المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌آراء العلماء في طيبات الرزق - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌آراء العلماء في طيبات الرزق

ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُه حَسَنًا: قال: "إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ .. الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ".

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُعْنَى بزينته في حدود التقشف.

روى مكحول، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان نفر من أصحاب رسول الله ينتظرونه بالباب، فخرج يريدهم وفي الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء ويسوّى لحيته وشعره .. فقلتُ: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: "نعم، إذا خرج الرجل إِلى إخوانِه فليهيىء من نفسه

فإِنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ".

وكذلك كان يفعل الصحابة والتابعون.

فهذا ابن عباس عليه رضوان الله تعالى لمَّا بعثه علىّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه، إلى الخوارج، لبس أفضل ثيابه، وتطيَّب بأَطيب طيبه، وركب أحسن مراكبه، فلما رأَوه قالوا: يا ابن عباس: بَيْنَا أَنت خير الناس، جئتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم؟ فتلا هذه الآية.

وهذا أبو حنيفة رضي الله عنه، كان يرتدى بردا قيمته أَربعمائة دينار!!

وكان الحسن رضي الله عنه يقول: "ليس البِرُّ في هذا الكساء - يعني الكساءَ الخشن - إِنما الِبرُّ ما وَقَرَ في القلب، وصدقه العمل".

قال أبو الفرج الجوزى: "كان السلف يتخيرون أجود الثياب: للجمعة، والعيد، ولقاءِ الإخوان. وقال: إِن اللباس الذي يزرى بلابسه، ويقصد منه إظهار الزهد والفقر، لهو لباس الشكوى منه تعالى

وهو موجب للاحتقار

وهذا مكروه. وقال: إِن السلف لم يكونوا يلبسون المرقعات إِلا للضرورة".

‌آراء العلماء في طيبات الرزق

قد علمتَ أَن طيبات الرزق، ما طاب طعما وكسبا، وأَن الله تعالى لم يحرمها، بل أَباحها تَنَاوُلًا وتركا. ولكن العلماءَ اختلفوا في درجة الإباحة.

ص: 1413

فمنهم من قال بتساوى التناول والإِعراض.

ومنهم من قال: الإعراض عنها أَفضل، فهو قربة من حيث إِنه يؤدى إلى الزهد في الدنيا، ليتفرغ للعمل للآخرة، وما يؤدى إلى ذلك يكون مندوبا، والإقبال عليه يكون مكروها، لأَنه يشغل عن الآخرة، ولقوله تعالى:

{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (1).

ومنهم من قال: إن حَضَرتْ بلا كُلْفَةٍ فلا كراهة، وإلا كرهت

وصححه أبو الحسن المقدسي.

وعلَّل تصحيحه بأَنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، امتناع عن الطعام لأَجل طيبه. بل كان يأكل العسل، والحلوى، والبطيخ، والرطب، وإنما يكره التكلف، لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة.

{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :

هذا تصريح بِحِلِّ الزينة وطيّبات الرزق

بعد ما فهم - استلزاما وإشارة - من إنكار تحريمهما السابق

جىءَ به لتأْكد الحِلِّ ..

قل أَيها الرسولَ: زينةُ الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزقِ، مباحة للذين آمنوا في الحياة الدنيا: في الحج وغيره. خالصة من العقوبة يوم القيامة فلا وجه لتحريمهما كما فعل أهل الجاهلية.

وتخصيص تحليلها بالمؤمنين، مع أَن لغيرهم حق الانتفاع بها؛ لأَن هذا تشريع. والتشريع يوجّه إلى المؤمنين ليعملوا به. ولا يتحرجوا متأثرين بعادات الجاهلية، ولأنه أكَّدَ حِلّها مرة ثانية، فوصفها بالخلوص من العقوبة يوم القيامة .. وذلك خاص بالمؤمنين .. إذَّ الكافرون يعاقبون على التقصير في شكرها بترك الإيمان

وبعضهم فسَّر الآية بقوله: قل هي - بالأَصالة - للذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ لمزيد كرامتهم، والكافرون تبع لهم، خالصة للمؤمنين يوم القيامة: لا يشاركهم فيها غيرهم.

وما قلناه - أَوَّلًا - أولى. فإن الآية مسوقة للردِّ على الكافرين في تحريمهم لها في الحجِّ، وتأْثيم من يتعاطاها.

(1) سورة الأحقاف، من الآية: 20

ص: 1414

وذلك التفسير يبعدها عن هذا الاتجاه ويخالف ظاهرها.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

مِثل ذلك التفصيل البَيِّن، نفصِّل الآيات لقوم يفهمون فيعملون بما فهموا ..

33 -

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

قل لهم - أيها الرسول - ما حرّم ربي سوى ما اشتدَّ قبحُه من المعاصي، وما يوجب الإثم من مطلق الذنب (1)، وحرّم البغى (2) على الناس بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما يستحيل أن يكون له حجة أو برهان، فإن الشرك بالله ظلم عظيم.

كما حرَّم أن تقولوا على الله - في الأَحكام والصفات (3) - ما تجهلون.

أمّا التجُّمل بالثياب، وتعاطى لذائذ الطعام والشراب، فليس مما حرَّمه ربِّى.

وتقييد البغى بغير الحق، إخراج البغى بالحق، وهو ما كان عقوبة لمن بغي أولا .. وإطلاق البغى عليه للمشاكلة (4).

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} .

المفردات:

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} الأُمة: الجيل من الناس. والأَجلُ: مدّة الشىء. وتد يطلق على غاية الوَقْتِ في الموت وغيره. والمراد به هنا، وقت يموتون فيه وتنتهى به حياتُهم.

{لَا يَسْتَأْخِرُونَ} : لا يتأخرون.

{وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} : ولا يتقدمون.

(1) هذا تعميم بعد تخصيص.

(2)

وإفراده بالذكر مع دخوله في الفواحش أو في الإثم للبالغة في الزجر عنه.

(3)

كقولهم بتحريم ستر العورة في الطواف، وبوجوب عبادة الأوثان وإسناد شرع ذلك إلى الله.

(4)

والمشاكلة هي التعبير عن الشىء بلفظ غيره، لوقوعه في صحبته، وهي لون من ألوان البديع.

ص: 1415

التفسير

34 -

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} :

في الآيات السابقة، حثَّنا الله تعالى، على اتخاذ الزينة عند الصلاة، اعتناءً بشأْنها، كما حضَّنا على عدم الإسراف في الأكل والشرب، وفي الأمر كلّه. وبيَّن لنا - سبحانه - أَنه لم يحرّم الزينة والطيبات من الرزق في حدود الاعتدال. وذكر أَنه مما حرّم إِلَّا الإِثم والبغى والإِشراك باللهِ تعالى، وأَن يقول أَحد عنه عز وجل ما لا يَعْلَمُ -.

وجاءَت هذه الآية، لتبيّن أن مصير الناس إلى الموت، لكي يحذروا حساب الآخرة فيما أحلّ الله لهم وما حرّم.

والمعنى: ولكلّ جيل من الناس، وقت ينتهى إِليه عمر كلّ واحد منهبم، بخيره وشرّه.

فإذا جاءَ هذا الوقت، فلا يتقدم عنه أحد منهم زمنا، ولو كان قليلًا، ولا يتأَخر عنه زمنا كذلك.

فآجال العباد موقوتة. وموافاتها في حينها محتومة.

والله غالب على أَمره .. فلتنظر كل نفس ما قدمت لغد.

{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)} . المفردات:

{يَقُصُّونَ} : يتلون.

{وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} : وتعالَوْا عليها، فلم يقبلوها.

ص: 1416

التفسير

35 -

{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي

} الآية.

بعد أن بيَّن الله أَن الموت نهاية كل حىّ - عقبه بمخاطبة بني آدم - تنبيها لهم أَن رسُلَهُ إذا جاءَتهم وأَنذرتهم حساب هذا اليوم، فعليهم أَن يتَّقوا الله ويصلحوا، لينجوا من عقابه، وينعموا بثوابه.

والمعنى:

يا بنى آدم - إِن يأْتكم رسل من جنسكم: يعرِّفونكم آياتى، ويعرضون عليكم شرائعى، فاستجيبوا إِلى ما يدعونكم إِليه، فإِن من اتَّقى الله تعالى فآمن بهم، وأصلح عمله - وفْقَ ما جاءُوا به عن الله تعالى - فلا خوف عليهم من مكروهٍ ينالهم في الدنيا والآخرة، ولا هم يحزنون على فوت ثوابٍ لصالح أعمالهم.

واعلم أن الآية خطاب لكافة الناس. يؤذن بالاهتمام بما يليه.

والمحققون على أنه حكاية إجمالية لا وقع من خطاب الله لكل أمَّة من أُمم الرسل.

وليس خاصا بأُمة محمد صلى الله عليه وسلم. و (ما) في قوله: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} للتأكيد، وليست نافية.

36 -

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

المعنى: والذين جحدوا آياتِنا، وتعالَوْا عليها - مع وضوحها - فكذّبوا الرسلَ الذين جاءُوهم بها - أُولئك الجاحدون المكذِّبون - هم أَصحاب النار، الملازمون لها، وهم فيها خالدون .. لا يبرحونها.

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)} .

ص: 1417

المفردات:

{افْتَرَى} : اختلق وادعى، {نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}: حظُّهم ممَّا كتبه الله لهم في الدنيا من النِعَم فلا يحرمون منها مع كفرهم، {ضَلُّوا عَنَّا} غابوا عنا ولم ينفعونا.

