المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من مقاصد السورة: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌من مقاصد السورة:

‌سورة الأعراف

‌مقدمة:

هذه هي السورة السابعة في ترتيب المصحف، وهي مكية، ومن السبع الطوال، وعدد آياتها ست ومائتان. وسميت سورة الأعراف، لورود هذا اللفظ فيها، قال الله تعالى:

{وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ

} الآية.

ونزلت كلها بمكة - كما قال ابن عباس وابن الزبير. واستثنى غيرُهما ثمانى آيات تبتدىءُ من قوله تعالى:. {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ

} إلى أوَّل قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ

} ومنهم من ضم إِليها قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ

} الآية فتصير بها المدنيات تسعا.

ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أَن سورة الأنعام، ختمت بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ

} الآية (1). وجاءَت سورة الأَعراف كالتفصيل لذلك. فسردت قصة آدم، وهو أَول خليفة استخلف في الأَرض. ثم تلتها قصة قوم نوح، ثم عاد مع هود، ثم ثمود مع صالح، إِلى آخر ما اشتملت عليه من القَصَص ..

كما أَنهما تشتركان في كونهما مكيتين، أنزلتا لحمل المشركين على ترك شركهم وعاداتهم الجاهلية.

‌من مقاصد السورة:

جمعت هذه السورة مقاصد شريفة، منها ما يلي:

1 -

الدعوة إِلى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.

(1) سورة الأنعام، من الآية: 165

ص: 1371

2 -

لا اجتهاد مع النص لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} .

3 -

حوت قَصَص عدد من الأنبياء مع أُممهم، وما انتهت إِليه أحوالهم؛ لنعتبرَ بما حل بالكافرين، ونتبعَ طريق المؤمنين.

4 -

بيان عموم رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم.

5 -

إِباحة الطَّيبات من الرزق، وأَخذ الزينة عند الذهاب إِلى أماكن العبادة. ومثلها أَماكن الاجتماعات العامة ..

6 -

الامتنان على العباد باللباس والرياش، وأَن خير لباس يرتديه الإنسان هو التقوى، التي بها يتفاضل الناس عند الله تعالى.

7 -

بيان أَنَّ أوامر الله لعباده كلها خير؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاءِ والمنكر.

8 -

بيان أن نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، منصوص عليها في الكتب السماوية السابقة.

9 -

بيان أَن العلماءَ مطالبون بالتذكير والموعظة الحسنة، لهداية الناس وإرشادهم إِلى الحق.

10 -

ذكر العهد المأخوذ من الله على بني آدم، بأَن يذعنوا ويسلموا بالربوبية لله - وحده - دون سواه. وأنهم أَقروا واعترفوا وسيأتى تفصيل ذلك.

11 -

الأمر بالإنصات والاستماع عند تلاوة القرآن، لما اشتمل عليه من الفوائد التي تنفعهم في الدنيا والآخرة: ولما تنزل عند تلاوته بن الرحمات والعطايا الإلهية:

ص: 1372

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} .

المفردات:

{كِتَابٌ} : المراد به هنا؛ القرآن. أَو سورة الأَعراف.

{حَرَجٌ} : الحرج؛ الضيق. وقد يطلق على الشك مجازا، لأَنه يضيق به صدر صاحبه.

{لِتُنْذِرَ بِهِ} : الإنذار؛ التخويف.

{وَذِكْرَى} : الذكرى؛ التذكير والوعظ.

التفسير

1 -

{المص} (1):

افتتح الله تعالى تسعا وعشرين سورة بأسماءِ بعض الحروف الهجائية. وسورة الأَعراف واحدة منها.

ويرى بعض العلماء: أن هذه الحروف، من المتشابه الذي استأْثر الله تعالي بعلمه.

ولما سئل الشعبي عنها قال: إِن لكل كتاب سرًّا، وإِن سرَّ هذا القرآن فواتح السور. اهـ

ويرى آخرون أنها فواصل بين السور، كما تأتى كلمة (هذا) فاصلة بين الآيات.

كما في قوله تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ

} (2) إلخ.

(1) راجع ما كتبناه على الفواتح أول سورة البقرة.

(2)

سورة ص، الآيات: 55،56، 57

ص: 1373

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أَسلم: هي أَسماءٌ للِسور .. ويستدل بما ورد في الصحيحين عن أَبي هريرة "أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم: السجدة. وَهَل أَتَى عَلَى اْلإنسَانِ".

وقيل: هي أَسماءٌ لله تعالى.

وقيل: هي فواتح لتنبيه السامعين إلى ما في القرآن من الآيات والعِبر.

وقيل: هي رمز إِلى أَن القرآن مؤَلَّف من كلمات عربية، ذات حروف من جنس ما ينظمون منه كلامهم. فإذا عجزوا عن الإتيان بمثله، فمحمّد مثلهم. وذلك دليل على أَنه من عند الله تعالى .. واختاره الزمخشرى.

2 -

{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} :

هذا القرآن كتاب أنزل إليك - يا محمّد - من ربك؛ لتخوِّف به المشركين والكفار من عاقبة شركهم وكفرهم، حتى يضلعوا عَمّا هم فيه، ولتذكِّر به المؤمنين وتعظَهم، ليزدادوا إِيمانا مع إِيمانهم. فلا يكن في صدرك - يا محمّد - ضيقٌ مِن تبليغه، بسبب تكذيب المشركين إيَّاك، وتَجَمُّعِهم عليك. أو بسبب خوفِك من التقصير في القيام بحقِّه.

وكن منشرحَ الصدر، مطمئنَ النفس .. فالله ناصرك ومعينك.

والتعبير بقوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} بدلا من {أُنْزِلَ إِلَيْكَ} جاءَ على سنن الكبرياءِ، وإِيذانًا بالاستغناءِ عن التصريح بِمَنْ أَنزله، سبحانه وتعالى.

وإِنما فسرنا الحرج بالضيق، لأَنه أَصل معناه، ولقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ

} (1) الآية. وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} (2).

(1) سورة هود، الآية: 12

(2)

سورة الحِجْر، الآية: 97

ص: 1374

وكما كان يضيق صدرُه الشريف لما يقولون، كان يضيق خوفا من إيذائهم إيّاه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:

"إِنِّي أخَافُ أَنْ يَثْلَغُوا رَأْسِى (1) فَيَدَعُوهَا خُبْزَةً (2) " أَخرجه مسلم.

ولهذا، نهاه الله تعالى، عن أَن يضيقَ صدرُه بذلك. فقد وَفَّر له جميل الرعاية والحماية والتأْييد.

والغرض الأساسى من نهيه عن وقوع الحرج في صدره، أَلَاّ يبالِىَ بمعارضة قومه، وأَن يُشعره الله بنصره ومعونته.

وتخصيص الذكرى بالمؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها.

{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} .

المفردات:

{مِنْ دُونِهِ} : "دون" له عدة معان، منها أنه بمعنى غير، وهو المناسب هنا.

{أَوْلِيَاءَ} : قادة يوجهونكم، أو يلون أمركم في دينكم.

