال، الآية: 33

ص: 1204

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)} .

المفردات:

{فَحَاقَ} : حاق به الأمر؛ أَحاط به. ولا يكاد يستعمل إلا في الشر.

التفسير

10 -

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوامَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} :

لما كان اقتراحُ المشركين إِنزالَ المَلَك على الرسول من باب الاستهزاء، أنزل الله تعالى هذه الآية، لتسليته صلى الله عليه وسلم بأَنَّ ما حَدَثَ له، قد حدث مثله لإخوانه المرسلين من قبله، ولتهديد المشركين بأَنهم سيصيبهم ما أَصاب مَنْ قبلهُم إن استمُّروا على كفرهم.

أَخبر الله رسوله خبرا مؤكدا بصيغة القسم: أن الكفار قد استهزءوا برسل كرام قبلك، كما جاءَ في قوله تعالى:{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (1) فليس بدعًا ما تراه من صناديد الكفر من قريش. وقد استهزءوا بك وسخروا منك. فما ذلك منهم إِلا جَرْيا على آثار أَعداء حَملَةِ الهدى من عباد اللهِ قبلهم، وقد حاق بأولئك الساخرين من العذاب ما يستحقونه، جزاءَ أَفعالهم الشنيعة، وسوءَ صنيعهم مع مَن اصطفاهم ربهم من خلقه.

(1) الحجر، الآية: 11

ص: 1205

وفي الآية:

1 -

تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم، سُنَنَ الله في الأمم مع رسلهم.

2 -

تسلية وعزاءٌ له مما يلقى من المشركين من عناد، وما يساق إليه منهم من ضُرٍّ وأَذى، وتثبيت لقلبه، وإِعانةٌ له على المضى في تبليغ رسالته.

3 -

بشارة له بحسن العاقبة، وما سيكون له من نصرٍ وتأييد، وقد كان جزاءُ المستهزئين - بمن قبله من الرسل - عذابَ الخزي باستئصال. ولكن الله كفاه المستهزئين به، فأهلكهم ولم يجعلهم سببا لهلاك قولهم:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهزِئِينَ} (1).

ولما كان ما يحل بالمستهزئين بالرسل من الهلاك - بحسب سنة الله المطردة فيهم، مما يرتاب فيه مشركو مكة لجهلهم بالتاريخ، وعدم تسمليمهم بخبر الآية - أمر الله تعالى رسوله، بأَن يدلهم على الطريق الموصل إلى علم ذلك بأَنفسهم. فقال:

11 -

{قُلْ سِيرُوا في الْأَرْضِ ثُم انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} :

أَي قلْ يا محمد، للمكذبين المستهزئين بك من قومك، المحبين للأَسفار مع الغفلة، عن شئون الأُمم، والاعتبار بعاقبة الماضين، وأَحوال المعاصرين: سافروا في الأَرض - كشأنكم وعادتكم - وتنقلوا في ديار أولئك الأُمم الذين مَكَّنَاهم في الأَرض، ثم انظروا - في أَثناء رحلاتكم صيفا أَو شتاءً - آثارَ ما حل بهم من دَمار ساحق، وعذاب أَليم. وتأَملوا كيف كانت آخرتهم ونهايتهم: بما تشاهدون من آثارهم، وما تسمعون من أَخبارهم، ليكون في ذلك لكم عبرةٌ إن لم تصدقوا ولم تزجرْكم حُجَجُ الله عليكم!!

(1) الحجر، الآية: 95

ص: 1206

{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} .

المفردات:

{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} : أَي أَوجبها على نفسه، فضلا منه وكرما.

{وَلَهُ مَا سَكَنَ} : سكن، من السُّكنى. والمعنى: ما اشتمل عليه الليل والنهار. وقيل: سكن هنا؛ من السكون.

والمعنى وله ما سكن في الليل والنهار وما تحرك. فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر. كما جاءَ في قوله تعالى: {

سَرَابِيلَ تَقِيكُمٌ الْحَرَّ

} (1) أَي والبرد.

{وَلِيًّا} : أَي ناصرًا ومعينًا.

(1) النحل، من الآية: 81

ص: 1207

{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مبدعهما على غير مثال يحتذى من الفَطر وهو: الإِبداع والإِيجاد.

{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} : أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أَحد.

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} : أَي يبعد عنه العذاب يوم القيامة.

التفسير

12 -

{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ

} الآية.

بَيَّنَ الله عز وجل، في الآيات السابقة، أصول الدين الثلاثة: التوحيد، والبعث، والجزاء.

وبَيَّنَ شبهاتِ الكفار على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع ما يدحضها.

كما أَرشد رسولَهُ، إِلى سُنَّته فيمن كَذَّب الرسل، وأَن عاقِبتَهم الخِزْيُ والدمار.

ثم قفّى على ذلك، ببيان أَدلة وجود الله ووحدانيته وشمول ملكه.

والمعنى: قل أَيها الرسول، لقومك، الجاحدين لرسالتك، المعرضين عن دعوتك: لِمَنْ هذا الكون: علويه وسفليه. بما فيه من عجائب وغرائب؟ {قُلْ لِلَّهِ} .

وإِنما أَمر اللهُ رسولَه بأَن يتولى الإِجابة عنهم، لأَن هذا الجواب معترف به منهم: لا يسعهم إِنكارُه. فقد كانوا يعترفون بذلك. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ

} (1)

فإذا سأَلتهم: لِم تعبدون غيره من أصنام وأَوهام. وأَنتم معترفون بذلك؟ أَجابوا بقولهم:

{

مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى

} (2)

والمقصود من السؤال - كما ذكر صاحب الكشاف - التبكيت والتوبيخ.

{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} :

(1) العنكبوت، من الآية: 61

(2)

الزمر، من الآية: 3

ص: 1208

أَي أَوجبها على نفسه، كَرَمًا منه وفضلًا. وقد شمِلَ برحمته في الدنيا المؤْمنَ والكافر، والْبَرَّ والفاجر. فلا تغترُّوا أَيها الكفار بما تنالون في الدنيا من رحمته. واعملوا ليومٍ يجمعكم فيه للحساب والجزاء. كما قال سبحانه:

{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} :

يؤكد الله تعالى في هذه الجملة: أَنه سَيُحْيِى الناسَ ويَبْعثُهم في يوم القيامة؛ الذي لا ينبغي أن يرتاب فيه عاقل.

ولا ريب أَن تهديد الناس بهذا اليوم العصيب، يعتبر من رحمة الله بالناس. إذ لولا الخوف من عذاب الله يوم القيامة، لَعَمَّ الفسادُ في الأَرض. واختلت نُظمُ الاجتماع، وأَكَلَ القوىُّ الضعيف؛ - ولا وازع ولا زاجر - فصار من رحمة الله التهديد بهذا الجمع، لأَجل الحساب والجزاء. كما أَنه حافز للمؤمنين على زيادة الطاعة، رغبة في حسن الجزاءِ.

{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :

أَي الذين خسروا أنفسهم بإِهدار قواهم العقلية، وتعطيلها عن النظر في آيات الله، فهؤلاءَ، لا يؤْمنون بما دعوتهم إليه، من توحيد الله، والإيمان بيوم البعث والنشور.

{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :

هذا معطوف على ما قبله. أَي لله ما في السموات وما في الأَرض، {وَلَهُ مَا سَكَنَ في الليْلِ والنَّهَارِ}: أَي مَا اشتمل عليه الليلُ والنهارُ من موجودات. فكل ما طلع عليه النهار وغشيه الليل والظلام، هو في ملك الله وحده. وهو السميع لكل ما من شأنه أَن يُسمَع، العليم بكل ما من شأْنه أَن يُعلَم. سبحانه!! يعلم دبيبَ النملة في الليلة الظَّلْماء {يَعْلَمُ خَاَئِنَة الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (1)، {

يَعْلَمُ مَا بيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُون بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء

} (2).

(1) غافر، الآية: 19

(2)

البقرة، من الآية: 255

ص: 1209

ومن كان كذلك، فلا يغيب عنه إيمان مؤمن، ولا كفر كافر، ولا دعوة داعٍ، ولا حاجة محتاج.

14 -

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ

} الآية.

أَي قل يا محمد، وقد دعوك إِلى دين آبائك.

إِن الله تعالى، أمرَك: أَن تنكل ما دعوكَ إِليه، من اتخاذ غير الله تعالى معبودا، وهو الذي له ما في السموات وما في الأرض. وله ما سكن في الليل والنهار - وهو الذي فطر السموات والأَرض، وأَبدعهما على غير مثال سبق. وهو الذي يرزق غيرَه، ولا يرزقه غيرُه. فهو الذي يرزق الكائنات الحية ويطعمها، ويمدها بما يحفظ وجودها وبقاءَها وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويُطعمه.

وكيف يصح أَن يكون مصدر العطاء محتاجا إِلى عطاءٍ؟ وكيف يتخذ المضلون من البشر أَولياءَ مع الغَنِيِّ الحميد الفعال لما يريد؟

{قُلْ إِنِّىَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّل مَن أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

أَي قل يا محمد - بعد إِيراد هذه الآيات والحجج على وجوب عبادة الله وحده وعدم اتخاذ غيره وليًّا - إِنيِّ أُمِرتُ من ربي: أَن أَكون أَول من أَسلم إِليه وانقاد لدينه. من هذه الأُمَّة التي أَنا رسولُها وداعيها إِلى الحق. فلستُ أدعو إِلى شيء لا آخذ به. بل أَنا أَولُ مؤمن بهذا الدين، وأَول عامل بما جئت به من شريعة وأَحكام.

وكما أُمِرتُ أَن أَكون أَولَ من أَسلم. قيل لي: لا تكوننَّ من المشركين: فلا تطمعوا في استجابتي إِلى ما دعوتموني إِليه من الإِشراك بالله تعالى.

وبعد أَن أَقنطهم الله من مشاركة الرسول لهم في شركهم، أَمر الله رسولَه: أَن يبين لهم سوءَ عاقبة من عصى الله وأَشرك به. فقال تعالى:

ص: 1210

15 -

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :

أي قل يا محمد، لقومك الذين دعَوْك إِلى مشاركتهم في عبادة آلهتهم: إني أَخاف عذاب يوم عظيم، يشيب فيه الْوِلْدان، إِن أَجبتمَ إِلى ما دعوتموني إِليه من عصيان ربي.

وإِذا كان خوف النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب على المعصية منتفيا - لانتفائها بالعصمة - فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له عليه السلام دائمًا.

16 -

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} :

أَي من يُدفعْ عنه هذا العذاب - في ذلك اليوم ويسلم من الوقوع تحت وطأته - فقد رحمه الله الرحمة العُظمى. وهي النجاة من العذاب والتمَتُّعُ بالنعيم المقيم. وذلك هو الفوز المبين الذي لا فوز بعده.

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)} .

المفردات:

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ} : المس؛ الإِصابة. يُقال: مَسَّهُ السُّوءُ والكبر والعذاب والتعب أَي أَصابه ولحق به.

ص: 1211

{بِضُرٍّ} : الضُّرُّ؛ البلاءُ، كالمرض والفقر، وفقدان الأَحباب.

{بِخَيْرٍ} : الخير، ما كان فيه منفعة حاضرة أَو مستقبلة.

{وَهُوَ الْقَاهِرُ} : القَهْرُ، الغلبة. والقاهر: الغالب.

{أَكْبَرُ شَهَادَةً} : شهادة الشىء؛ حضوره ومشاهدته. والشهادة به: الإِخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبني على المشاهدة؛ بالبصر أَو بالعقل والوجدان.

{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} : الإِنذار؛ التخويف.

التفسير

17 -

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ

} الآية.

بعد أَن بَيَّنَ اللهُ سبحانه وتعالى، أَنّ صرف العذاب عن العبد، والفوزَ بالنعيم - بعده - من رحمة الله به في الآخرة - بَيَّنَ كذلك: أَن الأَمرَ في الدنيا والتصرُّفَ فيه، إنما هو لله الولي الحميد.

والمعنى: وإِن يُصبْك - أَيها الإِنسان - ضُرٌّ كمرض وفقر وحزن وغير ذلك من البلايا التي يَخْتَبِرُ اللهُ بها عبادَهُ، فلا يرجى لكشف هذا الضرِّ غيره. إذ لا صارف ولا رافع له إلا هو. لأنَّه مما قضى به. ولا رادّ لقضائه الذي قضاه، إلا ما كان من لطفه ورحمته اللذَيْنِ يحفان بقضائه. فيمضى الأَمر فيه على ما قضاه. ومن لطف الله بعبده أن يستقبل هذا القضاء برضا، ويحتمله في صبر.

وإن يمسسك بخير - كصحة وغنى وقوة وجاه - فهو وحده قادر على حفظه عليك وإدامته لك، كما قدر على إِعطائك إِياه. فهو على كل شيءٍ قدير.

فعلى المؤْمن الصادق في إِيمانه: ألَّا يطلب شيئًا من أمور الدنيا والآخرة: من كَشْف ضُرٍّ، وصَرْفِ عذاب، أَو إيجاد خير، ومَنْح ثواب، إِلا من الله تعالى وحده، دون غيره من الشفعاء والوسطاء، والمتكهنة والأَولياء الذين لا يملكون لأَنفسهم نفعا ولا ضرًّا.

ص: 1212

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كُنْتُ خَلْفَ النَّبِىِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلَامُ، إنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ. احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ. وَإذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ. وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَكَ. وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ"(1).

ومن دعاءِ الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لَا مَانِع لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ"(2).

وبعد أَن أَثبت الله لنفسه كمال القدرة، أثبت كمال السلطان والتسخير لجميع عباده، والاستعلاءِ عليهم، مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأُمور، ليرشدنا إِلى أَن مَن اتخذ غيرَه وليًّا من دونه، فقد ضلَّ ضلالا بعيدا. فقال:

18 -

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} :

أَي وهو الغالب لعباده، المقتدر عليهم: يَملكهم ولا يَملكونه. ويَقضى عليهم ولا يَقضون عليه. ويُعطى ويَمنع، ويُعِز ويُذِلُّ. وهو الحكيم في تدبير مراده وتنفيذه، الخبير بمواضع نعمه ونقمه. فلا تخفى عليه خوافى الأُمور ولا بواديها، ولا يقع في تدبيره خلل، ولا في حكمته دخَل (3).

ولما كان المشركون لا يستجيبون إِلى الحق الذي دعاهم إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا يشهدون بصحة نُبُوتَّه، أَنزل الله عليه الآية التالية:

(1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

(2)

أي ولا ينفع صاحب الغنى منك غناه.

(3)

الدَّخَل: الفساد.

ص: 1213

19 -

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ

} الآية.

جاءَ في القرطبي: عن الحسن وغيره، في سبب نزول هذه الآية: أَن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: مَن يشهدُ لك بأَنك رسولُ الله؟ فنزلت الآية.

والمعنى: قل يا محمد لقومك: أَي شيءٍ شهادته أَكبر شهادة وأَعظمها، وأَجدر أَن تكون أَصحها وأَصدقها؟ وما الشاهد الذي تكبرون شهادته. وتنزلون على ما يشهد به.

ولم يمهلهم الله أَن يجيبوا، لأَنهم لا يجيبون إِلا ضلالا، ولا يقولون إِلا زُورا وبهتانا. بل تلقاهم بالشاهد الذي لا يصح أَن تُرَدَّ شهادته، لأَنه الشاهد الذي لا يجوز أَن يقع في شهادته كذب ولا زور، ولا خطأُ. والذي يحكم ولا معقب لحكمه: ويقضى ولا رَادَّ لقضائه إِنه هو الله رب العالمين. هو الشهيد بيني وبينكم. وقد أوحى إِلَيَّ هذا القرآنُ: شاهدًا من لَدُنْهُ برسالتي، لأُنذرَكم به عذاب يوم عظيم، ولأُنذر كلَّ من يبلُغه القرآن - إِلى يوم القيامة. وفي هذا، دلالة كل عموم الرسالة، وأَن أَحكام القرآن: تَعُمُّ الثقَليْن إِلى يوم الدين.

أخرج ابن مردويه: وأَبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال: "ومن بلغه القرآن فكأَنما شافهتُه به" ثم قرأَ {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} .

وقد أَشارت الآية: إلى وجوب تبليغ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد جاءَ ذلك - صراحة - فيما رواه البخاري، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بَلِّغُوا عَنِّى، وَلَوْ آيَة

" الحديث.

وشهادة الله لرسوله: تتجلى فيما يأْتي:

1 -

شهادة كُتُبِ اللهِ السابقة لنبيه، وبشارة الرسل السابقين به.

ولا تزال هذه الشهادة ماثلة في كتب اليهود والنصارى، وهم يُؤَوِّلُونها.

ص: 1214

2 -

تأييد الرسول بالآيات الكثيرة، التي من أَعظمها القرآن الخالد. فهو المعجزة الدائمة: بما ثبت من عجز البشر عن الإِتيان بسورة من مثله. وبما اشتمل عليه من أَخبار الغيب، وَوَعْدِ الرسول والمؤمنين بِنَصْرِ الله.

3 -

إِخباره بها في كتابه، بنحو قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ

} (1) وقوله سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا

} (2).

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} .

التفسير

20 -

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ

} الآية.

رُوىَ أَن الكفار، سأَلوا اليهود والنصارى، عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم. فأَنكروا أَن في التوراة والإِنجيل شيئا يدل على نُبُوَّتِه.

فَبيَّن الله في الآية السابقة: أَن شهادة الله على صحة نبوته، كافية في ثبوتها وتحققها.

(1) الفتح، من الآية الأخيرة.

(2)

البقرة، من الآية: 119

ص: 1215

ثم بَيَّنَ في هذه الآية. كَذِبَهم في ادعائهم أَنهم لا يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أَبناءَهم.

فقد رُوِيَ أَن النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، وأسلم عبد الله بن سلام. قال له عمر: إِن الله أَنزل على نبيه بمكة:

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ

} الآية. فكيف هذه المعرفة؟ قال عبد الله بن سَلَام: يا عمر، لقد عرفتُه - حين رأيتُهُ - كما أَعرف ابنى. ولأَنا أَشدُّ معرفة بمحمدٍ مني بابني. فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال: أَشهد أَنه رسول الله حقًّا.

ولا أَدرى ما تصنع النساءُ.

والمعنى: الذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى، يعرفون محمدا النبىَّ الأُمىَّ خاتم الرسل بحليته ونعته الثابت في التوراة والإِنجيل، معرفةً مستيقنة، كما يعرفون أَبناءَهم بحلاهم ونعوتهم. ولو أَنهم كانوا مؤمنين بالله والكتاب الذي معهم، لآمنوا بمحمد وبالكتاب الذي معه. ولكنهم كتموا شهادة الحق: بَغْيًا وحَسَدا. فخرسوا ولم ينطقوا. أَو نطقوا: كَذِبًا وبهتانا.

{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} : بإِفسادهم فطرتهم التي تهديهم إلى الحق، وإعراضهم عن دلائل النبوة.

{فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} : بسبب ذلك؛ بسبب فقدان العلم والمعرفة. لأن الله أَخبر عنهم: أنهم على علم ومعرفة.

21 -

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ

} الآية.

أَفادت هذه الآية: أَنه لا يوجد أَظلم ممن اختلق الكذبَ على الله، أَو كذَّب بآياته.

فأَما اختلاق الكذب على الله: فهو كزعمهم. أن الملائكة بنات الله، وأن لله شركاءَ يُعْبَدُونَ معه.

وأَما تكذيبهم بالآيات: فهو شامل لما حدث منهم من تكذيبهم بآياته المنزلة كالقرآن، أَو بآياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله

ص: 1216

ثم بَيَّنَ سبحانه، عاقبة الظالمين وسوءَ منقلبهم فقال:

{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} :

أَي إِنَّ شأْن الله - في تدبيره - أَنه لا يفلح الظالمون. فلا ينتصرون في دنياهم، ولا ينجون من العذاب في أُخراهم.

وإذا كان هذا حال الظالمين ومآلهم، فكيف تكون عاقبة من افترى، على الله الكذب وكذب بآياته، فكان أَظلم الظالمين، وأَبعد الناس عن رحمة رب العالمين.

22 -

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} :

أَي: واذكر لهم - أَيها الرسول - يوم نحشرهم جميعا، على اختلاف درجاتهم في ظلم أَنفسهم وظلم غيرها. ثم نسأَل الذين أَشركوا - وهم أَشد الناس ظلما - أَين الشركاءُ؟

- سؤال تقريع وتشهير - الذين كنتم تزعمون في الدنيا. أَنهم أَولياؤكم من دون الله، وأَنهم يقربونكم إِليه زلفى، ويشفعون لكم عنده؟ فأين هم؟

لقد ضَلُّوا عنكم وخاب أَملُكم في شفاعتهم.

وصدق الله إذ يقول: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (1).

23 -

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} :

يتلفت القوم إِلى الشركاءِ، فلا يجدون أَثرا. ويخيل إِليهم - من ضلالهم - أَن فتنتهم وكفرهم الذي لزموه مدة أَعمارهم، وافتخروا به - قد اختفى. وأَنهم لن يؤخذوا بهذا الجرم الذي لا يقوم شاهد وجوده. فيقولون - كذبا وبهتانا -: والله ربنا ما كنا

(1) الأنعام، من الآية: 94

ص: 1217

مشركين

ليفروا بذلك من الموقف الرهيب: تَوهُّمًا منهم، أَن ذلك يُفْلِتُهُم؛ ولا سيما أَنهم رأَوا سعة رحمة الله، وشفاعة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين.

قال ابن عباس: يغفر الله تعالى لأَهل الإِخلاص ذنوبهم. ولا يتعاظم عليه ذنب أَن يغفره. فإِذا رأَى المشركون ذلك، قالوا: إن ربَّنا يغفر الذنوب. ولا يغفر الشرك. فتعالَوْا نَقُل: إِنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى: أمَا إذ كتموا الشرك - فاختِمُوا على أفواههم فيختم على أفواههم. فتنطق أَيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون فعند ذلك، يَعْرِف المشركون: أَن اللهَ لا يُكْتَمُ حديثا. فذلك قوله: {

وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (1).

قال أَبو إسحاق الزجاج: تأْويل هذه الآية لطيف جدا. وذلك أَنه تعالى، بَيَّنَ كَوْنَ المشركين مفتونين بشركهم، متهالكين في حبه. فذكَر أَن عاقبة كفرهم الذي لزموه أَعمارهم وقاتلوا عليه، وافتخروا به وقالوا: إِنه دين آبائنا، لم يكن حين رأَوا الحقائق - إلا أَن تبَرَّأوا من الشِّرْكِ، وأَقسموا على عدم التدين به.

ونظير هذا في اللغة: أَن ترى إِنسانا يحب شخصا مذموم الطريقة. فإذا وقع في محنة بسببه تَبرَّأَ منه. فيقال له: ما كانت عاقبة محبتك لفلان: إِلا أَن تبرَّأْتَ منه وتركته.

24 -

{انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ

} الآية.

هذا تعجيب من قولهم المفضوح، وكذبهم الصريح، بنفي أنهم أَشركوا في الدنيا على حين أَن حقيقة إِشراكهم معروفة لربهم. وإِن كذبوا على أَنفسهم بنفيها.

{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

وغاب عنهم ما كانوا يختلقونه من أُلوهية أَصنامهم، وشفاعتها لهم. فلم يكن لذلك اعتبار في نفوسهم، حين أَقسموا متبرئين من شركهم.

(1) النساء، من الآية: 42

ص: 1218

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)} .

المفردات:

{أَكِنَّةً} : الأكِنَّة، الأغطية. جمع كنان.

{وَقْرًا} : الوقر بالفتح؛ الثِّقل في السمع، يقال: وَقَرَت ووَقِرَت أُذنُه من باب تَعِب

ووعد: صَمَّت وثَقُل سمعها.

{يُجَادِلُونَكَ} : يخاصمونك وينازعونك.

{أَسَاطِيرُ} : أباطيل.

{وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي: يبعدون عنه.

التفسير

25 -

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا

} الآية.

بيان لما صدر عن المشركين في الدنيا، من أمور منافية للإيمان، معبرة عن تعمقهم في الكفر.

جاء في سبب نزول هذه الآية، ما رُوِيَ عن ابن عباس. قال: حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم، أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، والحرث بن عامر، وأبو جهل

ص: 1219

في جمع كثير. واستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهو يقرأ القرآن. فقالوا للنضر يا أبا قتيلة (1)، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعل الكعبة بيته، ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين. مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية - وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى. يحدث قريش بما يستملحونه - قال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول محمدًا حقًا. فقال أبو جهل:

فأنزل الله الآية.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} :

أي ومنهم من يستمع إليك أيها الرسول، استماع استعلاء وانتقاد، لا استماع تدبر وانقياد حيت تتلوا القرآن: داعيًا إلى توحيد الله. ولهذا قد جعلنا على قلوبهم أغطية من الكبر والعجرفة ونعرة الجاهلية. فلم تعد تبلغ كلمات الله مواطن القبول في قلوبهم، ولا تنفذ أسماعهم، لأنهم لا يريدون إلا ذلك.

وفي هذا تشبيه للحجب والموانع المعنوية، بالحجب والموانع الحسية.

فالقلب الذي لا يقبل الحق ولا يتدبره، كالوعاء الذي وضع عليه الغطاء فلا يدخل فيه شيء. والآذان التي لا تنتفع بما يصل إليها من نصائح، كالآذان المصابة بالثقل والصمم فسمعها وعدمه سواءٌ.

{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} :

أي وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك، وصدق دعوتك، لا يؤمنوا بها عنادًا واستكبارًا، مع وضوح حجتها، وظهور الحق فيها؛ لأن قلوبهم وأسماعهم مستغرقة في أنانيتهم وعنجهيتهم، فلا تستجيب للإيمان، ولا تتقبل الهدى.

(1) في تفسير الخازن في رواية الكلبي: "يا أبا قتيبة".

ص: 1220

{حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} :

أي بلغ عنادهم إلى وقت مجيئهم إليك مجادلين منكرين الحق. حيث يقولون: ما هذا الذي جئتنا به، إلا أباطيل السابقين وخرافاتهم: نقلتها ألينا من كتبهم.

فلم يكن مجيئهم للنبي صلى الله عليه وسلم، طلبًا للحق، أو تعرفًا على خير، بل للمحاكة والمجادلة، لأنهم لم يتقبلوا ما في القرآن من أنباء الغيب، إلا على أنها حكايات وخرافات، تُسَطَّرُ وتُكْتَبُ. كغيرها.

وذكر نعتهم بالذين كفروا، وأظهر الفاعل ولم يضمره في {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} تقريرٌ لكفرهم، لإيغالهم وغلوهم في اللدد واللجاج.

26 -

{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ

} الآية.

أي وأولئك المشركون الكافرون المعاندون للنبي، الجاحدون لنبوته، لم يكتفوا بتكذيبهم وإعراضهم عن الدين الذي جاء به، وإنما تجاوزا ذلك إلى صد غيرهم، والوقوف في وجه من يطلبون الهدى منه. هم يبالغون في مقاطعته والنأي عنه: مستكبرين عن الإيمان به.

{وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} :

أي وما يهلكون أحدًا بهذا التصرف الأحمق، والجحود المطلق - إلا أنفسهم، حيث أوردوها موارد الدمار والبوار. وما يشعر هؤلاء الجانون على أنفسهم تلك الجناية - أنهم إلى هذا المصير سائرون، لما استولى عليهم من غفلة، وما غشيهم من ضلال.

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)} .

ص: 1221

المفردات:

{إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} : حُبِسُوا عليها يوم القيامة. ومن معاني الوقف: الحبس.

{بَدَا لَهُمْ} : ظهر لهم.

التفسير:

27 -

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا

} الآية.

بعد أن بين سبحانه - في الآيتين السابقتين - حال أولئك المشركين الكافرين الذين يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما يرتل من كلمات الله- ولا ينتفعون بما سمعوا، بيّن -في هاتين الآيتين- بعضَ ما يكون من مآل أمرهم في الآخره. فقال:

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} :

{لَوْ} : شرطيه حذف جوابها، لتذهب النفس في تصوره كل مذهب. وذلك أَبلغُ من ذكره.

والمعنى: ولو ترى يا محمَّد أو أَيها السامع، ما يحل بأُولئك المكذبين المعاندين، من الفَزَع الهَوْل، حين يُحبسون على النار، مشرفين عليها - لرأَيت شيئًا مخيفا؛ لا يحيط به الوصف هَوْلًا مفزعا؛ لا تُدْرِكُه العباره. وحين يعاينون هذه الأهوال، يَتَمنَّوْنَ الرجوعَ إلى الدنيا، الإِيمان بما كذبوا به في حياتهم.

وفي {عَلَى النَّارِ} : ما يُشْعِرُ بأَنهم سيسقطون فيها، وتبتلعهم، وأَنه لا مفر من ذلك.

مما يصور لنا مشهدا مخيفا، تقشعر منه القلوب والأبدان.

{فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :

ص: 1222

أَي ويقول هؤلاءِ المشركون - وقد تَدَلَّوْا على النار - ليتنا نردُّ إلى الدنيا، حتى نتوب ونعمل صالحا، ولا نكذِّبَ بآيات الله وحججه، التي نَصَبها دلالة على وحدانيته وصدقِ رسله بل نكون من المصديقين به وبرسله، ومن المتبعين لأَمره ونهيه.

وفي تَمَنِّيهم الرد، دليل على أَنهم يلجأُون حتى إلى المستحيل، وهو عودتهم إلى الدنيا، لشدة الضيق والحرج الذي هم فيه.

28 -

{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ

} الآية.

إبطالٌ لأَمانيّهم وَتيئيس لهم منها؛ لأنها أَمان ناشئة عن الفزع والهلع، من هذا الموقف الذي هم فيه، حين ظهر لهم ما كانوا يُخفون من البعث والجزاءِ، حيث كانوا ينكرون ذلك.

{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} :

من الشرك والكفر، والمكر والمعاصي، لسوءِ ما فطروا عليه من سوءِ طويه، وخبث نية، ودعوى جاهلية.

{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} :

فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات الله، والإيمان بالله ورسله؛ لأنهم لم يكونوا صادقين في ادعائهم الإيمان بعد رجوعهم إلى الدنيا، وإنما دفعهم إلى هذا، ما شاهدوه من الأَهوال والشدائد، والبعد عنها بأَية وسيلة.

ومعنى هذا أَن الكفر فيهم غريزة.

29 -

{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} :

أي لو رُدُّوا إِلى الدنيا، لعادوا لِمَا نُهُوا عنه من الكفر وسَىِّءِ الأَعمال، ولأَنكروا البعث والحساب والجزاءَ مره أُخرى. وكأَنهم لم يَرَوْا ما عاينوه من أَحوال الآخرة، التي أَولها البعث والنشور.

ص: 1223

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)} .

المفردات:

{جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} : الساعة؛ القيامة.

{بَغْتَةً} : فَجْأَة.

{يَا حَسْرَتَنَا} : الحسرة؛ الندم الشديد على ما فات.

{عَلَى مَا فَرَّطْنَا} : التفريط؛ التقصير.

{أَوْزَارَهُمْ} : آثامهم الكبيرة.

{لَعِبٌ وَلَهْوٌ} : اللعب واللهو كلاهما؛ الاشتغال بما لا يفيد العاقل ولا يهمه.

التفسير:

30 -

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ

} الآية.

وهكذا، تتوالى المشاهد يوم القيامة.

فمن مشهد الحشر والمحاكمة: " {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} إلى مشهد الحكم في جنايتهم التي جَنَوْها على أَنفسهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ

} إلى المشهد الذي يتضمن إتمام المحاكمة.

ص: 1224

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} :

أي ولو ترى - أَيها التأَمل - هؤُلاءِ المعاندين المكذبين - وقد حبسوا على ما يكون من قضاء ربهم فيهم - لَهَاَلكَ أَمرُهم، ولرأَيت ما لا يحيط به نطاق الكلام. وجعلهم موقوفين على ربهم؛ لأَن من تَقِفُهم الملائكه وتحبسهم في موقف الحساب، امتثالا لأَمر الله فيهم كما قال:"وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ"(1) يكون أَمرهم مقصورا على الله حيث لا سلطان فيه لغيره عز وجل {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (2). فهم وقد انتهى بهم المطاف إلى ما لا يحيط به الوصف لن يقتصر أَمرهم على ما هم فيه من بلاءٍ وعناءٍ بل يُسأَلون سؤَال تأَنيب وتبكيت.