التفسير

37 -

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} :

افتراءُ الكذب: اختلاقه. والاستفهام في قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ} للإنكار.

والغَرَضُ منه: النفى.

والمعنى: لا يوجد أَظلم ممن افترى على الله تعالى الكذب، أَو كذَّب بآياته. وكما أَنه لا يوجد أظلم منه، لا يوجد مَنْ يساويه.

فالمراد: أنه أظلم من كل ظالم .. والتكذيب بالآيات يتناول: إِنكار الآيات المنزلة على الرسل، ونفى نزولها من عند الله، كما يتناول عدم الاعتراف بدلالة الآيات الكونية على وحدانية الله تعالى، وسائر صفاته.

{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} :

المقصود من نصيبهم من الكتاب: حظّهم مما كُتِبَ لهم من الأرزاق والأَعمار.

والمعنى: أَولئك المفترون المكذِّبون، ينالهم - في الدنيا - حظهم ممَّا كتبه الله وقدَّره، من الأَرزاق والأَعمار لعباده. فلا يحرمون منه مع كفرهم.

ثم يعَقِّب الله تعالى، ذلك، ببيان أن أَمرهم - في الآخرة - مخالف لذلك فيقول:

{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .

أي هم يظلون متمتعين بنصيبهم مما كُتب لهم من الأَرزاق، غير ناظرين إلى عاقبتهم. حتى إذا جاءتهم رسلُنا من الملائكة: يقبضون أرواحهم، قال هؤلاء الملائكة لهم يوبّخونهم: أَين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله؛ لتحميكم ممّا ينتظركم من العذاب؟

ثم يحكى الله ردَّهم على هذا التوبيخ فيقول:

{قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} .

ص: 1418

أَي: قال الكافرون، ردًّا على هذا التوبيخ: غاب آلهتُنا عنا في ساعة المحنة، فلم نعد نراهم ..

وأَيقنوا - من هذا - أَنهم خدعوا فيهم، وشهدوا على أنفسهم أَنهم كانوا في دنياهم كافرين بربِّهم، حين عبدوا مِن دونه أُولئك الضَّالين.

ثم يحكى الله تعالى ما سيقوله لهم بعد اعترافهم بكفرهم، فيقول سبحانه:

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)} .

المفردات:

{خَلَتْ} : مضت.

{لَعَنَتْ أُخْتَهَا} : ذمَّتها، واتهمتها بإِضلالها.

{ادَّارَكُوا} : تلاحقوا.

{ضِعْفًا} : الضِّعف هو المِثلُ إلى ما زاد.

التفسير

38 -

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} :

قال الله لهؤلاءِ الكافرين - بعد اعترافهم بكفرهم - ادْخُلُوا النَّارَ بين أُمم كافرة قد مضت من قبلكم - أيها الكافرون - من الجن والإنس.

ص: 1419

ثم يبيّن الله حالهم حينما يدخلون النَّار فيقول:

{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} :

اللعن هنا، بمعنى الذم والدعاء بالطرد عن رحمة الله تعالى.

والمعنى: كلّما دخلت في النار جماعة كافرة، ذمَّت أُختها، أَو دعت عليها. بزيادة الطرد عن رحمة الله وزيادة العذاب في جهنم فتلعَن التابعةُ المتبوعةَ، لإِضلالها إيَّاها، وتلعن المتبوعةُ التابعةَ، لتسبّبها في زيادة ضلالها. وهكذا تتبادلان اللعنات.

ثم يبيّن الله حال المتبوعين والتابعين بعد هذا التلاعن والاجتماع في النار فيقول:

{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} :

أَي يدخلون فوجا فوجا: يكفر بعضُهم ببعض. ويلعن بعضُهم بعضًا. حتى إذا تلاحقوا في النار واجتمعوا فيها، قالت أخراهم في المنزلة - وهم الأَتباع - في حقِّ أَولاهم مقاما - وهم القادة (1) - ربنا هؤُلاءِ أَضلونا عن الهدى، فآتهم عذابا مضاعفا من النار - لضلالهم وإِضلالهم.

ثم حكى الله تعالى ردَّه عليهم قائلا:

{قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} :

قال الله للأتباع: لكل منكم ومن المتبوعين عذاب مضاعف .. فالأتباع: لضلالهم وتقليدهم لرؤسائهم، دون تدبّر للعواقب. والقادة: لضلالهم وإضلالهم تابعيهم .. ولكن لا تعلمون ذلك. فلهذا طلبتم المضاعفة لرؤسائكم، مع تساويكم في فظاعة الإثم.

ثم يحكى الله ردّ رؤسائهم عليهم فيقول:

(1) وقيل: المعنى، قالت أخراهم دخولا لأولاهم كذلك.

ص: 1420

{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)} .

التفسير

39 -

{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} :

وقالت أُولاهم - وهم الرؤساءُ المتبوعون - لأُخراهم - وهم المرءُوسون التابعون لهم - بعد ما سمعوا جواب الله لهم - فيما كان لكم علينا من رجحانٍ يقتضي تخفيف عذابكم عنا .. فنحن وأَنتم متساوون في مقدار الذنب، واستحقاق مضاعفة العذاب. فذوقوا - مثلنا - العذاب المضاعف، بسبب ما كنتم تفعلونه كل من الكفر والانقياد لنا ..

ومن هنا، يتبيّن أن التقليد في عقائد الناس وآرائهم - بدون رويّة - عظيم الخطورة .. فلا بدّ - لكلِّ عاقل - من التدبر قبل الاعتقاد، ضمانا للسلامة.

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)} .

المفردات:

{يَلِجَ الْجَمَلُ} : يدخل البعيرُ، ويطلق الجمل أَيضا على الحبل الغليظ.

{فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} : في ثقب الإبرة.

ص: 1421

{مِهَادٌ} : فراش وأصله ما يمهد للطِّفل لينام عليه.

{غَوَاشٍ} : أَغطية تغشاهم. أي تغطيهم: جمع غاشية.

التفسير

40 -

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ

} الآية.

بعد أن بين الله - في الآيات السابقة - أن مصير الكافرين النار - تابعيهم ومتبوعيهم - جاءَت هذه الآية الكريمة، لإقناطهم من دخول الجنة.

والمعنى:

إن الذين كذَّبوا بآياتنا، المثبتة لوجود الله ووحدانيته، وسائر صفاته العليَّة، والدَّالة على صدق الرسل وصحة المعاد والجزاء، وبالغوا في الاستكبار عن الإيمان بها والالتفات إِليها - أُولئك المكذِّبون المستكبرون - لا تفتح - لأَدعيتهم وأعمالهم - أبوابُ القبول في السماء .. أو لا تفتح لأَرواحهم - بعد قبضها - أبواب السماءِ لتتصل بالملائكة، وتنعم بالراحة وتقابَل بالترحيب، كما هو شأْن المؤمنين .. بل يُقال لها عند اتجاهها إليها - كما ورد في الحديث الشريف -:"لَا مَرْحَبًا بِالنفْسِ الخَبيثَةِ، كَانَتْ في الْجَسَدِ الخَبِيثِ. ارْجِعِى ذَمِيمَةً .. لَا تُفْتَح لَكِ أَبْوَابُ السَّماءِ. فَتُرْسَلُ مِنَ السَّماء. ثم تَصِيرُ إلَى الْقَبْرِ".

أَخرجه الإِمام أحمد والحاكم وصححه، والنسائي وغيرُهم عن أبي هريرة برفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذلك بعكس أرواح المؤمنين التي يقال لها إِذا عُرِجَ بها إِلي السماء: "مَرْحَبًا بالنفْسِ الطيِّبةِ كَانَتْ في الجَسَدِ الطيِّبِ .. ادْخُلِى حَميدَةً، وَأبْشِرِىِ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ رَاضٍ غَيْرِ غَضْبَانَ .. فلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلك، حَتى تَنْتَهِىَ إِلَى السَّماء السَّابعة" أخرجه من ذكرناهم سابقا.

{وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} :

أَي: وكما أُوصدت أبواب السماءِ دون أقوالهم وأعمالهم وأرواحهم. فكذلك أَبواب الجنة موصدة في وجوههم لا يدخلونها بأَى حال. كما لا يدخل البعير، أو الحبل الغليظ في ثقب الإبرة.

والمراد: استحالة دخولهم الجنة: والجمله تأكيد للجملة السابقة.

ص: 1422

{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} :

ومثك ذلك الجزاءِ الفظيع، نجزى كلَّ المجرمين من أَهل التكذيب بآيات الله، فلا يختص به بعضُهم دون بعض.

41 -

{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} .

المقصود بهذه الآية: أَن النار محيطة بأهل النار من جميع الجوانب. والتعبير بالمهاد والغواشي، للتهكم بهم

والمعنى:

لهم من نار جهنم مجلس ومهاد من تحتهم، وأَغطية ودثار من فوقهم .. فالنَّار محيطة بهم. ومثل هذا الجزاء الشديد، نجزى الظالمين لأنفسهم: بكفرهم بآيات الله وتعاليهم عليها، وانصرافهم عن الحق بعد ظهوره.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} .

المفردات:

{وُسْعَهَا} : ما تتسع له وتطيقه.

{مِنْ غِلٍّ} : من حقد.

ص: 1423

التفسير

42 -

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا

} الآية.

بيَّن الله تعالى، في الآيات السابقة: أن الكافرين - وهم في النار - يعادى بعضهم بعضا، ويتزايد الحقد بينهم، ويلقى بعضهم اللوم على بعض في كفرهم

وأَنَّ عذابهم في جهنم دائم لا نهاية له.