{تَذَكَّرُونَ} : أَصله تتذكرون، مخفف بحذف التاءِ. أَي تتعظون.

التفسير

3 -

{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

} الآية.

المعنى: اتبعوا - أَيُّها المكلفون وخاصَّة أَهل مكة - ما أُنزل إِليكم من ربكم من القرآن وسنة الرسول، فإنها من الوحى. ولا تتبعوا من غير ربكم أَولياءَ من الإنس والجن: يزّينون لكم الأَباطيلَ ويصرفونكم عن الحقِّ إِلى الأَهواءِ والبدع، لأَنكم تتعظون قليلًا من الاتعاظ.

(1) أي يشدخوها ويكسروها، من ثلغ رأسه - كمنع - أي شدخها.

(2)

الخبزة واحدة الخبز، أي يتركوها مثل الخبزة التي تضرب باليد قبل وضعها في التنور، أو مثل الخبزة إذا دقت وضربت بعد خبزها، فإنها تصير محطمة.

ص: 1375

ولهذا لا تنفعكم المواعظ.

وإنما قلنا: إِن السُّنة من الوحى، لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (1) وقوله عر وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وقوله عزّ مِن قائل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3).

وقد استفيد من الآية الكريمة: أنه لا يُعْدَلُ عن النص إِلى الاجتهاد؛ فإِن اتِّبَاعَ الاجتهاد - مع وجود النص - اتباع لغير ما أنزل إِلينا من ربُّنا.

والتعبير بقوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} يحتمل أَن يراد به أنهم يتعظون قليلًا جدا. ولذا أَكد هذه القلَّة بحرف (ما) ولا يلبث هذا الاتعاظ القليل أن ينتهى، فلا يكون له أَثر جذرى في أَعماق النفس.

ويحتمل أَن يراد بالقلَّة العدم كما يقال: فلان قلَّما يعضل، أي لا يعقل أصلا ..

{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)} .

المفردات:

{وَكَمْ} : خبرية بمعنى كثير.

{قَرْيَةٍ} : المراد من القرية أَهلها.

{بَأْسُنَا} : عذابنا.

{بَيَاتًا} : ليلا.

(1) سورة النجم، الآيات: 3، 4، 5

(2)

سورة النحل، من الآية: 44

(3)

سورة الحشر، من الآية: 7

ص: 1376

{قَائِلُونَ} : نائمون أو مستريحون نهارًا وقت القيلولة. وهي النوم أو الراحة نصف النهار.

{دَعْوَاهُمْ} : دعاؤُهم. ومنه قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1).

التفسير

4 -

{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} :

لما أمرهم الله تعالى باتباع ما أُنزل إليهم، ونهاهم عن اتباع أئمة الكفر والضلال - أتبع ذلك إنذارهم بإنزال العذاب بهم، كما أَنزله بمن قبلهم بسبب إعراضهم عن دين الله، وإصرارهم على أباطيل أوليائهم.

والمراد من إهلاك القرى، إرادة إهلاكها، لا إِهلاكها فعلا. لقوله تعالى بعده:{فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} إذ البأْس لا يجىءُ بعد الإهلاك، بل بعد إِرادته. وذلك كما في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

} (2) الآية. إذ معناه: إذا أَردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا

إلخ.

والمعنى: وكثير من القرى أَراد الله إهلاك أَهلها، فجاءَهم عذابه ليلا - وهم نائمون - كقوم لوط، أَو نهارًا - وهم مستريحون وقت القيلولة غافلون عن مجىء العذاب - كقوم شُعيب. وذلك لكفرهم وإعراضهم عن دين الله.

5 -

{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} :

فما كان دعاؤُهم - حينما نزل بهم عذاب الله - إلا أَن قالوا تندُّمًا وتحَسُّرًا واعترافا بالذنب وطمعا في النجاة: يا ويلنا، إِنا كنا ظالمين لأَنفسنا بتركنا حقّ الله إلى باطل الطاغوت، ولاتَ ساعة مندم. ولات حين نجاة.

(1) سورة يونس، من الآية: 10

(2)

سورة المائدة، من الآية: 6

ص: 1377

{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} .

المفردات:

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} . وتقدير أَعمال العباد في هذا اليوم هو الحق والعدل.

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} : فمن رجحت أَعماله التي توزن وتقدر.

التفسير

6 -

{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} :

يؤَكد الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أَنه سوف يسأَل - يوم القيامة - الأُمم الذين أرسلَ إِليهم رسلَه، قائلا لهم:{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (1) كما يؤَكد أَنه - تعالى - سَوف يسأل المرسلين، قائلا لهم:"مَاذَا أجِبْتُمْ"(2).

7 -

{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} :

كما يؤَكد الله تعالى - في هذه الآية - أَنه سوف لا يكتفي بشهادة الرسل على أممهم، ولا بإقرار الأمم على أنفسهم بأعمالهم. بل يقصّ الله على الجميع ما كان منهم - بعلم تام - بجميع أحوالهم. ويقرر الله سبحانه: أنه لم يكن غائبا حين كان الرسل يبلّغون أممهم في صدق وإِخلاص، ولا كان غائبا - سبحانه - عن الأمم حسن كانوا يبَلغون: من آمن منهم برسله ومن كفر. فإنه عز وجل لا يخفى عليه شيء حدث في الأرض أو في السماء.

وقد يقال: إذا كان الله تعالى عالما بما كان منهم، وأنه سيقصّه عليهم، فما فائدة سؤالهم الذي دلت عليه الآية السابقة؟

(1) سورة القصص، من الآية: 65

(2)

سورة المائدة، من الآية: 109

ص: 1378

فالجواب: أَن سؤال المكلفين من الأُمم - هو سؤَال تقرير وتوبيخ، وسؤال المرسلين هو سؤَال استشهاد وتشريف لرسله. مع تمام علمه بما يسأَلهم عنه، كما أنه تعالى لا يريد أَن ينزل بهم عقابه، لمجرد ما علمه عنهم، حتى يقرّوا به هم على أَنفسهم.

فإن قيل: كيف نوفّق بين ما هنا، وبين قوله تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} ؟ (1).

فالجواب أن السؤَال المثبت هنا، يكون في موقف الحساب، والمنفى في سورة الرحمن - يكون في موقف العقاب.

ولعل الظاهر من الآية أن سؤَال كلٍّ من الرسل وَمَنْ أُرسِلوا إِليهم، هو سؤَال خاص بتبليغ المرسلين إِياهم، وما نتج عنه من كفر أُممهم أو إِيمانهم بهم.

وهذا لا يمنع أَن الناس يُسألون - أَيضا - عن جميع أَعمالهم، كما دلَّ عليه قوله تعالى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم:

"كُلُّكُمْ رَاع وَكُلُّ رَاع مسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ

(3) " الحديث .. إِلى غير ذلك من الأَدلة.

والسؤَال عن ذلك كله سؤَال تقرير وإِقامة حجة، لا سؤال استعلام

ويبدو أَن إِخبار الله تعالى الأُمم عن أعمالها، يكون - بتسليمهم - فرادى - كتب أَعمالهم التي تنطق عليهم أَولهم. أَو بإِخبار الملائكة لهم، والله تعالى أَعلم.