{عَلَى رَبَّهِمْ} : (عَلَى) هنا؛ بتقدير مضاف، أَي وقفوا على تعذيب ربهم، وما أَعدَّ لهم. {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}: القائل هو الله تعالى أَي أَليس هذا الجزاءُ - وما أَنتم فيه - هو الحق الذي كنتم به تُكَذِّبون؟

وفي حسره أَليمة وندم شديد:

{قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} :

أَي قالوا: أَي ما نحن فيه من الشدائد والأَهوال، حق نستحقه، ولا شك فيه.

وهكذا كان جوابهم

اعترافًا مؤَكدًا - باليمين - بما أَنكروه في الدنيا.

وبذلك شهدوا على أَنفسهم أَنهم كانوا كافرين.

{قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} :

أَي فباشروا العذاب، وانغمسوا في آلامه وأَهواله، بسبب كفركم الذي كنتم عليه مُصِرِّينَ عليه، دائبين فيه.

وفي المشهد السابق {وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} : وهنا وقفوا على غضب ربهم، ما يدل على أَن غضب الله، آلم من نار جهنم، فلو لم يكُن منه إلا حِرْمَانُهم من رؤيته والتمتع برضوانه، لكفى.

(1) الصافات، الآية:24.

(2)

الأنفال، الآية:19.

ص: 1225

31 -

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ

} الآية.

أَي قد خَسِر وخاب سَعْىُ أُولئك الكفار، الذين كَذَّبُوا بالبعث، وانكشف لهم ما كانوا فيه من غفله وضلال.

{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} :

أَي ما زال هؤُلاءِ مُصِرِّين على التكذيب، إِلى أَن جاءَتهم الساعة - فجأَة - على غير انتظار.

{قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} :

أَي قالوا متحسرين بأُسلوب النداء؛ للإِشاره إلى شدة وَقْع المفاجأَة عليهم.

ولذا نادوا الحسره: نداءً تفجُّع. وقالوا: إن كان لك وقت فهذا وقتك، حيث قد فَوَّتوا على أَنفسهم العمل بما كان ينجيهم من أَهوال هذا اليوم، والضمير في (فِيهاَ) يعني: الحياة الدنيا.

{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} :

أَي يحملون ذنوبهم وخطاياهم على ظهورهم.

وفي هذا إِيماءٌ إِلى شدة ما يقاسونه من صنوف العذاب.

{أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} :

أَي بئس ما يحملون.

والمراد: ذم عملهم الذي ارتكبوه في الدنيا، حيث لم ينتفعوا به، بل أَوصلهم إِلى الهلاك.

32 -

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ

} الآية.

أَي وما اشتغال المكلَّف بِمُتَعِ الحياة الدنيا، وصرف قواه إِلى لَذَّاتها - دون الالتفات إلى شئون الآخرة - إِلى اشتغال بما لا نفع فيه.

ص: 1226

وإِنما تكون الحياةُ الدنيا جادةً مفيده، إِذا التفَتَ فيها أَصحابُ العقول، إِلى العمل الطَّيب المثمر؛ الذي يجمع بين سعادَتَى الدنيا والآخرة.

{وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} :

أَي ولَلحياة الآخرة: أَكثر نفعا، وأَعظم أَجرًا للذين تركوا المعاصي في الدنيا، وعملوا لنيل الثواب في الآخرة، التي هي الغاية، والدنيا وسيلة لها.

{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :

أَي أَتغفلون عما في الآخرة من ثواب ونعيم، فلا تعقلون أَن الانصراف إلى الدنيا مُهِلك، وأَن العمل للآخرة والإِقبال عليها، هو السعادة والنجاة؟

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} .

المفردات:

{لَيَحْزُنُكَ} : الحُزْنُ؛ الشعور بالأَلم عند وقوع مكروه.

{يَجْحَدُونَ} : الجحود والجحد؛ نفى ما في القلب إِثباته أَو إِثبات ما في القلب نفيه.

{لِكَلِمَاتِ اللهِ} : المراد من كلمات الله؛ وعده للمؤمنين، ووعيده للكافرين.

{نَّبَإِ} : النبأُ؛ الخبر ذو الشأْن العظيم.

ص: 1227

{كَبُرَ عَلَيْكَ} : أَي شَقَّ عليك.

{نَفَقًا} : النَّفَق؛ السِّرْب في الأِرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج.

{أَوْ سُلَّمًا} : السُّلَّم؛ الدَّرَج مشتق من السلامه؛ لأَنه يُسْلِمُكَ إِلى الوضع الذي تريده.

{الْجَاهِلِينَ} : الجهل هنا؛ ضد العلم، والمراد منه: الجهل بما ينبغي العلم به.

التفسير:

33 -

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ

} الآية.

بعد أَن بَيَّنَ القرآن - فيما سلف من الآيات - أنها نزلت في بيان موقف المشركين من الدعوه الإِسلامية، وكثرة ما قالوا في رد هذه الدعوة، جاءت هذه الآيات تُبَيِّنُ أَثرَ هذا العناد في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وحُزْنَهُ على عدم إِيمانهم. فقال بيانًا لذلك، وتسليةً له صلى الله عليه وسلم:

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} إِلى آخر الآيات

ومعنى:

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} :

أَي قد أَحاط علمنا بِحُزْنِك مما يقوله لك هؤلاءِ المعاندون، وأَنك مشفق عليهم من لَجاجهم وشَططهم. وهذا بيان لعظمة الإِشفاق النبوى الكريم. وتسليه له. فليس المراد الإِخبار بالعلم، فالعلم ثابت لله تعالى. ولكن المراد أَننا معك أَيها الحزين الآسف على كفر قومه وأَهله.

{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} : لذاتك، فقد كنت الأَمين. ولكن ما يحدث منهم الآن، هو تكذيب لنا؛ لأَنك رسولُنا ومُبلِّغُ عنا.

{وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} :

أَي ولكنهم - بعدم الاستجابة لآيات الله - قد بلغوا الغاية في الظلم والجحود والتَّنَكُّر لك والافتراءِ عليك.

ص: 1228

34 -

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الآية.

هذه الآية من تمام تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ببيان ما عاناه الرسل السابقون: بالدعوة، حتى جاءَهم نصر الله، واستقر الأَّمر لهم: بإِهلاك أَقوامهم. فإن عموم البلوى مما يعين على احتمالها. فاصبر كما صبروا، حتى يأْتِيَك النصر. فإِن شأنك كشأْنهم.

{وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} :

أَي، إِن كلمات الله لا تُبدَّل، وأَحكامَه لا تُنْقَض، ووعدَه لا يَتخلَّف وسننه ونواميسَه لا تتخلف. قال تعالى:

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (1).

{وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} :

أَي ولقد أَتاك من أَخبار الرسل، ما تَسْكُن به نفسك، ويطمئن به قلبك، ويَثْبُتَ به فؤادُك: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ

} (2).

35 -

{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ

} الآية.

ومع ذلك يا محمَّد، إِن كان نفورهم وإِعراضهم، شاقًّا على نفسك، بتزايد ويكبر أَثره شيئًا فشيئا، أَي، ولو يَشْفِكِ ما سقناه لتسليتك فَالْتَمِسْ ما في طاقتك لإِيمانهم - مهما استحال - نَفَقًا في الأَرض، أَو سُلَّمًا في السماءِ، لتهديهم بآية فعالة في نفوسهم. فافعل.

وقد آتيناك من الآيات، ما يكفي لإيمان من ألقى السمع وهو شهيد: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ

} (3).

(1) الصافات، الآيات: 171 - 173.

(2)

هود من الآية: 120.

(3)

العنكبوت: من الآية 51

ص: 1229

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} :

أَي ولو شاءَ اللهُ هدايةَ الناس جمعيا، لجمعهم على ذلك. ولكن لم يُرِدْ ذلك، لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو. ففي علمه الأَزلى: أَن فريقا منهم يختار الكفر، ولو جاءَتهم كلُ آية.

{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} :

أَي فلا تَذهبْ نفسُك عليهم حسرات، لعدم إِيمانهم حتى لا تكون من الجاهلين، الذين يشتد حُبُّهُم وحنانُهم بذويهم وأَهليهم إلى هذا الحد.

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1).

(1) القصص، من الآية:56.

ص: 1230

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)} .

المفردات:

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} : الاستجابة، هي الإجابة المقارنة للقبول.

{وَالْمَوْتَى} : المراد بهم، الكفار، تشبيهًا لهم بالموتى.

التفسير

36 -

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} :

لمَّا بيَّن الله - في الآية السابقة - إعراض المشركين عن الرسول، وأن إعراضهم كبر عليه صلى الله عليه وسلم، أتبع ذلك بيان السرّ في إعراضهم. وهو شَبَهُهُم بموتى القبور.

وذكر أن هؤلاء المعرضين سيلقون جزائهم.

والمقصود من ذلك: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، ووعيد الكافرين به.

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} :

المعنى: ما يجيبك يا محمد إلى الهدى، ويقبل منك شريعة الإسلام، إلا الأحياء الذين يسمعون سماع تدبر واعتبار.

وهؤلاء المشركون الذين يجيبوك، ولم يهتدوا بهديك، يشبهون الموتى؛ لفقدهم ما يميز الأحياء عن الأموات، من السماع والتدبر.

{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} :

الواو للاستئناف وجوبًا ولزم الوقف قبلها. والمعنى: والموتى يحييهم الله يوم القيامة.

{ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} :

للحساب والجزاء، فلا يشق عليك إعراضهم وأمرهم إلى الله الذي سيتولى عقابهم حين يبعثهم.

ص: 1231

ولا يصح أَن يراد من بعث الكفار هدايتهم - كما قيل - فإِن ذلك لا يناسب قوله تعالي:

{ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} :

فإِن ذلك لوعيدهم بالجزاءِ على كفرهم. لأَن هذا هو الأَنسب لمقام الكلام.

وهذه الآية مقرِّرة لما مَرَّ في السورة، من أَن المشركين أَمعنوا في الإِعراض إِمعانا، جعل على قلوبهم أَغطية مانعة لها من الفهم. وفي آذانهم حجبا تضع فيها وقرا - أَي ثقلا - مانعا من السماع.

كما أَنها تفيد أن مَن لم يستجب إِلى دعوة الإِسلام، فهو من قبيل الموتى - والموتى لا يتصور منهم الإِيمان.

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} .

المفردات:

{لَوْلَا} : حرف يدل على الحثِّ والتَّحضيض مِثْل: هلَّا.

{نُزِّلَ} : المقصود من التنزيل، الإِظهار.

{آيَةٌ} : الآية، العلامة، والمراد بها هنا: معجزة كونية تلجئهم إِلى الإِيمان.

كجعل الصفا ذهبا

وسنوضح ذلك.

{دَابَّةٍ} : الدابة؛ ما يدب على الأَرض، أي يمشي على هيئته.

{أُمَمٌ} : جمع أمة بمعنى؛ جماعة.

ص: 1232

التفسير

37 -

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ

} الآية.

لا يزال الكلام موصولا في شأن تكذيب المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم استجابتهم إِلى ما دعاهم إِليه.

تحكى هذه الفقرة: أنهم طلبوا منه أَن يأتيهم بآية يُنَزِّلها الله ويظهرها، على حسب هواهم، فقالوا - على أَلسنة رؤسائِهم - هَلَّا أُنزل عليه آية من ربه، تلجئنا إلى الإِيمان برسالته؟ ويعنون بها ما حكته سورة الإِسراءِ:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} (1).

والمتأَمل في تلك المطالب وأمثالها، يحسُّ أن الباعث عليها هو التعنت والعناد، لا الاهتداء إلى الحق.

فلو كانوا طلاب حق، لكفاهم ما أَيده الله به من معجِزة القرآن "

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} " (2).

وكما أَيده الله بالقرآن، أيده بكثير من المعجزات الكونية:

كانشقاقِ القمر، وحَنِين الجذع، وإنزالِ المطر، ورَفْعِه، وتكثير الماء والطعام. إلى غير ذلك، مما روَته السنَّةُ الصحيحة.

وقد بين الله للرسول صلى الله عليه وسلم، ما يجيب به المشركين بقوله:

{قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

قل يأَيها الرسول لقومك: إن الله قادر على تحقيق الآية التي طلبتموها ولكن أكثرهم ليس من أَهل العلم والعقل، فلذا غفلوا عن الحكمة في عدم تحقيق ما سألوا، وهي أَنه تعالى لم يشأ إهلاكهم، فإنه إِن حققها فكفروا - بعدها - أُهْلِكوا جميعًا كما حدث للأمم قبلهم

(1) الإسراء، الآيات: 90 - 93

(2)

النساء، من الآية: 82

ص: 1233

ونَفْيُ العلم عن أكثرهم: إمَّا لأن بعضهم يعلمون الحكمة في عدم تحقيق ما يقترحون، ولكنهم يشاركونهم فيما طلبوا عنادا، وإِما لأن الأكثر، مرادٌ منه: الجميع.

38 -

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ

} الآية.

هذه الآية مسوقة للدلالة على كمال قدرة الله وشمول علمه، وسعة تدبيره وحكمته.

حتى تعلم قريش: أن مَن كان هذا شأنه: قادر على تحقيق ما طلبوه، وإِن كان لم يجبهم إليه، رحمةً بهم.

والدابة: ما يدب ويتحرك على وجه الأَرض من الحيوان.

والتعبير بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} : لتأكيد العموم (1)؛ كأَنه قيل:

وما نوع من أَنواع الحيوان -، أَو الأَسماك - صغيرًا كان أَو كبيرًا - في أَية ناحية من نواحى الأَرض - ظاهرها وباطنها -.

{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} :

ووصف الطائر بأَنه يطير بجناحيه مع أَن هذا شأنه، لتصوير حالة طيرانه العجيبة الدالة على كمال قدرة الله وإِحكام تدبيره. حتى يتجه النظر والفكر إِليها. فيمجد الله الذي أَبدعها.

والمقصود من قوله: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} : بيان أَن حيوانات الأرض والبحر، وطيور الجو، إِنما هي جماعات وطوائف، لها مثل مالنا من الخصائص في الجملة.

فالنمل - مثلًا - أمَّة أَرضية: لها تدبيرها في السعى على رزقها، وجمعه من أجحارها، استعدادًا لفصل الشتاءِ، لتقتات به وهي مختبئة فيها طول الفصل. كما أن لها أَميرةً منها، تُوَجِّهُها وتنظم مصالحها. ولها لغة تتفاهم بها. كما يدل على ذلك قوله تعالى في سورة النمل:{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (2). وقد فهم سليمان عليه السلام لغتها: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا

} (3) الآية.

(1) العموم مستفاد من كلمة (دابة) وتأكيد العموم مستفاد من زيادة (من)، ومن كلمة (في الأرض).

(2)

النمل، الآية: 18

(3)

النمل، من الآية: 19

ص: 1234

النحل: أُمَّةٌ جوية. لها رئيسة يطلق عليها لغة: "اليعسوب" وهذه الأَميرة تُوَجِّهُ أمَّتَها من النحل وتدبر أمرها. ولها نظام في السعى على الرزق، وبناءِ بيوت هندسية دقيقة، تجمع فيها العسل، وتحتضن البيض، حتى تخرج منه صغارها، ثم ترعاها حتى تفسير نحلا. إِلى غير ذلك من شئونها العظيمة الدالة على قوة إِدراكها.

ولذا أَخبر الله تعالى، بأَنها موضع لوحيه وإِلهامه فقال:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (1).

وهكذا، شأن سائر الحيوانات الأَرضية والبحرية، والطيور الجوية.

فالآية فتحت آفاقا من العلم عن أُمم أُخرى: لها خصائص تقرب من خصائصنا. ظلت مجهولة، حتى عرفها الباحثون أَخيرا، عن طريق التجربة {

فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2).

{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .

تفريط الشىء. تضييعه وتركه. كما قال الشاعر:

معه سقاءٌ لا يفرط حمله*

والتفريط فيه: أَن يهمل ما ينبغي أَن يكون فيه.

والمعنى: ما أَهملنا فيه شيئًا ينبغي ذكره فيه.

والمراد من الكتاب: اللوح المحفوظ، أَو القرآن الكريم.

وعلى الأَول، تكون جملة. {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} متوسطة (3) للإِيذان بأن كل الأحوال مستقصاة في اللوح الحفوظ، غير مقصورة على هذا القدر المجمل.

وعلى الوجه الثاني. تكون الجملة متوسطة، لتقرير ما قبلها على معنى: ما تركنا في القرآن شيئًا من الأشياء الهامة في الدنيا والدين. ومن جملتها: بيان أنه تعالى، مراعٍ لصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي.

(1) النحل، الآية: 68

(2)

المؤمنون، من الآية 14

(3)

يعبر عنها المفسرون؛ بأنها جملة اعتراضية أو معترضة. وقد اخترنا التعبير بمتوسطة، أدبا مع القرآن الكريم.

ص: 1235

ثم بين الله أحوال الأُمم في الآخرة فقال:

{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} :

استعمل ضمير العقلاءِ في كلمتي: {رَبِّهِمْ} و {يُحْشَرُونَ} في دواب الأَرض وطيور الجو، إجراءً لها مجرى العقلاءِ، بعد بيان أنها أمثال الناس في نظم حياتها.

والمعنى: ثم - إلى ربهم ومالك أُمورهم - يحشرون كما يحشر الناس، فينصف بعضهم من بعضهم بموجب ما لديهم من إدراك.

وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى في يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشاةِ القَرْنَاءَ"(1).

وعن ابن عباس: حَشْرُ الدواب والطير؛ مَوْتُها.

والأَول أَصح، لظاهر الآية والحديث.

وبه أخذ أبو ذر وأبو هريرة والحسن وغيرهم.

وقال جماعة: هذا الحَشْر الذي في الآية، يرجع إلى الكفار، وما تخلل من كلام، فهو معترض، وإِقامة حجج. والحديث مقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب، والقصاص، والاعتناء فيه. حتى يفهم منه: أَنه لا بد لكل أَحد منه.

وصح القرطبي الأول، لصراحة الحديث. وقال: إنها - وإِن كان القلم لا يجرى عليها في الأحكام - ولكنها تؤاخذ فيما بينها.

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} .

المفردات

{صُمٌّ} : جمع أصم، وهو، من ثَقُل سمعه.

(1) أخرجه مسلم: انظر القرطبي 6 طبع دار الكتب. والشاة الجلحاء: التي ليس لها قرن.

ص: 1236

{وَبُكْمٌ} : جمع أَبْكَم، وهو؛ الأخرس، وخصه بعضهم: بمن وُلد لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر.

{فِي الظُّلُمَاتِ} : المراد بها؛ ظلمات الجهل والعناد.

التفسير

39 -

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ

} الآية.

المراد بالآيات: القرآن الكريم، أَو جميع الحجج، ويدخل فيها القرآن الكريم.

والمعنى: والذين جحدوا بآياتنا، ولم يهتدوا بهداها، مثلهم كمثل: الصم الذين لا يسمعون، الْبُكْم الذين لا يتكلمون، الذين احتوتهم الظلمات فلا يبصرون. فكيف يهتدى هؤلاءِ إلى سواءِ السبيل - وحالهم ما ذكر -؟!.

{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} :

هذه الجملة مقررة لما سبق من حالهم، مفيدة أنهم مقيمون على الضلال فلا يستغرب تكذيبهم.

والمعنى: مَن يشإِ الله إضلالَه - لفساد طويته - يَخذُلْهُ، ومَن يشأْ هدايته - لحسن اختياره - يَجعلْهُ على طَريق مستقيم: في العقيدة والأخلاق، ويوفقه لصالح الأَعمال.

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)} .

المفردات:

{أَرَأَيْتَكُمْ} : أَخبروني.

{السَّاعَةُ} : هي القيامة. وسميت بذلك لأَنها تَفْجَأُ الناس في ساعة علمها عند الله، والمراد بها: أهوالها.

ص: 1237

{وَتَنْسَوْنَ} : وتتركون.

التفسير

40 -

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} :

لا يزال الكلام عن المشركين موصولا.

والمعنى: قل أَيها الرسول لهؤُلاء المشركين، تبكيتا لهم على عبادتهم غَيْرَ الله تعالى، وإِلزاما لهم بما لا يستطيعون إِنكارَه: أخبروني، إِن أتاكم عذابُ الله في الدنيا، أَو أَتتكم القيامة بأهوالها في الآخرة، وانتقم الله منكم فيها: أغيرَ الله تدعون لكشف الضر عنكم - إِن كنتم صادقين في زعمكم أَن أَصنامكم آلهة، أو إِن كنتم من أَهل الصدق؟!

ولما كانت عادتهُم أَنهم إِذا وقعوا في شدة تركوا دعاءَ أَصنامهم واتجهوا إِلى الله تعالى، يدعونه ليكشفها عنهم، لاعتقادهم أنهم إن دعوها لا تجيبهم. وإِن دعوه سبحانه أجابهم، وفرَّجها عنهم.

فلهذا تولى الله الإِجابة عنهم بما لا يستطيعون إِنكاره، فقال:

41 -

{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} :

أَي: ليس غيرُ الله تدعون. بل تخصونه - وحده - بالدعاء، فيزيلُ ما تدعونه إلى إِزالته، وتتركون شركاءَكم تركا كليًا، كما روى عن ابن عباس.

وقيل: النسيان على حقيقته، فَهُمْ - لشدة الهول وعظيم الخطر - لا تخطر آلهتهم ببالهم.

وتأخير نسيانهم لآلهتهم عن كشف الضُّر - مع أنه سابق عليه - لإِظهار كمال العناية بكشف الضر، والإِيذان بترتيبه على دعاءِ الله خاصة.

فإِن قيل: إِن العذاب الدنيوي المماثل لعذاب الأمم السابقة وقوارع الساعة، لا يكشفان بالدعاءِ.

فالجواب: أَن كشف ذلك معلق بالمشيئة؛ كما نَصَّ عليه قوله تعالى:

{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} :

ص: 1238

ومعلوم أن الله تعالى، لا يَشاء كشفهما. قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (1).

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} .

المفردات:

{بِالْبَأْسَاءِ} : بالداهية والشدة.

{وَالضَّرَّاءِ} : والضُّر.

{لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} : لكي يدعوا الله في تذلل وخضوع.

{فَلَوْلَا} : بمعنى: هَلَّا. وهي هنا؛ للتوبيخ والتنديم. وسيأْتى لذلك مزيد بيان في الشرح.

التفسير

42 -

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} :

هذا كلام مستأنف، لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، بذكر ما حدث لإِخوانه المرسلين من إِعراض أَقوامهم وعدم تأَثرهم بالزواجر. فإِن البلوى إِذا عَمَّتْ هانت كما أَن فيه إنذارا لقريش بأَنهم إِذا تمادَوْا في شركهم - أُهْلِكوا - كما حدث. لأَمثالهم السابقين.

(1) البينة، الآية: 6

ص: 1239

والمعنى: ولقد أَرسلنا رسلًا إلى أمم كثيرة، في زمان قبل زمانك، فكذبوهم فعاقبناهم علَى تكذيبهم وكفرهم بالشدائد: كالقحط والجوع، وبالإضرار: كالمرض ونقصان الأنفس والأموال، لعلهم يبتهلون ويتذللون إلى ربهم تائبين من كفرهم ومعاصيهم.

43 -

{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

لَوْلَا هنا: للتنديم والتوبيخ على تركهم التضرع، مع وجود مقتضيه وانتفاءِ المانع منه.

والمعنى: فَهلَّا - حين جاءَهم بأسنا وشدتنا - ابتهلوا إلينا خاضعين مستغفرين، ولكنهم استمرُّوا في قسوة قلوبهم، فلم ينزجروا بما بلوناهم به، ولم يتوجهوا إلينا بالدعاءِ والاستغفار. وزيَّن لهم الشيطان ما كانوا يعملونه من الشرك والمعاصي، وحَسَّنه إليهم، فأقاموا عليه.

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} .

المفردات:

{نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} : تركوا الاتعاظ بما خوِّفوا به، وهو: البأساءُ والضراءُ.

{بَغْتَةً} : فَجْأَة.

{مُبْلِسُونَ} : متحيرون، آيسون من النجاة.

{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ} : فأهلك آخرهم. من دَبَرَهُ، إذا كان خلفه، وقَطْع دابرهم: كناية عن إهلاكهم حتى آخرهم وهذا يستلزم - قبل ذلك - إهلاك أولهم بالضرورة.

ص: 1240

التفسير

44 -

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ

} الآية.

فلما غَفَلَ مُكَذِّبو الرسل السابقين، عمّا ذكِّروا وخوِّفوا به من البَأساءِ والضَّرَّاءِ، وتركوا الاتعاظ به، واستمروا في كفرهم وتكذيبهم - فتحنا عليهم أَبوابَ كلِّ شَيْءٍ من النعم، لعلهم يذكرون بها فضل ربهم ويؤْمنون به ويشكرونه، حَتَّى إذا بَدَّلوا نعمة الله كفرا، وفَرِحوا بما أعطوا: بَطَرا وجحودا - أخذناهم بالعقاب فجأَة فإِذا هم متحيرون يائسون.

روى الإِمام أحمد بسنده، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "إذا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِى العَبْدَ مِن الدُّنيا - عَلَى مَعاصِيهِ - مَا يُحِبُّ، فَإنَّما هُوَ استِدْراجٌ

ثُمَّ تَلَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (1).

45 -

{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

المعنى: فَأُهْلِك القومُ الذين ظلموا أَنفسَهم بالكفر، ولم يَنْجُ منهم أَحد، والحمد لله رب العالمين على إهلاك الظالمين، لتخليص الناس من شؤْم عقائدهم.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)} .

المفردات:

{وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} : أي غطاها فأصبحت لا تعقل.

(1) ابن كثير: 2

ص: 1241

(نُصَرَّفُ الْآيَاتِ): نكرر الدلالات مصروفة من أسلوب إلى آخر.

(يَصْدِفُونَ): يعرضون.

(عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً): فَجْأة بدون أمارات، أو ظاهرًا تسبقه علامات.

التفسير

46 -

(قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون):

قل أيها الرسول لقومك: أخبروني - إن أَذهبَ اللهُ سَمْعَكم وأبصارَكُم، وغَطَّى على قلوبكم ،فصرتم لا تسمعون ولا تبصرون ولا تعقلون - أيُّ هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه - يأتيكم بما أخذه منكم؟

انظر وتعجَّب - يا محمد - كيف نبين - لهم الآيات ونصرفها من أسلوب: ما بين حجج عقلية، وتوجيه إلى آيات كونية ،وترغيب وترهيب، وتنبيه وتذكير، ثم هم - بعد ذلك كله - يعرضون عن الحق!! واعلم أن القلوب، تستعمل في القرآن الكريم، مصادر للإدراكات العقلية كما هنا، وكما في قوله تعالى: "لهم قلوب لا يفقهون بها

" (1).

والمعروف طبِّيًّا: أن مراكز معينة في المخ، هي موطن العقل.

وبما أن القلب هو سر الحياة - وهو الذي يغذى تلك المراكز العصبية العاقلة في المخ - فلذا يسند الفهم والتعقل إليه مجازًا. أو لعله المركز الأول للعقل. ولكن لم يعرف ذلك بعد.

والمراد من الخَتْم عل القلوب: حَجْبُهَا ومنعها عن تعقل المدركات المختلفة.

والمراد من الآيات التي يصرفها الله: ما جاءَ في القرآن من الآيات الدالة على شئونه تعالى.

(1) الأعراف، من الآية: 197

ص: 1242

47 -

(قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون):

قل لهم - تبكيتا وتقريرا: أَخبروني؛ إن جاءَكم عذابُ الله في الدنيا - فجأة بدون أَمارات تنبهكم إليه، أو جهرة تسبقه علامات تدل عليه، هل يهلك - انتقامًا بهذا العذاب أو ذاك - سواكم أيها القوم الظالمون لأنفسهم بالشرك والمعاصي؟!

ومن كان ظالما، فهو الجدير بتعذيب الله، دون سواه.

وصحت مقابلة البغتة للجهرة، لأن البغتة لَمَّا كانت مقدماتها خفية، جعلت بمنزلة الشئ الخفي فقوبلت بالجهرة.

وقيل عذاب البغتة: ما كان ليلا، لأَن الغالب فيه ذلك. وعذاب الجهرة ما كان نهارا، لتكون هذه الآية - بذلك التأويل - مثل قوله تعالى:"قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون"(1).

والاستفهام في قوله تعالى: (هل يهلك إلا القوم الظالمون) للتقرير.

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)} .

المفردات:

(مُبَشَّرِينَ وَمُنذِرِينَ): التبشير؛ الإخبار بما يسر. والإنذار؛ التخويف مما يضر.

(يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ): أي يصيبهم.

(يَفْسُقُونَ): يخرجون عن طاعة الله بالكفر والمعاصي.

(1) يونس، الآية: 50

ص: 1243

التفسير

48 -

(وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون):

هذه الآية - والتي تليها - مرتبطتان باقتراح المشركين علي الرسول: الآيات التي يشير إليها قوله تعالى: "وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه

" (1).

والمعنى: وما نبعث المرسلين إلا مبشرين للمؤْمنين الصالحين بحسن الثواب، ومنذرين للمكذبين الفاسقين بسوءِ العقاب، لا ليُقْترَحَ عليهم غيرُ ما جاءوا به من الآيات. فمن آمن بالله ورسله، وأصلح نيته وعمله، حسب شرائعهم، فلا خوف عليهم من عقاب، ولا هم يحزنون على فوت ثواب.

49 -

(والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون):

والذين كفروا بالمرسلين، وكذبوا بآياتنا التي أنزلناها عليهم، وبمعجزاتِنا الدالة على صدقهم، وشغلوا أَنفسهم باقتراح الآيات عليهم - غير مكتفين بالمعجزات التي أظهرها الله على أيديهم، تعنتا وحسدا وعنادا لهم - فهؤلاء، يصيبهم العذاب - الدنيوي والأُخروي - بسبب استمرارهم على فسقهم، وخروجهم عن طاعة ربهم.

{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)}

المفردات:

(خَزَائِنُ اللهِ): المراد بها؛ خزائن مقدوراته؛ كما قال الجبائي.

(الْأَعْمَى والبَصِيرُ): المراد بهما؛ الضال والمهتدى.

(1) الأنعام، من الآية: 37

ص: 1244

التفسير

50 -

(قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك

) الآية.

قل أَيها الرسول، لمن يقترحون عليك غير ما جئت به من الآيات: أنا لا أدَّعي أن عندي خزائن مقدورات الله أتصرف فيها كما أَشاءُ استقلالا أَو استدعاءً من الله، حتى تطلبوا منى أَن أقلب الجبال ذهبا وأَن أفجر الينابيع من الأرض، لتزرعوا على مياهها صحراءَكم، إلى غير ذلك من اقتراحاتكم - فذلك من شأن الله الذي لا يتحكم عليه أحد، فيقترح عليه من الآيات ما لا تبدوا حكمة في تحقيقه. وكذلك لا أَدعى علم الغيب، حتى تطالبوني بإِخباركم بوقت نزول العذاب بكم بقولكم: "

متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" (1).

ولا أَقول لكم إني مَلَكٌ حتى تطالبوني بأَن أَرْقَى في السماء كما هو شأن الملائكة، أو تَعُدُّوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في نُبُوَّتِي، فإنكم قلتم: " .. ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق

" (2) وما أنا إلا نبي: أَتبع ما أوحاه رَبَّي إلىَّ. فلا تطلبوا مني ما ليس من شأني.

(قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون):

قل لهم أيها الرسول: لا يمكن أن يستوي الضال الشبيه بالأَعمى - في عدم تبين الحقائق - بالمهتدى الشبيه بالمبصر في استجلاءِ الأُمور

أتسمعون هذا التذكير فلا تتفكرون فيه؟!

واعلم أنه ليس من الحكمة أن يجاب المتعنتون إلى ما سأَلوا، فإنهم لا يؤمنون، ولو جاءَتهم كل آية. قال تعالى:"إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون. ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم"(3).

فضلا عن أنهم - إن لم يؤمنوا بما طلبوه بعد مجيئه، حق عليهم الهلاك، كما حدث لمن قبلهم. كقوم صالح.