وجاءَت هذه الآية - وما بعدها - في إثر ذلك، لبيان أن مصير المؤمنين الجنة: خالدين فيها أَبدا، وأن نفوسَهم خالية من الغِلِّ، وأنهم أُورثوا الجنة بأَعمالهم

وبضدّها تتميز الأَشياءُ.

ومعنى الآية:

والذين آمنوا باللهِ وشرائعه المنزلة على رسله، وعملوا الصالحات - حسبما جاءَت في شرائعهم سهلة الأَداءِ - لأَن الله لا يكلف نفسا إلا ما تتسع له طاقتها - أُولئك المؤمنون الصالحون أصحاب الجنة الملازمون لها، هم فيها خالدون: لا يبرحونها ولا يُخْرَجُون منها.

43 -

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} :

أَي وأَخرجنا ما في صدورهم من حقدٍ وعداوة، بسبب أُمورٍ جرت بينهم في مطالب الدنيا، حتى تصفوَ المودَّة بينهم في نعيم الجنة، الذي هو صفوٌ كلُّه

ويجوز أَن يكون المعنى: طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنَّة، فلا يحسد أَحدهم أَخاه على منزلة أَعلى من منزلته، بسبب ما قدَّمه في الدنيا من عملٍ أحسنَ من عمله. وهذا في مقابل ما ذكر عن أهل النار من تخاصمهم

والتعبير عن نزع الغلِّ. بصيغة الماضى - مع أَنه سيحدث يوم القيامة - للإيذان بتحققه ....

ويحتمل أَن المراد إزالته، بتوفيق الله تعالى قبل الموت، بعد ما حدث بمقتضى الطبائع البشرية، والمطامع الدنيوية.

ص: 1424

ويمكن أَن يخرَّج على أحد هذين الوجهين، ما روى عن عليٍّ رضي الله عنه: أَنه قال: "إِنِّي لأرْجُو أَنْ أكُونَ منهمْ، أَنَا وعُثمان وطَلْحة والزُّبَيْر".

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} :

وقالَ أَهل الجنة: الحمد لله الذي هدانا لهذا النعيم المقيم، بما وفقنا إليه من الإِيمان والعمل الصالح، وما كنا لنهتدىَ إليه لولا أن هدانا الله بتحبيب الإيمان إلينا، وتزيين الطاعة في قلوبنا.

{لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} :

فاهتدينا بهديهم، ونعمنا بالجنة مصداقا لوعدهم.

{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} :

ونودوا من قِبَلِ الله تعالى، بأَن نادتهم الملائكة. أو ناداهم الله تعالى تشريفا لهم، ورفعا لشأْنهم قائلا: تلكم الجنة الرفيعة القدر، العظيمة الشأْن البعيدة المدى، أُعطيتُمُوها بما كنتم تعملون، من الإيمان والعمل الصالح.

وعبَّر عن الإِعطاءِ بالتوريث: للإِيذان بكمال الاستحقاق، كما هو شأْن الميراث، بموجب ربط الله الجزاء بالعمل. وإن كانت الجنة في ذاتها أَعلى شأْنا من العمل، بل هو في جانبها لا يعتبر شيئا مذكورا، ولكن الله - بفضله - جعله سببا لاستحقاقها.

ويجوز أَن يكون التعبير عن إعطاءِ الجنة بتوريثها، للإِيذان بأَنهم نالوا الجنة دون كسب منهم موجب لها، كما ينال الوارث ما يرثه دون كسب، فإِن كسبهم - مع أنه لا يذكر بجانب الجنة - إنما كان بتوفيق الله ومعونته، ولولا ذلك ما حدث.

والباء في قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} : تحمل - في هذا الوجه - على أَنها للسبب الْجَعْلِى من الله تعالى، لا للسبب الذاتى، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنكُمْ الْجَنَّةَ بعَمَلِهِ" أخرجه الصحيحان.

ص: 1425

أي لن يدخلها أحد بسبب عمله - وحده - دون فضل الله وهدايته، فإنه - تعالى - خالق النفس ومانحها القوَّة على العبادة، وموفِّقها إليها. فإذا كافأَنا على العبادة بالجنة، فذلك منه تعالى. هو الفضل والمنَّة.

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} .

المفردات:

{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} : فنادى منادٍ.

{يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : يمنعون الناس عنها.

{وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} : يطلبونها معوجة ومائلة عن الحق.

{الْأَعْرَافِ} : سور بين الجنة والنار.

{بِسِيمَاهُمْ} : بعلامتهم المميّزة لهم.

ص: 1426

التفسير

44 -

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} :

بعد أن بَيَّن الله تعالى سعادة أهل الجنة بنعيمها، ذكر في هذه الآية، ما يحدث منهم من الشماتة فيمن كانوا يستعلون عليهم في الدنيا من الكافرين. وذكر - كذلك - لعن الله للظالمين.

والمعنى: ونادى أصحاب الجنة من المؤْمنين - بعد استقرارهم فيها وفرحهم بها - أصحاب النار من الكافرين - وهم يصطلون بحرِّها - يقولون لهم في ندائهم: قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا من النعيم المقيم حقا .... فهل وجدتم ما توعدكم الله به من العذاب حقا؟! قالوا متحسرين يائسين: نعم .... وجدناه حقا.

{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} :

فنادى منادٍ - بين أهل الجنة وأهل النار - قائلا: لعنة الله تعالى، واقعة على الظالمين لأنفسهم بكفرهم، وطَرْدُهُ سبحانه وتعالى إيَّاهم من رحمته، بسبب نفريطهم وجنايتهم على فطرتهم.

واختلف في هذا المنادِى فقيل: هو مالك خازن النار .... وقيل: هو صاحب الصور. وقيل: هو ملك غيرهما.

وأَيًّا ما كان، فنداؤُه بأَمر الله تعالى.

والغرض من ندائه، إِدخال السرور على أَصحاب الجنة بتعذيب أعدائهم أعداءِ الله تعالى. ومضاعفة حسراتهم، بما ظلموا.

45 -

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} :

ص: 1427

أَي لعنة الله على الظالمين، الذين يصرفون الناس عن سبيل دينه القويم، ويصرفونهم عن الإيمان به، بإلقاءِ الشبه في أدلته، ويطلبون لها العوج، بأَن تكون على هواهم: تقرّ الشرك، وتدعو إلى ما هم عليه من باطل. وهم بالآخرة كافرون، فلا يُقِرُّون ببعثٍ ولا جزاءٍ.

46 -

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} :

المراد بالحجاب: السور الذي يفصل بين الجنة والنار، ويمنع أَثر كلتيهما عن الأُخرى ....

وشئون الآخرة لا تقاس بشئون الدنيا .. والأَعراف: أَعالى الحجاب الذي ضرب بين الجنة والنار وهي جمع عُرْف. وهو المكان المرتفع من الشىءِ. أَي أَعلى موضع منه. فهو أَعرف ممّا انخفض منه. ومنه عُرف الديك. وعرف الفرس.

والمعنى: وبين الجنة والنار، سور يحجب أَثر كلتيهما عن الأُخرى. وعلى أَعالى هذا السور، رجال يعرفون كلا من أَهل الجنة والنار في المحشر بسيماهم - أي بعلاماتهم المميزة لهم.

واختلف في هؤُلاءِ الرجال الذين يعتلون الأَعراف.

فقيل: هم من الموحدين: "قصرت بهم سيئاتُهم عن الجنة، ومنعتهم حسناتُهم من النار: فجعلوا هناك، حتى يقضى بين الناس. فبينما هم كذلك، إِذ اطلع عليهم ربُّهم، فقال لهم: قُومُوا فادْخُلُوا الجنة فَإنِّى غَفَرْتُ لَكُمْ" أَخرجه أَبوَ الشيْخ والبَيْهَقِىّ من حُذَيْفة.

وإلى هذا. ذهب جمع من الصحابة والتابعين.

وقيل: هم الأَنبياءُ، عليهم السلام: أجلسهم اللهُ على أَعالى ذلك السور، تمييزًا لهم عن سائر أَهل القيامة، وإظهارًا لشرفهم وعُلُوِّ مرتبتهم.

وقيل: هم عدول الناس من كلِّ أمة. جعلهم الله شهداءَ على أَعمال أَقوامهم.

ص: 1428

حكاه الزُّهْرِىُّ. وقيل: هم ملائكة، يُرَوْنَ في صورة رجال وقيل غير ذلك

والظاهر أَنهم قوم علت درجاتُهم؛ لأَن المقالاتِ الآتيةَ لا تليق بغيرهم. سواء أَكانوا أنبياءَ أَم سواهم.

والسيما التي يَعرفون بها كلا الفريقين من أَهل الجنة والنار: هي العلامة التي جعلها الله مميّزة لكل منهم.

والقول بأَنها بياض الوجوه لأَهل الجنة، وسوادها لأَهل النار - تضييق للواسع.

فينبغى عدم تحديد العلامة، وتفويض ذلك إِلى الله.

ومعرفتهم كلا الفريقين بسيماهم، تكون قبل دخول أَهل الجنةِ الجنةَ وأَهل النارِ النارَ. إِذ لا حاجة بعد دخول كليهما - كلٌّ إلى مصيره المحتوم للعلامة.

{وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} :

أَي ونادى أَصحاب الأعراف أصحاب الجنة - بعد أن عرفوهم بسيماهم في المحشر، داعين ومُحَيِّين لهم بقولهم: سلام عليكم. أَو مخبرين لهم بسلامتهم ونجاتهم من المكاره، لم يدخلوا الجنة حين تحيتهم لهم لأَنهم لا يزالون في المحشر، وهم يطمعون في دخولهم إيَّاها. فلذا أَخبروهم بالسَّلامة والنجاة.

وقال صاحب الكشاف: جملة {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} : استئناف كأَن سائلًا سأَل عن أَصحاب الأَعراف، فقيل: لم يدخلوها، وهم يطمعون.

ولكن هذا الرأْى، مبنى على أن أصحاب الأعراف قوم موحّدون: قصرت بهم حسناتُهم عن دخول الجنة. ولكنَّها منعتهم من دخول النَّار.

والرأْى الراجح: هو أَنهم قوم ممتازون: إمَّا من الأَنبياءِ، أَو من الملائكة أَو هم - كما سبق ذكره - عدول الأُمم.

ص: 1429

وعلى هذا، ينبغي أَن تكون جملة:{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} : في حق المؤْمنين الذي سلّموا عليهم وهم في المحشر، بعد أَن عرفوهم بسيماهم، كما سبق ذكرنا، قبل رأى صاحب الكشاف.

{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} .

المفردات:

{صُرِفَتْ} : حُوِّلت.

{تِلْقَاءَ} : جهة.

التفسير

47 -

{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ

} الآية.

لا يزال الكلام موصولا في قصة أصحاب الأعراف، وإنما قيل:

{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} ولم يقل: وإذا رأَوْهم للإيذان بأنهم لم يكونوا راغبين في رؤْية أهل النار لسوءِ حالهم.

والمعنى: وإذا حُوِّلت أبصار أَهل الأَعراف، جهة أصحاب النار، فرأوا سوءَ حالهم قالوا - متعوذين منه - ربنا لا تجعلنا في النار صحبة هؤُلاءِ القوم الظالمين لأَنفسهم بالكفر والطغيان.

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} .

ص: 1430

التفسير

48 -

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ

} الآية.

ونادى أصحاب الأعراف رجالا من أَهل النار، كانوا رؤساء الكفر: يعرفونهم بعلامتهم المميّزة لهم، قائلين لهم: ما أَغنى عنكم جمعكم الأَتباع والأَموال؟ ولا استكباركم المستمر على الخَلْقِ وعن قبول الحق؟! فكلّ ذلك، لم يدفع النار الَّتى تستحقونها، بكفركم واستكباركم.

ويصحّ أن يكون قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} من باب الاستفهام التوبيخى، بمعنى أىُّ شيءٍ أفادكم جمعُكم (1) واستكباركم؟!

49 -

{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} :

الإشارة في (هَؤلَاءِ) راجعة إلى ضعفاء المؤْمنين في كل ملَّة سماوية. وهذه الآية حكاية لتوبيخ آخر، صادر من أصحاب الأعراف لرؤَساءِ الكفر، بعد ما وبَّخُوهم على كفرهم واستكبارهم، واعتزارهم بجمعهم وكثرتهم، ونَعَوا عليهم: أن ذلك كلَّه لم يغنِ عنهم من الله شيئًا

والمعنى:

وقال أصحاب الأَعراف أيضًا - موبّخين لرؤُساءِ الكفر - أهؤُلاءِ الضعفاءُ المؤْمنون، هم الذين أقسمتم أَن الله لا ينعم عليهم برحمته، احتقارا منكم لهم؟!

ثم أشَاحُوا معرضين عنهم - متجهين إلى هؤُلاء المؤْمنين محتفين بهم، قائلين لهم: ادخلوا الجنة

لا خوف عليكم من مكروه، ولا أنتم تحزنون على فوت مطلوب. فأنتم في كرامة ومسرّة.

ويظهر أن أَصحاب الأعراف قالوا للمؤْمنين: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ

(1) يجوز أن يراد من "جمعكم"؛ كثرتكم أي ماذا أفادتكم كثرتكم وقوتكم في دنياكم؟!

ص: 1431

وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} حين رأوْهُم يَشرَعُون في دخول الجنة، بعد أن أذِن اللهُ لهم بدخولها

قالوه فرحا بدخولهم، وكيدا لأَعدائهم.

وهذا على القول بأَن أَصحاب الأَعراف من البشر.

أَما على القول بأَنهم ملائكة، فلعلَّهم يبلِّغونهم - عن الله تعالى - الإِذن بدخولهم الجنة.

وقد دلّت الآية على أَن دخول الجنة تابع للعمل، ربطًا للمسببات بالأَسباب.

وفي ذلك حثُّ للناس على العمل الصالح، لكي يكونوا أَهلا لدخول الجنة، ونيل الدرجات العلية فيها.

كما دلّت على أن كلاًّ من أهل الشرّ والخير: يُعرَف في المحشر بسيماه.

نسأل الله أن يوفقنا - جميعًا - لما نستحق به ثوابه، وننجو به من عقابه.

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)} .

المفردات:

{أَفِيضُوا} : أَكثروا.

{يَجْحَدُونَ} : يكفرون.

ص: 1432

التفسير

50 -

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} :

المعنى: ونادى أهلُ النار أَهلَ الجنة - بعد استقرار كليهما في دار جزائه - فقالوا لهم: أنزلوا علينا كثيرا من الماء، أو مما رزقكم الله من النعم؛ لما يحسُّونه من حرِّ العطش، وشدَّة الجوع، ووقع العذاب.

{قَالُوَا} لهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} لكفرهم، فلا نستطع أَن نعطيكم، ونخالف ما حكم به الله عليكم ..

والتعبير بقولهم: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا} يؤْذن بعلو الجنة فوق النار.

والمراد من تحريم الماءِ والرزق عليهم، حرمانهم منهما.

51 -

{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} :

معظم المفسرين على أَن هذا من جملة كلام أَهل الجنة لأَهل النار. فهو وصف مِنْهُمْ للكافرين

وبعضُهم يرى أَنه ابتداءُ كلام من الله تعالى تعليقا على هذا الحوار. فكأَنه قيل: هم الذين اتخذوا دينهم

والمعنى: الذين جعلوا دينهم الذي أوجبه الله عليهم - مجال عبادة وصلاح وإصلاح - جعلوه وسيلة لهو ولعب وأهواء .. فجحدوا منه ما جحدوا وبدَّلوا منه - وفق هواهم - ما أرادوا أَن يبدلوا. كشأن اللاهين العابثين. وخدعتهم الحياة الدنيا بزخارفها، فنسوا الآخرة ..

وممّا وقع من اتخاذهم الدِّين لهوا ولعبا - تحريم بعض العرب، البَحيرة والسائبة ونحوهما، ومنه التَّصْدِية والمُكَاءُ حول البيت، والطواف به - عرايا.

أَما البَحيرة: فهي الناقة التي تلد خمسا آخرها ذكر. كانوا يبحرون أُذنها أي يشقونها ويحرِّمون ركوبها وحلبها .. والسائبة: هي الناقة المنذورة: كان الواحد منهم يقول:

ص: 1433

إذا شفيتُ من مرضى، فناقتى سائبة. فيحرِّم الانتفاع بها كالبَحيرة. وينسبون تحريم ذلك إلى الله تعالى، كذِبا وزورًا.

وأمَّا الْمُكاءُ فهو الصفيرُ، وأمَّا التصدية فهي التصفيق، وكانوا يفعلون ذلك عند الكعبة، ويزعمون أنهما من العبادة.

والطواف بلا ساتر كانوا يعتبرونه نُسُكًا حتى نهى عنه الرسولُ في حَجَّة الوداع بقوله: "وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ".

{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} :

من معانى النسيان في اللغة: الترك والإهمال.

وهذا هو المعنى المناسب للآية.

والمعنى: فاليوم نتركهم في النَّار، ونهمل أمرهم. فلا نخرجهم منها، كما أَهملوا لقاءَ يومهم هذا، فلم يفكروا فيه. بل جحدوه. وكما استمرّوا على إنكار آيات الله، وعدم الاعتراف بدلالتها على ما يجب له سبحانه وتعالى من التوحيد -، وما يجب لرسوله من السمع، والطاعة، والإذعان ..

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)} .

المفردات:

{فَصَّلْنَاهُ} : أنزلناه مفصلَ الأحكام مبيّنها.

ص: 1434

{هُدًى وَرَحْمَةً} : دلالة واضحة على الحقِّ ورحمة للناس.

{هَلْ يَنْظُرُونَ} : ما ينتظرون.

{تَأْوِيلَهُ} : أَي ما يؤُول إِليه أَمره.

{وَضَلَّ عَنْهُمْ} : وغاب عنهم.

التفسير

52 -

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

الضمير في قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ} عائد على كل أُمة من أُمم الرسل. فإِن الكلام السابق، كان عن أَحوالهم يوم القيامة: ما بين محسن ومسىء، حسبما يرشد إليه قولُه تعالى: {

لَقَدْ جَآءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ

} (1) وقد مضى شرحُها وكما يرشد إليه قوله تعالى: {

قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ

} (2) وسيأْتى شرحها.

والمعنى: ولقد جئنا كلَّ أُمة من الأُمم - على لسان رسولها - بكتاب بيَّنَّا فيه العقائد والأَحكام والمواعظ، مفصَّلة على علمٍ تامٍّ منَّا، بما يناسب حالَ كلِّ أُمَّة في الأَحكام الفرعية - جئناهم بهذه النعم - هدى ورحمة لقوم شأْنهم أَن يذعنوا للحق، فهم المهتدون، بهداه المنتفعون بجدواه، دون المعاندين المكابرين.