8 -

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :

المراد من الموازين، الأعمال. والموازين جمع موزون، أَي مقدّر، والمراد من الوزن الحق، التقدير والقضاء العادل - كما قاله مجاهد، والأَعمش، والضحاك. واختاره كثير من المتأخرين.

واستعمال الوزن بمعنى القضاءِ والحكم والتقدير، شائع - لغة وعرفا - بطريق الكناية .. وممّن ذهب إِلى ذلك المعتزلة.

وحُجَّة أَصحاب هذا الرأى: أن الأعمال أَعراض تفنى. وعلى فرض بقائها، لا تقبل الوزن بالميزان المعروف، الذي لا توزن به إِلا الجواهر والأعيان.

وهذا هو رأْى المحققين.

(1) سورة الرحمن، الآية: 39

(2)

سورة التكاثر، الآية: 8

(3)

رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

ص: 1379

والجمهور، على أَن الوزن حقيقي. ويكون لصحف الأعمال بميزان له لسانٌ وكفتان: ينظر إِليه الخلائق، تأْكيدا للحجة، وإِظهارًا للنصفة، وقطعا للمعذرة .. كما يسأَلهم الله عن أَعمالهم، فتعترف بها ألسنتُهم، وتشهد بها أَيديهم وأرجلهم وجلودهم - ويشهد عليهم كذلك: الأنبياءُ والملائكة وسائر الأَشهاد.

ومما يدل على صحة الرأْى الأَول، ما أَخرجه مسلم في صحيحه بسنده قال:

قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى (1)؟ قال سمعته يقول: "يُدْنَى المؤْمِنُ مِنْ ربِّه يَوْمَ القِيَامة، حتى يضَعَ عليه كنَفَه فيُقَررُه بذنوبه"، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربِّ أعرف. قال فإن قد سترتها عليك في الدنيا، وإنى أغفرها لك اليوم، فَيُعطَى صحيفةَ حسناتِهِ

وأما الكفار والمنافقون، فيناديهم على رءُوس الخلائق: هؤُلاءِ الذين كَذَبُوا على الله. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} كما أن الكتب ليست هي الأعمال، فكيف يبين وزنها حقيقة هذه الأعمال من حسنات وسيئات؟

والاحتياط يقتضي التسليم بالوزن. أَما حقيقة هذا الوزن، فيُترك عليها إلى الله تعالى.

فالمعنى: وقضاءُ الله بين عباده في يوم القيامة وتقديرُه لأَعمالهم هو القضاءُ والتقديرُ الحقُّ، فَمَنْ رجحت أعمالُه، وكان لها وزنٌ وقيمةٌ لصلاحها، فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العقاب، والحصول على جزيل الثواب.

والآية الكريمة قد حصرت الفلاح في الذين رجحت حسناتهم على سيئاتهم، بقولها:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

9 -

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} :

أي وَمَن خفّت أعماله، بأَن كانت لا وزن لها ولا قيمة - لكونها فاسدة - فأُولئك الذين خسروا أنفسهم؛ إذ غيَّروا فطرة الله التي فطرهم عليها كما فطر الناس. وهى فطرة حبِّ الحق، وجلب النفع، ودفع الضر. وقد أَبوا ذلك لأنفسهم، فكفروا، فاستحقوا العذاب، بسبب كونهم مستمرين على تكذيبهم بآيات الله، وَظلمِهم بجحدهم لها.

وصدق الله إذ يقول: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (2).

(1) أيُّ مناجاة الله العبد يوم القيامة، والمناجاة المسارة كالنجوى. وناجاه: سارّه.

(2)

سورة الكهف، من الآية: 49

ص: 1380

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ في الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)} .

المفردات:

{مَكَّنَّاكُمْ في الْأَرْضِ} : جعلنا لكم فيها مكانا تستقرون فيه. أَو أقدرناكم على التصرف فيها.

{مَعَايِشَ} : أَسبابا للعيش.

التفسير.

10 -

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ في الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} :

لما أمر الله المكلفين عامَّة - وأَهل مكة خاصّة - باتباع ما أنزله إليهم، ونهاهم عن اتباع أَولياءِ الضلال، وبيَّن لهم أنهم - جميعًا - مسئولون عن ذلك، ومجزيون عليه، إِن خيرًا فخير، وإِن شرًّا فشر، عقَّب ذلك بتذكيرهم - جميعًا - بنعمه الموجبة لشكرهم إِيّاه سبحانه وتعالى: بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. فقال عزَّ من قائل:

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ في الْأَرْضِ} :

أي: ولقد جعلنا لكم - في هذه الأرض - مكانا تستقرون فيه. وذلك نعمة كبرى يعرف قدرها من سُلِبُوها فَدَأبُوا على الارتحال.

أو المعنى: أَقدرناكم على التصرف فيها واستنباط خيراتها. بما أَودعنا فيكم من طاقات.

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} :

المعايش: جمع المعيشة. وهي ما يُعَاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. أوهى. ما يُتَوَصَّل به إلى ذلك. والله سبحانه وتعالى يَمُنُّ على عباده، بأنه هيأَ لهم معايشهم،

ص: 1381

على أي وجه مما تقدم .. وتلك مِنَّةٌ توجب أَن يشكرها العبد لربِّه، بامتثال أَمره واجتناب نهيه. ومن سلبه الله هذه النعمة فهو من الهالكين.

{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} :

يخاطب الله الشركين - وأَمثالهم من الجاحدين لِنِعَمِه - بهذه الجملة، ناعيا عليهم سوءَ معاملتهم، حيث شكروه عليها شكرا قليلًا، هو بالنسبة إليها بمنزلة العدم فإن الشكر عليها، لا يكون إِلا بدوام توحيده - سبحانه - بالعبادة، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. فإذا كان شكرهم - إِن وقع - فهو دون ذلك - كما هو دأْبهم - فلا كفاءَ فيه. وجدير أَن يكون بمنزلة العدم.

وخلاصة معنى الآية:

ولقد جعل الله لكم - في الأرض - مكانا تستقرون فيه، وأَبدع - لمصالحكم ومنافعكم - أسبابا تعيشون بها، فكان شكركم لها في غاية القلَّة، فاحذروا عقاب التقصير في شكره. ويجوز أن يكون القصود من قلَّة شكرهم لله انعدامه وانتفاؤه، لأنهم كانوا يتجهون بشكرهم إلى أَوثانهم، فهم ينسبون إِليها النفع والضرّ. وإِن كانوا يؤمنون بأن الله خالقهم.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} .

ص: 1382

المفردات:

{مِنَ الصَّاغِرِينَ} : من أَهل الصَّغار والهوان.

{أَنْظِرْنِي} : أمهلنى ولا تُمِتْنى.

التفسير

11 -

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ

} الآية.