ولا يقتضي تمييز الملائكة بقدرتهم على الرقى في السماء كلما أَرادوا، أو تمييزهم بأَنهم لا يأكلون، ولا يشربون: أن يكونوا أفضلَ من الأنبياءِ، كما زعم الجبائي، فالمزية لا تقتضى الأفضلية، وإلا لكان بعضُ الحيوان أفضلَ من الإنسان، بما تميز به عليه، كالنحل

(1) سورة سبإ، من الآية:29.

(2)

الفرقان، من الآية: 7

(3)

يونس، الآيتان: 97،96

ص: 1245

في بناء بيوته الهندسية، وإفرازه العسل، وكالطيور في تعَرفها المراعىَ الصالحة، وسلوكِها السبيل إليها بالغريزة، دون أن يخبرها بها مخبر، أو يهديها إليها هادٍ، ودون أن يكون لها اطلاع سابق ورحلة من قبل إليها.

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)} .

المفردات:

(وَأَنذِرْ): الإنذار؛ التخويف.

(وَلِىٌّ): ناصِر.

(شَفِيعٌ): الشفيع؛ من يرجو رفع ضُر، أو جلب خير لغيره.

التفسير

51 -

(وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون):

وأنذر - أيها الرسول بما يوحى إليك من القرآن - الذين يخافون أن يُحشرُوا ويجمَعوا إلى حساب ربهم يوم القيامة، ليس لهم من غيره نصير- يحميهم - من حساب ربهم وعذابه - بقوته، ولا شفيع يخلصهم من ذلك بشفاعته ورجائه - أنذر هؤلاء بالقرآن؛ لعلهم يتقون النار بالإِيمان والطاعة.

واعلم أَن مَن يخافُ الحَشْرَ إلى الله - وليس له ولى ولا شفيع من غيره تعالى - أَصناف ثلاثة:

1 -

صنف أهْل الكتاب: القاطعين بالبعث، الشَّاكَّين في شفاعة أنبيائهم لهم.

2 -

وصنف المشركين: القاطعين بالبعث الشاكين في شفاعة أَصنامهم لهم.

ص: 1246

3 -

وصنف المشركين: الشاكين في البعث وفي شفاعة الأَصنام لهم.

فشك هذه الأصناف الثلاثة في شفاعة هؤلاء الشفعاء، يجعلهم إذا سمعوا الإنذار يخافون سوءَ العاقبة يقدرون في نفوسهم ما جاءَ به الرسول. فيفكرون فيما يقول. وربما هداهم التفكير إلى الحق، فآمنوا.

أما المنكرون للحشر إِنكارا تاما، والقائلون به: القاطعون بشفاعة آبائهم أَو أصنامهم فهؤلاءِ لا يؤمنون - ولو جاءتهم كل آية - حتى يَرَوُا العذابَ الأليم. كما جاءَ في قوله تعالى: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون. ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم"(1)

وقد مرت الإشارة إلى ذلك قريبا.

ولكون موقفهم من الرسالة ما ذكر، مِنَ الرسول بالاهتمام بهذه الطوائف، التي تخاف الحشر إلى ربها - دون شفيع - لعلهم يتذكرون.

ويستلزم أمر الرسول بالاهتمام بهم، أَلَاّ يكترثَ بمن عداهم، من الصُّم البُكْم: الذين لا يعقلون ولا يهتدون.

{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}

(1) يونس، الآيتان: 97،96

ص: 1247

المفردات:

(بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىَّ): أي بأَول النَّهارِ وآخِرِه.

(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ): يريدون ذاته.

(فَتَنَّا): ابتَلَيْنَا.

التفسير

52 -

(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه

) الآية.

لَمَّا أَمر الله رسوله في الآية السابقة - بإنذار من يَخْشَوْنَ أن يُحشَروا إلى ربهم، ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، سواءٌ أكانوا مشركين أَم أَهل كتاب - نهاه سبحانه وتعالى عن أن يكون إِنذارهم سببا في طرد المؤمنين الضعفاء - من مجلسه عليه السلام طمعا في إيمان هؤلاء.

وسبب نزول هذه الآية - على ما رواه الإمام أحمد وغيره: أن رؤساءَ المشركين. قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردتَ هؤلاء وأرواح (1) جبابهم، جلسنا إليك وحادثناك: يعنون فقراء المسلمين كعمار، وصهيب، وخبَّاب، وسلمان، وأضرابهم. رضي الله عنهم فقال صلى الله عليه وسلم:"مَا أنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ" فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا. فإذا قمنا فأقعدهم معك، إن شئت. فقال صلى الله عليه وسلم:"نعم" طَمَعًا في إيمانهم، فنزلت.

والمعنى: ولا تُبْعِد عن مجلسك ضعفاء المؤمنين: الذين يَدعون ربهم ويعبدونه دائمًا. مخلصين. فلا يشركون في ذلك شركًا: جليا ولا خفيا. بل يريدون وجْهَهُ وذاتَهُ وحده. ليس عليك أيها الرسول من حساب أُولئك المشركين - إذا استمروا على شركهم ومعاصيهم - من شيء. فالحساب على ذلك خاص بهم، لا يتجاوزهم إليك. فلا يحملنَّك الحرص على إيمانهم: أن يبْعَدَ الفقراءُ عن مجلسك معهم، استجابة لرغبتهم. فكما أنه ليس على المشركين من حسابك على عملك شيء، فكذلك ما عليك من حسابهم على عملهم من شيء.

(1) أرواح جمع ريح بمعنى رائحة. قال صاحب القاموس: والراح يجمع على أرواح. ثم ذكر ضمن معانيه، الرائحة. وكان هؤلاء الفقراء يلبسون جبابا تفوح منها روائح، تؤذى المشركين، لأنهم لم يجدوا بديلا عنها حتى يغسلوها، فكانوا يلبسونها دائما، فتفوح منها روائح العرق المتراكم، فلذا طلب المشركون إبعادهم عن المجلس إذا جلسوا مع الرسول. استعلاء وتكبرا.

ص: 1248

فلا يحملنَّكَ الحرصُ على إيمان المشركين: أن تطرد فقراء المؤمنين وتُبْعِدَهم عن مجلسك. فتكون بذلك من الظالمين.

واعلم أيها القارئُ الكريم: أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم، قصد من تخصيص الوقت للمشركين حين يجلسون إليه، تأليف قلوب المشركين، ولم يقصد طَرْدَ المؤْمنين حقيقة. ولهذا لم يَرْوِ أَحَدٌ أن قلوب فقراءِ المؤمنين انكسرت لذلك.

وتعبير القرآن الكريم عن تخصيص الوقت للمشركين بأنه طَرْدٌ لفقراء المؤْمنين، يُرَاد منه إظهار كرامةِ المؤمنين على الله دون المشركين حتى جَعل تخصيصَهم بوقت، طرْدًا لهؤُلاء المخلصين

ومعلوم أن النهي عن طرد الضعفاء، لا يلزم فيه سوى جملة (ما عليك من حسابهم من شيء).

فنظمه في سلك ما لا شبهة فيه. وهو انتفاءُ أن عليهم من حساب الرسول شيئًا .. على طريقة قوله تعالى: "

لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" (1).

والمقصود الأساسي من الآية: أن من كانوا عند الله بهذه المنزلة، لا يجاب المشركون إلى ما طلبوه من طردهم عن مجلسه إِذا كانوا معه. وأنَّ شانَ المشركين عند الله تعالى: غاية في الهوان، فلا يُهْتَمُّ بهم.

وفي هذه الآية، دليل على أن الإسلام لا يميز بين الناس بالمال والرياسة، بل بالإيمان والعمل الصالح، وإن كانوا فقراء معدمين، وعلى أن الأُمراءَ مطالبون بإعطاء الفقراء حقهم من مجالس العلم ودوره، وأَلَاّ يمنعونهم عن مجالسة الأَغنياءِ فيها.

53 -

(وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين):

ومثل ذلك الابتلاءِ والفتنة، فتَنَّا المشركين بالمؤْمنين، ليقولوا محتقرين لهم:(أهؤلاء من الله عليهم من بيننا): كما قالوا محتقرين لدينهم: "

لو كان خيرا ما سبقونا إليه

" (2).

(1) النحل، من الآية: 61

(2)

الأحقاف، من الآية: 11

ص: 1249

(أَلَيْسَ اللهُ بأعْلَمَ بالشَّاكِرِينَ): فيمنحهم من النعم ما يستحقون. فكيف يحقر هؤلاءِ الحاقدون، غَيْرَهم من أهل الاستحقاق لأنعمه سبحانه؟!

{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} .

المفردات:

(بِجَهَالَةٍ): بِسَفَهٍ وسوءِ رأي.

(وَلِتَسْتَبِينَ): ولِتَتَّضِحَ.

(سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ): طريق أهل الذنوب.

التفسير

54 -

(وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة

) الآية.

هذه الآية الكريمة، ليست خاصة بالمنهي عن طردهم من ضعفاءِ المؤْمنين، كما قيل مرويًّا عن عكرمة رأيًا له. فإن اللهَ مدَحهم فيما سبق - بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي، وهذا لا يتناسب مع الوصف هنا: بأنهم عملوا السوءَ بجهالة.

فالحق أنها دستور عام لجميع المؤْمنين المقصرين، إذا ما تابوا وأصلحوا.

ص: 1250

والمعنى: وإِذا جاءَك - يا محمد - الذين آمنوا - وقد أصابوا بعض الذنوب - فقل تبشيرا لهم: سلام عليكم أي مسالمة من الله لكم. وتلك المسالمة، هي أنه تعالى، قضى على نفسه بالرحمة لعباده: تفضُّلًا. وذلك أنه مَن عمِلَ منكم سوءًا أَي ذنبا بجهالة - أي سفه وسوء رأى - فشأنه تعالى: أنه غَفَّارٌ للذنوب، رحيم بعباده. فلا تقنطوا من رحمة الله.

واعلم أن هذه الآية الكريمة، فتحت باب الرجاءِ أمام أَهل الذنوب.

فعلى كل مذنب أن يراجع نفسه أمام هذا الكرم الإلهي، وأن يرعويَ عن غَيّه ويتوب من ذنبه، ويُقْبلَ على طاعة ربه.

55 -

(وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين):

ومثل ذلك التبيين الواضح، في صفةِ أهل الطاعة وأهل الإجرام - المصِرَّين منهم والأَوَّابين - نُبَينُ سائرَ الآياتِ، لما له من فوائد كثيرة، ولتتضح طريق المجرمين فيتحاشاها الراشدون.

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)} .

المفردات:

(تَدْعُونَ): تعبدون.

(بَيَّنَةٍ): حجة.

(يَقُصُّ الْحَقَّ): يتبع الحكمة.

ص: 1251

التفسير

56 -

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ

} الآية.

بعد ما نَهى الله الرسولَ صلى الله عليه وسلم، عن إِبعاد فقراءِ المسلمين عن مجلسه، حين يجلس إليه المشركون تألفًا لقلوبهم، أتبعه بيان رحمته بالمؤْمنين التائبين من ذنوبهم، أَمرَه - سبحانه - في هذه الآية وما بعدها - أن يقطع أَطماع المصِرِّينَ على الشرك في صرفه عن دعوة التوحيد.

والمعنى: قل أَيها الرسول للمشركين: إني نُهيت من الله تعالى؛ أَن أَعبدَ معكم الأَصنام التي تعبدونها من دون الله.

ثم أَمره الله - في إِيجاز رائع - أَن يبين لهم: أَن عبادتهم إِياها لا تستند إِلى دليل.

بل تجرى حسب هواهم، ومن أَتبع الهوى، ضل عن الهدى. فقال:

{قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} :

وَبَعُدْتُ عن الحق

(وَمَا أنا مِنَ الْمُهْتَدِينَ):

إِلى سبيل الرشاد، لو اتبعت منهجكم في عبادة غير الله.

57 -

{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ

} الآية.

المراد بالبينة: اليقين؛ كما قال ابن عباس. أو الحجة الواضحة، وهي القرآن.

كما قال غيره.

والمعنى على رأْى ابن عباس: قل لهم أَيها الرسول: إني على يقين من ربي. وكذبتم به، حيث جعلتم له شركاءً عبدتموها معه. ومَن جعل لله شركاءَ فقد كذب بوحدانيته تعالى، وإِن اعترف بخالقيته.

والمعنى على رأْى غيره: قل: إني على حجة من ربي وهي القرآن الذي أَيدنى به، وكذبتم بهذا القرآن، حيث زعمتموه: شِعْرا وسِحْرا، وأَساطيرَ الأَولين.

وقد كانوا يستعجلون نزول العذاب الذي توعدهم الله به إِن استمروا على شركهم.

ويقولون مستهزئين: {

مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُنم صَادِقِينَ} (1) فأَمر الله الرسول أَن يقول لهم:

(1) سبإ، من الآية: 29

ص: 1252

{مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} :

أي: ليس من شأْنى ولا في حكمى هذا العذاب الذي تتعجلونه، وتتخذون من تأَخره ذريعة لتكذيب القرآن والصَّدِّ عن الإِسلام. فما الحكم - في شأْنه - تعجيلا وتأْجيلا، وفي جميع الشئون - إِلا لله تعالى على مقتضى الحِكمة في حُكمه وقضائه. وهو خير الفاصلين في قضايا خلقه. وهو يرى الحكمة في إمهالكم فأَمهلكم.

ثم أَمره أَن يقول لهم:

58 -

{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} :

قل لهم: لو كان أَمر عذابكم مفوضا إِلىَّ من الله تعالى، لطلبت من رِّبى أَن يعجل به، غضبا لأَجله بسبب كفركم به، ولَقُضِىَ الأمر بيني وبينكم، بإِنزال هذا العذاب بكم، والتخلص من شرككم وكفركم. والله أَعلم بكم أَيها الظالمون، وبما ينبغي لكم من الإِمهال، استدراجًا لكم لتشديد عذابكم إن بقيتم على ظلمكم وشرككم. ولكونه تعالى أَعلم بما ينبغي لكم، لم يفوض أمر عذابكم إلىَّ حتى أَعَجله لكم. ولمَّا أَتَمَّ الله بيان اختصاص القدورات الغيبية به تعالى - من جهة القدرة - أَتبعه بيان اختصاصها به - كذلك - من جهة العلم، فقال سبحانه في ضمن ما أَمر به رسوله أَن يبلغه لقومه:

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} .

المفردات:

(مَفَاتِحُ): جمع مِفْتَح أَو مِفتاح - بكسر الميم فيهما، وهو أداة الفتح. والمراد بمفاتح الغيب: أَسباب علمه. ويجوز أَن تكون جمع مَفتح - بفتح اليم - وهو

ص: 1253

مكان الفتح، أَي المكان الذي يُفتحُ، والراد منه: المخزن أَو الخزينة.

ويكون المعنى على هذا: وعنده خزائن الغيب.

(كِتَابٍ مُّبِينٍ): كتاب بين واضح في ذاته من: أَبان بمعنى اتضح. أَو موضح لغيره؛ من: أَبانه بمعنى أَوضحه، والمراد بالكتاب المبين: علم الله، أَو اللوح المحفوظ.

التفسير

59 -

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ

} الآية.

المراد من مفاتح الغيب: ما يُتَوَصل به إِلى علم الغيب. ومعنى كونها عنده تعالى: أَنها داخلة تحت علمه.

والمعنى المراد من هذه الجملة: أَنه تعالى، اختص بأَسباب علم الغيب كله والطرق الموصلة إِليه

ليس له في العلم بها شريك، وأَكد اختصاصه بالعلم بها بقوله:

(لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ):

أَي: لا يعلم الأَسباب الموصلة إلى الغيب سواه. ومن كان كذلك فلا يقدر غيره على إبراز الغيب الذي استأْثر سبحانه، بمفاتيحه.

ولا يمنع اختصاصه تعالى بمفاتيح الغيب: أَن يمنح بعض خواص عباده شيئًا من علم الغيب - وهم المرسلون - صلوات الله وسلامه عليهم - قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ

} (1) وقال تعالى: {

وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ

} (2) لأَن العلم الذي اختص به المولى، هو علم الغيب ذاتيا. أَما علم الرسل به فليس كذلك، إِذ هو منحة من الله تعالى لهم، ولولاها لما حصل لهم.

التنجيم وأمثاله:

عُلِمَ من قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} أَنّ علم الغيب - بالذات - لا يكون لأَحد سوى الله تعالى.

وعُلِمَ من آيتى سورتى آل عمران والجن - أَنه سبحانه وتعالى قد يُعْلِمُ بعضَ خواصِّ عباده - وهم الرسل - بعضَ الغيب.

(1) الجن، الآيتان: 26، 27.

(2)

آل عمران، من الآية، 179

ص: 1254

وبذلك يتضح: أَن علم الغيب مقصور على الله ذاتا، وعلى رسله - منحةً وعطاءً - بقدر، فلا يحل لأَحد سواهم، أَن يدعى علمَه بالغيب بل قال العلماءُ: إِنه كافر، لتكذيبه ما جاء في كتاب الله تعالى من اختصاصه - تعالى - بعلم الغيب، إِلا أَن يتفضل ببعضه على من يرتضى من الرسل.

أَما ظنُّ الغيب بأمارات: فإِنه ممكن لعباده، فلا يكفر ولا يفسق من يدعيه، كما يحدث من الراصدين لحركات الرياح والشمس والقمر - حين يخبرون بهبوب الرياح بشدة أَو باعتدالها - وبكسوف الشمس يوم كذا، وبخسوف القمر ليلة كذا، وكما يحدث عن علماءِ الفلك حين يخبرون بزمن نزول المطر، أَو نزول درجة الحرارة وصعودها، أَو نحو ذلك، فيقع الأَمر كما قالوا .. وكما يفعَله الأَطباءُ بحكم العادة عندهم، إِذ يقولون: لمن حلمة ثديها الأيمن سوداء: جنينك ذكر، ولمن حلمة ثديها الأَيسر كذلك: جنينك أُنثى، أو يقولون لها: إِن كان جنبك اليمين أَثقل فالجنين أُنثى وإِلا فهو ذكر. فيقع الأَمر كما قالوا، ونحو ذلك، مما يخضع لقواعد علمية، أَو أَمارات ظنية.

وأَما العَرَّافون الذين يدعون علم الغيب، كقول أَحدهم لمن يستخبره عن مستقبله: إنك ستكسب كذا، أَو تتزوج فلانة أَو نحو ذلك، فهو كافر كما قاله القرطبى.

والمؤمنون منهيون عن إِتيان العرَّافين. فقد جاءَ في صحيح مسلم: "مَنْ أَتَى عَرَّافا فسأَلهُ عَنْ شَىْءٍ، لم تُقْبَلْ لهُ صلاةُ أَربَعِينَ لَيْلَةً".

وعند أَحمد وغيره، من رواية أَبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن أَتَى عرَّافا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ، فَقَد كَفَرَ بما أَنزِلَ عَلىَ مُحَمَّدٍ".

{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} :

بعد أَن بين الله سبحانه، اختصاصه، بِعلْم الغيب كله. عطف عليه بيان علمه لما يشاهد أو يغيب في البر والبحر. وبما يسقطُ من الأَوراق، وعلمه بالرَّطب واليابس، تكملة لمتعلقات علمه، وإِيذانٌ بأَن الكل - بالنسبة إِلى علمه المحيط - سواءٌ في الجلاءٍ.

ص: 1255

وخص البر والبحر بالذكر - دون سائر الكائنات - لأَنها أَقربها إلى البشر جوارا. والمعنى: ويعلم ما في البر والبحر من أَجزائهما، وما ظهر أَو خفى فيهما: من الإِنسان والحيوان والنبات، والسوائل والجوامد، والأَدهنه والأَبخرة، وعناصرها وذراتها، ومكونات هذه الذرات!

وبعد أن يبين علمه بذواتها - أَتبعه بيان علمه بأَحوالها، رامزا إليها بقوله تعالى:{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} فإِن سقوط الأَوراق، ليس إلا حالًا من الأَحوال.

والمراد أَنه يعلم جميع حالات الشجر وصفاته، التي من جملتها: سقوط أَوراقها، كما أَن ذكر حال الورقة - وما عطف عليها خاصة دون سائر أَحوال ما عداها مما في البر والبحر - من الموجودات الفائقة الحصر، باعتبار أَنها أُنموذج لسائر أَحوال الموجودات.

{وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} : هذه الثلاثة معطوفة على (ورَقَةٍ) داخلة معها في حكم السقوط، والدخول في علم الله سبحانه وتعالى.

والمعنى: وما تسقط من ورقةٍ ولا حبةٍ في ظلمات الأَرض، وما يسقط من رطبٍ ولا يابس إلا يعلمها الله تعالى.

وعبَّر عن علمه بالكتاب المبين، تشبيها له به في الثبات والوضوح: تقريبا للأَذهان وإلا، فعلمُ الله أَعظم من الكتاب المبين وضوحا وثباتا وأَزلية.

وقيل: المراد من الكتاب المبين: اللوح المحفوظ. فيكون ذلك كناية عن علمه تعالى به، فإِن من أثبت ذلك في كتابٍ عنده، فهو بما أثبته فيه عليم.

وعلى أيِّ الرَّأيَيْن. فقوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} : كالتكرير لقوله: (إِلَّا يَعْلَمُهَا) جىءَ به للتذكير والتأكيد.

ص: 1256

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} .

المفردات:

{يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} : التوفى لغة؛ قبض الشىء بتمامه، وأكثر ما فيه قبض الروح.

والمراد منه هنا: الإِنامة؛ أَي يُنِيمكم في الليل.

{جَرَحْتُمْ} : كسبتم.

{يَبْعَثُكُمْ} : يوقظكم.

{أَجَلٌ مُسَمًّى} : وقت محدد لكل واحد ينتهى إِليه عمره.

{الْقَاهِرُ} : الغالب.

{تَوَفَّتْهُ} : قَبَضَت رُوحَه.

التفسير

60 -

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ

} الآية.

بيَّن الله - فيما تقدم قريبا - أَن الله أَمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم: أَن يقول لقومه المشركين: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} الآيات: ردًّا على استعجالهم العذاب الموعود

ص: 1257

بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وردًّا على طلبهم له بأسلوب آخر كقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) وقولهم له: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} (2).

وجاءَت هذه الآية، للإِشارة إِلى أَن إِمهال الله - تعالى - لهم ليس لغفلةٍ عن كفرهم، فإِنه محيط بكل أمورهم. ولكن ليُقضَى أَجلٌ مسمى يرجعون بعده إِليه تعالى. فيعذبهم.

والمعنى: قل أَيها الرسول، لقومك الذين يستعجلونك بالعذاب: الله الذي توعَّدكم به، هو الذي ينجيكم بالليل، فيجعلكم - بالنوم - لا تكادون تحسون ولا تميزون، كَأَنما قبض أَرواحَكم فعلا.

وهو يعلم ما كسبتم بالنهار، من أَلوان الكفر والمعاصي ويحصيه عليكم ثم إِنه يوقظكم بالنهار - مع علمه بما تكسبون فيه من الآثام - لينتهى أَجل سمَّاه تعالى - لكل واحد منكم، فلا تدفعه معاصيكم إِلى تعجيل العذاب بكم

ثم إِليه - وحده - رجوعكم بالبعث والحشر. ثم يخبركم بما كنتم تعملون من السيئات، ويجازيكم عليها.

وتخصيص الليل بالإِنامة، والكسب بالنهار؛ لأَنه الغالب من عادات الناس.

وقد أَشار الله بالبعث بعد النوم الذي يتكرر كل يوم، إلى إِمكان البعث بعد الموت الذي أَنكره المشركون، وأَنكروا العذاب بعده. إِذ أَنه - تعالى - إِذا كان يبعث كل نائمٍ بعد أَن كان كالأَموات بلا حِسٍّ ولا تمييز، فإِنه - بلا شك - قادر على بعثهم بعد الموت.

61 -

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} :

أَي: وهو الغالب على عباده، المتصوف فيهم، إِيجادا وإِعداما، وإِحياءً وإِماتة، وتعذيبا وتنعيما. إلى غير ذلك من شئون القهر والسلطان: لا يشركه فيها شريك، ولا يرده عن مراده فيهم أَحد، ويرسل عليكم - أَيها المكلفون - حفظةً من الملائكة طول حياتكم: يُسَجِّلُونَ

(1) الأنفال، من الآية:32.

(2)

الإسراء، من الآية: 92

ص: 1258

أَعمالكم - لكم أَو عليكم - حتى إِذا جاءَ أَحَدَكم زمانُ الموت، قَبضَتْ روحَه رسلُنا من الملائكة الموكَّلين بقبضِ الأَرواح، وهم لا يقصرون بالتواني والتأْخير.

وبذلك تنتهى أَعمال الحفظة الذين كانوا يسجلون أعمالكم من خير وشر.

وتبدأُ أُولى درجات الآخرة، فيشعر المكلف ببعض حظه من النعيم أو العذاب.

وقد اختلف العلماءُ فيما يكتبه الحفظة:

فمنهم من قال: إنهم يكتبون الحسنات والسيئات والباحات، كما يُشْعِرُ به قوله تعالى:

{

مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا

} (1) لكنهم لا يحاسِبُون على المباحات.

ومنهم من قال: إِن المباحات لا تكتب، إِذ لا فائدة من كتابتها، فإِنها لا حساب عليها، وتسجيل الحفظة لأَعمال المكلفين، ليس لتذكير الله بها فإِنه: أَحصى كل شيءٍ عددا، بل لتذكير المكلفين بها - حينما يقرءُونها، فيعرفون بها عَدْلَ الله؛ حينما يقضى عليهم، وإِحسانَه، حينما يحسن إِليهم.

وإِخبارُ الله لهم بكتابة أَعمالهم - صغيرها وكبيرها - دافع لهم إِلى بذل الجهد في الاتجاه بها

نحو الاستقامة: تحاشيًا لفضيحتهم بنشرها في ساحة الحساب، واتقاءً للعقاب عليها.

وما لم يُنَبَّهوا إِلى ذلك، تراخَوْا في العمل، وتساهلوا في المعاصي؛ اعتمادًا على كرم الله تعالى، مع أَنه لا ينبغى الاغترار بكرمه، قال تعالى:{يَأيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (2) فكما أَن الله تعالى عفو كريم، فهو عزيز ذو انتقام.

62 -

{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَق أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} :

ثم أعيد جميع المتوفين - مكلفين وغيرهم - إلى الله مولاهم ومالكهم الحق. أَما غيره من المعبودات، فليس له ولاية عليهم. ولهذا لا حُكْمَ له يوم القيامة فيهم. أَلا له الحكم يومئذ حقيقة وصورة: لا لغيره بأَى وجه من الوجوه. وهو أسرع الحاسبين، إذ لا يحتاج إِلى فكر وروية، ولا يشغله شأْن عن شأْن، فهو يحاسب الجميع في أَسرع زمان.

(1) الكهف، من الآية:49.

(2)

الانفطار، الآية: 6

ص: 1259

وكيفية الحساب، لم يَرِدْ في شأْنها خبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا تحيط بها عقول البشر. فلذا، يجب الإِيمان به - أَي بحصول الحساب - وتفويض الأَمر في كيفيته إِلى عَلَّام الغيوب.

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)} .

المفردات:

{ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : شدائدهما.

{تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً): إِعلانا وإِسرارا.

{كَرْبٍ} : الكرب؛ هو الغم والحزن الذي يأْخذ بالنفس - كالكُربة بضم الكاف.

التفسير

63 -

{قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً

} الآية.

المقصود من ظلمات البر والبحر: شدائدهما. على سبيل الجاز.

وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما.

والعرب تقول لليوم ذى الشدائد: يوم مظلم. أَو ذو كواكب. وأَنشد الزجاج:

بَنِي أَسد هل تعلمون بلاءنا

إِذا كان (1) يومٌ ذو كواكب أَشهبُ

وأَصل التضرع: الخضوع والتذلل. وقد يستعمل بمعنى: الإعلان، كما هنا لمقابلته بالخفية. وبذلك قال ابن عباس والحسن.

(1) كان هنا تامة: بمعنى جاء.

ص: 1260

والمعنى: قل أَيها الرسول لهؤلاءِ المشركين، تنبيها لهم على انحطاط شركائهم عن رتبة الأُلوهية، وتقريرا لهم بذلك، وتوبيخا على عبادتها: مَنْ يُنَجِّيكم من شدائد البر والبحر: تدعونه عند نزولها بكم مُعْلنين دعاءَكم ومُسِرِّين به في خضوع وانكسار قائلين: لئن أَنجانا الله من هذه الشدائد لنكونن من المستديمين لشكره.

- وقد أمَرَ اللهُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، أن يتولى الإجابة عنهم؛ إِيذانًا بظهورها وتعيُّنِهَا وشهادتهم بها. وذلك بقوله له:

64 -

{قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} :

قل لهم يا محمد: الله تعالى، ينجِّيكم من شدائد البر والبحر، التي تدعونه - دائمًا - أَن ينجِّيكُم منها كلما نزلت بكم. وينجَّيكم من كل غمٍّ ينزل بكم. لا يشاركه في إِنجائكم من ذلك شريك كما تعرفون وتشهدون، ثم أنتم - بعد إنعامه عليكم بالنجاة من المكاره إِجابة لدعائكم - تعودون إِلى الشرك، ولا تحققون وعدكم بدوام الشكر. فهل يليق بعاقل أن يشرك بالله آلهةً تَخَلَّتْ عنه في وقت الشدة، ويدعَ شكر الله الذي أَسدى له نعمة النجاة، فلا يوحِّده ولا يعبده؟!

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)} .

المفردات:

{أَوْ يَلبِسَكُمْ شِيَعًا} : أَو يخلطكم فرقا مختلفة الأَهواءِ، كل فرقة تشايع هوى.

{بَأْسَ بَعْضٍ} : البَأَس، الشدة.

ص: 1261

{كَيفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} : كيف نبين ونُلَوِّن الحجج.

{بِوَكِيلٍ): بحفيظ.

التفسير

65 -

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ

} الآية.

هذا كلام مستأنف، لبيان قدرة الله على إِيقاعهم في المهالك - بعد بيان أَنه المنجي لهم منها. وفيه وعيد ضمني بعذابهم إن بَقُوا على شركهم على طريقة قوله تعالى:{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا. أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (1).

والمراد بالعذاب الذي يبعثه الله من فوقهم: ما كان من جهة العلو وإِن لم يكن من فوقهم فعلا. كالصيحة والريح والحجارة.

والمراد بالعذاب الذي يأَتى من تحت أَرجلهم: ما كان من جهة السّفلى، كالرجفة والخَسْف، والإِغراق.

واللبس: الخلط. ومنه قول الحماسى:

وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبة

حتى إِذا التبست نَفَضتُ لها يدى

والشيَع: جمع شيعة. وهم؛ مَن يجتمعون على أَمر يتشيعون له ويؤيدونه. حقًّا كان أَو باطلا.

والمعنى: قل أَيها الرسول لمشركى قومك: الله هو القادر على أَن يبعث عليكم عذابا من أعلاكم، كالذى حدث لقوم لوط، وأَصحاب الفيل. أو عذابا من أسفل منكم، كالذى حدث لفرعون وقارون. أو أَن يخلطكم فرقًا مختلفة الأهواء: تشايع كل

(1) الإسراء، الآيتان: 68، 69

ص: 1262

فرقة رأْيا وتناصره. فينشَب القتال بينكم ويذيق بعضَكم شدةَ بعض. فكيف تشركون بمن هذه قدرته؟.

انظر كيف نصرف الآيات، وننوع البراهين والحجج، على استحقاقنا التفرد بالأُلوهية، ليفهموا الحق فيرجعوا عما هم فيه من الشرك.

والمراد من البَعْضَيْن في قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} الكفار يذيق بعضُهم بعضًا، العذابَ، بسبب اختلافهم على أَنفسهم.

وعن مجاهد: أَن الآية عامة في المسلمين والكفار.

وقد حمى الله الأُمة المحمدية من العذاب من فوقهم أَو من تحت أَرجلهم - بطريقة الاستئصال - كما كان في الأُمم السابقة. وذلك بدعائه صلى الله عليه وسلم. ولكنه - تعالى - ابتلاها باختلافها شيعا. وإِذاقة بعضهم بأْس بعض.