53 -

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} :

المعنى: ما ينتظر هؤُلاءِ الكفار - بعدم إيمانهم بالكتاب المفصَّل، الذي أنزلناه - إِلَاّ ما يؤُول إِليه أَمره يوم القيامَة: بظهور صدق وعده ووعيده.

والمراد أنهم في حكم المنتظرين لهذا المآل. وفي بالهم عدم توقع صدق ما جاءَ فيه.

والكلام - في الحقيقة - جارٍ مجرى التهديد، والإنذار بأَن ما جاءَ فيه - من عقابهم - واقع لا مفرَّ منه، بدليل قوله تعالى بعد ذلك:

(1) سورة الأعراف، من الآية: 43

(2)

سورة الأعراف، من الآية: 53

ص: 1435

{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ

} الآية.

وقيل: إنَّ فيهم قومًا يشكون في مآله. ولذلك انتظروه.

{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} :

المعنى: يوم يأتى مآل هذا الكتاب المفصَّل وعاقبته، يقول الذين أعرضوا عنه وجعلوه مهملا - كالمنسى - يقولون - معترفين نادمين - قد جاءَت رسلُ ربِّنا بالحقِّ، فكذبناهم فهل لنا من شفعاءَ فيشفعوا لنا، ليرفع عنا ما نحن فيه من العذاب؟ أو هل نردُّ إِلى الدنيا - فنعمل غير الذي كنا نعمل من الشرك والمعاصي؟

{قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

هذا تقرير لعاقبة ما اعتراهم من غرورٍ دنيوى.

أي قد أضاعوا أَنفسهم بانصرافهم عن الهدى، واستحقاقهم بذلك عذاب النار.

وغاب عنهم ما كانوا يفترونه على الله من الشركاءِ وشفاعتهم عنده، حيث اتضح لهم بطلانه وظهر لهم فساده. وأنه كان سرابا خادعا!!.

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} .

المفردات:

{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} : يغطى الليلَ بالنهار، والمقصود، أَنه - تعالى - يزيل ضوءِ النهارِ بظلام الليل.

ص: 1436

{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : استولى على الملك والسلطان.

{يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} : يتبعه سريعا. كأنما يطلبه بلا فتور.

{تَبَارَكَ اللَّهُ} : تعالى وتنزَّه.

التفسير

54 -

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} :

لمَّا ذكر الله حال الكفار، مشيرا إلى عِبَادتِهم غيره، احتجَّ عليهم في هذه الآية بمقدوراته التي قدّرها، وكائناته التي أظهرها. ودلَّهم بها - وبنظمها - على أَنه الإِله الواحد، ولا معبود سواه.

والربُّ: الخالقُ والمالك والمربّى والمنعم.

والمراد من خلق السموات والأرض: هو خَلْقُهُمَا وما فيهما.

والمقصود من الأيام الستة: هو أزمان بهذا العدد .. لا يَعْلَمُ مقدار كلِّ منها سواه سبحانه وتعالى.

فأَيَّام الله، آمادٌ متفاوتة كأَلف سنة، أَو خمسين ألف سنة، ممَّا نحسبه للدنيا - كما صرَّح به القرآنُ الكريم. وقد تكون أَطولَ من ذلك أَو أَقلَّ، حسب سُنَّةِ الله تعالى في مراحل تطوير الكائنات من الدخان، إِلى المادة التي انتهت إليها النجوم والكواكب والأرض. حسبما نطق به قولُه تعالى:

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (1).

وقد أيَّد العلماءُ المعاصرون، ما جاءَ في القرآن، إِذ قالوا: إِن أَصل العالَم، غاز شديد الحرارة، تحوَّل - مع الأزمان الطويلة - إِلى هذه السموات والأرض.

ولا يصحُّ أَن يراد من اليوم في هذه الآية، الزمنُ الناشىءٌ عن حركة الأرض حول ذاتها - في مدارها حول الشمس، لأَنه - بهذا المعنى - لم يكن موجودا وقت هذا التكوين.

(1) سورة فصلت، آية: 11

ص: 1437

والعرش لغة: سرير الملك، ويكنى به عن العزّ والسلطان والملك، فيقال: الملِك (فلان) ثُلَّ عرشه، أي ذهب عزّه وملكه. وأنشدوا لهذا قول الشاعر:

إِذا ما بَنُوا مروان ثُلَّتْ عروشُهم

وأوْدَت كما أودت إِياد وحِمْيَرٌ

أي: زال ملكهم ..

ومعنى الاستواء: الاستيلاء، كما قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيفٍ ودم مُهْرَاق

أي ثُمَّ - بعد تمام الخلق - استولى على الملك والسلطان بلا شريك.

والتعبير (بثم) لإفادة رفعة منزلة الاستيلاءِ على سلطان هذا الكون. وليست للترتيب الزمانى مع التراخى، فإنه لا مهلة بين خلق الكون واستيلائه تعالى على سلطانه فيه.

فهو الذي خلقه. وسلطانه عليه منذ البداية إِلى أَن تمَّ خلقه.

والجديد الذي أفادته هذه الجملة: أَنها بيَّنت أنَّ أَمر الكون - بعد تمامه - إليه تعالى كأَمره عند بدايته: لا يشركه في ذلك أحد. وأَن تدبيره، إليه - وحده -.

ولذا، قال - تعالى - عقب ذلك:

{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} :

إلى آخر ما ذكر في الآية من شئون تدبيره.

فكأَنه قيل: واستولى سبحانه وتعالى على سلطان الكون وحده، ليدير شئونه التي منها: أنه يغشى الليل النهار .. الخ.

ومن العلماء من قال: إن العرش جسم محيط بسائر الأَجسام سمّى به، لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك .. ومنه تتنزل أوامرُ اللهِ في شئون الكون، دون أَن يكون الله فيه لاستحالة ذلك عقلا.

والاستواء - على هذا أَيضا - بمعنى الاستيلاءِ. وأضاف الاستيلاءَ إلى العرش وحده - مع أنه تعالى مستولٍ على جميع المخلوقات - لأَن من استولى عليه - وهو أَعظمُها - فهو مستولٍ على سواها من باب أَولى.

ص: 1438

فكأَنه قال: ثم استولى على الكون كلِّه ..

وذلك مثل قولك: استولى عمر بن الخطاب على عرش الفرس .. فذلك كناية عن استيلائه على جميع بلاد الفرس.

ومنهم من فسَّر العرش بهذا المعنى، وتوقف في معنى الاستواء. وأحال العلم - بحقيقته - إِلى الله تعالى.

وعلى هذا الرأْى: جعفر الصادق، والحسن، وأبو حنيفة، ومالك رضي الله عنهم.

روى عنهم: الاستواء معلوم. والكيف مجهول. والإيمان به واجب. والجحود كفر.

والسؤال عنه بدعة ..

أَمَّا تفسير العرش بالسرير، والاستواءِ بالاستقرار - كما يقول المشبِّهة - فهو باطل وكفر.

لأنه - تعالى - كان قبل العرش ولا مكان. وهو الآن كما كان، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).

{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} :

أصل معنى يغشى الليل النهار: يغطِّى اللهُ النهارَ بالليل.

وبمَا أَنَّ التغطية تقتضى اجتماع الغطاء والمغطى وجودًا - وذلك لا يتصوّر هنا - لأن النهار أُزيل - تماما - عن السطح الَّذى حلَّ فيه الليل، فضلا عن أن التغطية إِنما تكون للأجسام.

والليل والنهار ليسا منها - فلذا تكون التغطية مستعارة للإِزالة، لما في كل من الإِخفاء.

فالمعنى المراد لقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} يزيل الله ضياءَ النهار بظلام الليل.

{يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} : أي يطلب الليل النهار سريعا، فالحثيث السريع، ومنه ولَّى حثيثا - أي مسرعًا - والمراد أنه يأْتى عقبه ويحل محلّه، بسرعة وبغير مهلة.

وإِنما وصف طلبه له بالسرعة، لأنه ناشىءٌ من دوران الأَرض بسرعة حول نفسها في دورانها حول الشمس. وهي كروية. ففي كل ثانية يختفى الضوءُ عن جزء منها، ليحلَّ فيه الليلُ بدل النهار فورا، ولم يذكر العكس للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملهما.

(1) سورة الشورى، من الآية: 11

ص: 1439

ولذا قرىءَ بنصب الليل ورفع النهار.

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} :

أَي وخلق الله الشمس والقمر والنجوم: خاضعاتٍ لإرادته وقضائه وتصريفه.

وتخصيص الشمس والقمر بالذكر - مع دخولهما في النجوم (بالمعنى اللغوى) - لمزيد فوائدهما، بالنسبة لكوكبنا الأرضى.

ثم عقَّب الله ذلك بقوله تعالى:

{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} :

لتأكيد ما سبق وتعميم قدرته على ما وراء السموات والأرض.

والمعنى:

ألا له الخلق والأمر: في كل شيءٍ كان أَو يكون. لا يشاركه في ذلك أَحد .. فيدخل فيه ما ذكر من خلق السموات والأَرض وتسخيرهما - دخولا أَوليًّا.

ثم وصف الله نفسه بالتعالى عن العالمين، وربوبيته لهم فقال:

{تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} :

أي تعالى الله مالك العالمين ومربيهم، ومدبر أُمورهم - عن أَن يكون له شريك أو نظير.