الربط:

لما ذكَّر الله قريشا بنعمة التمكين لهم في الأرض، وتيسير المعاش، ذكَّرهم عقبه بنعمةٍ تَعُمُّهم وغيرهم، تَقْتضى أجل الشكر، وهي خلقهم وتصويرهم، ضمن خلق أبيهم آدم وتصويره، وأَتبع هذا بذكر عداوة إِبليس للبشر - جميعا - بما كان من وسوسته لأَبيهم آدم، وتسلسل هذه الوسوسة فيهم، ليحذروه. فقال:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} :

أي ولقد خلقنا أَباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه، فانتقل إِليكم خلقه وتصويره.

وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين من المشركين؛ لأَن لهم نصيبا منه في ضمن خلق أبيهم آدم عليه السلام.

وقيل: إِن المعنى؛ خلقناكم نطَفا، ثم صورناكم في أرحام النساءِ.

وإِليه ذهب عكرمة وجماعة من النحويين، كعلي بن عيسى والسيرافى.

ولكن يرد على هذا أن الله سبحانه وتعالى. قال عقب ذلك:

{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ؟

وقد أُجيب عنه بأن المراد: ثم إِنَّا نُخبركُم: أَنَّنَا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم

وفيه تكلف ..

{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} :

ظاهره أَن اللائكةَ أُمِروا بالسجود لآدم بعد تصويره. ولكن ظاهر قوله تعالى: {إِنِّي خَالِق بَشَرًا مِّن طِينٍ. فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (1) أَنهم أُمروا به قبل خلقه؟.

(1) سورة الحجر، آية: 28، 29

ص: 1383

وتوفيقا بين هاتين الآيتين، نقول: إِنهم أُمروا بالسجود له مرتين.

الأُولى منهما: قبل خلقه، وكان الأَمر فيها معلقا على تسويته ونفخ الروح فيه.

والثانية منهما، بعد تمام خلقه، وكان الأَمر فيها منجزا. والله أَعلم.

والملائكة - عند جمهور المتكلمين - أجسام لطيفة، قادرة على التشكل بأَشكال مختلفة، بدليل رؤْية الرسل إِياهم كذلك.

واختلف فيمن أُمِر منهم بالسجود لآدم، فقيل: ملائكة الأَرض. وقيل: جميع الملائكة. وهو رأى أَكثر الصحابة والتابعين.

والسجود في اللغة: الخضوع والتطامن .. وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.

وليس في الآية ما يدل على أن السجود مِن النوع الثاني .. فلهذا يحمل على النوع الأول، لخصوص السجود الشرعى بالله تعالي.

وقد أمِروا بهذا السجود، أَي بالخضوع لآدم على الوجه المناسب، تحيَّة له وتعظيما واعترافا بفضله. فقد أنبأَهم بأَسماء كل المسميات وخواصها، بعد أَن علَّمه الله إِيَّاها، حين عجزوا عن إِنباءِ الله بها، وقالوا:{لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (1).

وقيل: المعنى؛ اسجدوا لله، لأجل آدم وخلقه البديع، الذي التقى فيه العالم الرُّوحى والعالم الجسدى، وتكون اللام - على هذا - في قوله (لآدَمَ) للتعليل.

كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ

} (2) أَي لأَجل زوالها عن وسط السماء.

{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} :

قيل في استثناء إِبليس من الملائكة، إِنه استثناءُ متصل، فإنه - وإن كان من الجن - لقوله تعالى:{كَانَ مِنَ الجِنِّ} إِلَاّ أَنه لما كان مندمجًا مع الملائكة، يعبد عبادتهم، عُدَّ منهم.

كالرجلِ يقيمُ في قبيلة أُخرى غير قبيلته، فيعّدُ منها.

وقيل هو استثناءٌ منقطع

(1) سورة البقرة، من الآية:32.

(2)

سورة الإسراء، من الآية: 78

ص: 1384

ولعله - على هذا الرأى - مأمور بالسجود لآدم بأمرٍ آخر، غير أَمر الملائكة

وإِلَّا لما صح اعتباره مذنبًا حين ترك السجود لآدم، لو كان الأمر بالسجود خاصًّا بالملائكة، فإنه ليس منهم

وكأَن أَصل الكلام: وإِذ قلنا للملائكة ولإبليس: اسجدوا لآدم، فسجدوا إِلَاّ إبليس .. فاختصرت العبارة إِلى ما في النص الكريم لوضوح المراد.

والرأى الأَول أوضح وأَقلُّ تكلفا.

{لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} : تصريح بما فهم من الاستثناءِ السابق، لتأْكيده؛ ولمزيد التشهير بإبليس والتوبيخ له على جريمة عصيانه ربه، سبحانه وتعالى.

وخلاصة معنى الآية: ولقد خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صّورناه، فانتقل إِليكم خلقه وتصويره، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لله لأَجل خَلْقِهِ آدمَ على هذه الصورة الجليلة .. أَو اخضعوا لآدم وعظِّموه، اعترافا بفضله، فسجدوا عقب أَمرنا لهم، إلَاّ إبليس لم يكن من الساجدين.

12 -

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ

} الآية.

قال الراغب: المنع في الآية الكريمة، بمعنى الحماية.

والمعنى - على هذا - ما حماك من عدم السجود.

وقال السكاكى: المنع هنا. مجاز عن الحمل.

والمعنى ما حملك على أن لا تسجد ..

وكلا المعنيين يدور على أَنه من المنَعَةِ وهي العزَّة، فكأَنه تعالى قال له: أَي شيءٍ جعلك عزيزا وحملك على ترك السجود لآدم؟!.

وقيل: إِن (لا) صلة لتوكيد المنع. وكأَنه قيل: ما منعك من أن تسجد.

ومعنى الآية: - على هذا - قال الله لإبليس - لعنه الله - أَي شيءٍ منعك من أَن تسجد لآدم حين أَمرتك؟!.

ص: 1385

{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} :

قال إبليس: أنا خير من آدم، لأنك خلقتنى من نار وخلقته من طين. والنار أشرف عنصرا من الطين. والمخلوق من العنصر الأَعلى، لا يسجد لمن خُلِق منْ عنصر هو دونه ..

وقد وُبِّخ إِبليس هنا على مخالفة الأمر. وَوُبِّخَ في سورة [الحِجْرِ] على مخالفة الجماعة، بقوله تعالى:{مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} (1) ووُبِّخ في سورة [ص] على الاستكبار على من خلقه الله بيديه بقوله: {

مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (2) وكل منها ذنب يستحق أَشد التوبيخ عليه.

وإبليس بقوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} يُجِيبُ ربَّه بجواب يرجع إِلى المعنى. ذكره استبعادًا لأَن يؤمر بالسجود لآدم، وهو- في رَأْيه الفاسد - أَفضل منه ..

فكأَنه قال: منعنى من السجود أنني أفضل منه. فقد خلقتنى من نار، وخلقته من طين. والفاضل لا يسجد للمفضول .. وهو بهذا يرد أمر ربه له، بسبب القياس الفاسد الذي ذكره.

ومن المعلوم شرعا أَن النص لا يصح ردّه بالقياس الصحيح، فكيف بالقياس الفاسد، كالذى قاله إبليس!!.

قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس: إبليس، فأَخطأ القياس.

فَمَنْ قاس الدين برأْيه: قرنه الله مع إِبليس ..

وقال ابن سيرين: ما عُبِدَتِ الشمسُ والقمر إِلا بالمقاييس ..

وفساد قياس إِبليس ناشئ من أن كلاًّ من التراب والنَّارِ يختص بفوائد ليست لغيره. وكل منهما ضرورى لهذه النشأة. فترجيح أحدهما على الآخر. حاصل بدون مرجح. كما أنه لا يَعْلَمُ أَسرار الترجيح - إِن وُجدت - سوى الخالق جلّ وعلا.

على أَنه لا يصحُّ رجوع الفضل إِلى المادة دون النظر إِلى غيرها.

فآدم خير منه خَلْقًا، فقد خلقه الله بيديه. أَي بلا واسطة، قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ

(1) سورة الحجر آية: 32.

(2)

سورة ص آية: 75

ص: 1386

لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ

} (1) أَي بغير واسطة، وذلك اعتناءً بنشأَته، ولا يعتنى المولى سبحانه إلَاّ بمن هو أهل لهذه العناية ..

كذلك هو خير منه روحًا، لقوله تعالى:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (2) بإضافة روحه إِلى الله تعالى، تشريفًا لا تبعيضًا.

وهو خير منه غايةً، حيث عهد الله إليه بخلافة الأَرض، وأَهَّلَهُ لها بالعلم. وذلك هو ملاك الأمر.

ولهذا أمر الله الملائكة بالسجود له، فسجدوا، بعد ما ظهر لهم أَنه أَعلم منهم، بما يدور عليه أَمر الخلافة في الأرض.

13 -

{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} :

المعنى:

قال الله لإبليس: انزِل مقهورًا من منزلة الكرامة التي أنت بها، فما يصح لك أَن تتكبر فيها، فإنها للخاشعين المطيعين، فاهبط منها إِنك من أهل الصَّغَار والهوان، جزاءَ كبريائك ..

وللعلماءِ في معنى {فَاهْبِطْ مِنْهَا} : آراءٌ غير ما تقدم نجملها فيما يلي:

قال بعضهم إِن الضمير في (منها) يرجع إلى الجنة، لشهرة أنه كان من سكانها، وهي الجنة التي وعدت للمتقين. والمعنى: فانزِل من الجنة.

وقيل: إنه يرجع إِلى السماءِ. أَي فانزِل من السماءِ.

ورُدَّ القولان، بأن وسوسةَ الشيطان لآدم، كانت بعد هذا الطرد. فإذا كان آدم في جنة السماء، فكيف يوسوس له فيها بعد أن طرد منها أَو من السماءِ؟.

وأُجيب عن ذلك، بأنه مُنِعَ من دخولها تكريما، ولم يمنع ابتلاءً لآدم.

ويرى كثير من العلماء: أن الجنة التي أهبط منها - وكان فيها آدم - هي جنة في الأَرض. إذ أَنه خُلِق من تراب الأرض. ولم يَرد نصُّ أَنه رُفع إِلى الجنة أو إلى السماءِ.

(1) سورة ص، الآية:75.

(2)

سورة الحجر، من الآية: 29

ص: 1387

وممن قال بذلك: ابن عباس رضي الله عنهما. فقد رُوِىَ عنه أنه قال: أُمِرَ بالهبوط من روضة بعَدَن. وفيها خُلِق آدم عليه السلام. وهذا رأى مقبول ولا يمنع من وسوسة إبليس لآدم؛ لأَنه معه في الأَرض، فيستطيع أن يقترب من جنته ويوسوس له.

14 -

{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} :

قال إِبليس لربه: أمهلنى واتركنى حيًّا إلَى يوم القيامة، الذي يُبْعَثُ فيه آدمُ وذريتهُ.

وقد طلب ذلك لغرضين:

أَحدهما: أَن يَثْأر من آدم، بالإغواءِ لذريته حتى نهايتهم.

وثانيهما: أن ينجوَ من الموت، إِذ لا موت بعد البعث.

15 -

{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} :

الإنظار: الإمهال. وقد أُطلِقَ هنا، وقيد في سورة [الحِجْر] وسورة [ص] بأَنه إِلى يوم الوقت العلوم، فيحمل ما هنا عليه.

والمراد من الوقت المعلوم، يوم النفخة الأُولى التي يموت عندها جميع الخلائق.

قال ابن عباس وغيره: أنظره الله إِلى النفخة الأُولى، حين تموت الخلائق.

وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية، حتى يقوم الناسُ لربِّ العاليين، فأَبى اللهُ عليه ذلك.

فإن قيل: ما فائدة إِجابة إبليس إلى طلبه الإِنظار؟ وما حكمة الغواية مع أَن فيها إضرارا بالعباد؟.

فالجواب: أن في إِنظاره ابتلاءً لهم، ليُخْتَبَرَ أهلُ الحق، فيثابوا على مجاهدتهم لوساوسه، وأهلُ الضلال والغواية، فيعاقبوا على استجابتهم إِليها.

والحكمة في خلْق الله الغواية في الزخارف والملاهى والملاذ، وفيما فطر في الأنفس من حبِّ الشهوات: أَن يمتحن اللهُ بها عبادَه، كما أَن منها ما هو مرض نفسانى، يعصم منه الله

ص: 1388

أَهلَ المناعة الروحية وهم الحريصون على الحق والفضيلة وهو يعادل الأمراض الجسدية التي يعصم الله منها أهل المناعة الجسدية.

وفي ذلك - أي في المناعة من غواية الشيطان لمن رضي الله عنهم يقول الله تعالى، لإِبليس عليه لعنة الله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1).

{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} .

المفردات:

{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} : الإغواء؛ خلق الغَىّ في القلب. والغىُّ: الضلال. {صِرَاطَكَ} : الصراط؛ الطريق.

{مَذْءُومًا} : أَي مذمومًا. من: ذأَمه، إذا ذمَّه.

{مَدْحُورًا} : مطرودًا مبعدًا. وفعله: دَحَرَ كجَعَلَ.

التفسير

16 -

{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} :

بعد أَن عرف إِبليس، أَن الله تعالى أَملى له، وأبقاه إِلى قيام الساعة، للحِكَم التي شرحناها في الآية السابقة - قال لربه: فبسبب إِغوائك لي، وجعلى من أَهل الضلال،

(1) سورة الحجر، الآية: 42

ص: 1389

لأَقعدنَّ لآدم وذريته، راصدًا لهم في طريقك المستقيم، الموصل إِلى جنتك، الذي دعت إليه رسلك.

وقعود الشيطان لبنى آدم في الصراط المستقيم - وفي تلك الجهات - كناية عن رصده لهم، ومراقبتهم عندما يتجهون إِليه، ليبعدهم عنه.

وتفسير الإِغواء بالإِضلال، هو رأْى ابن عباس، ونسبة الإغواء بمعنى الإضلال إِلى الله تعالى، لا يمنعها أَهل السنة.