روى البخاري، عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال:"لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} قال صلى الله عليه وسلم: {أَعُوذُ بِوَجْهِكَ} {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: {أَعُوذُ بِوَجهِكَ} {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} قال: "هذه أَهْوَنُ أَو أَيْسَرُ".

وروى مسلم بسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سَأَلتُ ربِّى ثلاثًا: سَأَلتُه ألَّا يُهلِكَ أمَّتِى بِالْغَرَق فأَعْطَانِيهَا. وسَألتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا. وَسَألْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهم بَينَهُم

فَمَنَعَنِيها". والمراد بالسَّنَةِ: القحط والجدب.

66 -

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} :

وكذَّب قومك بالقرآن الذي اشتمل على تصريف الآيات المقتضية للتصديق. وهو الحق المطابق للواقع. فكيف استهانوا بتكذيبه!!

قل لهم أيها الرسول: لستُ عليكم بحفيظ. فلم يوكَلْ أَمرُكم إلىّ، لأَحفظكم من التكذيب، وما أنا إِلّا منذر، والله هو الحفيظ، فمن آمن فلنفسه، ومن كفر فعليها.

ص: 1263

67 -

{لِكُلِّ نَبَإِ مُّسْتَقَرٍّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} :

لكل خبر من أخبار القرآن زمانُ استقرار. يستقر ويقع فيه مدلُولُه. وسوف تعلمون حال خبركم في الدنيا والآخرة، ومبلغه من الصدق.

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)} .

المفردات:

{يَخُوضُونَ} : يندفعون.

{فَأعْرضْ عَنْهُمْ} : فاتركهم.

{وَإِمَّا يُنسِيَنَّك الشَّيْطَانُ} : إمَّا، أَصله:"إن" الشرطية المدغمة في "ما""وما" صلة للتأكيد أَي وإن أنساك الشيطان.

{بَعْدَ الذِّكْرَى} : بعد التذكر.

{وَلَكِن ذِكْرَى} : ولكن تذكير ووعظ.

التفسير

68 -

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتىَّ يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ

} الآية.

لا يزال الكلام موصولا في أحوال المشركين.

ص: 1264

وسبب نزولها: أَن قريشا، كانوا يستهزئون بالقرآن. ويقولون فيه: إِنه سحر وشعر، وأَساطير الأولين، وما حَلا لهم من الأكاذيب، فنزلت الآية، تأْمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أَن يُعرِض عنهم إعراض منكر عليهم، إذا سمع ذلك منهم، ولا يجلس معهم، ولا يجادلهم في ذلك، حتى لا يزدادوا لجاجة في باطلهم، وربما دعاهم قيامه عنهم، إِلى تَرْك الاستهزاءِ لعدم جدواه.

والمعنى: وإِذا رأيتَ - يا محمَّد الذين يندفعون بالباطل في آياتنا، فاتركهم وقْت اشتغالهم بباطلهم، حتى يدخلوا في حديثٍ غيره، ذلك حينئذ مجالستهم، وإِن أَنساك الشيطان تَرْكَ مجالستِهم، فلا تقعد - بعد تذكر النهي عنها - مع هؤُلاء القوم الظالمين، ولا مؤاخذة عليك بهذا النسيان

والخطاب - وإن كان خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم فحكمه عام لجميع المسلمين.

رأى العلماء في نسيان الرسول

يرى بعضُ العلماء: أن ما جاءَ في الآية، من نسيان الرسولِ الأَمرَ بترك مجالستهم - عندما يخوضون في آيات القرآن - إِنما هو على سبيل الفرض، إذ لم يقعْ منه نسيان لذلك كما أَنه ليس للشيطان عليه سبيل. ولهذا استعملت:"إن" الشرطية فهي لمجرد الفرض لما ليس محقق الوقوع. وذلك على حد قوله تعالى: { .. لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ .. } (1).

ويرى بعض آخر من العلماء: أن الخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد غيره من المؤْمنين.

وقيل: لغيره ابتداءً. أي وإذا رأيتَ أيها السامع.

ولكن جمهور العلماء على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم في الأَفعال. فقد جاءَ في الصحيح: "إِنمَّاَ أنَا بَشَرٌ: أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإذَا نَسِيتُ فَذَكَّرُونِى".

(1) الزمر، من الآية: 65

ص: 1265

جاءَ في الصحيح أَيضا: أن صحابيا اسمه ذو اليدين. قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أَن سلَّم من ركعتين في صلاة رباعية: "أَقَصُرَتِ الصَّلاة أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَم يَكُنْ. فقال ذو اليدين: بل بَعْضُ ذلك قَدْ كان. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَحَقٌّ ما يَقُولُ ذُو اليَدَيْن؟ فَقَالُوا: نعَم. فَأَتمَّها أربعًا".

ومع إجازتهم النسيان عليه صلى الله عليه وسلم في الأَفعال، فقد أَجمعوا على استحالته عليه في الأقوال التي عليه تبليغها.

وفي الموضوع تفصيلات مفيدة، يرجع إليها في المبسوطات.

69 -

{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} :

ذكر بعض الفسرين - في سبب نزول هذه الآية - أَن المسلمين قالوا: لئن كان علينا أَن نخرج من الحرم كلما استهزأْوا بالقرآن، لم نستطع أَن نستقر في المسجد الحرام، ونطوف، فنزلت، والأخذ بهذا السبب، يقتضي نسخَ الأمر بالإعراض عن الخائضين، وتَرْكِ مجالستهم حين الخوض في الآيات، ويرخص في مجالستهم لحاجة المسلمين إلى العبادة في المسجد الحرام، الذي يجلس فيه الخائضون، ويوجب عليهم أَن يذكروهم حين يسمعونهم يخوضون.

ورجح الإِمام القشيرى، عدم النسخ هذه الآية. وذهب إِلى أن معناها كما يلي:

وما على الذين يتقون من حساب الخائضين شيء إِن أَعرضوا عنهم، ولكن عليهم - مع ترك مجالستهم - أن يُذَكِّروهم ويعظوهم.

وهذا المعنى هو الذي نرتضيه تفسيرا للآية الكريمة.

فإن سبب النزول المذكور، لم يرد بسند صحيح.

وعلى هذا الرأى، يكون الإعراض عن مجالسة الخائضين واجبا. ويُضَمُّ إليه وجوب تذكير أولئك الخائضين قبل الانصراف عن مجلسهم.

ص: 1266

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)} .

المفردات:

{ذَرِ} : اتْرُك.

{غَرَّتْهُمُ} : خَدعَتْهم.

{تُبْسَلَ نَفْسٌ} : الإِبسال، المنع، ومنه أَسد باسل، لأَن فريسته لا تفلت منه.

ومعنى {تُبْسَلَ نَفْسٌ} : تُمْنَع من النجاة.

{وَإن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} : تُفْدِ نَفسَها كلَّ فداء.

{حَمِيمٍ} : ماء شديد الحرارة. وقد يطلق على الماء البارد. والمراد منه في الآية المعنى الأول. لقوله تعالى: {

وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (1).

التفسير

70 -

{وَذَرِ الَّذِين اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهوًا .. } الآية.

كان المشركون حريصينَ على إِحباط دعوة الإِسلام. وقد جربوا كلَّ الوسائل ففشَلُوا،

(1) سورة محمَّد، من الآية: 15

ص: 1267

ومن وسائلهم ما مَرَّ قريبا. من أنهم عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، إِقصاءَ الفقراء عن مجلسه إِذا جلسوا إِليه واستمعوا منه ما يدعوهم إِليه. وكان هدفهم من ذلك: إيقاع الفرقة بينه وبينهم، وإيغار صدور المؤمنين من نبيهم. إِلى جانب احتقارهم. فنهاه الله عن إبعادهم وكرَّمهم، فاغتاظ المشركون، وجعلوا يخوضون في القرآن تكذيبًا واستهزاءً، يريدون بذلك صَرْفَ المسلمين عنه، فأَمرهم الله بالابتعاد عن مَجَالسِهم حتى يخوضوا في حديث غيره.

ثم أَمر النبىَّ صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن سفههم، وألَاّ يبالِى بما يقولونه في شأْنه وشأْن ما أُنزل عليه، وأن يمضِىَ في إِبلاغهم دعوة ربه، ووعظِهم وتذكيرهِم.

وفي ذلك يقول الله:

{وَذَرِ الذينَ اتَّخَذُرا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} :

أَي: واترك - يا محمَّد - المشركين الذين جعلوا دينَهم شيئًا يشبه اللعب واللهو، حيث عبدوا الأَوثان وجعلوها آلهة، وأَباحوا أَكْلَ الميتة، وحرموا البحيرة والسوائب، وغيرَ ذلك من الأمور التي لا أَثر للجد فيها.

وقيل: المراد بهذه الجملة؛ أَنهم اتخذوا الإِسلام - دينهم الذي كلفوا به - شيئا يشبه اللعب واللهو، حيث سخروا بكتابه العظيم.

{وَغَرتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} :

وخدعتهم الدنيا بأباطيلها، فركنوا إِليها، وأنكروا البعث لقصور فهمهم، وضَعْف إِدراكهم.

والمقصود من أَمره صلى الله عليه وسلم بتركهم: أَلا يبالى بأَباطيلهم. بل يمضى في تذكيرهم، كما تقدم.

والدليل على ذلك، قوله تعالى، عقب هذه الجملة:

{وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} :

وحذِّر بالقرآن، أُولئك المشركين، من أَن تهلِكَ نفوسُهم بما كَسَبته من الكفر والمعاصي إِذ ليس لها - من غير الله - نصيرٌ أو شفيع، يدرأُ عنها العذاب.

ص: 1268

{وَإن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ يُؤْخَذْ مِنْهَا} :

العَدل هنا: بمعنى الفداء، والمعنى: وإِنْ تُفْدِ كلُّ نفس كافرةٌ ذاتها كل فداءٍ من عذاب يوم القيامة، لا يقبل منها.

وقيل: العدْل هنا مقابل الظلم، أَي وإِن تعدلْ كلُّ نفس كافرةٌ في هذا اليوم، بأُن تتوب من الكُفر وتؤْمن بالله، لا يقبل منها؛ لأَن التوبة - في الآخرة - غير مقبولة فهي دار جزاءِ لا دار توبة وعمل.

{أولَئِكَ الَّذِينَ أبْسِلوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكفُرُونَ} :

أَي: أولئك الذينَ حُبِسوا للعذاب، وَمُنِعُوا من النجاة بسبب كفرهم ومعاصيهم، لهم في جهنم شرابٌ من ماءٍ شديد الحرارة، تتقطَّع منه أمعاؤهم، ولهم عذاب شديد الإيلام، بسبب استمرارهم وإِصرارهم على كفرهم.

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} .

المفردات:

{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} : ونرجع إلى الوراءِ بالعودة إلى الشرك. وسيأْتي لذلك مزيد بيان في الشرح.

{اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} : ذهبت بهواه وعقله.

ص: 1269

{يَدْعُونَه إِلَى الْهُدَى} : المراد بالهدى؛ الطريق الهادي إلى القصد. جُعِلَ نفس الهدى، للمبالغة.

التفسير

71 -

{قلْ أنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا. . .} الآية.

سبب نزول هذه الآية: على كل ما رواه ابن جرير وغيره أَن المشركين قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمَّد.

وقيل: نزلت في أَبي بكر رضي الله عنه، حين دعاه ابنه عبد الرحمن - قبل أَن يعتنق الإِسلام - إِلى أَن يعود إِلى عبادة الأَصنام.

وفي توجيه الأمر إِلى الرسول، تعظيم لشأْن المؤمنين، أو لشأْن أَبي بكر، حيث جعلت دعوتهم إلى الشرك، كأَنها موجهة إِلى الرسول.

والذي نراه: أنه ثبت - بالقرآن والسنة - أَن الشركين، طلبوا من الرسول كثيرا: أَن يترك الدعوة لهذا الدين الحق، ويرجع إلى عبادة الأصنام، وأَغرَوْهُ بكافة المغريات فأبى.

وقد أَمره الله في هذه الآية: أَن يقنطهم من استجابته إلى ما طلبوه منه، كما أَمره بذلك - في قوله تعالي:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1).

وكما دعَوه إِلى الشرك، دَعَوُا المؤمنين إليه أَيضًا. قال تعالي: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيِلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ

} (2).

والعنى: قل أَيها الرسول، للمشركين الذين يدعونك والمؤْمنين إِلى الشرك: أَنعبد من غير الله المتفرد بصفات الأُلوهية، ما لا يقدر على نفعنا إن عبدناه، ولا على ضرنا

(1) سورة الكافرون.

(2)

العنكبوت، من الآية: 12

ص: 1270

إِن تركناه

ومن شأن الإِله الحق أَن ينفع ويضر فكيف يليق بنا أَن نعبد آلهة خالية من النفع والضر؟

{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللهُ} :

الأَعقاب: جمع عقب وهو مؤخر الرِّجْل. والرجوع على الأَعقاب؛ هو الرجوع إلى الوراءِ؛ إِدبارا بغير رؤية موضع القدم. جُعِلَ هذا في الآية، مثَلًا للعودة إلى الشرك بعد الإِيمان، ففي كليهما ذهَابٌ بلا علم، وتعرضٌ للخطر.

قال العلامة أبو السعود: "والتعبير عن الرجوع إِلى الشرك بالرد على الأَعقاب، لزيادة تقبيحه. بتصويره بصورة ما هو عَلَم في القبح" إِ هـ.

ومعنى هذه الجملة مع ما قبلها: كيف يليق بنا أَن نعبد غير الله: ما لا ينفع ولا يضر وأَن نرتد - بإِغوائكم - إلى الشِّرْك بعد إِذ هدانا الله إِلى توحيده وطاعته. ونكونَ بذلك الارتداد:

{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} :

أَي: أَن مثلنا في الإعراض عن الهُدَى والتخبط في الضلال كمثل الذي ذهبت الشياطين بهواه وعقله: وأَضلته عن سواءِ السبيل الموصل إِلى المقصد السديد: فأَمسى حيرانَ: لا يدرى كيف ينجو من المهالك. ويصلُ إِلى غايته؟! له رفاقٌ لم يستجيبوا إلى استهواء الشياطين، بل ثبتوا على الطريق المستقيم الهادي إلى الخير، وجعلوا يدعونه إليه، يقولون له: ائتنا لتسلم من متاهات الأَرض التي ضللت فيها؟!.

{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} :

قل أَيها الرسول. لدعاة الضلال: إِن هدى الله - وهو الإِسلام - هو الطريق الهادي إلى السلامة في الدنيا والآخرة. وما عداه فهو الضلال المبين، وأُمرنا باتِّباع هداه، لنخضعَ بذلك، ونذعِنَ لرب العالمين.

ص: 1271

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)} .

التفسير

72 -

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} :

وأمرنا بأن نقيم الصلاة ونؤديَها في أَوقاتها، مستوفيةً لأركانها وشروطها، وأن نتقِىَ الله ونخشاه: في أَمرنا كله. فلا نُقَصِّرُ في طاعة، ولا نُلِمُّ بمعصية، وهو الذي إِليه نُجمَع للحساب والجزاء. لا إلى غيره. فعلينا أن نمتثل أمْرَه، ونجتنب نهيه.

73 -

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} :

أي: وهو الذي خلق السموات والأرض - وما فيهما - خلقا مشتملا على الحكمة الرفيعة. ومنها أن يُعرَف بآياته فيهما فيُعْبَدَ ويُقْصدَ. ولم يخلقهما عبثا وباطلا، وقضاؤه المتصف بالحق والصواب - دائما - نافذ. حين يقول لشىء من الأَشياء عظم أَوْ هَانَ كُنْ وانْتَقِلْ إلى عالَمِ الوجود؛ فيكون ويوجد بأَمره فورا: وفْقَ تدبيره وإِرادته، وله - وحده - الملك يوم يُنْفَخُ في الصور، لبعث الخلائق وحشرها وحسابها وجزائها، حيث يقوم الناس لرب العالمين. هو عالم كل غائب وحاضر. وهو الحكيم الذي يصيب الحق فيما يفعله، الخبير بخفايا الأمور وظواهرها.

واعلم أن الملك لله دائما في الدنيا والآخرة. ولكن الله أَعطى بعض عباده الملك ظاهرا، وصورة في الدنيا، ويوم القيامة لا يجدون لملكهم ظلا ولا أَثرا. فلهذا قال سبحانه:

ص: 1272

{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ} :

أي: له الملك يوم القيامة: ظاهرا وباطنا، صورة وحقيقة. فلا أثر لغيره فييه بأَى وجه من الوجوه.

والصُّورُ: هوالقرن الذي يُنْفَخ فيه، وهو البوق، والله أَعلم بحقيقته. والنافخ فيه: إِسرافيل عليه السلام كما جاء في السنة.

وقيل: إِن الصُّورَ جمع صورة. فإنها تجمع عَلى صُور بوزن بوق، كما تجمع على صُوَر بوزن عُمَر، وعِنَب. ويدل على ذلك قراءة قتادة {في الصُّوَر} بفتح الواو.

والمراد منها: الإِيذان

والنفخ فيها: إرسال الأرواح إليها، فتقوم لرب العالمين والله أَعلم.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)} .

التفسير

74 -

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً

} الآية.

أَي: واذكر يا محمد، حين قال إبراهيم لأبيه آزر - منكرًا عبادةَ الأَصنام - أتتخذ أَنت وقومك، الأَصنام التي لا تضر ولا تنفع، آلهةً: تعبدونها من دون الله؟.

وآزر: أَب وإبراهيم عليه السلام، كما هو ظاهر النص القرآنى. وكان آزر وقومه يعبدون الأصنامَ، وَالشمسَ، والقمر، والكواكب.

{إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

أَي: إن أَراك - وَقومك الذين يتبعونك في عبادتها - في ضلال عن الحق؛ ظاهر بين .. وفي هذا تبكيت وتقريع لهم على هذا المسلك الذي يتنافى مع ما يقتضيه العقل، السليم.، والفطرة الصحيحة.

ص: 1273

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} .

المفردات:

{جَنَّ عَلَيْهِ الَّليْلُ} : سَترَه بظلامه.

{أفَلَ} : غَرَبَ وغاب.

{بَازِغًا} : مبتدئا في الطلوع والظهور.

التفسير

75 -

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

} الآية.

أي: وكما عرَّفنا إبراهيم ضلال قومه واضحا، وأريناه الحق في مخالفتهم، نُعَرِّفهُ ونظهر له ملك السموات والأرض، ليستدل به على وحدانيتنا.

{وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} :

أي: وليكون من جملة المصدقين جازما. إذ اليقين أَعلى مراتب الإيمان.

ص: 1274

76 -

{فلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أفَلَ قَالَ لا أُحِبٌ الْآفِلِينَ} :

بعد أَن بين القرآن - فيما سبق - يقين إبراهيم بوحدانيته تعالى بما عرفه من مظاهر القدرة والتدبير في ملكوت الله، شرع هنا يفضل كيفية استدلال إبراهيم عليه السلام، ببعض تلك الظواهر لقومه فقال:

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} :

أَي: فلما ستره الليل بظلامه، أَبصر كوكبا ظاهرا في السماءِ.

{قَالَ هَذَا رَبِّى} :

أَي: قال - مستعظما شأْن هذا الكوكب - هذا ربي

مجاراة لقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، وتأليفا لقلوبهم، حتى بلغوا بقلوبهم إلى التأَمل في موضع الحجة في قوله:

{فَلَمَّا أفَلَ قَالَ لَاَ أُحِبُّ الْآفِلينَ} :

أي: فلما غاب هذا الكوكب وأفَلَ قال: لا أحب الآفلين. أَي: لا أحب اتخاذَ الْآفلين أَربابًا، لأَن الرب الحقيقى، الجدير بالربوبية، يستحيل عليه التغير والانتقال من حال إلى حال، لأَن ذلك من شأْن الحوادث

فلم ينتفعوا بهذا الاستدلال.

فانتقل إلى الاستدلال التالى في قوله:

77 -

{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنىِ رَبِّى لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} :

أي: وحين أَبصر إِبراهيم القمر - مبتدئا في الطلوع والظهور - قال مستعظما شأْنه: {هَذَا رَبِّى} مجاراة لقومه، على نحو ما سبق في الآية قبلها. فلما أَفل وغاب - قال إبراهم

ص: 1275

عليه السلام: إرشادًا لقومه إلى أن يطلبوا الهداية من الله تعالى لئن لم يُرشدْنى ربي إلى الحق ويُثبِّتْنى عليه - لأَكونن من جملة القوم الذين بعُدوا عن الصراط المستقيم.

ولكن هذا الاستدلال أيضا، لم يثمر في عقولهم المستغلقة، فانتقل إلى استدلال آخر:

78 -

{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} :

أَي فحين أبصر ابرَاهيم عليه السلام الشمس، مبتدئة في الظهور والطلوع، قال مشيرا إلى الشمس: هذا الذي أبصره هو ربي - وهو أَكبر من الكوكب والقمر - قال ذلك ليشد انتباههم إِلى التأمل والنظر، في التفسيرات الكونية، حتى يصلوا منها إلى معرفة الإله الصانع القدير، المدبر الحكيم.

{فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} :

أي: وحين غابت الشمس وحُجبَت عن أَعينهم، قامت عليهم الحجة، لكنهم لم يؤمنوا بالإِله الخالق المدبر لشئون الكون - فأَعلن إبراهيم عليه السلام حينئذ، لقومه براءته من جميع معبوداتهم الحادثة المتغيرة، التي كانوا يشركونها مع الله في العبادة.

ولما أَبطل - بالأدلة السابقة - ما كانوا يعبدون من دون الله، وأَعلن براءته منها، انتقل عليه السلام، إلى إعلان الإيمان الذي استقر في قلبه حقا ويقينا. فقال:

79 -

{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

أَي: إني جعلت قصدى واتِّجاهى - بعد ظهور الحق - لعبادة الذي انشأَ السموات والأرض وما فيهمَا.

{حَنِيفًا} :

مائلا عن الاعتقادات الباطلة، إلى عقيدة التوحيد المؤيدة بالدلائل.

{وَمَا أنَا مِنَ الْمُشْركِينَ} :

أى: ولست من من الذين أَشركوا مع الله بعض مخلوقاته في عبادته.

وبذلك ثبت أن إبراهيم ليس مع قومه في عقيدتهم.

ص: 1276

بعد أَن أَلزمهم إِبراهيم عليه السلام الحجة على توحيد الله تعالى، وأَفحمهم بظهور الأَدلة لم يجدوا وسيلة إِلَّا المجادلة بالباطل. فقال تعالى حاكيًا عنهم:

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} :

أَي: جادلة قومه بالباطل في دينه، وهددوه بالأَصنام؛ أَن تصيبه بسوءٍ، إن هو ترك عبادتها.

{قَالَ أَتُحَاجُّونَّى فِى اللهِ وَقَدْ هَدَانِ} :

أَي: قال منكرا عليهم مجادلتهم - بعد وضوح الحق - أتجادلونني في وحدانية الله تعالى، وقد أَرشدنى سبحانه إلى توحيده، فأَصبحتْ حُجَّتُكُم باطلةً لا تُجدي شيئًا؟!

{وَلَاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} :

أَي: ولا أَخشى أَن يَنَالَنى سوءٌ من جهة آلهتكم الباطلة، التي أَشركتم بها مع الله.

{إلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّى شَيْئًا} :

أَي: لكن إِن شاءَ ربي وقوع شيء من المكروه لي، فإِنه يكون من فعله وحده - ولا دخل لما تشركون به في ذلك.

{وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا} :

أي: أَحاط ربَّى علما بكل شيءٍ. فلا يقع في ملكه إِلا ما شاءَه هو. وليست لآلهتكم مشيئة حتى أَخافَها.

{أفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} :

أَي: أَتُعرِضون عن التأَمل في أَن آلهتكم جماداتٌ، غيرُ قادرةٍ على شيءٍ ما، فلا تتذكرون أَنها عاجزة عن إلحاق ضرر بي؟!

ص: 1278

89 -

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا

} الآية.

أَي: وكيف أَخاف وقوع مكروه لي من جهة آلهتكم مع عجزها - وأنتم لا تخافون إشراككم بالله - أَصنامًا لم يُنزل الله عليكم بصدق ألوهيتها حجة وبرهانا؟!

وبهذا تبين موقفى وموقفكم.

{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} :

أَي: فأَينا في موقف الأَمن من وقوع المكروه الذي تخوفوننا به؟!

وفي هذا إلجاءٌ لهم إِلى الاعتراف باستحقاقه عليه الصلاة والسلام الأَمن والطمأْنينة دونهم.

{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} :

أَي: إِن كنتم تعلمون الحق من الباطل بالتأَمل والتعقل؟!

82 -

{الذينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ. . .} الآية.

هذا جواب السؤال السابق في الآية قبلها. وهو تأْييد لسيدنا إِبراهيم عليه السلام، وتحقيقٌ لمدعاه. وبيانٌ واضح لمن يستحق الأَمن. وهم المؤمنون الذين أَخلصوا إِيمانهم من الشرك.

{أُوَلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} :

أَي: وحدهم.

{وَهُم مُّهْتَدُونَ} :

أَي: إِلى الطريق المستقيم دون من سواهم.

ص: 1279

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} .

المفردات:

{حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} : أي أَدلَّتُنَا التي أرشدنا إِبراهيم إِليها.

{حَكِيمٌ عَلِيمٌ} : بالغ الحكمة واسع العلم.

{وَهَبْنَا} : أَنعمنا.

ص: 1280

{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} : واختبرناهم.

{لَحَبِطَ} : لَبَطُلَ.

{وَالْحُكْمَ} : والقدرة على الفصل في الأُمور، على أساس من الحق والصواب.

{اقْتَدِهْ} : أي؛ تَأَسَّ.

التفسير

83 -

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ. . .) الآية.

هذه إشارة إلى تلك الدلائل التي أَرشد الله إبراهيم، إلى الاحتجاج بها على وحدانية الله وإبطال شرك قومه، الذي كانوا عاكفين عليه وهي تبدأْ من قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .} .

وفي هذا، إِشادة بمكانة إبراهيم عليه السلام، وبالدلائل التي أرشده الله إِليها.

وَيَتَأيَّدُ هذا بقوله تعالى:

{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ من نشَاءُ} :

أَي: نُعْلِي منازلَ من نشاءُ رفع درجاته؛ بإِعطائه الحجة البالغة، والبرهان الواضح حسبما تقتضيه حكمتنا. كما هو شأْننا، فيما أَرشَدنَا إليه إبراهيم عليه السلام.

{إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} :

أي: بالغ الحكمة في كل ما يقتضيه.

{عَلِيمٌ} :

أَي: واسع العلم بحال خلقه. فيعلم حال من شاءَ رفعه.

ص: 1281

84 -

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا. . .} الآية.

بعد أَن قام إِبراهيم بتبليغ من الله إِلى قومه بالحجة والبرهان، وتمت له الحجة عليهم شرع القرآن يعدِّد بعض نعم الله عليه وإحسانِه إِليه، حيث رفع ذريته، وأَبقى فيهم النُّبُوة إِلى يوم القيامة. فقال تعالى:

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} :

أي: ومنَنَّا على إِبراهيم بابنه: {إِسْحَاقَ} {وَيَعْقُوبَ} بعد إِسحاق.

{كُلاًّ هَدَيْنَا} :

أي: هدينا وأَرشدنا كلاًّ منهما، للسير على طريقة إِبراهيم.

{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} :

أَي: وهدينا نوحا - النبي السابق على إِبراهيم - إِلى التوحيد والدعوة إِليه.

وفي ذكر نوح عليه السلام. في سياق تعداد النعم على إِبراهيم - إِشارة إِلى أَن شرف الآباءِ، نعمةٌ على الأَبناءِ. كما أَن هداية الأَبناءِ نعمة على الآباءِ.

{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} :

أَي: كما جزيناهم وأَحْسَنَّا إِليهم بأَنواع الكرامات، نَجْزى كلَّ محسِن.

85 -

{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} :

أَي: وكذلك هدينا: زكريا، ويحيى، وعيسى، وإِلياسَ. كلُّ واحد مِن هؤلاءِ الأَنبياءِ، بعد تقرير هدايته من جملة الصالحين المستقيمين.

86 -

{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} :

أَي: وهدينا: إِسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، عليهم السلام. وفضَّلنا كلَّ واحد من هؤلاءِ بالنبوة على سائر العالمين في عصره.

وهؤلاءِ الذين ذُكِروا في الآيات من أَول قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا. . .} هم من الأَنبياءِ الذين يجب الإِيمان بهم تفصيلا.

ص: 1282

وهناك سبعة آخرون، يجب إلإِيمان بهم تفصيلا. وقد ذكروا في مواضع أخرى من القرآن الكريم، وقد جمعوا في قول بعضهم نظما:

إِدريس، هود، شعيب، صالح وكذا

ذو الكفل، آدم، بالمختار، قد خُتِمُوا

87 -

{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

أَي: وهدينا - من آبائهم وذرياتهم وإِخوانهم - جماعات كثيرة،

{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} :

أَي: واخترناهم ودامت هدايتنا لهم إلى الدين الحق، دين التوحيد والاستقامة.

88 -

{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. . .} الآية.

أَي ذلك الدين الذي أَوحاه الله إِليهم، ووفقهم للإِيمان به، ودعوة الناس إليه، إنما هو هدى الله: يُرشِد إِليه من يشاءُ: هدايته من عباده.

{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

أَي: ولو حصل منهما الإِشراك فرضا - وحاشاهم - لبطُلَ وذهب عنهم الذي كانوا يعلمونه من الطاعات.

وفي هذا تنويه بشأْن الدين الذي جاءَ به هؤلاءِ الأَنبياءُ جميعًا. وضرورة التمسك به.

89 -

{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ. . .} الآية.

أولئك: أَي هؤلاءِ الأَنبياءُ المذكورون - باعتبار اتصافهم بالهداية وغيرها من الصفات السابقة - هم:

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} :

أي: أَنزلنا الكتاب على بعضهم. وأمرنا البعض بدعوة الناس إلى التمسك والعمل بما نزل على غيره من الأَنبياءِ.

ص: 1283

{وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} :

أَي: أَقدرناهم على الفصل بين الناس على ما يقتضيه الحق. وأَعطيناهم النبوة والرسالة.

{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} :

الإِشارة في: {هَؤُلَاءِ} لأَهل مكة وسائر مَنْ كفر بعد تبليغه.

أَي: فإِن يكفر - بهذه الأُمور المذكورة - هؤلاءِ الكفار وغيرهم، فإِنَّنَا قد أَعددنا ووفَّقنا - للإِيمان بها، والقيام بحقوتها - قومًا لم يكفروا بها في وقت من الأَوقات، بل استمروا على الإِيمان بها.

90 -

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ. . .} الآية.

جملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ

} صفة لما قبلهَا: {

قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}.

والمعنى: هم أولئك الأَنبياءُ الذين وفقهم الله تعالى، إِلى منهج الحق، والخير، فاقْتَدِ بهم يا محمد، وسِرْ على طريقتهم: من التوحيد وأصول الدين؛ لأَن دعوة الأَنبياء في أُصولها واحدة.

وبعد أَن أَمره بالسير على طريقة الأَنبياءِ السابقين، أَمره بأَن يقول لأُمته: إِنه لا يثقلهم بطلب الأجر على دعوته إياهم إلى طريق الخير في قوله:

{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} :

أي: قل يا محمد، لأُمتك: لا أَطلب. منكم أَجرا على تبليغكم الدعوة، وإرشادكم إلى ما أمر الله به.

{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} :

أَي: ما القرآن، إلا عظةٌ وإرشاد للثَّقَلينِ: الإِنس والجن. فتبليغهم إياه - بدون سؤاله إِياهم أجرا - حَقٌّ لهم

ص: 1284

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوأَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} .

المفردات:

{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : وما عظَّموه حق تعظيمه.

ص: 1285

{قَرَاطِيسَ} : أوراقا مفرقة.

{فَى خَوْضِهِمْ} : في باطلهم.

{يَلْعَبُونَ} : يَلْهَون.

{أُمَّ الْقُرَى} : مكَّة. والمراد: أَهلها.

{غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} : سكرات الموت وشدائده.

{خَوَّلْنَاكُمْ} : أَعطيناكم.

{وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} : أَي في الدنيا.

{تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} : تَشَتَّتَ جَمْعُكم.

التفسير

91 -

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ

} الآية.