وخلاصة معنى الآية: أنه تعالى، بيّن فيها للكفار الذين اتخذوا من دونه أَربابا:

أن المستحق للربوبية إِله واحد، هوالله - تعالى -، لأَنه هو الذي خلق العالَم ودبَّره أحسن تدبير.

أَمَّا آلهتهم، فهى مخلوقة له - تعالى -، وعاجزة عن الخلق والتدبير، فلا تصلح للربوبية.

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} .

ص: 1440

المفردات:

{تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} : تذلُّلًا وسرًّا.

{الْمُعْتَدِينَ} المتجاوزين الحدّ في كل شيءٍ.

التفسير

55 -

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً

} الآية

لمَّا ذكر الله - سبحانه - دلائل عظمته فيما سبق، طلب هنا، من عباده أَن يدعوه في تذلُّلٍ مُسِرِّين، فإن ذلك هو اللائق بجلال الخالق.

والمعنى: ادعوا ربكم الذي عرَّفكم عظمته فيما سبق .. وليكن دعاؤكم إيَّاه في تذللٍ وإِسرار يليقان بالأَدب مع الله تعالى، فإن الصياح في الدعاء تجاوزٌ للأَدب، واعتداءٌ والله - تعالى - لا يحبُّ المعتدين.

أَخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ (1) فجعل الناسُ يجهرون بالتكبير (2) فقال: أَيُّهَا النَّاسُ: ارْبعُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ

إنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُون أصَمَّ ولا غائبًا .. إِنَّكم تَدْعُون سَمِيعًا قريبًا. وهو مَعَكُم .. " الحديث.

والاعتداءُ في الدعاءِ أنواع:

منها ما كان بالجهر والصياح.

ومنها أَن يطلب منزلة نبى أَو يطلب المحال، أَو يُسْهِبَ في الدعاء، أَو يدعو بمعصية.

روى ابن مَاجَه: أَن عبد الله بن مُغفل رضي الله عنه، سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأَبيض عن يمين الجنة إِذا دخلتها. فقال له: أيْ بُنَى، سَلِ اللهَ الجنَّة، وعُذْ به من النَّار. فإنِّى سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول:"سَيَكونُ قومٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ".

واختُلِف في رفع اليدين في الدعاءِ.

فقال قوم بكراهته، ومنهم جبير بن مطعم، وابن المسيب وابن جُبَيْر ومجاهد.

واختاروا أن يشير بالسبابة إِيذانا بالإخلاص.

رأى شريح رجلا رافعا يديه بالدعاء. فقال مَن تَتَنَاوَلُ بهمَا؟ لَا أُمَّ لك ..

(1) وفي رواية أخرى (في غزاة).

(2)

وفي رواية "فجعل رجل كلما علا ثنية قال: لا إله إلا الله".

ص: 1441

وسندهم في ذلك ما أَخرجه مسلم عن عمارة بن رُوَيْبَة، وأَنَّه رأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوانَ عَلَى المنبر رافعا يديه فقال: قبَّح اللهُ هاتين اليدين. لقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد عن أَن يقول بيده هكذا. وأَشار بإصبعه المُسَبِّحة.

ورُوى جواز الرفع عن جماعة من الصحابة والتابعين - ورواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم بسنده إلى أبي موسى الأشعرى قال: "دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم رَفَعَ يَدَيْه، ثم رأيْتُ بياضَ إِبْطَيْهِ" وعلى هذا يُحمل إِنكارُ من ينكر سُنيَّة رفع اليدين، على أَنه لم يعلم رواية أَبي موسى الأشعرى.

ويؤَيد سنيَّة الرفع، ما أخرجه الترمذي عن عمر بن الخطاب قال:"كان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذا رفع يديه لم يَحُطَّهُمَا حتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وجْههُ".

قال: هذا حديث حسن غريب.

قال القرطبى: قلتُ: والدعاءُ حسن .. كيفما تيسر، لإِظهار الحاجة والخضوع له - تعالى - فإن شاءَ الداعى، استقبل القبلة ورفع يديه. وهو حسن. وإِن شاء فلا.

فقد فعل ذلك النبىُّ صلى الله عليه وسلم .. انتهى بتصرف.

56 -

{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} :

أَي ولا تفسدوا فيها بالكفر والمعاصي، بعد إصلاحها ببعثة الأنبياءِ.

وقد طلب اللهُ من عباده أَن يكون أَمرهم دائرًا بين الخوفِ والرجاءِ. فقال:

{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} :

أَي وادعو اللهَ خائفين من عقابه، طامعين في ثوابه. فهما كجناحى الطائر:

يحملانه في طريق استقامته. فإن انفرد أَحدهما هلك الإنسان. قال تعالى:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (1).

(1) سورة الحجر، الآيتان: 49، 50

ص: 1442

وقد بشرنا - سبحانه - بالرحمة لمن أَحسنوا. فقال.

{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} :

أَي إن رحمة الله قريب ممن أَحسنوا بالطاعة، ودار أَمرُهم بين الخوف والرجاء.

وعبّر عن الرحمة المؤنثة لفظا بقريب وهو مذكر، إِمَّا لأن المؤنث غير حقيقى فيجوز تذكير خبره، كما قاله الجوهرى وإمَّا لأَن الرحمة والرُّحْم معناهما واحد وهو العفو والغفران كما قاله الزَّجَّاج واستحسنه النحاس.

على أَن "فعيلا " يستوى فيه المذكر والمؤنث .. غالبا ومنه ما هنا.

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)} .

المفردات:

{بُشْرًا} : أصله بُشُرًا بضمتين. فخفِّف بالإسكات. وهو جمع بشير. أي: مبشرات بالمطر.

{بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} : أي قبل المطر الذي هو من رحمة الله.

{أَقَلَّتْ} : أي حملت.

ص: 1443

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} : المراد به الأرض الكريمة التربة.

{وَالَّذِي خَبُثَ} المراد بالبلد الخبيث: الأَرض السبخة التي لا يجود نباتُها.

{لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} أَي: لا يخرج نباته إِلا قليلا عسيرا، عديم النفع.

التفسير

57 -

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ

}:

لا يزال الكلام موصولا في آيات الله ونعمه. فقد بيَّن الله سبحانه - قبل ذلك - أَنه خلق السموات والأَرض في ستَّة أيام، وأَنه يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا، وأَن الشمس والقمر والنجوم مسخراتٌ بأَمره، وأَن له - وحده - الخلق والأَمر.

ثم جاءَت هذه الآية؛ لبيان آية الله في إرسال الرياح، وآثارها.

والتعبير بالمضارع في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ} الخ .. للإيذان بتجدُّد هذه النعمة.

فإن المضارع يفيد الاستمرار التجددى.

والمعنى: والله هو الذي يثير الرياح بعد سكونها، ويرسلها - مبشرات - لعباده بالمطر الذي هو من رحمته تعالى .. حيث - يجعلها بين يديه - أي سابقة له، فَتَبْعَثُ الراحة والطمأْنينة في نفوس الظماءِ، وتجعلهم منتظرين رحمة الله التي عوَّدهم إِيَّاها بعد هبوب الرياح التي اعتادوا أن يروها سابقة للأمطار. فإنها مؤذنة بمثيلات لها تحمل السحب الحوامل بالأمطار - وذلك قوله تعالى:

{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} :

أي حتى إذا حملت الرياحُ سحائب ثقالا، بما اشتملت عليه من الأمطار - ساق اللهُ ذلك السحاب نحو بلد يابس، يشبه الميِّت في بطلان نفعه، لأَجل إحيائه بالسقى والرىِّ.

{فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} :

أَي فأَنزلنا - بالبلد الميت - الماء من السحاب بقدرتنا، فأَخرجنا بذلك الماء من كل الثمرات.

ص: 1444

أَو فأَخرجنا في هذا البلد اليابس، جميع أنواع الثمرات التي يصلح لها.

فتبارك اللهُ القادر: "يُسْقى بِمَاَءِ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ في الأُكُلِ"(1).

{كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} :

الإِشارة راجعة إِلى إخراج الثمرات أَو إلى إحياءِ البلد الميِّت.

وفيما يلي بيان المعنى على الوجه الأخير، لشموله للأَول.

المعنى: كما أَحيينا البلدَ الميِّت بالماءِ، بإحداث القوة النامية فيه، حتى جاد بأنواع النبات والثمرات - كما فعلنا ذلك - نُخرج الموتى من القبور، ونحييها: بردّ النفوس والأَرواح إِلى أبدانها، بعد جمعها، وإِفاضة أسباب الحياة على عناصرها، لعلَّكم تذكرون وتتعظون بما تَرَوْن من شئون الأرض الميتة وإِحيائها، فتعلمون أن من قدر على إحيائها وإِنبات النبات فيها، بعد يبسها الشبيه بالموت، فهو- كذلك - قادر على بعث الموتى من القبور وإحيائهم.

58 -

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} :

المقصود بالبلد الطِّيب: الأَرض الكريمة ذات التربة الطيبة، التي تجود بخير النبات وكثيره.

والمقصود بالبلد الذي خَبُثَ: الأرض الَّتى لا تصلح للإنبات الجيِّد. كالأَرض السبخة.

وقد ضرب اللهُ البلدَ الطيِّب للذى ينتفع بالمطر، فيخرج النبات الكثير والثمر الوفير - ضربَهُ مثلًا لمن تدبَّر الآياتِ، وانتفع بها.