والمحققون منهم: يرون أَن المراد من إضلال الله للعبد: التخلى عن توفيقه إِياه، بعد أن اختار العبدُ سبيل الضلال.

والمعتزلة: يمنعون نسبة الإغواء بمعنى الإضلال إِلى الله تعالى، ويقولون: هذا كلام الشيطان فلا يحتج به. كما قالوا أَيضا: يمكن أن يكون المعنى فما خيبتنى من رحمتك أَو فبما أهلكتنى بطردك إياى ولعنك لي .. الخ فكما يطلق الإِغواء لغة على الإضلال، يطلق على التخييب والإِهلاك.

17 -

{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ

} الآية.

اقتصار إِبليس على تلك الجهات الأربع، دون أن يذكر - فَوْقَهُمْ وتحتهم - لأَنها هي الجهات التي اعتاد العدو الهجوم منها.

ومعنى {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} ): من أَمامهم.

والمقصود من ذكر الشيطان هذه الجهات، هو المبالغة في متابعة إِغوائه لهم. دون حقيقة تلك الجهات. فإن وسوسته لهم قلبية ونفسية. وهو يجرى من ابن آدم مجرى الدم. فلا حاجة له إِلى تلك الجهات.

ويجوز أن يكون غرضه من تلك الجهات: أنه سيضلهم عن الحق أينما اتجهوا إليه. إقبالًا أَو إِدبارًا، وميامنة أَو مياسرة. بحيث لا يترك لهم فرصة للإفلات منه. لعنه الله.

ص: 1390

ولقد حمى الله سبحانه وتعالى، المؤمنين من هذا الوعيد بقوله تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (1).

فَعلى المؤمنين أَن ينتبهوا إِلى تلك الحقيقة، ويحتموا بإيمانهم من سلطان إِغوائه، فلا يستمعوا لوسوسته، ولا يأْبهوا بتزيينه، فإنه السمُّ الزعاف: متى استطاع استدراج العبد، جعله في ظلام لا يتبين فيه الحقيقة، ووجد صعوبة في العودة إِلى الجادة المستقيمة، فقد أَبعده اللعين عنها.

فعلى كل مسلم أن يصده ويعرض عنه، حتى لا تتأثر نفسُه بالاستماع الدائم إِلى وساوسه، وأَن يتذكر عداوته لآدم وذريته، لينجو من شرِّه. قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (2) أَي تذكروا عداوته، فاستعاذوا باللهِ تعالى: يطلبون حمايتهم من شرِّه، قال تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) حمى الله عباده المؤمنين من شرِّه، وهداهم إلي سواءِ السبيل.

ومعنى الآية: ثم لآتينهم من كل وجه يتجهون إليه بعد رصدهم ومراقبتهم، ولا تجد أَكثرهم - بسبب إِضلالى إِياهم - مطيعين لك.

تلك هي عداوة إِبليس للجنس البشرى. وهذا هو وعيده لهم.

فعلى الإِنسان أَن يكون حذرا من وساوسه، لينجو من عواقبها.

18 -

{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} :

أَي قال الله لإبليس - مؤكدا طرده السابق - اخرج من منزلة الكرامة أو من الجنة، مذمومًا مِنِّى ومن أَهل طاعتى، مطرودا مبعدا من رحمتى أُقسِم: لَمَنْ تَبعَك منهم - في وسوستك له واستمر عليها - لأملأنَّ جهنم منكم أَجمعين: تابعين ومتبوعين.

(1) سورة النحل، الآيتان: 99، 100

(2)

سورة الأعراف، الآية: 201

(3)

سورة فصلت، الآية: 36

ص: 1391

وظاهر النص أن مخاطبات الله لإبليس، كانت بلا واسطة لغرض مزيد التعنيف والتوبيخ والوعيد.

واستظهر الجبائى من المعتزلة: أنها كانت بواسطة؛ لأن الله لا يكلم الكافر.

{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} .

المفردات:

{وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} : أخفى عن عيونهما من عوراتهما.

{وَقَاسَمَهُمَا} : وأقسم لهما، مبالغا في الإقسام.

التفسير

19 -

{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} :

هذا نداءٌ من الله تعالى لآدم عليه السلام يأْمره فيه بسكنى الجنة والتنعم بثمارها.

وتنبيه له إِلى الاهتمام بتلقى الأَمر والعمل به.

ولم يشرك معه زوجته في الخطاب، للإيذان بأصالته في تلقىّ الوحى، ومباشرة المأْمور به.

ص: 1392

والمعنى:

وقلنا: يا آدم، اسكن أنت وزوجك الجنة، واستقرا فيها، وتنعما بخيراتها، وكلا من ثمارها - ما أَحببتما - في سعة ورفاهية، من أَي مكان فيها أردتما. ولكن لا تقربا ثمار هذه الشجرة، فتكونا بذلك من الظالمين لأنفسهم، إذ تعديتما حدود الله تعالى.

والجنة التي أُمِرَا بسكناها والأكل منها، اختُلِف في المراد منها. فقيل: هي دار الثواب والعقاب؛ لأنها المعهودة شرعا.

وقيل: هي بستان في الأرض، فالجنة - في اللغة - بمعنى البستان.

واختلف في موقعها، فقيل: بفلسطين .. وقيل: بين فارس وكرمان. وقيل: بعدن.

والإِهباط منها: النقل إلى أَرض سواها يكدحان فيها ويعملان لتحصيل رزقهما.

ويرجح أَصحاب هذا الرأْى ما ذهبوا إليه، بأن آدم خلق في الأَرض بلا خلاف، ولم يذكر في قصته أَنه رفع إلى السماءِ .. ولو رفع، لكان رفعه أولى بالذكر.

ولا يعارض هذا قوله تعالى، فما بعد:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (1) فإِن استعمال الهبوط بمعنى الانتقال، وارد في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} (2).

وقيل: كلا الأَمرين ممكن. والأَدلة متعارضة. فوجب التوقف، وترك القطع. وقد جاءَت هذه الآية في سورة البقرة هكذا {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} فصرَّح فيها بكلمة (رغدا) أي أَكلا واسعا - رافها.

والمعنى هنا، على ذلك، وإِن لم يصرح به، أَخذًا من إِطلاق الأكل.

واختلف في الشجرة التي نهيا عن القرب منها. فقيل: هي الحنطة. وقيل: هي شجرة العنب. وقيل: هي التينة.

(1) سورة الأعراف، من الآية: 24

(2)

سورة البقرة، من الآية: 61

ص: 1393

والأولى عدم تعيينها؛ لفقدان الدليل عليه.

وتوجيه الخطاب إليهما، في قوله تعالى:

{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} لتشريفهما؛ والإيذان بتساويهما في حقِّ الأَكل، ولكى يوجه النهي إليهما صراحة في قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} .

وخوطب آدم - وحده - في السكن؛ لأن حواءَ تابعة له فيه .....

والمقصود من النهي عن قربهما تلك الشجرة، ألَاّ يأْكلا منها. وعبّر عن ذلك بالنهي عن القرب منها، مبالغةً في تحريم الأكل منها.