بعد أَن بين الله سبحانه وتعالى أَن القرآن نعمة عظيمة، ينتفع بها جميع الناس، لما فِيه من الرشد والهداية، أَتبع ذلك، ببيان جحود الكفار - وخاصة اليهود - لتلك النعمة فقال تعالى:

{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} :

أَي ما عرفوا الله حَقَّ معرفته، حتى لا ينكروا إنعامه عليهم: بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب.

{إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ} :

أَي حين قالوا ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم وقد خاصموه في القرآن. مبالغين بغير حق - في إِنكار إِنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَلزمهم الله بما لا سبيل إِلى إِنكاره أَصلا. فقال لهم:

{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} :

أَي قل لهم يا محمد، رَدًّا عليهم: مَن الذي أَنزل التوراة على موسى؟

ص: 1286

وإِنما اختار لإِلزامهم إنزال التوراة عام موسى، لأَنه معترف به ومسلم عندهم، بدون جدال.

{نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} :

أي أَنزلنا التوراة، واضحة في نفسها، مرشدة للناس إِلى الطريق المستقيم.

{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} :

أَي - ومع وضوحه وظهور دلالته - تكتبونه في أَوراق مفرقة؛ ليسهل عليكم إظهار ما تريدون اطلاع الناس عليه، وإِخفاءُ الكثير من أَحكامه وشرائعه، مما لا تحبون معرفة الناس له، إِرضاءً لشهواتكم.

{وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} :

أَي: وعلمكم الله - على لسان محمَّد صلى الله عليه وسلم زيادة على ما في التوراة.

بيانًا لما التبس فَهْمُهُ عليكم وعلى آبائكم، الذين كانوا أَعلَم منكم.

ومصداق هذا قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (1).

{قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} :

أَمر الله نبيه عليه السلام أَن يجيب بجواب لا جواب سواه، عن الذي أَنزل الكتاب على موسى

إِنما أَنزله الله تعالى. ثم أَمره - بعد هذا الجواب - أَن يهملهم ويتركهم وخوضهم في باطلهم، حيث لم تنفع معهم الحجج الواضحة، والبراهين الساطعة.

92 -

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا

} الآية.

أَي: هذا القرآن: كَتاب الله المشتمل على ما ينفع الناس، منزلٌ من الله تعالى على محمَّد، عظيمُ النفع، كثيرُ الفوائد، موافقٌ للكتب التي سبقته في التوحيد، وفي تنزيه الله، وفي أُصول العقائد، ليكون وسيلةَ إِنذار لأَهل مكة، وسائر الناس.

(1) النمل، آية: 76

ص: 1287

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} :

أي: والذين يصدقون بالآخرة تصديقا يُعْتدُّ به، ويرجون لقاء الله، هم الذين يصدقون بالقرآن وينتفعون به. فيحملهم ذلك على الحافظة على صَلَاتهم، وعلى سائر ما أَمرهم الله به من التكاليف.

وتخصيص الصلاة بالذكر، لأَنها عِمادُ الدين.

93 -

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا

} الآية.

بعد أَن بين الله الفريق الذي اهتدى، وآمن، وأَدى التكاليف - بيَّن - سبحانه - في هذه الآية، الفريق الذي افترى على الله الكذب.

والمعنى: لا أَحدٌ أَشدَّ ظلما، ممن افترى على الله كذبا، ادعاءً للنبوة، كمسيلمة الكذَّاب وأَمثاله.

{أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} :

أَو ادَّعى نزول الوحى عليه. ولم ينزل عليه شيء. أو ادَّعى - باطلا - القدرةَ على إنزال مثل ما أنزل الله على محمد من القرآن. وهيهات أن يتم له ذلك. فإن الله تعالى يقول:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1).

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} :

بعد أن بيَّنت الآية حالهم الباطل في الدنيا، انتقلت إِلى بيان حالهم - عند قرب انتقالهم من الدنيا، وما يعقب ذلك من أهوال وشدائد.

(1) الإسراء، الآية: 88

ص: 1288

والمعنى: ولو ترى يا محمد، وقت حلول شدائد الموت وأهواله بهؤلاءِ الظالمين، ورسل الموت المكلفون بقبض أَرواحهم تمتد أيديهم مبسوطة إليهم: أَن ينزعوا أَرواحهم من أجسادهم ويلقوها في أَيدى الملائكة. قائلة لهم - إِيلاما وتهكما - انزعوا أَرواحكم من أجسادكم، لأَنكم اليوم تُجْزَوْن عذاب الهُون، بسبب تقوُّلِكم على الله غير الحق، واستكبارِكم عن الانقياد لآياته. والإيمان باللهِ وحده!!!

أَي: لو ترى يا محمد ذلك - لرأيت أمرًا شديدا، تقصر العبارة عن وصفه!!!

94 -

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ

} الآية.

أَي: ويقول الله لهم، إذا بُعثوا: لقد جئتمونا منفردين عن الأَهل والمال والولد والسلطان - كما أوجدناكم - في أَوَّل حياتكم الأُولى - بدون مال ولا متاع ولا ولد.

{وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ} :

أي: وتركتم ما أعطيناكم من النعم في الدنيا، ولم تحملوا منها - معكم - شيئًا.

{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} :

أي: ويقال لهم توبيخا؛ وفَقدتم أَنصاركم، فما نرى منهم أحدا معكم. وقد كنتم تزعمون أنهم - في استحقاق عبادتكم لهم - شركاءُ لله.

{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} :

أي: لقد انفصمت الروابط بينكم، وتَشتَّتَ جَمْعُكم.

{وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} :

أَي: ذهب وضاع منكم الذي كنتم تزعمونه في الدنيا، من أَنهم شفعاء لكم عند الله، ومن أَنه لا بَعْثَ. ولا جزاءَ، ولا حساب.

ص: 1289

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} .

المفردات:

{فَالِقُ} : الفَلْق؛ الشَّق.

{النَّوَى} : ما في داخل الثمرة؛ تمرا أَو غيره.

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} : يخرج النبات الحيَّ من التربة الميتة، والزرعَ من الحبّ، والشجرَ من النوى.

ص: 1290

{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : كيف يُصْرَفون عن عبادته!

{الْإِصْبَاحِ} : الصبح والضياء.

{سَكَنًا} : يُسْكَن فيه من تعب النهار.

{حُسْبَانًا} : يُحسَبُ بهما الأَوقات.

{ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : ظلمات الليل في البر والبحر.

{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} : فلكم مكانُ استقرار في الأَصلاب، واستيداع في الأَرحام. أَو العكس.

{يَفْقَهُونَ} : يفهمون.

{خَضِرًا} : أَخضر.

{مُتَرَاكِبًا} : رُكِّب بعض مه فَوق بعض.

{قِنْوَانٌ} : الْقِنْوُ، ما يحمل من التمر وهو كالعنقود للعنب.

{وَيَنْعِهِ} : ونُضْجِه.

التفسير

95 -

{إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى

} الآية.

هذا شروع في بيان قُدْرَةِ الله تعالى العجيبة: الدالة على كمال علمه ودقة تدبيره، ولطيف صنعه وحكمته. جاءَ بعد تقرير أَدلة التوحيد، ونفى الشركاء والشفعاء؛ فقال تعالى:

{إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} :

يخبر الله تعالى عباده: أَنه يَشُقُّ الحَبَّ والنَّوى في التراب، فتنبت الزروع، على اختلاف أَصنافها، من الحبوب، والثمار على تنوع أَشكالها وأَلوانها وطعومها، من النوى.

ص: 1291

{يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ} :

هذا تفسير لما تقدم، فهو يخرج النبات الحى مما يمتصه من عناصر التربة الأرضية الميتة، كما قال تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} (1).

{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ} :

فهو يخرج الخلايا الميتة من النبات والحيوان. كما يخرج الأَظافر والشعر وبقايا الغذاءِ من الخلايا الحية من الإِنسان والحيوان، وحينما يموت النبات والحيوان والإِنسان تتحلل أَجسامها جميعا فتعود إِلى العناصر الترابية التي كانت قد تكونت منها. وهى بضعة عشر عنصرًا. على اختلاف في النسب بين الحيوان والنبات.

{ذَلِكُمُ اللَّهُ} :

أَي: صاحب هذه الأَفعال العجيبة، هو الله ذو القدرة العجيبة، المستحق للعبادة دون سواه.

{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} :

أَي: فكيف تصرَفون عن الحق، وتعدلون عنه إِلى الباطل. فتعبدون - مع الله - إلها آخر.

96 -

{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ

} الآية.

أَي: هو خالق الضياءِ، الذي يشق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضىء الوجود، ويستنير الأُفق عن حكمةٍ وسعةِ رحمةٍ. فكلٌّ لنا به حاجة وذلك دليل القدرة التامة، حيث أَوجد الأَشياءَ المتضادة لحاجة حياتنا إِليها. مما يدل على حكمته، وكمال عظمته، وعظيم سلطانه.

{وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} :

أَي: يسكن فيه الإِنسان والحيوان، ليستريح من عناءِ العمل في النهار.

(1) سورة يس، الآيتان: 33، 34.

ص: 1292

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} :

أَي: وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب مقدر: لا يتغير، ولا يتبدل، وبهما تُحْسَبُ الأَوقات، التي تؤَدَّى فيها العباداتُ والمعاملات.

{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} :

أَي: ذلك الذي تقدم من ظهور الإِصباح. وجعْل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا - جارٍ وحاصلٌ، بتقدير العزيز الذي أَحسن كل شيء خلقه، وأَبدع تصويره.

{الْعَلِيمِ} :

الذي وسع علمه كما شيءٍ. فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأَرض ولا في السماءِ.

وقد وردت هذه الخاتمَةُ كثيرا في القرآن. بعد ذكر خلق الليل والنهار والشمس والقمر مما يدل - دلالةً واضحة - على أَن هذه الكائنات من أَقوى الأَدلة على سعة الله، وعظيم تدبيره.

97 -

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

} الآية.

أي: وهو الذي أوجد النجوم: لهدايتكم في ظلمات الليل في البر والبحر. وفي ذلك بيان لبعض آثارها الكونية.

ومن آثارها النافعة: ما ذكر في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ

} (1) الآية. ولا يزال العلم يبحث عن أَسرارها فيكشف جوانب من آياته - تعالى - في هذه الأَجرام.

أَما مَنْ يحاولون كشْفَ أَستار الغيب عن طريق هذه النجوم، فهم مخطئون مخالفون لتعاليم الإِسلام.

{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

أَي: قد بَيَّنَّاهَا ووضحناها لقومٍ يعلمون معانِيهَا، ويعملون بموجبها، لِيُتَّبَع الحق، ويجتنب الباطل.

(1) سورة الملك، من الآية: 5

ص: 1293

98 -

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ

} الآية.

وهذا تذكيرٌ بنعمة الإيجاد من العدم.

أَي: وهو الذي أَوجدكم من نفس واحدة؛ هي آدم عليه السلام.

{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} :

أَي: فلكم استقرارٌ في الأَصلاب. أَو فوق الأَرض. واستيداع في الَاّرحام، أَو في القبر. أو: الاستقرارُ؛ في الأَرحام، والاستيداعُ؛ في الأَصلاب.

{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} :

أي قد بيَّناها لمن يفهمون ويَعُون كلام الله وما احتواه من المعاني.

وختمت الآية الأُولى، بقوله:{يَعْلَمُونَ} والثانية بقوله: {يَفْقَهُونَ} لأَن الإِنشاء من نفس واحدة، أَلطف وأَدقّ تدبيرًا وصنعةً، فكان ذكر الفقه - الذي هو استعمال الفطنة، وتدقيق النظر - مناسبا له.

ذكر مع النجوم العلم، لأَن النظر في أَحوالها: لا يحتاج إلَاّ إِلى العلم. ولَفْت الذهن إِليها.

99 -

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً

} الآية.

هذا تذكير بنعمة أُخرى من نعمه الجليلة، الدالة على كمال قدرته.

والمراد من الماء: المطر. ومن السماء: السحاب. والماءُ ينزل بقدر: رزقًا للعباد، ورحمةً من الله بخلقه.

{فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} :

أَي فأَخرجنا بسبب هذا الماءِ كلَّ صنف من أَصناف النبات المختلفة، التي ينتفع بها الإِنسان والحيوان:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} (1).

(1) سورة عبس، الآيات: 24 - 32

ص: 1294

{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا} :

هذا شروع في تفصيل ما أَجمله، من إِخراج النبات.

أَي: فأَخرجنا - من النبات - شيئًا غضًّا أَخضر، وهو ما تشعب من أَصل النبات الخارج من الحبة.

{نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} :

أَي: نخرج من ذلك النبات الأَخضر، حبا رُكِّب بعضه فوق بعض، كما في السنبل من القمح والشعير.

{وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} :

وهذا تفصيل حال الشجر بعد النبات.

أَي: ومِن طلع النحل، قنوانٌ يحمل ثمرها، ويكون في متناول الأَيدى. وهو الدانى القريب، أَو في غير متناول الأَيدى. وهو البعيد .. ونَبَّهَ على الأُولى، لزيادة النعمة فيها.

والقِنْوَان. مما يستوى فيه المفرد والمثنى والجمع. مثل: صِنْو، وصِنْوَان.

{وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} .

أَي: ونخرج منه جناتٍ من أَعناب.

وهذان النوعان هما أَشرف الثمار عند أَهل الحجاز. وربما كانا خيار الثمار في الدنيا.

وقد امتن الله بهما على عباده، فقال تعالى:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (1) وكان ذلك قبل تحريم الخمر. وقال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} (2).

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} :

أَي: وأَخرجنا الزيتون والرُّمان مشتبهًا في الورق، فهو قريب الشكل بعضه من بعض. وغير متشابه في الثمار: شكلا وطعما وطبعا. مما يدل على كمال قدرة خالقها، وحكمة مبدعها. جل جلاله.

(1) سورة النحل، من الآية: 77

(2)

سورة يس، من الآية: 34

ص: 1295

{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} :

أي: انظروا نظَرَ اعتبار وَتبَصُّرٍ - إلى ثمر الزَّيتون والرُّمان، إِذا أَخرج ثمره: كيف يخرجه صغيرا ضئيلا، لا يكاد ينتفع به، وإلى حال نضجه، حيث يصبح ذا نفع عظيم ولذة كاملة.

{إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ} :

إنَّ فيما أُمرتم بالنظر إليه لَدَلائلَ كثيرةً عظيمة، على وجود القادر العظيم، وحكمه ووحدته.

{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

لِقَوم يصدقون به، ويتبعون رسله.

وخَصَّ المؤْمنين بالذكر؛ لأَنهم هم الذين انتفعوا بذلك، دون غيرهم.

ووجه دلالة ذلك على وجود إله حكيم قادر واحد: أَنَّ حدوثَ هذه الأصناف المختلفة المتشعبة من أصل واحد، وانتقالها من حال إِلى حال على نمط بديع - لا بد أَن يكون بأحداث صَنَعهَا صانع حكيم، يعلم تفاصيلها.

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)} .

المفردات:

{الْجِنَّ} : المراد بهم؛ الشياطين. أو ما يعمهم والملائكة.

{وَخَرَقُوا} : أَي اختلقوا، وافتَرَوْا.

ص: 1296

التفسير

100 -

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ

} الآية.

بعد ما تقدم من النعم الجليلة، التي أَبدعها الله عز وجل وهي دالة على توحيده - وَبَّخ مَنْ أَشرك به سبحانه، وعَبَد غيرَه، ورَدَّ عليه بقوله:

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} :

أَي: وَصَيَّرُوا الجن شركاءَ لله، حيث اعتقدوا ذلك. وقالوا: إن الملائكة بنات الله.

وتسميتهم جنا، لاجتنانهم واستتارهم عن الأَعين.

أَو المراد بهم: الشياطين، حيث أَطاعوهم كما يطاع الله تعالى. وعَبدوا الأَصنام وغيرهم: بوسوستهم وتحريضهم.

انظرْ التي قول الملائكة يوم القيامة: {

سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (1).

{وَخَلَقَهُمْ} :

أَي: اتخذوا له سبحانه، شركاءَ، وقد خلقهم وحده. فلا يصح أَن يُعْبَدَ سواه.

{وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} :

أي: واختلقوا وافْتَروْا لله سبحانه، بنين ربناتٍ، بغير علم بحقيقة ما يقولون. ولكن جَهْلًا بالله وبعظمته إذ لا ينبغى - ما دام إلهًا - أَن يكون له بنون وبنات، أَو صاحبة، أَو أَن يشاركه أَحدٌ في خلقه.

وفي هذا تنبيه على ضلال من ضل، بادعاءِ أَن له ولدًا، كما يزعم اليهود، حيث قالوا: عزير ابن الله. وكما قال النصارى: المسيح ابن الله. وكما زعم المشركون من العرب في قولهم: الملائكة بنات الله.

(1) سبأ، من الآية: 41

ص: 1297

{سُبْحَانَة وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} :

أَي: تَقَدَّسَ وتنزَّه وتعاظم الله عز وجل، عما يصفه به الجهلة الضالون، من نسبة الأَولاد والأَنداد والشركاءِ إليه. تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} .

المفردات:

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : منشئهما ابتداءً، من غير مثال سبق. وهو صيغة مبالغة. من بَدَعَهُ؛ بمعنى: اخترعه.

{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} : من أَين يكون له ولد. أَو كيف يكون له ولد؟

{صَاحِبَةٌ} : زوجة.

{وَكِيلٌ} : تستعمل هذه الكلمة بمعنى: حفيظ، وبمعنى: مَنْ يُوكَلُ إِليه الأَمْر، ومن يتولاه .. وكلٌّ تصح إِرادته هنا.

{لَا تُدْرِكُهُ الْأِبْصَارُ} : إِدراك الشىء؛ الوصول إِليه، والإِحاطة به.

{الْأَبْصَارُ} : جمع بصر. وهو حاسَّة النظر. وقد يطلق على العين، لأَنها محلٌّ النظر والإِبصار.

ص: 1298

{اللَّطِيفُ} : العليُم بدقائق الأُمور وخوافيها. وقد يراد منه: المحسن. وهو المناسب هنا لإِفادته معنى جديدا.

أَما المعنى الأَول فهو داخلٌ في عموم معنى الخبير. إِذ معناه: العليم بالظواهر والخوافى.

التفسير

101 -

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ

} الآية.

المعنى: الله مبدع {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، بلا مثال يحتذيه ولا شريك يُعينه، فكيف يكون له ولد - كما يزعمون - ولم تكن له زوجةٌ تصاحبه يأْتي منها الولد؟!

وخلق كل شيء ومن الموجودات، حتى ما زعموه ولدا، والمخلوق لا يكون ولدا - وهو بكل شيء عليم. ومن كذلك، فإِنه يعلم ما افْتَرَوْه عام الله إن البنُوَّة وسوف يُجْزَوْنَ على افترائهم أسْوَأَ الجزاء.

وفي الآية دليل على نَفْىِ الولد عن الله تعالى، من وجوه:

أَحدها: أن من مبدعاته: السمواتِ وَالأَرضَ. وعَن كان كذلك، لا يصح أَن يكون له ولد. لأَن ما ادعوْه ولدا، لا يقدر على مثل ذلك. ومِنْ شأْن الولد. أن يكون قادرا على مثل ما يقدر عليه أَبوه.

ثانيها: أَن مِنْ شأْن الولدِ أَن يتولَّد من ذكر وأُنثى متجانسين. والله تعالى، منزه عن المجانسة والشابهة، فلهذا، لا تكون له زوجة يأْتي منها الولد.

ثالثها: أَن الولد الذي ادعوه، مخلوقٌ لله تعالى. فقد خلق - سبحانه - كلَّ شيءٍ وهو من جملته. والمخلوق لا يكون ولدًا للخالق، ولا يسمى به بل يسمى مخلوقا.

رابعها: أَن الولد يشبه أَباه، والله بكل شيء عليم. في حين أَن ما ادَّعوه ولدا، ليس كذلك. فلا يصلح أَن يكون ولدًا لله. لأَنه فقد صفته، وهي العلم بكل شيء.

ص: 1299

102 -

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} :

أَي: ذلكم الموصوف بهذه الصفات الجليلة. هو الله المستحق وحده للعبادة.

{رَبُّكُمْ} :

أَي: مالك أُموركم دون غيره،

{لَا إلَهَ إلَاّ هُوَ} :

أي: لا معبود - بحق - سواه.

{خَالِقُ كل شَىْءٍ} :

أي: ما كان منه وما سيكون. فلا يصلح - سواه - أن يكون ولدا له، يُعبدُ معه. ويقدس تقديسه، لعدم مشابهته له تعالى، في تلك الصفات. فإن مِنْ شأن الولد أن يشبه أباه في صفاته.

وإِذا كان الأَمر كذلك. فاعبدوا الله وحده - غير مشركين به، ولا متخذين له ولدا. والله - مع كل هذه الصفات الجليلة - وكيل، أَي متولٍّ أُمورَ خلقه، قوامٌ عليها. يحفظها من الخلل بعد أَن منحها أَسباب الوجود. فلا يصلح غيره أن يُعبدَ معه، أَو أن يكون له ولد.

103 -

{لَا تُدْركُهُ الْأبصَارُ وَهُوَ يَدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} :

إدراك الشىء: الوصول إِليه والإحَاطة به.

ولهذا يقول سعيد بن المسيب في معنى: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} : لا تَصل إليه الْأَبْصارٌ ولا تحيط به.

ومعنى الآية مجتمعة: لا تَصِل إلى الله الأَبصارُ ولا تحيط به. والله هو الذي يحيط بالأَبصار، ويعلم دقائقها وخفاياها. وهو الرفيق بعباده، المحسن إليهم، العليم بظواهر الأُمور وخوافيها.

وقد استدل المعتزلة بالآية الكريمة، على امتناع رؤية البشر لله تعالى.

ولا حجة لهم فيها.

ص: 1300

إذ ليس الإِدراك مطلقَ الرؤْية، حتى يكون نفيه نفيا لها، بل هو رؤْيةٌ مع شمول وإحاطة. وذلك هو المنفي، فلا مانع من الرؤية لله - دون إحاطة وشمول - مع نفي الكيف عنها، فإن الرؤية غير منفية، إِذ نفى الخاص، ليس نفيًا للعام.

ولا مانع من أَن يخلق الله في البصر قوة غير عادية، يمكن بها رؤية البارئ سبحانه وتعالى، بدون مستلزمات رؤْية الحوادث.

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ: لا تضامُون في رُؤيَتِه

" (1) الحديث.

{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)} .

المفردات:

{بَصَائِرُ} : جمع بصيرة، وهي: النور الذي تبصر به النفس والقلب. أما البصر: فهو نور العين.

وأُطلقت البصائر على آيات القرآن، تشبيها لها بها، في إظهار الحق.

(1) أخرجه البخاري وغير.

ص: 1301

{نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} : نبيِّنها، أو ننقلها من نوع إلى نوع. مأْخوذ من الصرف، وهو: نقل الشىء من حال إِلى حال.

{وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} : اللام في {لِيَقُولُوا} لام الأَمر. وقد كسرت. وتؤيده قراءة أُخرى بإِسكانها.

{دَرَسْتَ} : تَعَلَّمْتَ.

{حَفِيظًا} : حارسا. من حَفِظَهُ بمعنى: حرَسَه.

{وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} : أَي: لست وكيلا في أَمر جَزَائهم. فدعهم إلى الله.

التفسير

104 -

{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} الآية.

قد جاءَكم أَنوارٌ لقلوبكم من مالك أمركم ومربيكم. وتنبعث هذه الأَنوار من آيات القرآن الذي أَنزله إِليكم. فَمَنْ رأَى الحق ببصيرته في ضوئها، فاهتدى إليه، وآمن به - فنَفْع ذلك راجع لنفسه، عائد عليها. إذ أَنه - بذلك - ينجو من العقاب، وينعم في جنات النعيم. ومَنْ تعامى عن الحق يحاول أَن يبصره في ضوئها - فضلّ وكفر - فضرر ذلك عائد على نفسه، راجع إليها. إِذ أَنه سيعاقَب بالخلود في النار.

{وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} :

أَي: يحفظكم من الضلال، ويمنعكم من الغواية. فلم يكلفنى الله بذلك. وإِنما كلفنى بالتبليغ والإِنذار. وقد فعلت.

105 -

{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

ومثل ذلك التبيين والتنويع. نبيّن وننوع الآياتِ القرآنيةَ الكاشفة عن الحق لنلزم المعارضين الحجة.

ولا عليك يا محمَّد، أن يفتروا الكذب، ويقولوا: دَرَسْتَ كُتُبَ أهل الكتاب وأَنشأْتَ منها هذا القرآن. ولكى نبينه لقوم يتصفون بالعم والفهم - نُصَرِّف آياتِهِ فينتفعوا بهداه، ويؤمنوا برسوله، دون جدال بالباطل.

ص: 1302

وجملة: {وَليَقُولُوا دَرَسْتَ} : جملة طلبية كما بَيَّناه في المفردات. وقد جاءَت معترضة بين ما قبلها وما بعدها، للمسارعة إِلى تسلية النبي، صلى الله عليه وسلم، عن معارضتهم.

فإِن المراد منها: أَلَّا يَعْتَدَّ بما يقولون من الأَكاذيب. فقد زعموا: أَن النبي صلى الله عليه وسلم، درس على أَهل الكتاب، وتَعلَّمَ منهم، وأَلَّف القرآن، وفقًا لما أَخذه عنهم. مع أَن مكة خالية من أَهل الكتاب، ولم يَلْقَ صلى الله عليه وسلم أَحدا منهم فيها، ولا في غيرها، كما أَنه عليه السلام أُمِّىٌّ. والقرآن فوق طاقة البشر جميعًا. ومنهم محمَّد صلى الله عليه وسلم، فبذلك تكون دعواهم ظاهرد البطلان، ولا تستحق أَن يبالى بها النبي صلى الله عليه وسلم.

{وَلنَبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1):

والمعنى ولنبيّن أَنه قرآن من عند الله لمن يعلَمون ذلك حقَ العلم من أَهل الكتاب - لنلزمهم الحجة، ولعلهم يرشدون.

106 -

{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} :

اتبع ما يوحى إِليك من ربك، اعتقادًا وقولًا وعملًا. وأَعرض عن أَقوال المشركين. ولا تبالِ بِافترائهم وتكذيبهم. وامضِ في تبليغهم ما أَوحيناه إِليك.

107 -

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} :

ولوأراد الله عدم إِشراكهم ما أَشركوا، بأَن يحملهم على الهدى، ويلجئهم إلى الإِيمان ولكنه تركهم لا يدور عليه أَمر التكليف وهو الاختيار.

ولمّا تركهم لاختيارهم، لم يحسنوا الانتفاع بآياته، فتخلى عن معونتهم.

{وَمَا جَعَلْنَاكَ} : يا محمد {عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} : قَيِّمًا وحارسًا، يحفظهم من الشرك، حتى تؤاخذ بشركهم.

(1) هذه الجملة معطوفة علي مقدر. أي نصرف الآيات لنلزمهم الحجة، (ولنبينه لقوم يعلمون) وجملة (وليقولوا درست) معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 1303

{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} :

أي: عنَّا في أَمر جزائهم فدع أمرهم لنا. فنحن أَعلم. بأَعمالهم وأقدر على جزائهم. ولا تشغل نفسكَ بغير تبليغهم. { .. إِنْ عَلَيْكَ إلَاّ الْبَلَاغُ .. } (1).

{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} .

المفردات:

{ولَا تَسُبُّوا} : السَّب، الشَّتم.

{عَدْوًا} : اعتداءً وتَجاوُزا للحق.

{جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : أي بقدر جهدهم وطاقتهم في أَيمانهم.

{وَنُقَلِّبُ أَفْئدَتَهُمْ} : ونُحَوِّلُ قلوبَهُم.

{يَعْمَهُونَ} : يَتَحَيَّرُونَ.

التفسير

108 -

{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ

} الآية.

(1) الشورى، من الآية: 48

ص: 1304

سبب نزول هذه الآية الكريمة: أَن المسلمين كانوا يَسُبُّون آلهةَ الشركين، ويذكرون قبائحها. فنهوا عن ذلك؛ لئلا يستتبع سبهم لها، أَن يفعل المشركون مثله. في حق الله تعالى.

وقال ابن عباس: قالت قريش لأبي طالب: إِما أَن تَنْهَى محمدا وأصحابه عن سَبِّ آلهتنا والغض منها، وإما أَن نسُبَّ إلهه ونَهْجُوَهُ. فنزلت الآية.

والخطاب في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا} للمؤمنين.

والمعنى: ولا تسبوا الآلهة الذين يعبدهم المشركون من دون الله، فيسبَّ المشركون الله تعالى: اعتداءً وتجاوزا للحق، بغير علم منهم بما يجب له سبحانه - من التعظيم والإجلال.

والتعبير عن الأصنام بكلمة: {الَّذِينَ} مع أنها لا تعقل، مجاراة لأُسلوب متعقديها (1).

وحكم هذه الآية باق.

فمتى كان الكفر في مَنَعَة، وخِيفَ أَن يسبَّ الإِسلام - أو النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل فلا يحل لمسلم أَن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم. أو يتعرض إلى ما يؤدى إلى ذلك. لأَنه بمنزلة البعْث على المعصية. وفي الآية دليل على وجوب سدّ الذرائع. إِهـ من القرطبى.

{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} :

ومثلما زينا لهؤلاءِ عملهم القبيح، زينَّا لكل أُمَّة عملهم من الخير والشر.

قال ابن عباس: زينا لأَهل الطاعة الطاعة، ولأَهل الكفر الكفر.

والمراد من تزيين الله الأعمال لكل أُمة: أَن يخلق الأَسباب التي تجعل أَعمالهم محببة إلى نفوسهم. فيتقبل كل منهم - باختياره - على ما يوافق ميله وهواه: من طاعة أَو معصية.

ولذا نسب العمل إليهم في قوله سبحانه.

(1) ومن المفسرين من قدر مضافا، مراعاة لأن كلمة (الذين) لا تستعمل - غالبا - إلا في العقلاء. أي ولا تسبوا آلهة الذين يدعون. وفيه تكلف. وقال أبو السعود: ولا تشتموا الذين يعبدون آلهة من دون الله - من حيث عبادتهم لآلهتهم - كأن تقولوا: تبا لكم ولما تعبدون. وما ذكرناه في الشرح، هو اختيار القرطبى.

ص: 1305

{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

ثم إِلى مالك أَمرهم رجوعهم بالبعث بعد الموت. فيخبرهم ويجزيهم بما كانوا يعملونه باختيارهم: من طاعة أَو معصية. وفقا لما تأَثرت به نفوسهم، وكسبته أَيديهم من دواعى هذه الأَعمال.

وقد دلت الآية الكريمة، على أَن الأَعمال تظهر لبعض الناس في الدنيا بغير صورتها الحقيقية: التي تكون لها في الآخرة.

فالكفر والمعاصي - مع كونها سموما قبيحة قاتلة، شائهة - تبدو في الدنيا، بصورة تستحسنها نفوس الكفرة والعصاة.

والإيمان والطاعات، تظهر لديهم فيها على العكس من ذلك.

ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "حُفَّتِ الجنَّةُ بالْمَكارِهِ. وحفَّتِ النارُ بالشَّهَوَاتِ".

فإِذا بعثوا يوم القيامة عَرَّفهم الله الأَعمال بحقائقها، وجزاهم على تقصيرهم. وهذا هو قوله سبحانه:{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

109 -

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا

} الآية.

سبب نزولها - على ما ذكره القُرَظِىُّ وغيره - أَن قريشا قالت: يا محمد، تخبرنا أن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. وأَن عيسى كان يُحْيِى الموتى وأَن ثمود كانت لهم ناقة .. فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نُصدقك. فقال:"أَىُّ شيءٍ تحبون"؟ قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا. فوالله، إِن فعلت لنتبعنك أَجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو. فجاءَه جبريل فقال:"إِن شِئْتَ أَصبح ذهبا: ولئن أَرسل الله آية ولم يصدقوا عندها، ليعذبنهم، فاتركهم حتى يتوبَ تائبهم .. ".

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل يتوب تائبهم" فنزلت هذه الآية. وجَهْدُ اليمين: أَشَدُّها، وغايتها التي بلغها علمهم، وانتهت إِليها طاقتهم وقدرتهم.