وضرب البلد الخبيث الذي لا ينتقع بالمطر - ضربه مثلا عن لم ينتفع بالآيات، ولم يرفع لها رأسا.

والمعنى: والأرض الطيبة الكريمة التربة، تنتفع بالمطر فَيَخْرُجُ نباتُها زاكيًا، حسنًا، كثيرَ الحَبِّ والثمر، غزير النفع، بتيسير اللهِ ومشيئته .. والأرض الَّتي خَبُثَتْ تُرْبَتُهَا لا تنتفع بالمطر كثيرا. فلهذا لا يخرجُ نباتُها إلا نكدا - أَي قليلا عديم النفع.

(1) سورة الرعد، من الآية: 4

ص: 1445

{كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} :

مثل ذلك التبيين الواضح، الوارد في هذه الآية - نبيَّن جميع الآيات، لقومٍ يشكرون نعمة الله، فيتفكرون فيها، ويعتبرون بها.

قال الشيخ أَبو السعود - عليه رحمة الله - في هذه الآية:

إنها مَثَلٌ لإِرسال الرسل بالشرائع: التي هي ماءُ حياةِ القلوب، إِلى المكلَّفين المنقسمين إلى المقتبسين من أنوارها، والمحرومين من مغانم آثارها: اهـ.

وفي ذلك يقول النبىُّ صلى الله عليه وسلم:

"مَثَلُ مَا بَعَثَنىِ اللهُ بهِ مِنَ العِلمِ والهُدَى، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكثِيرِ أَصَابَ أَرضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلتِ الماءَ فَأنْبَتَتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثيرَ. وكانت منها أجادبُ أَمسكتِ الماءَ، فنفع اللهُ بِهَا الناسَ، فَشَرِبوا وسَقَوْا وزَرَعُوا .. وأصَابَ منها طائفةٌ أُخْرَى، إنما هِى قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأ. فَذَلِك مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثِنى اللهُ بهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّم. ومَثَلُ مَنْ لَم يَرْفَعُ بْذَلِكَ رأسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِه" أخرجه الشيخان.

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} المفردات:

{الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} الأَشراف منهم - أَي رؤساؤهم الذين يملئون المجالس بمهابتهم وعلو منزلتهم {ضَلَالٍ مُبِينٍ} بُعْدٍ بَيِّنٍ عن الحق - كما يزعمون.

ص: 1446

التفسير

59 -

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ

} الآية.

بعد أن ضرب الله الأَرض الطيِّبة، مثلا لمن انتفع بآياته، والأرض الخبيثة، مثلا لمن لم ينتفع بها - عقَّب ذلك بقصَّة قوم نوح، وهم ممَّن لم ينتفعوا بآياته.

وكان قوم نوح يعبدون الأَوثان. وكان أَشهرها لديهم: وَدًّا، وسُواعًا، ويغوثَ، ويعوقَ، ونَسرًا.

وسيأتي بيان ذلك في سورة نوح، بمشيئة الله تعالى.

وقد أرسل الله تعالى إليهم نوحًا عليه السلام، فدعاهم إلى توحيد الله، والتوبة من عبادة الأَوثان.

والمعنى: وتالله، لقد أَرسلنا نوحًا إلى قومه، فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده، ليس لكم من إله يستحق العبادة سواه. أَمَّا آلهتكم التي صنعتموها بأيديكم، فإِنها لا تستحق أَن تُعبد، لأَنَّها مخلوقة وليست بخالقةٍ، ومصنوعةٌ وليست بصانعةٍ .. إِنِّي أخاف عليكم - إن بقيتم على شرككم - عذابَ يوم عظيم.

وهذا اليوم العظيم: إمَّا يوم القيامة، وإمَّا يوم الطوفان، الذي يصلهم بعذاب يوم القيامة.

وقد مكث نوح عليه السلام يدعو قومه إلى الله - تعالى - أَلف سنة إلا خمسين عاما.

وقد أمضى فيهم هذه المدَّة في حِجَاجٍ ولَجاجٍ معهم، أَجملته هذه الآية - والتي تليها - على النحو الآتى:

60 -

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

الملأُ: الأشراف، وأَطلق عليهم ذلك لأنهم يملئون العيون والقلوب بوجاهتهم وجاههم.

والمعنى: قال الأَشراف من قومه: إنا لنراك في بعدٍ عن الحقِّ واضح. يقصدون بذلك: أَنهم - وقومهم - على الحق، وأن نوحًا يحيط به الضلال والباطل.

ص: 1447

61 -

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

المعنى: قال نوح للأَشراف الذين اتهموه بإحاطة الضلال به: ليس بي أي شيءٍ من الضلالة التي زعمتم إحاطتها بي، ولكنى رسول من رب العالمين.

ومَن كان كذلك، فهو في تمام الهدى إِلى الحق .. فكيف تتركون عبادة مالك العالمين إلى عبادة ما لا حول له ولا قوَّة؟.

وعقب ذلك، بأنه أَبْرَأ ذِمَّتَهُ بتبليغهم رسالة ربِّه ونصحهم. فقال:

62 -

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

المعنى: أُبلغكُم - من آن لآخر - رسالة ربي، المشتملة على توحيده وعبادته، وعلى قواعد السلوك المرتضى، والأَخلاق الفاضلة، وعلى شئون الآخرة، التي ينتهى إليها الناس .. وأنصح لكم باتباعها؛ لتحصلوا على ثوابه، وتنجوا من عقابه، وأَعلم من شئون الله ما لا تعلمون من عظيم القدرة، وشدَّة البطش بمن يظلُّون - على كفرهم - بعد تبليغ رسالاته - أي أَوامره ونواهيه - إِليهم.

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} .

المفردات:

{ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} : تذكير ووعظ من خالقكم، (الفلك): السفينة، (قوما عمين): قوما عُمْى القلوب.

ص: 1448

التفسير

63 -

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ

} الآية.

أنكروا على نوح عليه السلام أن يكون رسولًا من رب العالمين - وهو رجل منهم - وكذّبوه. فقال لهم: هل استبعدتم وعجبتم من أن جاءَ وحىٌ مذكِّر لكم من ربكم، على لسان رجل - من جملتكم أو من جنسكم - وقلتم من أجل ذلك ما قلتم:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} (1).

إِلى غير ذلك ممَّا لا خير فيه، مع أَنه جاءَ: لينذركم ويخوفكم عاقبة شرككم ومعاصيكم، ولتتقوا الله في عقائدكم وأعمالكم، ولعلكم ترحمون، إذا امتثلتم، ولم يأْتكم لأَغراض دنيوية تعود عليه منكم. فكيف تتهمونه بالكذب، وتردُّون قوله، وهو رجل منكم تعلمون حاله من الصدق، ولا مصلحة له سوى هدايتكم؟.

64 -

{فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} :

أَي فأصروا على تكذيبه في رسالته، واستمروا على ذلك أَلف سنة إلا خمسين عاما، وكانوا - طيلة هذه المدة - كلَّما جدَّدُوا تكذيبا، جدَّد لهم دعوةً دون كَلَلٍ أو مَلَلٍ، فلم يزدهم دعاؤه إِيَّاهِم، إلَاّ فِرَارًا من الحقِّ، كما قال تعالى حكاية عنه في سورة نوح:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} (2). وبعد أن يئس من إيمانهم، دعا عليهم قائلا: {

رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (3).

وقد استجاب الله دعاءَه، وأمره ببناءِ سفينة ليركبها مع من آمن معه، حتى ينجو معهم من الغرق بالطوفان الذي قدَّر الله إِهلاك قومه به، استجابة لدعوته عليه السلام فلما أَتمَّ بناءَها، أَمره اللهُ أَن يركبها ومَن آمن معه. ثم فجَّر اللهُ عيون الأرض،

(1) سورة المؤمنون، من الآيتين: 24، 25

(2)

سورة نوح، الآيتان: 5، 6

(3)

سورة نوح، الآيتان: 26، 27

ص: 1449

وفتح أَبواب السماءِ بماءً منهمر. وعمَّ الطوفانُ أَرض قومه فغرقوا، لتكذيبهم بآيات الله .. وأنجاهُ اللهُ ومَنْ آمن معه، وهم رُكّاب الفُلك - أَي السَّفينة التي صنعها - ثم يعلّل اللهُ إِهلاكَ قومِ نوح بقوله:

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} :

أَي كانوا عُمْى القلوب غيرَ مستبصرين.

قال ابن عباس: عميت قلوبُهم عن معرفةِ التوحيد، والنبوةِ، والمعادِ.

وقد كان عدد ركاب سفينته من المؤمنين قليلا، فيهم من أولاده: سام وحام ويافث وزوجاتُهم. وعلى أي عدد كان ركاب السفينة، فإن الله لم يبق من ذريتهم أَحدا، سوى ذرية نوح عليه السلام، وفي ذلك يقول الله تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (1).

ولهذا يعتبر نوح عليه السلام، هو الأَبُ الثَّانِي للبشر، بعد آدم عليه السلام

رجميع البشر من أَولاده الثلاثة المذكورين.

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} .

المفردات:

{فِي سَفَاهَةٍ} : السفاهة؛ الخفَّة والحماقة.

(1) سورة الصافات، الآية: 77

ص: 1450

التفسير

65 -

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} :

أي وأَرسلنا إلى عاد، أَخاهم هودا. وكانوا يعبدون الأَوثان، بعد ما غيَّروا وبدَّلوا شريعة نوح عليه السلام.