20 -

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} الآية.

الوسوسة - في الأَصل - الصوت الخفى المكرر. ومنه قيل لصوت الحلى؛ وسوسة. وتطلق أَيضا، على حديث النفس.

وقد غلبت في حديث إبليس لبنى آدم، لإِغوائهم. فإِنه خفى. وقد كانت وسوسته - لآدم وحوّاء - بطريق الاسترسال، حتى وصل بهما إلى ما يريد من المعصية وإِخراجهما من الجنة.

فقد قال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (1)؟.

وستأْتى بقية كلامه لهما في خفاءٍ وهمس، كما يفعله الناصح الحريص على المصلحة.

فإِن قيل: إِذا كان آدم في جنة الجزاءِ وقت وسوسته له، تكون عودته إليهما متعارضة مع طرده منها، ومنعه من دخولها؟

فالجواب: أنه منع من دخولها على وجه التكريم، ولم يمنع من دخولها ابتلاء لآدم وحواء.

أَما إِذا كان آدم في جنة الأرض، فلا إِشكال .. فإِن إبليس طرد من جنة الأَرض التي كان فيها آدم خلقا وإِقامة .. فلا تعارض. إذ يستطيع أن يحادث آدم على مقربة منه.

وأما على رأْى من يقول: إنَّه أُهبط من منزلة الكرامة عند الله إلى اللعن، بسبب عصيانه لربه، فلا إِشكال في وسوسته لآدم على أي وجه كانت سكناه.

(1) سورة طه، من الآية: 120

ص: 1394

وخلاصة معنى الآية الكريمة:

فأَغراهما الشيطان بوساوسه وتزيينه، وقال لهما:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} عَنْ أكْل ثمار هذه الشجرة، إِلا كراهة أَن تكونا مَلَكين أو تكونا من الخالدين في الجنة إن أكلتما منها.

والخلد: المكث الطويل، أَو بلا نهاية.

واستدل بعض العلماءِ، على أن الملائكة أفضل من البشر بأَدلة .. منها هذه الآية - ومنها قوله تعالى:{وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (2).

ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن إِبليس اعتبرهم فيها أَفضل من البشر: وأغوى آدم وحواءَ على الأكل منها ليرتقيا إلى درجة الملائكة، ولم يُنْكَرْ عليه اعتبارُهم أفضل من البشر، بل أُنْكرَ عليه تحريضهما على الأَكل المنهى عنه، ليكونا مثلهم، كما سيأْتي، وأن آدم لو لم يعلم بفضلهم على البشر، لما سعى إِلى درجتهم بارتكابه ما نُهِىَ عنه.

وقد أُجيب عن ذلك: بأن ذلك لا يثبت فضل الملائكة على البشر من كل وجه.

فقد يكون ما ذكر لكمالاتهم الفطرية، واستغنائهم عن الأطعمة والأَشربة، وفضلهم في ذلك لا يمارى فيه.

والراجح عند العلماءِ: أن المطيعين من بني آدم، أفضل من الملائكة؛ لأنهم غالبوا ما رُكِّب فيهم من الشهوة، وما سُلِّط عليهم من وسوسة إبليس، حتى استقاموا.

والملائكة ليسوا كذلك، إِذا لا توجد لديهم دواعى المعصية.

وفرق بين من أَطاع وهو مجبول على الطاعة، ومن أطاع مغالبا دواعى المعصية.

وعلى هذا الرأى ابن عباس وكثير من العلماء، ومنهم الزَّجَّاج.

فإن قيل: كيف صدق آدم إبليس في دعوى الخلود، فاعتقده وسعى إِليه. وذلك كفر؛ لأنه يعلم أَنه لا خلود للبشر، فسوف يصعقون عند النفخة الأولى.

فالجواب: أن الخلود الذي اعتقده آدم، وسعى إِليه، هو المكث الطويل، ولا كفر في طلبه وتصديق من يقول به

(1) سورة هود، من الآية:31.

(2)

سورة النساء، من الآية: 172

ص: 1395

وعلى فرض أَنه الخلود الأَبدى .. يُجاب: بأَن آدم لم يكن يعلم - وقتئذ - أنه مقصور على الله تعالى.

21 -

{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} :

أَي وأقسم لهما - مبالغا في حلفه - إِنى لكما لمن الناصحين، فَكُلَا من الشجرة، واستَمِعَا كلامى.

{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)} .

المفردات:

{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} : فأنزلهما إلى عصيان الله بخديعة.

{بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} : فظهرت لهما عوراتهما.

{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} : وشرعا يجمعان.

{مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ} : استقرار وتمتيع.

ص: 1396

التفسير

22 -

{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} :

التدلية والإدلاء: إِنزال الشىء من أَعلى إلى أَسفل.

وإِبليس قد فعل ذلك بآدم وحواءَ، إذ أَنزلهما - بوسوسته - من رفعة الطاعة، إِلى ضعَةِ المعصية ..

وقيل: معنى (دلَاّهما): جرأَهما على العصيَان: من الدالَّة بمعنى الجُرأَة، فَأْبْدِلَ حرفُ التضعيف ياءً.

والغرور: هو الخديعة. وسبب خديعتهما هو ظنهما: أَن أَحدا لا يقسم باللهِ كذبا، فلهذا صدَّقَاه فيها زعمه من أَن الأكل من الشجرة، يجعلهما مَلَكين أو من الخالدين.

وقال بعض المحققين: إنهما لم يصدقاه. بل أَقدما على المنهى عنه بغلبة الشهوة والرغبة في الإِنسان، كما نُقْدِمُ نحن على الفعل الذي نشتهيه، إِذا زينه لنا أَحد من البارعين في الخديعة، وإِن لم نعتقد أن الأكل كما قال. ولعل كلام إِبليس من قبيل المقدمات المثيرة للشهوة. فلهذا نَسِيَا به المنهى الإلهى، فأَقدما على المنهى عنه بلا رؤية .... انتهى باختصار.

{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} :

أَصل الخصف: خرز طاقات النعل ونحوها، بعد إِلصاق بعضها على بعض. والمراد من خصفهما ورق الجنة، هو جمعه وإِلصاق بعضه على بعض، بطريقة تستر العورة قيل: كان من ورق التين. وقيل: من ورق الموز. والله أعلم بالحقيقة.

وفي الآية دليل على قيح كشف العورة على كلا الزوجين بلا حاجة، فما ظنك بكشفها على غيرهما؟!

{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}

الآية.

ص: 1397

ودعاهما ربُّهما، لتشديد العتاب لهما، على مخالفة النهي، قائلا لهما: أَلم أنهكما عن الأَكل من تلك الشجرة التي أَكلتما منها، وأَقل لكما إِن الشيطان لكما عدوٌّ بَيِّنُ العداوة؟ وذلك القول حكته سورة طه كما يلي:

{إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (1).