ص: 1306

وذلك أَنهم كانوا يعتقدون أَن الله هو الإِله الأَعظم. وأَن هذه الآلهة إِنما يعبدونها، ظنًّا منهم أَنها تقربهم إِلى الله زلفى. كما أَخبر الله عنهم بقوله:

{

مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1).

وكانوا يحلفون بالأَصنام والآباءِ وغير ذلك.

وكانوا إِذا حلفوا باللهِ سموه جهد اليمين. ذكر ذلك القرطبى.

والمعنى: وأَقسموا بالله - جاهدين في أَيمانهم، بالغين فيها غاية الطاقة - لئن جاءَتهم معجزة كونية من جنس آيات المرسلين السابقين، ليؤْمِنُن بها ..

ولا ريب أَن طلبهم هذه الآيات، ناشئ عن تماديهم في العناد، فإِن القرآن: هو الآية العلمية التي تخضع لها شم الجبال، وتلين لها الصخور.

وكان عليهم - لو كانوا طلاب حق - أَن يؤمنوا بها، ويقفوا عند حدودها.

فكيف وقد انضم إِليها عديد من المعجزات الكونية: كانشقاق القمر، وحنين الجذع، وتَبْع الماء من بين أَصابعه الشريفة، ونزول المطر، ورفعه؛ بدعائه صلى الله عليه وسلم.

ولهذا، لم يستجب الله لما طلبوا، وأَمر نبيَّهُ أَن يغلق باب اقتراح الآيات. فقال:

{قُلْ إنَّمَا اْلآيَاتُ عِندَ اللهِ} :

قل أيها الرسول لهؤُلاءِ المقترحين: إِنما الآيات عند الله، فهو صاحب المشيئة والأَمر في شأْنها: يتصرف فيها كما يريد حسب حكمته البالغة. وليس لأَحد مشيئة فيها ولا قدرة عليها حتى يمكننى أَن أُحققها لكم بأَى وجه من الوجوه. وقد حقق لكم من الآيات ما ينبغي لتأْييد رسالتى. فسؤالكم آيات أُخرى، ما هو إلا مكابرة وعناد.

(1) سورة الزمر، من الآية: 3

ص: 1307

وصدق الله إذ يقول: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ

} (1).

ثم خاطب الله المسلمين: مبينا الحكمة في عدم تحقيق مطالبهم، التي أشار إليها هذا الجواب. فقال تعالى:

{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} :

أي: وما يعلمكم - أَيها المؤمنون - أَن الآيات التي طلبها المشركون - إذا جاءَت - كما طلبوا - لا يؤْمنون بما دعاهم إِليه الرسول صلى الله عليه وسلم؟

وقد بين الله - بهذه الجملة - أَن أَيْمَانُهم فاجرةٌ. وأَنهم لا يؤْمنون إذا حُقِّق لهم ما طلبوه.

وإِنما خاطب الله المسلمين بقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} ؛ لأَنهم تَمَنَّوْا تحقيقها ومجيئها، طمعا في إيمانهم.

وكأَن الله تعالى، يقول لهم: أنتم لا تعلمون أَنهم لا يؤْمنون بعد مجيئها. فلذلك تمنيتم تحقيقها، طمعًا في إيمانهم. فكأَن الله تعالى - إذ يقول - يبسط عذر المسلمين في تمنيهم.

110 -

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ

} الآية.

معطوف على قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} داخل معه في حكم ما يشعركم مقيَّدٌ بما قُيد به.

والمعنى: وما يشعركم أَيها المؤْمنون، أَننا نقلب ونحول قلوبهم عن الحق فلا يعرفونه. ونقلب كذلك أبصارهم عن معالمِهِ فلا يبصرونه، ولا يؤمنون به. كما لم يؤْمنوا به أَول مرة حينما جاءَهم القرآن. والآيات السابقة. ونحن نتركهم في طغيانهم يتحيرون، فلا يهتدون لفساد طويتهم.

وقد دلّ قوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} على أَن تقليبه تعالى لأَفئدتهم وأَبصارهم - ليس بطريق الإجبار والقهر - مع توجههم إلى الحق - بل بأَن يُخلَّيَهم وما انطوت عليه نفوسهم من الطغيان، ونعوذ باللهِ من ذلك.

(1) سورة العنكبوت، من الآية: 51

ص: 1308

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} .

المفردات:

{حَشَرْنَا} : جمعنا وعرضنا.

{قُبُلًا} : أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم، أو هو جمع قابل بمعنى: مقابل لحواسهم. أو جمع قبيل بمعنى: كفيل - أو جمع قبيلة بمعنى: جماعة.

التفسير

111 -

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا

} الآية.

بينت الآيتان السابقتان: أَن كفار مكة - وهم المشركون - اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم لإِيمانهم به - آياتٍ كونيةً غير ما أَيَّدَهُ الله به، وأَن الله كَذَّبهم في دعواهم الإِيمان. إِذا أَنزلها.

وجاءَت هذه الآية الكريمة، تؤكد إصرارَهم على الكفر، مهما نزل لهم من الآيات. والمعنى:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} مؤَيدة للنبي صلى الله عليه وسلم، بحيث يرونهم عِيَانا، ويسمعون تأَييدهم لرسالته.

{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} : شاهدين بصدق نبوته، بعد أن أحييناهم كما طلبوا بقولهم:{ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) وجمعنا كل شيءٍ من الآيات الكونية: مقابلة ومواجهة - لو فعلنا كل ذلك - ما كانوا ليؤْمنوا مستجيبين لهذه الآيات، إِلا أَن يشاءَ الله. وهيهات ذلك، وهم مُصِرُّونَ على الكفر والعصيان.

(1) سورة الجاثية، من الآية:25.

ص: 1309

{وَلَكِن أكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} : فيقترحون الآياتِ سَفَهًا، دون رغبة في الإِيمان.

وصدق الله إذْ يقول: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (1).

وأَجاز بعضهم أن يكون المعنى: ولكنَّ أَكثرَ المسلمين يجهلون أَنهم لا يؤمنون. فلذا يقترحون نزول الآية طمعا في إيمانهم.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)} .

المفردات:

{شَيَاطِينَ} : جمع شيطان، وهم المتمردون من الجن أَو الإِنس.

{يُوحِي} : يُوَسْوِسُ.

{زُخْرُفَ الْقَوْلِ} : أي الْقول المزيَّن ظاهره، الباطل باطنه.

{وَلِتَصْغَى} : ولتميل.

{أَفْئِدَةُ} : قلوب.

{وَلِيَقْتَرِفُوا} : وَلِيَكْتَسبُوا القبائح.

(1) سورة الأعراف، الآية: 146

ص: 1310

التفسير

112 -

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا

} الآية.

بعد أَن بين الحق تبارك وتعالى، حال أُولئكَ الذين طُبِعَ على قلوبهم، بسبب إصرارهم على الكفر والطغيان - سلَّى رسوله صلى الله عليه وسلم، ببيان أَنَّ مَا حدث من تكذيب قومه له، سبقت أمثاله مع الرسل السابقين.

والمعنى: وكما جعلنا لك - يا محمَّد - أعداءً يخالفونك ويعادونك - جعلنا لكل نبي من قبلك - أيضًا - أعداءً من شياطين الإِنس والجن ذوى الضرار، يلقى بعضهم إلى بعض القول الزين ظاهره، الفاسد باطنه.

ومن ذلك ما أَلقاه شياطين الجن في نفوس شياطين مكة. من اقتراح آيات خاصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} :

ولو شَاءَ ربك أَلَّا يحدث من قومك ما كان منهم، من اقتراح الآيات - عنادا - بتزيين شياطينهم إليهم - ما كانوا يفعلون ذلك. ولكنه - تعالى - تخلَّى عنهم لانصرافهم عنك .... فاتركهم وما يفترونه عليك في شأْن رسالتك، فإِننا سنجزيهم على افترائهم أَشد الجزاءِ، وسنثيبك على صبرك أَحسن الثواب.

التفسير

113 -

{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} :

هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ

}.

والمعنى: يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغُرُّوهم، ولِتَمِيلَ إليه قلوبُ الذين لا يؤْمنون بالآخرة، وليرضَوهُ لأَنفسهم، بعد ما، مالت إليه أفئدتهم، وليكتسبوا ما هم مكتسبون من القبائح بمقتضى ارتضائهم لها.

ص: 1311

وقد جعل عدم إيمانهم بالآخرة، سببا لإِصغائهم إلى شياطين الإنس والجن، وما يزخرفونه لهم من الكفر والمعاصي؛ لأَنهم لو كانوا يعتقدون البعث والحساب والجزاءَ - لفكروا فيما يلقيه الشياطين، ولخافوا سوءَ عاقبته.

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} .

المفردات:

{أَبْتَغِى} : أَطلب.

{حَكَمًا} : حاكما يفصل بيني وبينكم.

{مُفَصَّلًا} : مبيَّنا.

{الْمُمْتَرِينَ} الشاكِّين.

التفسير

114 -

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا

} الآية.

لما بين اللهُ في الآيتين السابقتين: أَنهم يستمعون إلى زخارف الشياطين، ويصغون إليها في شأْن نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم، أَتبعَ ذلك بيان أَن الله هو الذي يحكم على ما هم فيه بأَنه باطل، وعلى ما جاءَهم به الرسول بأَنه حق، بما أَنزله إليهم من كتابه الْمُعْجِز، ليكون آية لهم على ذلك.

ص: 1312

والمعنى: قل لهم يا محمد: أَيصح أَن أَطلب غير الله حكمًا يفصل بيني وبينكم، فَيُظهِرَ بَاطلَكم الذي اعتمدتم فيه على زخارف الشياطين، ويُبيِّنَ الحق الذي جئتكم به مؤيدا بالبراهين، وهو - سبحانه - الذي أَنزل إليكم القرآن مفصلا ومبينا فيه الحق والباطل .. ولا حَكَمَ خيرٌ منه!!

{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} :

والذين آتيناهم الكتاب - من علماءِ اليهود والنصارى - يعلمون أَن القرآن هو الحق من ربهم، بما جاءَ في كتبهم من التنويه به، والنصِّ على رسالة محمَّد الذي جاءَ به: اسما ونعتا، وإِن كفروا به وكتموه: {

حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ .. } (1).

وَمَنْ هذا شأْنه، فكيف أَعدِلُ عن حكومته - في كتابه الفصل - إلى حكومة غيره:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (2).

وقيل: المراد من الذين أُوتوا الكتاب - مَنْ آمَنَ بالرسول من علمائهم. فلذلك استشهد الله بهم، لأَنهم لا يكتمون مَا عَلمُوه في شأنه من كتبهم، فإِنه هو الذي حدا بهم إِلى تصديقه، وترك ما كانوا عليه من دينهم.

{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} :

الخطاب - هنا - لكل أَحد. على معنى أَن الأَدلة على كون القرآن منزلا بالحق - من الله سبحانه وتعالى قد بلغت من الوضوح والقوة، بحيث لا تترك مجالا للافتراءِ والشك فيها من أحد من العقلاءِ.

فكأَنه يقول: فلا تكونن - أَيها العاقل - من المتشككين في كون القرآن منزلا من ربك بالحق، وأنه هو الحَكَمُ بين الرسول وبين الكافرين.

115 -

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

المراد بِـ (كَلِمَة رَبِّكَ): القرآن الكريم. والمفرد إذا أَضيف: يعم، فكأَنه قيل:{كَلِمَاتُ رَبِّكَ} وبها قرىء.

(1) سورة البقرة، من الآية:109.

(2)

سورة الأنعام، من الآية: 57

ص: 1313

والمعنى: وتمَّ كتاب ربك الذي أَنزله إِليك، صادقا في أخباره ووعده ووعيده، عاد لا في أَحكامه

فقد بلغ الغاية القصوى في ذلك؛ لا مبدل لهذا الكتاب. فهو محفوظ بعناية الله تعالى، من عَبث العابثين، وتبديل المبدلين. كما قال تعالى:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) فهو- بذلك - مخالف لما سبقه من الكُتب السماوية التي لحقها التبديل، وأضاع أصلها التغيير. فطمست فيها معالم الحقائق الدينية، التي تبَيِّن صدق الرسول فيما جاءَ به، وتظهر وحدانية الخالق وتنزهه عن الجسمية، وسائر صفات البشرية.

وإنما تكفَّل الله بحفظ القرآن دون غيره؛ لأَنه تضمَّن شريعة الله الباقية إلى قيام الساعة، الصالحة لكل زمان ومكان. بخلاف ما تقدمه من الكتب، فإِنه كان لوقت محدود.

ثم ختم الله الآية بقوله:

{وَهُوَ السَّمِيعُ} : أي عظيم السمع لما يقال، وفي جملته ما افتَرَوْهُ عَلى القرآن العظيم.

{الْعَلِيمُ} : أي واسع العلم بكل ما كان وما يكون. وفي جملته ما أَضمروه من العداوة لكتابه ورسوله: وسعيهم في إبطال دينه.

وحيث كان سميعا لأَقوالهم الفاسدة، عليما بنياتهم وأحوالهم الخبيثة، فإنه - قطعا - سيجزيهم بما يستحقون من سوءِ العقاب.

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} .

المفردات:

{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} : ما يتبعون في عقائدهم وأَحوالهم إلَاّ التخمين الباطل.

(1) سورة الحجر، الآية: 9

ص: 1314

{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} : وما هم إِلا يَكْذِبون على الله سبحانه. وأصل الخرص: الظن والتخمين. ومنه خرص النخل وهوتقدير ما عليها من التمر ظنا.

التفسير

116 -

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

} الآية.

بعد أن بيَّن الله تعالى، أن كتابه الذي أَنزله على محمَّد صلى الله عليه وسلم، هو الحَكمُ الفاصل بين الحق والباطل، والعدل والظلم - جاءَت هذه الآية، للحض على التمسك بما جاءَ فيه، وطرح ما عداه، مما يُضل عن سبيل الله.

والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد به: كل من يصلح للخطاب، والمراد: بـ {أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} : الكفار أو أصحاب الهوى، وهم يمثلون أكثرية البشرية.

والمعنى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} في عقائدهم وأهوائهم {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الذي شرعه لعباده متسما بالصدق والعدل.

{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} : ما يتبع أكثر الناس إلا الظن المفضى إلى الباطل الذي لا يستند إِلى دليل، وما هم إلا يكذبون على الله، في عَزوِ أَحكامهم إِليه تعالى، افتراءً وزورًا.

ومن ذلك زعمهم: أَن الله اتَّخَذ ولدَا، وأَن الأَوثان تُقَرَّبُهم إِلى الله زُلْفَى، وأَن الله أَحلَّ أكْلَ المَيتةِ، وشَرَع البَحيرةَ والسائِبة.

ويجوز أَن يكون المعنى: وما هم - فيما يزعمون من الآراءِ الفاسدة - إِلا يتوهمون أَنهم على شَىءٍ وجانب من الحق، دون أَن يكون لهما على ذلك دليل وبرهان.

وأَصل الخَرْصِ: الحَدْسُ والتَّخْمِين. ومنشؤه الظن: {

وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (1) والخارص يقطع بما لا يمكنه القطع به، إِذ لا يقين عنده. وكثيرا ما يتعرض للخطإِ والكذب في التقدير. ولذلك استعمل في الآية بمعنى الكذب.

(1) سورة النجم، من الآية: 28

ص: 1315

والخَرْصُ - وإِن جاز في بعض المعاملات (1)، وفي تقدير الزكاة في الرطب والعنب بتقديرهما تمرا وزبيبا، وإخراج الزكاة وفقا لهذا التقدير. إلا أنه - في العقائد - لا يجوز لأنها لا تبنى إِلا على الدليل القطعى.

117 -

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} :

إِن ربك هو أعلم بمن يبتعد عن سبيله، وينحرف إِلى العقائد الزائفة، والأهواءِ الباطلة. وهو أَعلم بالمهتدين إِلى دينه العاملين بشرعه. فاحذر - أَيها المكلف - أَن تكون من الضالين، وكن - دائما - من المهتدين.

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} .

التفسير

118 -

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} :

كان المشركون المكِّيُّون - وقد ذكروا في هذه السورة عشرين مرة - يأْكلون مما ذكِر اسم أَوثانهم عليه عند ذبحه، ويأَكلون الميتة، ويمتنعون من ذبح البحيرة والسائبة والوصيلة والحام من الإِبل، ويحرمون ذبحها وأَكلها، زاعمين أَن الله شرع ما أَحلوا وما حرموا، فأَنزل الله هذه الآية آمرا المسلمين أَن يخالفوهم، فيأْكلوا مما ذكر اسم الله

(1) كالعوايا: وهى أن يشترى تمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا للحاجة إليه، وقد رخص فيها الرسول صلى الله عليه وسلم. أخرج البخاري عن زيد بن ثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا، قال موسى بن عقبة: والعرايا: نخلات معلومات نأتيها فنشتريها".

ص: 1316

عليه من الذبائح، ولو كانت من هذه الأَصناف الأربعة، وأَن يقتصروا في التحريم على ما حرمه الله عليهم، إِلا ما اضطروا إليه اضطرارا.

والمعنى: فكلوا - أَيها المؤْمنون مما ذكِرَ اسم الله عليه من الماشية والطير عند ذبحه، إِن كنتم مؤْمنين بآياته التي أَنزلها في شأْن المطاعم وغيرها، فإِن شأْن المؤْمن: أَن يمتثل ما أَمره به مولاه سبحانه وتعالى.

119 -

{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ

} الآية.

المعنى: وأَى غرض لكم في تَرْك الأَكل مما ذكر اسم الله عليه عند ذبحه، والتحرج من تناوله، إذا كان مما حرّمه المشركون زورا وافتراءً على الله، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فإِنها حلال في شرع الله، كسائر ما يذبح من الماشية والطير، مذكورا عليه اسم الله، وقد فصل الله لكم ما حرم عليكم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ

} (1).

فكونوا عند حدود الله، فلا تعتدوها. لكن ما اضطررتم إِلى أَكله من المحرمات، فإِنه حلال لكم، بقدر الضرورة التي تحيا بها النفس.

{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} :

وإِن كثيرا من الكفار ليُضِلُّون الناس بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، بأَهوائهم الزائفة، وشهواتهم الباطلة، بغير علم مستند إِلى وحىِ الله تعالى.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} :

في هذه الجملة وَعيدٌ لمن يعتدون على شريعة الله، والعبث بها: بتحريم ما أَحل، وتحليل ما حرم.

والمعنى: إن ربك هو أعلم بما يفترونه عليه من ذلك، فيجازيهم عليه شَرَّ الجزاءِ.

وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (2).

(1) سورة المائدة، من الآية: 3

(2)

سورة النحل، الآية: 116

ص: 1317

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} .

المفردات:

{وَذَرُوا} : واتركوا.

{ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} : أي الذنب الظاهر والخفى.

{يَقْتَرِفُونَ} : الاقتراف، الاكتساب مطلقا، ولكنه في الإِساءَة أَكثر.

التفسير

120 -

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ

} الآية.

واتركوا الذنب ظاهره وباطنه: جَهْرَهُ وخَفِيَّهُ، إن الذين يكسبون الإِثم - بنوعيه - سيجزيهم الله بما كانوا يكتسبون منه، على حسب درجته من القبح {

وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1).

121 -

{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ

} الآية.

ولا تأْكلوا - أيها المؤْمنون - مما لم يذكر اسم الله عليه من الحيوانات. وإِن الأَكل منه لخروج عن طاعة الله تعالى وإِثم، إِذا ذكر عليه اسمُ غَيْرِ الله أَو كان ميتة. فإِن

(1) سورة الكهف، من الآية: 49

ص: 1318

الشياطين ليوحون إلى أَوليائهم ليجادلوكم بالباطل، ويزينوا لكم أكله لتطعموهم، ومن ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره، فقد أَشرك باللهِ.

وظاهر الآية يقتضي تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه - عمدا أَو نسيانا - ولو من المسلم.

وإليه ذهب داود الظاهرى وأَحمد بن حنبل.

وقال مالك والشافعى: لوترك المسلم التسمية - ولو عمدا - جاز أكل الذبيحة؛ لأنه وإِن لم ينطق اسم الله الكريم بلسانه، فقلبه مؤمن به ذاكرٌ له.

وفَرَّق أبو حنيفة بين العمد والنسيان، فحَرَّم أَكُلَ ما تُرِك ذِكْرُ اسْمِ اللهِ عليه عمدا، وأَحَلَّ ما تُرِكَ سَهْوًا ونسيانا.

وعلى هذه المذاهب تكون الآية محمولة على ما ذكر اسْمُ غير الله عليه والميتة؛ لأَنهما كانا موضع الجدال بين المشركين والمؤمنين. فاتجه النهي إليه. ويعززه قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ

} الآية (1).

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} .

المفردات:

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} : أَوَ مَنْ كان كافرا فهديناه؟ جعل الكفر موتا، والهداية إِحياءً.

التفسير

122 -

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} :

(1) سورة الأنعام، من الآية: 145 وسيأتي تفسيرها.

ص: 1319

أشارت الآية السابقة - إِلى أَن طاعة المشركين، قد تؤَدى بالمؤْمنين إِلى الشرك.

وجاءَت هذه الآية لتؤَكد التحذير من متابعتهم.

والمعنى: لستم أَيها المسلمون مثل المشركين حتى تَتَّبِعوهم في جاهليتهم .... فإن الله أحياكم بالهداية بعد موتكم الروحى بالكفر والشرك، وأَنعم عليكم بأَن جعل لكم نورا تمشون به في الناس، بما أَنزله إِليكم من أَنوار القرآن والهَدْىِ النبوى. فهل يصح لكم أن تتَّبعوا من يعيشون في الظلمات؟!

أوَ مَن كَان في غَيِّه وضلاله ميتا، فأحييناه بالهُدَى ودين الحق، كمن صِفَتُهُ أنه غارق في الظلمات ليس بخارج منها؟!

فإذا كان الفرق بينهما كبيرا، والبَوْنُ شاسعا، فلا يليق بكم أَن تتركوا نوركم، وتتَّبعوهم في ظلامهم.

{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

أَي: مثل ما زين الله للمؤْمنين إِيمانهم وأَعانهم عليه، بعد ما أَخذوا بأسبابه، ترك سبحانه وتعالى الكافرين لشياطينهم: يزينون لهم ما كانوا يعملون من الكفر والمعاصي، وتخلى عنهم حين انصرفوا عن هُدَاه. كما قال تعالى:{ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (1).

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)} .

التفسير

123 -

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} الآية.

وكما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها، جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها كذلك

(1) سورة التوبة، من الآية: 127

ص: 1320

فإن كبار الشرِّيرين، هم الذين يضعون أُسس الشر، ليمكروا بالناس ويضلوهم عن سواءِ السبيل

وذلك أمر مشاهد ملموس .. فلا ينبغي للعاقل الفطن، أَن يتبع زعماءَ الشَّرِّ في غوايتهم. بل يتدبر فيما يعود بالخير على نفسه أَو على الناس فيتبعه، وفيسا يعود بالشر - عليه أَو عليهم - فيتنكب طريقه. فقد بين الله نَدَامَةَ الذين يتبعون الكبراءَ يوم القيامة فقال سبحانه:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (1).

وإنما جعل الله أَكابر المجرمين في كل قرية ليمكروا فيها، امتحانا لعباده، كما امتحنهم بشياطين الجن، حتى يظهر الصادق في إِيمانه من الكاذب ويجزىَ الله كلاًّ بما هو أَهله.

وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: {

وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً

} (2).

{فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} :

وما يعود وَبَالُ مكرِهم إلا عليهم، وما يشعرون بذلك، لفرط جهلهم وقصر نظرهم.

قال تعالى: {

وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إلَاّ بِأَهْلِهِ

} (3).

والآية مسوقة، لتسلية الرسول عما يلقاه من مكر عتاة المشركين.

{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} .

المفردات:

{أَجْرَمُوا} : اكتسبوا جرما، والجرم: الذنب.

{صَغَارٌ} : ذل وهوان.

(1) سورة الأحزاب، من آية:67.

(2)

سورة الفرقان، من الآية: 20

(3)

سورة فاطر، من الآية: 43

ص: 1321

التفسير

124 -

{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ

} الآية.

في هذه الآيةِ، رجوع إلى بيان حال مجرمى أَهل مكة، بعد ما بين في الآية السابقة - بطريق التسلية - أَن حال غيرهم أيضًا كذلك، وأَن عاقبة مكر المجرمين في مكة - وغيرها - ما ذكرته تلك الآية.

وسبب نزول هذه الآية: أَن الوليد بن المغيرة، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقا، لكنت أولى بها منك؛ لأَنى أكبر منك سنًّا، وأكثر منك مالًا.

فأَنزل الله تعالى الآية.

وقال مقاتل: نزلت في أَبي جهل، وذلك أَنه قال: زاحَمَنَا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إِذا صرنا كفَرَسَىْ رهان، قالوا: منا نَبِىٌّ يُوحَى إليه

واللهِ، لا نؤمن به، ولا نتَّبعه أَبدا، إلا أَن يأْتينا وحى كما يأْتيه، فأَنزل الله سبحانه الآية.

المعنى: وإِذا أُنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، آية، تدعو قريشا إِلى الإيمان بما جاءَهم به، امتنعوا عن الإِيمان به: حسدا واستكبارا. وقالوا: لن نؤمن حتى نؤتَى من الوحى، مثل ما أُوتِىَ رسل الله، وتكونَ لنا بذلك نبوة، كما لبنى عبد مناف

وإِلا، فلن نؤمن بمحمد

وقد جهل هؤلاءِ، حيث ظنوا أَن الرسالة تأْتي بالاشتهاءِ وَتَتْبَع العصبيات .. وما دَرَوْا أنها لا تكون إِلا لمن هو أَهل لها .. والله - وحده - هو الذي يعلم المستحق لها، حيث يجعل فيه رسالته، ويعهد إِليه بهداية البشر.

ثم بيَّن الله مآل أُولئك المستكبرين، فقال تعالى:

{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} :

أي: سيصيب أُولئك المستكبرين المجرمين، ذلة عند الله بدل العزة التي أمَّلوها

ص: 1322

بالاشتراك في النبوة. ويصيبهم - إِلى جانب ذلك - عذاب شديد بسبب مكرهم بنبى الهدى

{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ

} (1).

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)} .

المفردات:

{حَرَجًا} الحرج: شدة الضيق. وفعله حَرِجَ حَرَجًا، من باب تَعِبَ تَعَبًا. وقد وُصِفَ الصَّدرُ بالحَرَج الذي هو المصدر، للمبالغة. والمراد: أَنه شديد الضيق.

{الرِّجْسَ} : العذاب، أو ما لا خير فيه.

{دَارُ السَّلَامِ} : دار المسالمة .. والمراد بها: الجنة.

التفسير

125 -

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ

} الآية.

الشرح فِي اللغة معناه: الفتح والشق. وشَرْحُ الصَّدْرِ للإسلام؛ كناية عن جعل النفس قابلة للحق، مُهَيَّأةً لحلوله فيها، مُحَصَّنَةً مما يمنعه وينافيه.

(1) سورة فاطر، من الآية: 43

ص: 1323

وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم، حين سُئِلَ عن هداية الله تعالى حيث قال:"نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ في قَلْبِ الْمُؤْمِن فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنْفَتِحُ" فقالوا: هل لذلك من أَمارة يُعرف بها؟ فقال: "نَعَمْ. الْإِنَابَةُ إلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالإِعْرَاضُ عَن دَارِ الْغُرُورِ وَالاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْل نَزُولِهِ"(1).

والمعنى: فمن يرد الله أن يهديه للحق ويعينه عليه، يشرح صدره ويهيىء نفسه لقبول الإِسلام، لما علمه من حسن استعداده له، وسعيه في قبوله. ومن يرد أَن يضله ويبعده عن الحق، يجعلْ صدره ضيقا شديد الضيق؛ لتمسكه بضلاله: لا يبغى به بديلا.

وقد وَصف الله تَبَرُّمَ الضالِّ عن الحق وضيقه به، أَبلغ وصف، حيث قال تعالى:{كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} .

ولا شك أَن تكلُّفَ الصعود في المراقى الصعبة، يثقل على القلب، ويجهد الصدر أَيما إجهاد. فكان شأْن الكافر المصرِّ - في صعوبة تقبله للإِسلام - كشأْن هذا الذي يتكلف الصعود في المراقى الصعبة في ضيق صدره وحرجه. (2)

{كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} :

أَي: كما جعل الله صدر أُولئك المشركين ضيقا عن قبول الإِسلام حيث تخلى عن معونتهم. وتركهم للشيطان: يضلهم ويقويهم يسبب إِصرارهم

يفعل مثل ذلك في أمثالهم: الذين لا يؤْمنون، ويصرون على الكفر، فيترك الشيطان مسلطا عليهم، ولا يلطف بهم. والعياذ بالله تعالى.

وخلاصة الآية: أَن من تقرب إِلى الله سبحانه أَعانه، ومن بَعُدَ عنه خذله.

126 -

{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} :

أي: وَهذا القرآن، المشتمل على الآيات المفصلة لعقائد الإِسلام وشرائعه، هو طريق ربك الموصل إلى مرضاته: مستقيما لا عوج فيه - قد بينا آياته مفصلة لقوم يتذكرون بمواعظه، ويزدجرون بزواجره.

(1) أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود، ذكره ابن كثير ص 174 - جـ 2 ط عيسى البانى الحلبي.

(2)

من المسلم به علميا: أن الإنسان، كلما ارتفع في طبقات الجو، حس بضيق شديد. والطيارون يعرفون ذلك. ولا ريب أن هذا كان غير معروف وقت نزول القرآن. فحديثه عن ذلك، يعتبر من آيات إعجازه.

ص: 1324

127 -

{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

أي: لمن يتذكر بآيات القرآن العظيم، دار السلامة من كل المكاره - وهى الجنة - فلا يعترهيم فيها خوف، ولا يصيبهم مكروه:{لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (1).

وهذه الدار ذخيرة لهم عند ربهم، لا يعلم كنه عظمتها سواه تعالى. وهو متولى أُمورهم فيها بعنايته وتكريمه، من أَجل ما كانوا يعملونه في دنياهم من الأعمال الصالحة. ابتغاءَ مرضاته.

وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2).

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} .

المفردات:

{يَا مَعْشَرَ} المعشر: الجماعة المختلطون بالعِشرة.

{مَثْوَاكُمْ} : مقركم ومآلكم.

(1) سورة الحجر، الآية: 48

(2)

سورة السجدة، الآية: 17

ص: 1325

التفسير

128 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ

} الآية.

تحدثت الآية السابقة، عن أَن دار السلام مثوى المؤمنين.

وجاءَت هذه الآية لتبين أَن النار مثوى الكافرين.

والمعنى: وِذَكِّر الخلائقَ - يا محمد - يوم يحشر الله الثقلين - جميعا - إِلى ساحة القيامة، فيوبِّخ شياطين الجن قائلا لهم: يا جماعة الجن المفسدين، قد استكثرتم من إِغواءِ الإِنس وإِضلالهم، فلم تكتفوا بضلالكم وكفركم، بل تجاوزتموه إِلى إِغواءِ الإِنس، حتىَ وَالَوْكُم وَتَبِعوكم.

{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} :

أَي وقال أَولياؤهم الذين تبعوهم، وتأَثروا بإِغوائهم من الإِنس ربنا استمتع بعضنا ببعض، فقد سمعنا لإِغوائهم، ومتَّعنا أَنفسنا بإِشباع شهواتنا، بما زينوه لنا من الآثام، واستمتعوا هم بنجاحهم في إِضلالنا عن سبيل الرشاد والصواب: فمِنَّا من كذبُوا رسلك، وأَنكروا الآخرة وما فيها من بعث وحساب وجزاءٍ

ومِنَّا من ارتكب - دون ذلك - من الآثام.

وبعد هذا الإقرار الذي لم يجدوا عنه محيصا، قالوا - في ندامة وحسرة:

{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} :

أَي: وصلنا إلى يوم القيامة، الذي أَجَّلته لحسابنا وجزائنا، حيث بُعثنا، وظهرت لنا قبائح أَعمالنا التي نستحق العقاب عليها، لتركنا صراطك المستقيم.

{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} :

قال الله تعالى: يخاطب الجن والإِنس، بعد اعترافهم بقبائحهم: النار مقركم ودار إِقامتكم، خالدين فيها، لا تخرجون منها، إلا من شاءَ الله إِخراجه، من الذين كانت آثامهم دون الكفر. . فإِنهم يخرجون منها، عندما يتفضل الله تعالى، بالإِذن بخروجهم.