وخلاصة معنى الآية - مجتمعة - ما يلي:

فأنزلهما الشيطان عن طاعة الله إلى عصيانه، إِذْ أَكلا من الشجرة المحرّمةِ عليهما بسبب ما خدعهما به من فوائدها، وإِقسامه لهما إنه لمن الناصحين.

فلما ذاقا ثمرة هذه الشجرة، ظهرت عوراتهما، بتنحية الله الثياب عنهما؛ عقُوبةً لهما. وشرعا يجمعان عليهما من ورق أَشجار الجنة، لاصقين بعضه على بعض، ليسترا به عورتيهما.

وناداهما ربُّهما قائلا لهما - على سبيل العتاب - أَلم أَنهكما عن قربان هذه الشجرة وأَقل لكما - محذرا - إِن الشيطان لكما عدو ظاهر العداوة؟ فكيف خُدِعتما بإغوائه؟.

23 -

{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

قال آدم وزوجه. ضارعَينِ إِلى الله، معترفينِ بخطيئتهما، مستغفريْنِ منها:

ربنا ظلمنا أنفسنا بمخالفة نهيك وتصديق إِبليس، وتعريضها - بسبب ذلك - لسخطك وعقوبتك. وإِن لم تتجاوز عمَّا فرط منا، وترحمنا بالرضا والفضل - لنكونن من الخاسرين.

واستدل بالآية بعضُ العلماءِ، على أن الصغائر يعاقَبُ عليها مع اجتناب الكبائر.

فإن آدم لم يرتكب كبائر، فلمَّا فعل صغيرة الأكل من الشجرة المحرَّمة - احتاج إلى استغفار ربه ليغفرها له، فلو كان اجتناب الكبائر يكفى في غفران الصغائر، لا كان هناك داع لاستغفار آدم من زلَّة صغيرة.

(1) سورة طه، من الآية: 117

ص: 1398

ورُدَّ هذا الاستدلال، بأَن آدم إِنما طلب الغفران والرحمة مع صغير زلته استعظاما لها في حقِّ الله تعالى - كما هي عادة الصالحين - وإن كانت مكفرة باجتناب الكبائر وإن لم يتب عنها.

وإلى هذا ذهب أَهل السنة والمعتزلة.

وحمل الإِمام الرازى زَلَّة آدم الصغيرة على أنها وقعت قبل نبوته إِذ لا تجوز الصغائر والكبائر بعدها على الأنبياءِ.

وكثير من أهل السنة، جعلوا طلبه الغفران لما وقع منه، من باب هضم النفس فإن ما وقع منه عن نسيان، فلا صغيرة فيه ولا كبيرة.

وقد يقال لهم: إن كانت زلتهُ عن نسيان، فكيف يعاتبه الله عليها؟ وكيف يعاقبه بكشف العورة والإهباط من الجنة ولا عتاب ولا عقاب على النسيان، لأنه قهرى لا كسبى؟

فالظاهر: أَن النسيان في قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (1) بمعنى الإِهمال وترك العزم في تنفيذ ما كلفه الله به.

24 -

{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} :

اختار الفراءُ: أَن الخطاب في الآية لآدم وحواءَ وذريتهما ....

ولا مانع من خطاب الذرية وهي لم توجد بعد، لأَن خطاب الأبناءِ تابع لخطاب الآباءِ ولأن المنتظر، هو في حكم الموجود، كما في قوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . (2)

وقيل: الخطاب لآدم وحواءَ، لقوله تعالى في سورة طه:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (3). والقصة واحدة.

والمراد بالجمع في قوله: (اهبطوا) ما فوق الواحد، أَو لأنهما أصل البشر، فكأنهما جميع الآدميين.

(1) طه، من الآية: 115

(2)

يس، من الآية: 41

(3)

طه، من الآية: 123

ص: 1399

والمراد بالعداوة في قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} : الظلم.

كنا اختاره بعضُهم - والظلم ناشئ من حبَّ الذات ووسوسة إبليس.

وخلاصة معنى الآية: قال الله تعالى لهما: أهبطوا من الجنة أَنتما وذريتكما - تبعا لكما - بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض استقرار وتمتع بنعمائه تعالى، إِلى حينٍ تنتهى فيه أَعماركم.

25 -

{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} :

قال الله أيضا لآدم وحواء وذريتهما: في الأرض تحْيَوْنَ الحياة المقررة لكل منكم وفيها تموتون عند انقضاءِ آجالكم، ومنها تُخْرَجون إلى الحشر عند بعثكم.

{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} .

المفردات:

{أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} أي خلقناه لكم بأَسباب أنزلناها من السماءِ كالمطر وحرارة الشمس وأَشعتها، أَو ألهمناكم طريقة صنعه، وسيأْتى مزيد بيان بذلك:{يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} يستر عوراتكم {وَرِيشًا} المراد به هنا اللباس الفاخر "وقبيله" وجماعته.

ص: 1400

التفسير

26 -

{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ

} الآية.

هذا خطاب من الله تعالى إِلى الناس كافة. واللباس مخلوق في الأرض، وعَبَّر عن الإنعام به بإنزاله، لصدوره عن الله العلىّ الشأن إلى خلقه.

ونظيره قولك: رفعت حاجتى إلي الأمير، ولا رفع في الحقيقة. وإِنما المقصود به التعظيم.

قال أبو مسلم: كل ما أَعطاه الله إلى عبده، فقد أَنزله عليه، من غير نظر إلى نقله حقيقة من علو إِلى أَسفل. والمقصود منه التعظيم: أهـ.

ومثله قوله تعالى في سورة الحديد: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (1).

وقيل: معنى {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} : خلقناه لكم بأسباب سماوية، كالمطر الذي ينبت ما يصنع منه الثياب كالقطن.

وقيل: المراد قضيناه لكم. والقضاءُ يَنزل من السماء فهو مكتوب في اللوح المحْفوظ.

ومعنى {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} : يستر عوراتكم التي تسبَّب إِبليس في كشفها عن أبويكم، حتى اضطرا إلى سترها بأَوراق الشجر، وقد أَغنيناكم عن ذلك

فالآية واردة على سبيل المنة على أَبناءِ آدم، بعد ما فعله إِبليس بأَبيهم. ولذا ختمت بوجوب اتعاظهم وتَذَكُّرِهم.

وقد هدى الله آدم وذريته، إلى المواد التي تصنع منها الملابس، وطريقة الحصول على تلك المواد، وكيفية صنع الملابس منها، على اختلافها، بما أَلقاه في خواطرهم من أسباب المعرفة. فله الحمد على تلك النعمة الساترة للعورات، الحافظة للأجسام، المُضْفِيَةِ للجمال.

{وَرِيشًا} : أَي وأنزلنا عليكم ريشا. والريش اللباس الفاخر.

{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} :

التقوى: الخشية من الله، المستتبعة للأعمال الصالحة. وإِضافة اللباس إِليها؛ لأنها تقى صاحبها من النار، كما يقى اللباس صاحبه من الحر والبرد.

فإذا اتقى العبد ربه، ستره من المعايب في الدنيا، ومن العقوبة في الآخرة.

(1) الحديد، من الآية: 25

ص: 1401