ص: 1326

أَما الكافرون فخلودهم في النار أبدى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (1).

ثم يختم الله الآية بقوله:

{إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} :

ليبين أَنه تعالى، لا تخفى عليه خافية من سيئات أَعمالهم، وأَنه حكيم في عقابهم حسب درجات عصيانهم: {

وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (2).

129 -

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : ومثلما استمتع الجن بإِغواءِ الإِنس، واستمتع الإِنس بتقبل إغوائهم - نترك الظالمين من الإِنس والجن في كل عصر وجيل، يتولى بعضهم بعضا، بالإِغواءِ والإفساد - ونتخلى عنهم فلا نخلصهم من آثاره بسبب كسبهم المعاصي، واختيارهم لها وإصرارهم عليها. ولذا؛ لا تجد راعيا ظالما إلا مع رعية ظالمة.

وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (3).

ويفهم من ذلك: أَن صلاح الرعية، يستتبع صلاح راعيها.

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} .

(1) سورة المائدة الآية: 37

(2)

سورة الكهف، من الآية49

(3)

سورة الزخرف، الآية: 36

ص: 1327

المفردات:

{يَا مَعْشَرَ} المعشر: جماعةٌ أَمرهم من واحد.

{يَقُصُّونَ} : يتلون.

{وَغَرَّتهُم} : وخدعتهم.

التفسير

130 -

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا

} الآية.

جاءتْ هذه الآية، لتقريع الجن والإِنس - في الآخرة - على معاصيهم، إِثر بيان أنهم يشتركون في المظالم والمعاصي في الدنيا.

وقد أَفادت الآية: أَن الجن مكلفون بشرائع الله كالإِنس، وأَن الله تعالى يوبخهم ويعاقبهم على عصيانهم الرسل، كما يوبخ الإنس ويعاقبهم.

ولَم يثبت إِرسال أحد من الجن إِلى أَقوامهم.

فالظاهر أَن المراد بالرسل في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} هم الرسل الذين يبعثهم الله من الإِنس، فيكون الجن مكلفين بالإِيمان بهم، والعمل بشرائعهم كالإِنس.

ومعنى كونهم منهم: أَنهم بعثوا من بين الإِنس والجن. فهم مرئيون لهم مشاهَدون منهم. وليسوا غرباءَ عنهم .. فلا شك أن رسل الإِنس كذلك بالنسبة إِلى الجن.

وقال ابن عباس: رُسُل الجِنِّ، هم الذين بلَّغوا قومهم، ما سمعوه من الوحى ..

ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (1).

وقال مقاتل والضحاك: أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس.

وليس لدينا من السنة ما يثبت ذلك أَو ينفيه. والله أَعلم حيث يجعل رسالته.

(1) سورة الأحقاف، الآية: 29

ص: 1328

والمعنى: يخاطب الله الجن والإِنس - يوم القيامة - موبخا، فيقول: يا جماعة الجن والإِنس، أَلم يأْتكم رسلٌ من بينكم: تعرفون صدقهم وأمانتهم، وتفهمون قولهم، وليسوا غرباءَ عنكم، حتى تنكروا عليهم ما جاءُوكم به

وهؤلاءِ الرسل كانوا يتلون عليكم آياتى ويُخَوفونَكم لقائى في يومكم هذا؟!

{قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} :

أَي: قال كفار الجن والإِنس - بعد ما سمعوا توبيخ الله لهم - شهدنا على أَنفسنا بأَن رسل الله جاءُونا، فلم نؤمن بهم، ولم نصدق قولهم.

وقد بيَّن الله سبحانه السرّ، فيها اندفعوا إِليه من الكفر والمعاصي

والمعنى: وخدعتهم الحياة الدنيا فاطمأَنوا إِليها، ورفضوا العمل للآخرة. ذلك الذي دعاهم الرسل إِليه، وشهدوا على أنفسهم في الآخرة - أَسفًا وندما - أنهم كانوا في الذنيا كافرين .... فلذا استحقوا توبيخ الله وعقابه.

131 -

{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} :

الإِشارة في قوله: {ذَلِكَ} راجعة إِلى ما تقدم ذكره. من بعثة الرسل إِليهم، وإِنذارهم سوءَ العاقبة.

والمعنى: ذلك الذي تقدم من إِرسال الرسل: كان لأَن سنة الله تعالى: أَلا يُهْلِكَ قوما وهم غافلون عن سوءِ عاقبة ما هم عليه من الكفر .. فلذا، بعث إِليهم الرسل لِيُبصِّرُوهم وينذروهم، حتى يقطعوا أَعذارهم.

وفي ذلك يقول الله تعالى: {

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1)، ويقول سبحانه:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (2).

(1) سورة الإسراء، من الآية: 15

(2)

سورة طه، الآية: 134

ص: 1329

132 -

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} :

أي: ولكل من المكلفين، درجاتٌ متفاوتةٌ من أَجل ما عملوه في دنياهم؛ من طاعة أو معصية.

فأهل الطاعة؛ ينعمون بدرجات الجنات، حسب تفاوتهم في طاعتهم.

وأَهل المعصية، يعاقَبُونَ بالنار، حسب تفاوتهم في معصيتهم .. فالكافرون فيها مخلدون.

وعصاة المؤمنين يخرجون بعد انتهاءِ مدة عقابهم. وما ربك بغافل عن أعمالهم: قليلها وكثيرها

فكلها معلومٌ لديه تعالى، ومسجل في كتب أعمالهم، كما قال الله تعالى:{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} (1).

وقد بينت هذه الآية، عدل الله تعالى، بين عباده في جزاءِ الآخرة، كما بينت الآية التي قبلها عدله - سبحانه - في جزاءِ الدنيا.

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)} .

المفردات:

{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} : ومَا أنتم بمعجزين طالبكم .. فلا تقدرون على الإِفلات من عقابه الذي توعدكم به.

{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} : اعملوا على تمكنكم فيما أَنتم فيه، بقدر ما تستطيعون.

(1) سورة النبأ، الآية: 29

ص: 1330

التفسير

133 -

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ

} الآية.

بعد أَن بين الله تعالى، عدله بين عباده في جزاءِ الآخرة، عقَّبه بذكر رحمته في معاملة عباده، حيث أَمهلهم وأَنذرهم، ولم يُعَجِّل بعقوبتهم، لعلهم يثوبون إِلى رشدهم، ولا يَغْتَرُّون بإِمهالهم فإِنَّ أَخذه لشديد أَليم.

والمعنى: وربك - يا محمد - هو الغنى عن عباده، وعن طاعتهم له، وهو صاحب الرحمة بعباده، حيث بعث إِليهم رسله مبشرين ومنذرين وناصحين، فإِن أَحسنوا فلأنفسهم، وإِن أَساءُوا فعليها. ولا يعود على الله تعالى، من ذلك شىءٌ.

أَخرج الإِمام مسلم في صحيحه حديثا قدسيًّا. رواه أبو ذر رضى الله عنه، جاءَ فيه: "يَا عِبَادِى، إِنَّكُمْ لَن تَبْلُغُوا ضُرِّى فَتَضُرُّونِى، وَلَن تَبْلُغُوا نَفعِى فَتَنفَعُونِى

يَا عِبَادِى، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُم، وَإِنسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ، مَّا زَادَ ذَلِكَ في مُلْكِى شَيْئًا

يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُمْ وَإِنسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلىَ أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُل وَاحِدٍ مِنكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِى شَيْئًا

" الحديث.

وبعد أَن ذكر الله عز وجل رحمته بإرسال الرسل، هدد المشركين بالإهلاك، إِن هم استمروا على كفرهم. فقال تعالى:

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} :

أَي: إن يشأْ يهلكْكمْ بسبب كفركم، ويأْت بِخَلَف لكم من بعدكم أَطوع منكم. فهو - سبحانه - قادر على ذلك، مثلما أَنشأَكم من ذرية قوم آخرين من قبلكم.

134 -

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} :

بعد أَن بين الله في الآية السابقة: أَنه الغنى عن أَعمال خلقه، وأَنه رحيم بهم، وأَنه لو شاءَ أن يذهبهم ويستبدل بهم آخرين لفعل

ولكنه يؤَخرهم إِلى أَجل لا ريب فيه - بين

ص: 1331

لهم في هذه الآية: أَن ما يدّعونه من البعث والجزاءِ حق، وسيأْتى لا محالة، ولن يفلتوا من هذا الجزاءِ؛ لأَنهم لا يعجزون الله تعالى. فهو القادر على الإعادة إن صاروا ترابا وعظاما نخرة. كما قال تعالى:{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} (1).

135 -

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} :

بعد أَن بين الله لهم: أَن الجزاءَ آتٍ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يقول لهم: استمروا على ما أَنتم عليه، فإِني مستمر على ما أَنا عليه من دعوتكم إلى الحق، وأَن العاقبة ستكون لي عليكم في الدنيا والآخرة.

والأَمر في قوله تعالى: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} للتهديد والإِنذار.

والمعنى: قل يا محمد، لهؤُلاءِ الجاحدين المعاندين: اعملوا - جهد طاقتكم - على تثبيت وتمكين أَمركم فيما أَنتم عليه من الضلال والكفر

فإنى عامل - جهد طاقتى - على تثبيت دعوتى إِلى الله تعالى. فسوف تعلمون أَيُّنا تكون له العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة؟! قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (2).

وقد مكَّن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأَصحابه من بعده .. وسوف يثيبهم في الآخرة أَجزل الثواب.

أما الجاحدون الذين حادوا عن الطريق السوى، فقد خذلهم الله في الدنيا. ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك لأَن سنة الله: أَنَّه لَا يُفْلِح الظَّالِمونَ، أن لا يظْفَرُ بمُرادِه مَن كَفَرَ بالله تعالى، وأشرك به سبحانه.

(1) سورة الذاريات، الآيتان: 5، 6

(2)

سورة غافر، الآية: 51

ص: 1332

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)} .

المفردات:

{ذَرَأَ} : خلق.

{الْحَرْثِ} : الزرع والثمار.

{نَصِيبًا} : جُزْءًا.

التفسير

136 -

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا

} الآية.

أي: وجعل المشركون - مما خلق الله من الزروع ونتاج الأَنعام - نصيبا لله تعالى: للضيفان والمساكين.

وكما جعلوا لله نصيبا من ذلك، جعلوا نصيبا منه لآلهتهم: ينفقونه على سدنتها، ويذبحونه عندها؛ تقربا إِليها.

ولم يذكر هذا النصيب مقابلا لنصيب الله في الآية الكريمة بأَن يقال: وجعلوا لآلهتهم نصيبا كذلك، لأَنه مفهوم استنتاجا من جعلهم نصيبا لله واكتفاءً بذكره في التفريع في قوله لتعالى:{فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} ، وتعاليًا باللهِ تعالى، عن مقام المقابلة.

ص: 1333

أي: فقالوا هذا لله زاعمين أَنه يصرف في مرضاة الله وهم - كاذبون فيما زعموه - كما يدل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} وسيأْتى تفسيره.

أي وقالوا أَيضا هذا النصيب الآخر لآلهتنا، يصرف في مرضاتها.

{فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} :

أَي: فما خصوه بشركائِهم وأوثانهم، لا يصل منه شىءٌ إِلى وجوه الخير، التي ينبغى أَن ينفق فيها النصيب الخاص باللهِ تعالى. بل هم يقصرونه على أَوثانهم، اهتمامًا منهم بالتقرب إِليها.

وأما ما خصوه باللهِ عَزَّ رجلَّ، فإِنهم يقتطعون منه لأَوثانِهم أَو يستبدلون به مالها، ولا يصدقون في تخصيصه بالله والتقرب إليه.

فالآية تقرر: أنهم كانوا يُعيِّنُون نصيبا من الزرع ونتاج الأَنعام لله تعالى، ليصرفوه في وجوه البر والخير إِلى الضيفان والمساكين، وكانوا يعينون نصيبا آخر من ذلك لآلهتهم؛ وينفقونه عليها وعلى سدنتها، ويذبحونه عندها تقربا إِليها.

ولكنهم إِذا رأَوا ما عينوه لله أزكى وأَكثر نماءً مما عيّنوه لآلهتهم، عكسوا، فجعلوا ما لله لآلهتهم، وما لآلهتهم لله تعالى.

وإِذا رأوا ما عينوه لآلهتهم أَزكى مما عينوه لله تعالى، فإِنهم يتركونه لآلهتهم؛ حُبُّا وإيثارًا لها.

وفي قوله تعالى:

{مِمَّا ذَرَأَ} : تنبيه على فرط جهالتهم، حيث جعلوا للخالق - فيما خلق من الزرع والأَنعام شريكا لا يقدر على شىءٍ، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكى النامى له، سواءً أَكان معينا له أَم لله تعالى.

ولذا ختم الله سبحانه الآية بقوله:

{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} :

أي: قبح حكمهم الذي اقتضى إِيثار آلهتهم على الله تعالى، فيما خلق الله

وقبح عملهم بما لم يُشْرَعْ لهم.

ص: 1334

{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)} .

المفردات:

{شُرَكَاؤُهُمْ} : أي أولياؤُهم من الشياطين.

{لِيُرْدُوهُمْ} : ليهلكوهم.

{وَلِيَلْبِسُوا} : وليخلطوا.

التفسير

137 -

{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ

} الآية.

كان من المشركين من يقتل بناتِهِ؛ خشية العار.

ومنهم من يقتل أَولاده - ذكورا كانوا أم إِناثا - مخافة الفقر.

ومنهم من يذبح آخر أولاده المذكور، إِذا بلغوا عددا معينا.

وكان ذلك كله، نتيجة لإغراءِ الشياطين والكهان لهم .. كما فعل عبد المطلب، حينما نذر أَن يذبح آخر أَبنائه. إِذا بلغ عددهم عشرة بنين.

وقد جاءَت هذه الآية تنعى عليهم فعلهم، وتخوفهم سوءَ عاقبتهم.

والمعنى: وكما زَيَّنَ الشياطِينُ والسَّدَنةُ للمشركين تقسيم هباتهم بين الله وآلهتهم، زينوا لكثير منهم قتل أَولادهم من بنين وبنات؛ ليوقعوهم في الهلاك، وليخلطوا عليهم أَمر دينهم الذي ورثوه عن إِبراهيم وإِسماعيل عليهما السلام فإنه كان يحرّم عليهم القتل، وبخاصة قتل الأولاد.

ص: 1335

والتعبير عن الكهان والشياطين بأنهم شركاءُ المشركين، لأَنهم جعلوا وَسْوَسَتَهُم وأَمرهم، شرعًا لهم.

وبذلك جعلوهم شركاءَ لله في التشريع.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} :

أَي: ولو شاءَ الله عدم فعلهم ذلك لعصمهم منه، ولكنه خَلَّاهم وما يفعلون؛ لأَنه علم منهم إِصرارهم على ضلالهم وكفرهم، ولهذا قال سبحانه:

{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} :

أَي: فاتركهم ودعهم - يا محمد - في غَيهم وضلالهم وما يختلقونه من الكذب على الله، فإِنهم مصرون عليه. وسوف نعاقبهم على ما يفترون.

وهذا تهديد لهم ووعيد، كما قال سبحانه: {

نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1).

{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)} .

المفردات:

{حَرْثٌ} : زرع.

{حِجْرٌ} : محجور محرم.

{بِزَعْمِهِمْ} : أَي بادعائهم من غير حجة.

(1) سورة آل عمران، من الآية: 178

ص: 1336

التفسير

138 -

{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ

} الآية.

تحكى هذه الآية، نوعا آخر من جهالاتهم وكفرهم، وافترائهم الكذب على الله تعالى.

والمعنى: أَن هؤُلاءِ المشركين، حلَّلوا وحرَّموا من تلقاءِ أَنفسهم، فجعلوا بعض الأَنعام وبعض الزروع محجورة محرمة على الناس، لا يأْكلها إِلا من شاءُوا من الكهان القائمين على الأَصنام، ومن الرجال دون النساءِ.

{وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} :

فلا تُركَبُ ولا يُحْمَل عليها. وهى: البحائر، والسوائب، والوصائل، والْحَوامِى.

{وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} :

عند الذبح، بل يذكرون أسماءَ أصنامهم عليها.

وهذه الجملة ليست واقعة في كلامهم المحكى كنظائرهم السابقة، بل مسوقة من جهته تعالى، لبيان عادتهم عند الذبح.

وقال مجاهد: كانت لهم طائفة من أنعامهم: لا يذكرون اسم الله عليها في أَي شأْن من شئونها: لا إِن ركبوا، ولا إن حلبوا، ولا إن نُتِجُوا، ولا إِن باعوا، ولا إِن حَمَلُوا.

وقيل: معنى {لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} : لا يحجون عليها: لأَن الحج لا يخلوا عن ذكر الله تعالى.

{افْتِرَاءً عَلَيْهِ} :

لأَنهم كانوا قَسَّموا أَنعامهم هذه الأَقسام الثلاثة، زاعمين أَن الله أمرهم بها، اختلاقًا وكذبًا منهم على الله تعالى. فجعلوا منها قسما حِجْرَّا، وقسما لا يُرْكَبُ، لا يَذْكرون اسم الله عليه.

ثم بَيَّن اللهُ جزاءَهم على افترائهم، فقال تعالى:

{سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

أَي: سيعاقبهم الله بسبب افترائهم الكذب على الله تعالى.

ص: 1337

{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)} .

التفسير

139 -

{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} الآية.

أَي: وقال أُولئك المشركون: ما في بطون هذه الأنعام - من أَجنة البحائر والسوائب - خالصة الحِل لذكورنا، ومحرم أكلها على إناثنا. وذلك إِن وُلِدَتَ الأَجنة حيَّة. كما يُشْعِر به قوله تعالى حكاية عنهم:

{وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} :

أَي: وإِن يكن ما في البطون ميتة حين يولد، فالذكور والإِناث شركاءُ في أَكله. فهو حلال لهم جميعًا.

وكل ما ذكر من التحريم والتحليل، ينسبونه إِلى الله تعالى، زورا وبهتانا.

ولهذا قال سبحانه:

{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} :

أي: سيعاقبهم الله جزاءً لهم على وصفهم الكذب (1) وحكايتهم إياه على الله سبحانه، بادعائهم أنه تعالى، أحلَّ وحرَّم ما أَحلوه وحرموه.

إنه عظيم الحكمة والعلم

ومَن كان كذلك، فلا يفلت هؤُلاءِ. من عقابه الموافق لمقتضى حكمته، المناسب لما علمه من جرائمهم.

(1) كما في قوله تعالى: {وتصف ألسنتهم الكذب} النحل من الآية: 62.

ص: 1338

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)} .

المفردات:

{خَسِرَ} : خاب.

{سَفَهًا} : السفاهة، الخفة والجهالة.

التفسير

140 -

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ

} الآية.

المعنى: قد خاب هؤُلاءِ المشركون، الذين قتلوا أَولادهم بغير سبب سوى سفاهتهم - أَي خفة عقولهم - وجهلهم أَن الله هو الرازق لهم ولأَولادهم.

وسبب هذه السفاهة: انتفاءُ علمهم

وجهلُهم بأَن الله هو الرازق لهم ولأَولادهم، وأَن مكارم الأَخلاق تحمى من الزلل.

فلو نشأَت البنت على الفضيلة، لما زلت في كبرها.

قال عكرمة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. فقد كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والعار، وأَولادهم خشية الفقر، جهلا منهم بأَن الله هو الرازق لأَولادهم وحده.

أَما خسرانهم، فلأَن الولد نعمة عظيمة: أَنعم الله بها عليهم، فيه يبقى الذكر ويشتد الظهر. فإِذا فقده بجريمة الوأْد، فقد خسر خسرانا مبينا في الدنيا والآخرة.

أَما خسارته في الدنيا، فلأَنه قطع رحمه، وقتل ولده، وأَزال نعمة الله عليه.

وأَما خسارته في الآخرة، فلأَنه استوجب عقاب الله الشديد، وقتل نفسا حرَّم الله قتلها.

{وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} :

من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي وغيرها.

ص: 1339

{افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} :

أَي: كذبا عليه سبحانه وتعالى، حيث زعموا أَن الله أَمرهم بذلك.

{قَدْ ضَلُّوا} :

أَي أَخطأُوا طريق الحق والصواب.

{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} : من الأَصل لسوءِ سلوكهم، وفساد قلوبهم.

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)} .

المفردات:

{جَنَّاتٍ} : بساتين.

{مَعْرُوشَاتٍ} : مرفوعات على ما يحملها.

{مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} الاشتباه والتشابه؛ بمعنى واحد. والمراد به: التقارب ونحو اللون والطعم.

{حَصَادِهِ} : جَنْيِهِ.

{وَلَا تُسْرِفُوا} : ولا تجاوزوا الحد في الإِنفاق.

التفسير

141 -

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ

} الآية.

هذه الآية - وما بعدها - رَدٌّ لافتراءَات المشركين فيما أحَلُّوه وحَرَّمُوه بأَهوائهم .. وذلك

ص: 1340

ببيان أَن الله هو الخالق لكل شيءٍ: من النبات والحيوان. وأَنه أَحلَّ من ذلك ما أَحلَّ وحرم منه ما حرم، على مقتضى حكمته. خلافا لما أَحلوه وحرموه بأَهوائهم.

والمعنى: هو الله الذي خلق بساتين مختلفة: بعضها مرفوعاتٌ على ما يحملها من العرائش، كبعض الكروم، وبعضها متروكاتٌ بدون عرائش.

{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} :

أَي: وأَنشأَ النخل والزرع مختلفا ثمره وحَبُّهُ: في الهيئة، وفي الطعم.

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} :

أَي: وأَنشأَ سبحانه وتعالى الزيتون والرمان: متشابها في الثمر والشكل والهيئة والطعم، واللون والحجم. وغير متشابه في ذلك. إِبداعا في الخلق والإِعجاز.

{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} :

هذا أَمرٌ أَباح الله به التناول من ثمر ما ذكر مطلقا، قبل تمام نضجه. بشرط عدم الضرر أو بعده وقبلَ البيع، لعدم تعلق حق شرعى به.

قال بعض الفقهاءِ: إِنه رخصة للمالك في الأَكل منه قبل أَداءِ حق الله تعالى فيه، لكن بقدر ودون توسع في الأَكل.

ويلاحظ أَن المقصود بأَكل الطعام قبل نضجه، هو تناول نحو القول الأَخضر والباقلاءِ والفريك، ونحو ذلك.

{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} :

الأمر هنا، للوجوب، بخلاف الأَمر في قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} فهو للإباحه كما سبق بيانه. ولا يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب، عندما تقوم الأدلة على توجيه كل منهما الوجهة التي يستحقها.

واختلف العلماء في المراد من: حق الزرع والثمر يوم حصاده، في الآية الكريمة.

فمنهم من حمله على الزكاة المفروضة

وعلى هذا الرأْى كثيرون، منهم ابن عباس وأَنس بن مالك، والحسن. ونقل عن مالك وأَبي حنيفة، وبعض أَصحاب الشافعى رضوان الله عليهم. وقد التزم أَصحاب هذا الرأْى بالقول: بأَن هذه الآية مدنية.

ص: 1341

ومن العلماءِ من قال: إِن هذا حق في المال سوى الزكاة، أَمر الله به ندبا بمكة.

وعلى هذا جَمْع منهم: عطاءُ، وسعيد بن جبير، ومجاهد، رضى الله عنهم.

فالآية مكية كباقي السورة.

أَما الزكاة في الثمار والحبوب، فقد فرضت في المدينة. وقد بين ذلك في السور المدنية، وفي أَحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ذكرت فيها أصناف الزَّكَوِيَّاتِ، والنصاب الذي تجب فيه الزكاة، ومقدار الزكاة.

ولكنا نرجح الرأى الأَول، وهو أَن الآية مدنية، لأَن مكة ليس فيها جنات معروشات وغير معروشات، وليس فيها زرع، وإِنما ذلك في المدينة.

{وَلا تُسْرِفُوا} : أَي لا تتجاوزوا الحد فتبسطوا أيديَكم في الإِعطاءِ وقال زيد بن أَسلم: هو خطاب للولاة.

أَي: لا تأْخذوا فوق حقكم، وما لا يجب على الناس.

وقال إِياس بن معاوية: ما جاوزتَ به أَمر الله، فهو سرف وإِسراف، يعني أَن هذا هو خطاب للمزكِّى: أَنه لا يزيد على ما فرضه الله في الزكاة. لكن مجاهدا حمل الإِسراف في الآية على الإِنْفاقِ في المعصية. فقال: لو كان أَبو قبيس ذهبا فأَنْفَقَهُ في طاعة الله لم يكن مسرفا. ولو أَنفق درهما أَو مُدًّا في معصية - كان مسرفا.

غير أَن هذا الرأْى ضعيف.

يردُّه ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما، أَن ثابت بن قيس بن شماس عَمَدَ إِلى خمسمائة نخلة فجزَّها ثم قسمها في يوم واحد، ولم يترك لأَهله شيئا فنزلت {وَلَا تُسْرِفُوا} .

وروى مثله ابن جرير وابن أَبي حاتم عن ابن جريج.

والذى ينبغي الاعتماد عليه: أَن التوسط في الإِنفاق هو الأَفضل .. وهذا متفق مع قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ

} (1).

(1) سورة الإسراء، من الآية: 29

ص: 1342

فإذا جاوز المزكى ما فرضه الله عليه، فليذكر أولاده

فلا يدعهم فقراء

فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأَحد أَصحابه: "إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكففُونَ النَّاسَ"(1)

{إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} :

أَي: أنه - سبحانه - لا يرضى عمن يسرف في ماله بإِنفاقه كله - أَو أَكثره - في الصدقة أو المتعة. أو بإِنفاقه في معصية، أو بالتقصير في حق الله الواجب في الزكاة، بأَن يعطِىَ أقلَّ مما يجب عليه

فكل ذلك إِسراف ومجاوزة للحد. والله لا يرضى عن فاعله. بل يعاقبه.

{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)} .

المفردات:

{حَمُولَةً} : تحمل الأَثقال.

{فَرْشًا} : ما يفرش للذبح.

التفسير

142 -

{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا .. } الآية.

هذا شروع في تفصيل أَحكام الأَنعام، وإِبطال ما افْتَروْه على الله في شأْنها، بالتحليل والتحريم.

والمعنى: وهو سبحانه وتعالى الذي أَنشأ لكم من الأنعام، ما يصلح للحمل عليه، وما لا يصلح. ولكنه يُفرَش ويُضْجَع للذبح.

(1) من حديث أخرجه البخاري.

ص: 1343

ويصح أن يكون المراد من كونه فَرْشًا: أَنه يُتَّخَذُ من شعره وصوفه ووبره ما يُفْرَش به.

وسيأْتى بيان الأَنعام في الآية الآتية.

{كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} :

أَي: كلوا من لحوم هذه الأَنعام وأَلبانها، التي رزقكم الله بها.

والأَمر هنا؛ لإِباحة الأَكل، وإِظهار المنَّةِ على عباده، كي يشكروه، ولا يكفروه.

{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} :

أَي: لا تسلكوا سبيل الشيطان في تحريم ما أَحل الله لكم، وتحليل مما حرم عليكم.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} :

أَي: إِنه بَيَّنُ العداوة لكم، حريص على إغرائكم وإغوائكم.

والشيطان جنس، يشمل كل شياطين الإِنس والجن، ممن يحلُّون الحرام ويحرمون الحلال من الحكام وذوى السلطان. تحقيقا للشهوات والنزوات ونحوها.

{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} .

ص: 1344

المفردات:

{أَزْوَاجٌ} : جمع زوج. ويطلق على كل واحد من القرينين: الذكر والأُنثى في الحيوانات المتزاوجة، ويطلق أيضًا على مجموعهما. والمراد الأَول.

{نَبِّئُونِى} : أَخبروني.

التفسير

143 -

{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ .. } الآية.

هذا بيان لجهل العرب قبل الإِسلام، فيما كانوا يحرمون من الأَنعام، ويجعلونها أَقساما وأَنواعا: بحيرة، وسائبة، ووصيلة وغيرها.

فبيّن في هذه الآية - وما بعدها - أَنواع الأَنعام وأَصنافها. فقال:

{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} :

أي ثمانية أصناف: أَربعة ذكور من الإِبل والبقر والغنم والمعز، وأَربعة إِناث من كل منها. وكل ذَكَرٍ من هذه الأَصناف يُزَاوِجُ أُنثاه وبالعكس، والمزاوجة: المثاناة.

ثم شرع في تفصيل هذه الأَصناف، على النحو الآتي، فقال:

{مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} :

أَي من الضأْن زوجين: ذكر وأْنثى.

{وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} :

أَي ومن المعز زوجين: ذكر وأُنثى .. والمراد كل ذكر وأُنثى من هذين الصنفين الاثنين.

{قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} :

أَي قل يا محمَّد، لهؤُلاءِ الذين يحرّمون ذكور الأَنعام تارة، وإناثها تارة أُخرى، وينسبون ذلك إلى الله افتراءً عليه - قل لهم: أَكان التحريم في الضأْن والمعز وغيرهما من الأَنعام بسبب الذكورة؟ أَم كان بسبب الأُنوثة؟ أَم هو بسبب الوجود في الرحم؟

ص: 1345

فإِن كان التحريم بسبب الذكورة، لزمهم تحريمها، وهم لم يفعلوا ذلك.

وإِن كان التحريم بسبب الأُنوثة، لزمهم تحريم جميع الإِناث، ولم يفعلوا ذلك أَيضا.

وإِن كان التحريم بسبب اشتمال الرحم على الجنين، لزمهم تحريم جميع الذكور وجميع الإِناث؛ لأَن الكل يشتمل عليه الرحم. ولم يفعلوا.

ومثل ذلك. يقال في الإِبل والبقر: الآتيين.

{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} :

أَي: أخبروني بأَمر معلوم من جهة الله تعالى، جاءَ به الأَنبياءُ عليهم الصلاة والسلام، يدل على أَن الله سبحانه، حرم شيئا مما ذكر، إِن كنتم صادقين فيما زعمتموه من أَن التحليل والتحريم هما من عند الله.

144 -

{وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ

} الآية.

أَي: ومن الإِبل اثنين: ذكرٍ وأُنثى. ومن البقر اثنين: ذكرٍ وأُنثى. قل لهم يا محمد، أَكان التحريم بسبب الذكورة في هذين الصنفين؟ أَم كان بسبب الأَنوثة فيهما؟

إِلخ ما بَيَّن في الآية قبلها.

وإِنما ذكر في هذه الآية، ما ذكر في الآية السابقة - لزيادة الإِلزام والتبكيت والإِفحام.

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} :

هذا انتقال من توبيخهم على تحريم ما حرموه بغير علم، إِلى توبيخهم بنفي حضورهم وصية الله بالتحريم.

والمعنى: بل أَكنتم حاضرين مشاهدين حين وصاكم الله، وأَمركم بهذا التحريم؟!

والمراد نفى الوصية بالتحريم. فلذا لم يشهدوها.

والحاصل: أن العلم بالتحريم، إِما أَن يكون عن رسول أَخبرهم به، وإِما أَن يكون عن مشاهدة لله وسماع منه تعالى

وكلا الأَمرين منتف.

وبذلك يبطل تحريمهم كما حرموه عن الله تعالى.

ص: 1346

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ

}:

أَي: فلا أَحدٌ أَشدَّ ظلمًا ممن اختلق الكذب على الله تعالى، فنسب إِليه تحريم ما لم يحرم، ليوقع الناس - بجهله - في الضلال والبعد عن المنهج القويم، الذي شرعه الله لعباده.

وإِنما وصفوا بعدم العلم - وهم متيقنون بأَن الله لم يحرم ذلك - للتنبيه على أنهم خرجوا في ظلمهم عن الحدود والنهايات. فإِن من افترى على الله حكما غير عالم بصدوره عنه - مع احتمال صدوره - كان بعيد الغاية في الظلم

فما ظنك بمن افترى عليه تعالى، وهو يعلم أَنه لم يصدر عنه جل وعلا!!

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :

أَي: إِن اللهَ لا يرشد إِلى طريق الحق كل من اتصف بالظلم. وإِذا كان المتصف بالظلم لا تناله هداية الله. فما بالك بمن بلغ في الظلم نهاية النهاية!!

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُورَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)} .

ص: 1347

المفرادات:

{طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} : آكِلٍ يأْكله، من ذكر وأُنثى.

{مَسْفُوحًا} : أَي سائلا.

{رِجْسٌ} : نجس خبيث. والمراد: حرام.

{فِسْقًا} : خروجا عما أَحَلَّه الله.

{أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} : ذُكِرَ اسمُ غير الله تعالى عليه، عند ذبحه.

{فَمَنِ اضْطُرَّ} : فَمَنْ حملته الضرورة على تناول شيءٍ من ذلك.

{غَيْرَ بَاغٍ} : أَي غير ظالم مضطر مثله.

{وَلَا عَادٍ} : أَي ولا متجاوز قدر الضرورة.

{كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} : أَي كلَّ ماله أَصبع من الإِبل، والسباع، والطيور.

{شُحُومَهُمَا} : جمع شحم. وهو الدهن.

{إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} : أَي إلَاّ مَا وُجِد من الشحم فوق ظهورهما.

{أَوِ الْحَوَايَا} : أي وإِلَّا الشحومَ التي تغطِّى الأَمعاء.

{أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} : أَي وإِلَّا ما اختلط من الشحم بعظم، كالإلية.

{بِبَغيِهِمْ} : أَي بسبب ظلمهم.

{بَأْسُهُ} : عقابه.

التفسير

145 -

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية.

بعد أن بين القرآن الكريم - فيما سبق - خطأَ المشركين فيما يفترونه على الله تعالى، في شأْن التحريم والتحليل لبعض الأَرزاق من الثمار والأَنعام، ووبَّخَهم على ذلك - جاءَت هذه

ص: 1348

الآية، تأْمر النبي صلى الله عليه وسلم، ببيان أَن الوحى هو الطريق الصحيح فيما حرَّمه الله وأَحلَّه. فقال:

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} :

أي: قل يا محمَّد، لهؤُلاءِ المشركين المفترين: لقد تتبعت جميع ما أوحاه الله إلىَّ، بحثا عن المحرمات، فلم أَجد فيها طعاما محرما على أي آكل من الذكور أَو الإِناث.

{إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} :

أَي: لا أَجد طعامًا محرما، إِلا أَن يكون الطعام شيئا من الأَشياءِ الآتية:

1 -

(مَيْتَةً) وهو الحيوان الذي زهقت روحه بغير ذبح شرعي.

2 -

{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} : أَي دمًا مصبوبا سائلا من الحيوان، بخلاف الكبد والطحال، فإنهما دمَان غير سائلين.

3 -

{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} : ومثل لحمه، شحمه، وغضاريفه. فإِن جميع أَجزائه قذر نجس، ولو ذبح.

4 -

{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} : أَو يكون المطعوم لحم حيوان، ذُكِرَ عليه - عند ذبحه - اسم غير الله تعالى، فإِنه يكون - عند ذلك - فسقًا حيث بَعُدَ، بسبب ذلك، عما أحلَّه الله تعالى.

{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

أَي: فأَى شخص حملته الضرورة على تناول شيء من المحرمات السابقة، لحفظ الحياة، بسبب فقده الطعام الحلال، فإنه رخص له ذلك، بشرط أَلا يبغىَ بأَكل نصيب مضطر آخر مثلِهِ. وأَلا يتجاوز - فيما يتناوله - مقدار الضرورة التي تحفظ عليه حياته، حتى يصل إلى مكان يجد به الطعام الحلال.

{فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

أَي: فإن الله عظيم المغفرة والرحمة: لا يؤَاخِذ المضطَّر على تناول شيءٍ من ذلك؛ لأنه أَباحه له لحفظ حياته.

ص: 1349

146 -

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ .. } الآية.

أَي: وعلى اليهود - دون غيرهم، بسبب ظلمِهم - حرم الله جميع ماله إِصبع غير منفرج: كالإِبل، والطيور، وخصه ابن زيد بالإِبل فقط.

{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} :

أَي: وحرَّم عليهم دهون البقر والغنم.

{إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} :

أَي: إِلا الدهون التي توجد فوق ظهور البقر والغنم.

{أَوِ الْحَوَايَا} :

أَي: وإِلَّا الدهون التي تغطى الأَمعاء.

{أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} :

أَي: وإِلَّا الدهون التي تكون متصلة بعظم، كشحم الإِلية، فإِنها متصلة بالسلسلة الفقرية.

{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} :

أَي: كان ذلك التحريم، عقابا لهم بسبب عُتُوِّهم وعصيانهم، وتعديهم حدود الله، حيث قتلوا الأَنبياء بغير حق، وأَكلوا الربا، وأَكلوا أَموال الناس بالباطل. كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ

} (1).

وكانوا كلما أَتوا معصية، عوقبوا بتحريم شيءٍ مما أُحِلَّ لهم. وهم ينكرون ويدعون أنها كانت محرمة على الأُمم قبلهم.

{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} :

هذا إِخبار عن الله عز وجل، بأنه صادق في كل مَا بيَّنه، ومنه بيان صدقه فيما أَحلَّ وحرَّم، بالنسبة لليهود.

(1) سورة النساء، من الآية: 160

ص: 1350

147 -

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ

} الآية.

أَي: فإن كذبك يا محمد، المخالفون لك من اليهود والمشركين، فيما جئتهم به من الحق والهدى - ومنه ما بينته لهم من أحكام الحلال والحرام من المطعومات - فقل لهم؛ ترغيبا لهم في الطاعة، وإنذارا لهم على استمرارهم على الشرك والضلال.

{رَبُّكُمْ} : الذي خلقكم وتعهدكم؛ بالتربية، والإِرشاد، وبيان الحق.

{ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} :

أَي صاحب رحمة واسعة، حيث لم يعاجلكم بالعقوبة: مع قدرته على إنزالها بكم.

{وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} :

أن: ولا يقدر أَحد على دفع عقابه إِن أَراد وقوعه بالمجرمين. فكيف لا تخشون عقابه وأنتم أَشد الناس إِجراما؟!

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)} .

المفردات:

{تَخْرُصُونَ} : تقدِّرون تقديرا خاطئا.

ص: 1351

{الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} : أَي التامة؛ بإِنزال الكتب، وإرسال الرسل، مع تسليم العقل.

{هَلُمَّ} : أَحضِروا.

{وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} : أَي وهم يُسوُّون به غيره.

التفسير

148 -

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا

} الآية.

هذا إِخبارٌ من الله تعالى، بما سيقولونه، بعد أن أُفحموا وبطل ما كانوا عليه من الشرك، وتحريم ما أحل الله لهم، وتحليل ما حرم عليهم، ولزمتهم الحجة.

{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} :

أَي لو شاءَ الله أَلَّا نشرك به - نحن ولا آباؤُنا القريبون منهم والبعيدون - ما أشركنا وما أشرك آباؤُنا

ولو شاءَ أَلا نُحَرِّم شيئا مما حرمناه، لما حدث منا هذا التحريم. فما وقع منا، فهو بمشيئته ورضاه ..

أرادوا بذلك، أَنهم على الحق المشروع المرضى عند الله تعالى، وإِلا لَمَا وقع منهم، لأَنه لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.

وقد كذبوا في هذا الاحتجاج؛ فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعاصي. قال تعالى {

وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ

} (1).

{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} :

أَي: مثل تكذيب هؤُلاءِ لك، في أَن الله نهى عن الشرك والتحليل والتحريم بالرأْى والهوى، وإلباس الحق بالباطل - كذب الذين من قبلهم رسلَهُم، واستمروا على التكذيب، إِلى أَن نزل بهم عقابنا، وأَحاط بهم الهلاك.

{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} :

أَي: قل لهم يا محمد هل يوجد لديكم أَمرٌ معلوم بَيِّنٌ واضح، يصح الاعتماد عليه، فيما زعمتم، فتظهروه لنا كما أظهرنا لكم خطأَكم فيما ذهبتم إِليه؟!

(1) سورة الزمر، من الآية: 7

ص: 1352

{إن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظنَّ وإنْ أَنتُمْ إلَاّ تَخْرُصُونَ} :

أَي: ما تتبعون - فيما ذهبتم إليه من باطل - إلا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا

وما أَنتم إلا تُقدِّرون تقديرا خاطئا، وتكذِبون، إِظهارا للباطل، وإخفاءً للحق الواضح، وهو أنه ليس لديكم ما يصح الاعتماد عليه، والتمسك به.

149 -

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} :

أَي: قل لهم يا محمَّد، إن فقدتم كل حجة، ودليل على ما زعمتم، حيث لا حجة لكم .... فلله - وحده - الحجة البينة الواضحة، التي بلغت نهاية القوة، وقد لزمتكم بإرسال الرسل إليكم، وإِنزال الكتب عليكم، وقد بلَّغوكم.

{فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} :

أي: فلو شاءَ الله هدايتكم إلى الحق لوفَّقكم جميعًا إِلى اتباعه، لكنه - سبحانه - شاءَ الهداية للبعض فآمن، دون البعض.

150 -

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا

} الآية.

أي: قل لهم يا محمد، أَحضِرُوا من يشهد لكم ويعاونكم، في إثبات أَن الله حرم عليكم ما حرمتموه على أَنفسكم، وعلى أَزواجكم!!.

ولن يوجد لهم شاهد يشهد بحق وصدق على ذلك.

{فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} :

أي: فإن أَحضروا شهداءَهم المبطلين معهم، وشهدوا لهم، فلا تشهد معهم، ولا تقبل شهادتهم؛ لأَنها نتيجة اتباع الهوى.

{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} :

أى: ولا تتبع يا محمَّد، أهواء الذين اتصفوا بتكذيب آياتنا، وعدم الإِيمان بالبعث والجزاء.

ص: 1353

{وَهُمْ بَرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} :

أي: وهم يشركون بربهم. وقد أَدّى بهم ذلك إلى تسويته بغيره، والعدول عن عبادته وحده.

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)} .

المفردات:

{تَعَالُوْا} : أَقبِلوا وأَحضروا.

{أَتْلُ} : أَقرأ.

{إمْلَاقٍ} : فقرٍ وفاقةٍ.

{الْفَوَاحِشَ} : ما عظم قبحه من المعاصي.

{وَصَّاكُمْ بِهِ} : أمركم وأَلزمكم به.

{أَشُدَّهُ} : أَي يبلغ قوته البدنيه والعقلية ويحسن التصرف.

ص: 1354

{بِالْقِسْطِ} : بالعدل وعدم الجور.

{فَاعْدِلُوا} : فاصدُقوا في القول.

{وَبِعَهْدِ اللهِ أوْفُوا} : وبما طلب الله منكم من العدل وتأْدية أحكام الشرع، أَوفوا وأَتِمُّوا.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : لكي تتعظوا.

التفسير

151 -

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ

} الآية.

بعد أَن أَبطل الله تعالى - في الآيات السابقة - دعاوى المشركين في استنادهم إلى مشيئة الله تبريرا لإشراكهم، وإِشراك آبائهم من قبل، وتحريم ما حرموا، وظهر فساد مسلكهم في الاعتقاد والعمل، والتحليل والتحريم - طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستدعيهم إلى حضرته؛ ليبين لهم ما حرّمه عليهم، وما أوجب فقال سبحانه:

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .... } الآية.

أي: قل لهم يا محمَّد، أَقبلوا واحضرُوا إلىَّ، لأَقرأَ ما حرَّمه ربكم عليكم وما أَوجبه.

وبدأَ بالنهي عن أَكبر المحرمات، فقال تعالى:

{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} :

أَي: أَلَاّ تشركُوا به - سبحانه - شيئا من الشرك: كالرياءِ، وعدم صدق النية في العمل، أَو شيئا من الشركاءِ، حقيرا كان أو عظيما. والنهي عن الإِشراك يقتضي الأَمر بالإِخلاص لله وتوحيده، فإن النهي عن الشىءِ، هو أَمرٌ بضده.

{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} :

هذا من الأُمور التي طلبها الشارع، وحث عليها، بعد الأمر بالتوحيد والإِخلاص لله وحدَه. وقَرن الأَمر بالإِحسان إِلى الوالدين - في هذه الآية وغيرها - بالتوحيد والعبودية

ص: 1355

لله؛ لأَن الله هو الموجد الحقيقى لكل إِنسان. وإنما الوالدان سبب عادى في وجوده.

فلهما - على الولد - حق الإكرام والطاعة في الخير والبر، ولو كانا كافرين.

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} :

بعد أن قرر الله تعالى حق الوالدين على الولد، عقبه بتقرير الأَولاد على والديهم، فنهى عن قتلهم بسبب الفقر، كما كان يحدث في الجاهلية؛ لأَن الله هو الرزاق للوالد والولد، ولكل الكائنات الحية.

قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا

} (1).

{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} :

هذا نهى عن الاقتراب من المحرمات كلها على وجه العموم. فضلا عن الوقوع فيها.

وخاصة: جريمة الزني التي يترتب عليها اختلاط الأَنساب، وضياع الأموال.

{مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} :

أي: مَا يُفعَل منها علانية، وما يفعل منها سرًّا.

{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} :

هذا نهى عن قتل النفس التي عصمها الله من القتل: بالإِسلام، أو بالعهد - لأى سبب من الأَسباب - إِلا بالحق.

وقد ورد في السنة النبوية، بيان الأَسباب التي تجعل قتل الإِنسان لغيره حقا. كالذي جاءَ في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسلِم إِلَاّ بِإحْدَى ثَلَاث: الثيّبِ الزَّانىِ، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْس، والتَّارِكِ لِدِينِهِ المفارِقِ لِلْجَمَاعَةِ"(2)

فالذي يزنى - بعد أن سبق له الزواج - يقتل شرعا، والقاتل لغيره - عمدا - يقتل، والتارك لدينه - الذي ارتد بعد أَن دخل في الإِسلام - يُقْتَل

(1) سورة هود، من الآية: 6

(2)

رواه الشيخان.

ص: 1356

كل هؤُلاءِ، قتلهم يكون بالحق المشروع.

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} :

أي: ذلك الذي تقدم ذكره من التكاليف الخمسة - أَمركم الله بها أَمرا مؤَكدا؛ لعلكم تستعملون عقولكم في فهم الحِكَمِ التي من أَجلها طلبها الله منكم، وأَلزمكم بها.

وبمراعاة هذه التكاليف - كما أمر الله تعالى - تصان الأُسرة والمجتمع، من الفساد، والتفكك، والانهيار.

152 -

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ

} الآية.

في هذه الآية، نهىٌ عن القربِ من مال اليتيم - في جميع الأحوال - إلا في حال التصرف فيه على أَحسن الوجوه، التي تؤَدى إلى حفظه ونمائه.

ويستمر ذلك حتى يبلغ اليتيم رشده: في دينه ودنياه. وعند ذلك، يُدفَع إليه ماله؛ ليقوم هو على تنميته بنفسه، مع الإِشهاد عليه عند الدفع. قال تعالى:{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} (1).

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} :

هذا أمرٌ من الله تعالى: بالعدل والتسوية، في الكيل والميزان، عند التعامل بالبيع والشراءِ.

فلا تطفيف عند الاستيفاءِ من الغير .. ولا نقص عند الكيل والوزن له:

{لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} :

أي: لا يطلب الله من عباده ما لا يستطيعون فعله.

وقد جىءَ بهذا النص الكريم - بعد الأَمر بالعدل في الكيل والميزان - للإِشارة إِلى أَن مراعاة الدقة التامة، فيما يكال ويوزن، قد يعسر تحققه.

وعلى ذلك، فالمطلوب من المكلف: مراعاة العدل - في ذلك - قدر طاقته. وما وراءَ ذلك، يشمله عفو الله تعالى.

(1) سورة النساء: من الآية: 6

ص: 1357

{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} :

أي: إذا صدر منكم قول - في قضاء أَو شهادة أَو غير ذلك - فالتزموا العدل فيما تقولون، بدون محاباة لأحد، ولو كان أقربَ الناس إِليكم.

{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} :

أَي: التزموا بما طُلِبَ إليكم الوفاء به، من أَوامر الله ونواهيه.

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} :

أَي: ما ذكر من التكاليف المتقدمة، أمَرَكم الله به أَمرًا مؤَكدًا؛ لتتعظوا بما احتوته من مصالح دنيوية وأُخروية، فتعملوا بها، وتحرصوا على أدائها؛ لأَن هذه الأَحكام لا تختلف باختلاف الأُمم والأَزمان .. وهي مقررة في جميع الشرائع.

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} .

التفسير

153 -

{وَأَنَّ (1) هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} :

أَي: ولأن هذا الذي تقدم - في الآيتين السابقتين، من الأوامر والنواهى - هو صراط الله وطريقه المستقيم، الذي رضيه لعباده. فاتبعوه ولا تنحرفوا عنه، إِذ لا عوج فيه ولا انحراف.

{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} :

أَي: ولا تخرجوا عن الطريق المستقيم، إلى اتباع الطرق المعوجة، فتفرقَكم وتبعدكم عن دينه الحق.

(1) فتحت همزة أن على تقدير لام العلة، وارتباطها باتبعوه، أي فاتبعوه لأنه مستقيم.

ص: 1358

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} :

أي: هذا الذي تقدم - وهو اتباع دين الله والابتعاد عن غيره من الأديان الباطلة - هو الذي أمركم الله بالحرص عليه، والسير على منهاجه؛ رجاءَ أَن تكونوا من الناجين من عذابه بصيانة أنفسكم عن السير في الطرق المعوجة.

روى الدارقطني عن ابن مسعود رضي الله عنهما. قال: "خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطًّا، ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه، وخطوطا عن شماله، ثم قال: هذه سُبُلٌ على كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إِليه. ثم قرأ هذه الآية".

وأخرجه ابن ماجة أَيضا.

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)} .

المفردات:

{تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي: إِتماما للنعمة على كل من أَحسن القيام به. أو على موسى الذي أحسن تبليغه.

التفسير

154 -

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ

} الآية.

أي: ثم أَعطينا موسى التوراة؛ لإِتمام النعمة والكرامة، على كل من أَحسن القيام بما اشتملت عليه عن تكاليف.

أو إتماما للنعمة على موسى الذي أحسن تبليغ التوراة.

أو تماما على الذي أَحسنه موسى وأجاده، من العلم والتشريع، أي زيادة عليه.

ص: 1359

{وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} :

أي: جاءَت التوراة بيانًا وتفصيلا لكل ما يحتاج إِليه في الدين والدنيا، وإِرشادًا إلى طريق الخير، ورحمة واسعة من الله لعباده.

{لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} :

أي: لعل من نزلت لهم التوراة - وهم: بنو إِسرائيل - بلقاءِ ربهم - بعد البعث - يصدِّقون.

وفي هذه الآية، إخبارٌ من الله تعالى، بأن الوصايا التي تقدم ذكرها، ثابتةٌ في الكتب المتقدمة، ومنها التوراة.

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)} .

المفردات:

{دِرَاسَتِهِمْ} : قراءَةِ كتبهم.

{وَصَدَفَ عَنْهَا} : أعرض عنها. أو صرف الناس عنها.

ص: 1360

التفسير

155 -

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ

} الآية.

أي: وهذا القرآن، كتاب الله العظيم، أوحيناه إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم. كثير المنافع والخير: دنيا وأُخرى.

{فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :

أي فاسلكوا - أيها المكلفون - سبيله المستقيم، بالعمل بما فيه من التكاليف، حيث كان منزلا من عند الله تعالى. وذلك موجب لاتباعه، واحذروا مخالفته، رجاءَ أن تعمَّكم رحمة الله. وبذلك تنجون من عذابه الأَليم.

156 -

{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا

} الآية.

أي: قد أنزلنا هذا الكتاب المبارك؛ كراهة أن تقولوا معتذرين يوم القيامة إِنما أُنزِل ذلك الكتاب - التوراة والإِنجيل - على طائفتين من قبلنا، وهما: اليهود والنصارى.

وتخصيص الإنزال بكتابيهما؛ لأَنهما اللذان اشتهرا من بين سائر الكتب السماوية السابقة، قبل نزول القرآن.

{وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} :

أي: وإِننا معشر العرب كُنَّا - عن مطالعة تلك الكتب وقراءَتها - لمنصرفين عن دراستهما وفي هذه الآية قطع الأعذار، وإثبات الحجة عليهم، حيث نزل القرآن بلغة سهلة ميسرة، هي العربية.

157 -

{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ

} الآية.

أَي: أَو لئلا تقولوا معتذرين بأَمر آخر غير ما سبق - لو أنا أنزل علينا الكتاب - كما أُنزل على اليهود والنصارى - لصرنا أَكثر هداية إِلى الحق منهم، وذلك لجودة إِدراكنا، وفهمنا لما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام والتشريعات.

وبهذا انتفى ما يمكن أن يعتذروا به، بعد الاعتذار السابق.

ص: 1361

{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} .

أَي: فلا مكان لما يمكن أَن تعتذروا به، حيث جاءَكم - على لسان نبي منكم - كتابٌ من ربكم: فيه حجة واضحة على ما شرعه الله من الأَحكام، وإرشادٌ مبين إلى طريق الحق، ورحمةٌ بكم، حيث نزل بلغتكم.

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} :

أي: فلا أَحد أكثر ظلما ممن كذَّب بآيات الله تعالى، المشتملة على البيان والهداية والرحمة، وأَعرض عن اتباع الأَحكام التي جاءَت بها، وصرف الناس عنها. فكان بذلك ضالاًّ مضِلاًّ.

{سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} :

أي: سنعاقب الذين يُعرِضون عن اتباع آياتنا، ويصرفون الناس عنها، بالعذاب السىِّءِ، بسبب إعراضهم، ومنعهم غيرهم عن اتباع أَحكامها.

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)} .

المفردات:

{يَنظُرُونَ} : ينتظرون.

ص: 1362

التفسير

158 -

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ

} الآية.

أَي: لا ينتظر هؤلاء الكافرون - بعد البيان السابق - إِلا مجىء الملائكة لهدايتهم ودعوتهم إِلى الإِيمان.

أو أَن تأْتيهم ملائكة العذاب، وهم لم يكونوا منتظرين لذلك. ولكن لما كان العذاب يلحقهم لحوق المنتظِر، شُبِّهوا بالمنتظرين.

{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} :

أَوأَن يأتى ربك إليهم، داعيا إياهم إلى الهدى، كما اقترحوا ذلك، في قوله تعالى: {

لَوْلَا أنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائكَةُ أوْ نَرَى رَبَّنَا

} (1)

أَو المراد: إِتيان أمره بالعذاب.

{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} :

أي: أو تأْتيهم بعض الآيات التي اقترحوها على رسول الله، صلى الله عليه وسلم كما ورد في قوله تعالى:{وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُفَجِّرَ لَنَا مِنَ الْأرْضِ يَنبُوعًا} (2) الآيات.

والخلاصة: أنهم علقوا إِيمانهم - باللهِ ورسوله - على حصول إِحدى هذه العظائم.

وشبهت حالهم بحال المنتظرين لها.

ومن المفسرين من فسر {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} : بأَشراط الساعة، بدليل قوله عقبه:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} .

أَي: يوم يحدث شرط من أَشراط الساعة، لا يُقْبَل من نفس إيمانٌ ولا عملٌ صالح. حصلا بعد ظهور الشرط وحدوثه؛ إِذ لا ينفع النفس إلا ما قدمته قبل ظهور أَيٍّ من أَشراط الساعة؛ لأن وقت التكليف الاختيارى، قد فات.

(1) سورة الفرقان، من الآية:21.

(2)

سورة الإسراء، الآية: 90 وما بعدها.

ص: 1363

{قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} :

هذا أَمر موجه من الله تعالى، لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأَن يأْمرهم - أمر تهديد ووعيد - بقوله لهم: انتظروا ما يأْتيكم من الآيات التي علقتم إيمانكم عليها، والتي لا تنفعكنم إِن وقعت

إنا منتظرون وقوع ذلك لكم، حَتى نرى ما يحل بكم من سوءِ العاقبة، وما يحل بنا من حسن المآل.

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)} .

المفردات:

{شِيَعًا} : فرقا متعددة.

{يُنَبِّئُهُمْ} : يخبرهم ويعلمهم.

التفسير

159 -

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ

} الآية.

المعنى: إن الذين فرقوا دينهم، باختلافهم فية، فعبَدَ بعضهم الأَصنام، وقالوا عنها: هؤُلاءِ شفعاؤُنا عند الله. وعبد بعضهم الملائِكة، وقالوا؛ إنها بنات الله. وبعض ثالث: عبد الكواكب ....

ومنهم من قال: عزير ابن الله. ومنهم من قال: المسيح ابن الله.

وهذا كله شرك بالله تعالى، وخروج عن التوحيد الذي ارتضاه الله لعباده؛ لأنه الحقيقة المؤكدة: نقلا وعقلا. فكانوا - بهذا الاختلاف والتفرق - شيعا وأحزابا.

كل فريق منهم يتبع طريقا يخالف طريق الآخر.

ص: 1364

{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} :

أَي: لست يا محمَّد من عقاب هؤلاءِ المتفرقين في أمر دينهم في شىءٍ

فلست مسئولا عن تفرقهم .. وحسبك أنك أديت الرسالة وبلغت الأَمانة، وخرجت من عهدة التبليغ.

وقيل: هو نهى عن التعرض لهم، حتى نزل الأمر بجهادهم.

{إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} :

أَي: ما أَمرهم ومآل حالهم، إِلا إِلى الله وحده. فيجازيهم على أعمالهم وعقائدهم الباطلة - بما يستحقون.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1).

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} .

التفسير

160 -

{مَن جَاَء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَايهَا .... } الآية.

بعد أن بين القرآن الكريم، حال الناس من المؤْمنين وغيرهم، من حيث تمسكهم بالدين والعمل، واختلافهم فيه - شرع في بيان جزاءِ كل عامل: محسنا كان أو مسيئا.

فقال:

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} :

أَي: من عمل عملا صالحا - وهو مؤْمن - فله جزاءٌ عند الله مقدر بعشر أَمثال ما عمل تفضلا عليه من الله تعالى. والْعَشْر أَقل مراتب التضعيف. ولا يقف تضاعف الجزاءِ

(1) سورة الحج، الآية: 17

ص: 1365

عند هذا. فقد يصل إِلى سبعين وإِلى سبعمائة، وإِلى أضعاف كثيرة، وبغير حساب.

حسب إِخلاص العبد، وصدقه في العمل.

{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} :

أَي: ومَن عمل عملا سيئا، من شرك وغيره، فعقابُه مماثلٌ لما عمل، عدلا.

{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} : بنقص شيءٍ من ثوابهم أو الزيادة في عقابهم.

{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)} .

المفردات:

{دِينًا قِيَمًا} : دينا مستقيما: لا عوج فيه.

{حَنِيفًا} : مائلا عن الأديان الباطلة.

{وَنُسُكِي} : عبادتي.

ص: 1366

{أَبْغِي رَبًّا} : أَطلب.

{وَلَا تَزِرُ} : ولا تحمل.

{وَازِرَةٌ} : نفس آثمة.

{خَلَائِفَ} : خلفاءَ يخلف بعضكم بعضا.

{لِيَبْلُوَكُمْ} : ليمتحنكم ويختبركم.

التفسير

161 -

{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

} الآية.

بعد أَن بين الله تعالى. فساد ما عليه المشركون بالحجج والبراهين، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أَن يبين الدين الحق الذي هو عليه وهداه الله إليه، وهم يدعون - زورا - أَنهم عليه مع أنهم قد فارقوه كلية.

والمعنى: قل يا محمد، لأُولئك المبطلين: إِننى قد أرشدنى ربي إلى طريق مستقيم، موصل إلى الحق، بما أنزله علىَّ في القرآن، وبما نصبه من الآيات التكوينية: في الأنفس، وفي الآفاق.

{دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

هذا هو بيان الطريق المستقيم، الذي اختاره الله لرسوله، بأَنه: الدين القيم الذي هدى الله إليه إبراهيم عليه السلام، فسلكه مبتعدا عن كل دين باطل، حيث كان مخلصا في عقيدته وعمله، ولم يك من المشركين.

162، 163 - {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ

لَهُ

} الآيتان.

هذا أَمر آخر، من الله تعالى، لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأَن يبيّن: أَن صلاته - وسائر عباداته وحياته وموته - خالصةٌ لله رب العالمين - وحده - دون إشراك أَحد معه في تلك الأُمور المذكورة وغيرها.

ص: 1367

{وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} :

أي: وبالإِخلاص لله - وحده - في كل عباداتى، أَمرنى الله سبحانه وتعالى.

{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} :

أي: وأنا أول المنقادين المسارعين إِلى إِطاعة أوامر الله تعالى.

وفي هذه الجملة، بيان لموقف النبي صلى الله عليه وسلم، من الأَوامر التي أَمر بها، وأَنه قدوة للأُمة من حيث المبادرة إلى امتثال الأَوامر، واجتناب النواهى.

164 -

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ

} الآية.

أَي: قل يا محمد، لهؤلاءِ المشركين بالله، معلنا لهم ما أَنت عليه من إخلاص العبادة لله والتوكل عليه:

{أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} :

أي: أَطلب إلَهًا آخر سوى الله ربا ومعبودا.

{وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} :

أَي: وهو المالك والمربى لكل شيءٍ، فيحفظنى ويرعانى ويكلؤنى، ويدبّر أَمرى، كما يقوم بتربية جميع الأَشياءِ، فيرعاها ويحفظها؟ فلا - ولن - أَتوكل إِلا عليه، ولن أَلجأَ إلا إِليه؛ لأَنه رب كل شيءٍ، وله الخلق والأَمر.

وفي هذه الآية: الأَمر بإِخلاص التوكل عليه سبحانه، كما تضمنت الآية التي قبلها، الأمر بإخلاص العبادة له عز وجل.

وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرًا، كما قال تعالى مرشدا لعباده، أَن يقولوا:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1). ومثله: {

فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَلْ عَلَيْهٍ

} (2).

{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَاّ عَلَيْهَا} :

هذا إِخبار عما يكون عليه الحال يوم القيامة، من أَنَّ ما يعمله العاملون - من خير وشر - لا يعود إِلا عليهم: ثوابا أَو عقابا.

(1) سورة الفاتحة، الآية:5.

(2)

سورة هود، من الآية الخاتمة: 123

ص: 1368

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} :

أي: ولا تحمل نفس آثمة إِثمَ نفسٍ أُخرى بل كل نفس بما كسبت رهينة. فالنفوس إنما تجازى بأَعمالها إِن خيرًا فخير، وإِن شرًّا فشر.

{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} :

أي: اعملوا في الدنيا، فأَعمالكم مسطورة عليكم. ثم يكون مردُّكم ورجوعكم إلى ربكم، مالك أَمركم في الآخرة، فيعلمكم بأَعمالكم، ليتبين لكم ما كنتم فيه من غرور وباطل مخالف للحق، ويجازيكم عليها.

165 -

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ .. } الآية.

أي: وهو الله الذي جعلكم تعمرون الأَرض، أُمة تخلف أُمة، وقرنا بعد قرن، وخلفا بعد خلف.

والخطاب - على هذا - عام لجميع البشر. أَو هو الذي جعلكم خلفاءَ الأُمم السابقة

والخطاب على هذا، للمؤمنين.

{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} :

أي: فضَّل بعضكم على بعض في الرزق، وفاوت بينكم في الأَخلاق، والمحاسن والمساوىءِ.

{لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} :

أَي: ليعاملكم معاملة المختبر - وهو أعلم بكم - فيما أَنعم به عليكم من المال والجاه.

هل يقوم الغنِىُّ بحق المال؟ وهل يصبِر الفقير على الحرمان؟.

وكما كان التفاوت في الدنيا، فسوف يكون التفاوت في الآخرة، نتيجة التفاوت في الأعمال الصالحة.

ص: 1369

{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} :

في هذا، تخويف وترغيب. فعقابه تعالى سريع - إِذا جاء وقته - لمن عصاه وخالف أمره، ولم يتبع رسله. وهو غفور رحيم، لمن أَطاعه ووالاه، واتبع رسله فيما جاءُوا به.

والقرآن الكريم، كثيرا ما يجمع بين الترغيب والترهيب؛ كى يحمل الله تعالى عباده على طاعته، ويبعدهم عن معصيته.

نسأَل الله التوفيق.

ص: 1370