قال لهم هود - بعد ما أُرسل إِليهم - يا قوم اعبدوا الله وحده. واتركوا أَوثانكم.

فيما لكم من إلهٍ غيره، أَتغفلون عمَّا حدث لقوم نوح، فلا تتقون الله تعالى؟

وكانت مساكن عاد هذه بين الشَّحْرِ (1) وعُمَان، وحضرموت، بالأَحقاف

وكانوا جبَّارين: طوال القامة. وفيهم يقول الله {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ في الْخَلْقِ بَسْطَةً .. } (2) وهي التي سمَّاها الله (عادًا الأُولى) فأرسل الله إليهم هودا. وكان منهم. ولذا ذكره الله بقوله: (أخاهم) فدعاهم إلى توحيد الله، وترك ما هم عليه من طغيانٍ وظلم. فكان ردُّهم عليه ما حكاهُ اللهُ بقوله:

66 -

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ في سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} :

قال الأشراف الذين كفروا من قوم هود - ردًّا على دعوته إِيَّاهم إِلى عبادة الله - وحده - وترك ما هم عليه عن طغيانٍ وجبروتٍ - إِنا لنراك مستغرقا في خفَّة العقل، والطيش، والحماقة. حيث فارقتَ دينَ قومِك إلى ما تدعو إِليه. وإِنَّا لنعتقد أَنَّك من الكاذبين فيما تزعمُ من النبوة والرسالة.

ووصفُ الملإ في قوم "هود" بالذين كفروا، يؤذن بأَن من أَشرافهم من سارع إِلى الإيمان به ولم يكذبه، ولكنه كان يكتم إِيمانه، بخلاف الملإِ من قوم "نوح" فإنهم جميعًا كانوا كافرين. فلذا لم يقيِّدهم اللهُ بوصف الكفر، كما قيّدوا به في قوم هودٍ

وقيل: وصفوا به لمجرد الذم.

(1) سهل من سهول اليمن الشرقية.

(2)

سورة الأعراف، من الآية: 69، وسيأتي تفسيره.

ص: 1451

67 -

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

قال هود لقومه متلطفا، ردًّا على اتهامهم إِياه بالسفاهة وخفَّة العقل: يا قوم ليس بي أَي سفاهة، ولكنى رسول من رب العالمين: دعوتكم - بمنتهى الوعى والرشاد وحبّ الخير لكُم - لكي تعبدوا ربَّ العالمين الذي أَرسلنى، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك والطغيان.

68 -

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} :

أُبلغكم ما أرسلنى به ربي إِليكم من العقيدة الرشيدة، والأَخلاق المجيدة، وأنا ناصح أَمين. حيث نصحتُكم بترك ما أَنمتم عليه، لأَنى أَعلم من الله ما لا تعلمون.

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)} .

المفردات:

{لِيُنْذِرَكُمْ} : ليُحَذِّركُم عاقبة كفركُم.

{خُلَفَاءَ} : تخلفونهم في مساكنهم أَو أَرضهم.

{بَسْطَةً} : سعة في القامة والقوّة.

{آلَاءَ اللَّهِ} : نِعَمه.

{تُفْلِحُونَ} : تفوزون.

ص: 1452

التفسير

69 -

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ

}:

أغفلتم عن الهدى، وعجبتم من مجىء تذكير من خالقكم ومربيكم، على لسان رجل منكم، لكي ينذِركم ويخوِّفكم من عاقبة ما أَنتم عليه من شرك وطغيان!! في حين أَن ذلك لا يدعو إِلى العجب، لأَن الرسول - إِذا كان منكم - كان معروفا لكم في صدقه وأَخلاقه. وذلك أَدعى إِلى اطمئنانكم لما جاءَ به. فإن الرائد الصادق لَا يكذب أهله.

ولو كان الرسول غريبًا عنكُم، لكان ذلك أَدعى إلى اتهامه، بأَنه تصنّع النبوة، ليخضعكم إِلى قبيلته. ولو كان مَلَكًا لهلكتم إِن كان بصورته الملَكِيّة، ولاشتبه عليكم أَمرَه إِن تشكل بصورة أحدٍ من البشر.

وبعد أن خوَّفهم اللهُ من عقابه، ذكَّرهم نعمَه، فقال:

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً

} الآية.

المعنى:

وتذكروا نعمةَ اللهِ عليكم، إذ جعلكم خلفاءَ من بعد قوم نوح. حيث ملكتم مساكنهم وبلادهم.

أو أَن المعنى: جعلكم خلفاءَ من بعدهم في السيطرة على الأرض وملكها.

وكما جعلكم خلفاءَ الأرض، زادكم في الخلق سِعةً، فأَنتم طوالُ القامة أَشدّاءُ الأَجسام، فاذكروا نعم الله التي تتقلبون فيها، لكي يفضى بكم ذكرها إِلى شكرها المؤدى إلى الفلاح.

70 -

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ...... } الآية.

استبعد قومُ هودٍ إفرادَ الله بالعبادة، وترك آلهتهم التي عبدها آباؤُهم من قبلهم.

وقديمًا كان التقليدُ سببًا للنكَبات.

ص: 1453

والمعنى: قال عاد لهود: أَجئتنا بدعواك لكي نعبد اللهَ وحده، ونترك ما كان عليه آباؤُنا من عبادة الأَوثان؟ فأْتنا بما تعدنا به من العذاب، إن كنت من الصادقين في رسالتك، وفيما أنذرتنا به، إِن نحن لم نؤْمن بها.

{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي في أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)} .

المفردات:

{قَدْ وَقَعَ} : أي وجب واستحق.

{رِجْسٌ} : عذاب - مأْخوذ من الارتجاس وهو الاضطراب.

{سُلْطَانٍ} : حجة لها سلطان على القلوب.

{وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا} : وأَهكْناهم حتى آخرهم، والدابر الآخر.

التفسير

71 -

{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ

}:

الرجس العذاب، ولم يكن العذاب قد وقع على عادٍ حين قال لهم هود: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ

} الخ. فلذا يفسر الوقوع: إِما بمعنى الاستحقاق والوجوب، أَو ينزل المتوقَّع منزلة الواقع. كما في قوله تعالى:(أتَى أَمْرُ اللهِ فلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)(1).

(1) أول سورة النحل.

ص: 1454

والمعنى: قال هود لعادٍ - حين أَصرُّوا على الكفر وطلبوا إِتيان العذابِ الذي توعَّدهم به - قال: قد وجب واستحق عليكم عذاب وغضب من ربّكم، حتَّى كأَنه نزل بكم ووقع فعلا.

{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} :

كثيرا ما يطلق الاسم على المسمَّى. ومنه قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (1): أَي تبارك ربك وتعالى عن الشبيه والنظير.

ومن إطلاق الاسم على المسمى ما جاءَ في هذه الآية الكريمة.

والمعنى: أَتخاصموننى وتنازعوننى - بقوّة - في أنصاب وأَوثان سمَّيتموها آلهةً، وليس فيها من مصداق هذه التسمية أي دلالة؟ إِذ المستحق لهذه التسمية هو الموجد لهذا الكون، الخالق له، المدبر لأَمره!

أَما هذه الأَنصاب، فهي مخلوقة وليست بخالقة، عاجزة وليست بقادرة .. فكيف زعمتم ألوهيتها، وجادلتمونى فيها، مع أَن الله تعالى هو المستحق للأُلوهية وحده، ولم ينزل سلطانا أَو حجة بعبادتها والتقرب بها إِليه؟!

{فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} :

وحيث كنتم مصرِّين على عبادتها - بدون سلطان ولا برهان - فقد وجب عليكم عقاب كفركم باللهِ وعصيانكم لرسوله. فانتظروا هذا العقاب، إني معكم من المنتظرين وقوعه.

72 -

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} :

بعد أَن أَنذرهم هود بأَن عقاب اللهِ آتٍ لا محالة، وأَنَّ عليهم أَن ينتظروه - نَزَل العذاب بهم، فأَنجاه الله والذين آمنوا معه - برحمة منه، واستأَصَل جميع الكافِرينَ بآياتِ اللهِ، فلم يُبْق منهم أَحدا. فإن قطع الدابر كناية عن إِهلاك الجميع.

(1) آخر سورة الرحمن.

ص: 1455

وفائدة ذكر قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} بعد قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} الإيذان بأَنهم لو كانوا مؤْمنين، لما أهلكهم اللهُ. بل كان ينجيهم كما نجَّى المؤْمنين.

ويجوز أَن يكون المراد وما كان ينتظر منهم الإيمان.

وخلاصة ذكره المفسرون والمؤَرخون من قصة عاد: أَنهم كانوا يسكنون بأَحقاف اليمن، وأَنهم تبسَّطوا في البلاد ما بين عُمَان وحضرموت. وكانت لهم أصنام يعبدونها.

فبعث اللهُ إِليهم هودا، وكان من أَفضلهم حسبًا، فكذَّبوه وازدادوا عتوًا، وتجبّرًا وأَمسك اللهُ المطرَ عنهم ثلاث سنواتٍ، حتَّى جهدوا - وكان أهل هذه الأَقاليم إِذا نزل بهم بلاءٌ لجأُوا إلى البيت الحرام، وطلبوا من الله أَن يُفرجه عنهم .. وكان أَهل مكة - وقتئذ - هم العماليق، من أَولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام. وسيّدهم معاوية بن بكر، وكان يسكن بظاهر مكة خارج الحرم. فنزل به وفدُ عادٍ. وكانوا سبعين من أشرافهم، وقد جاءُوا يطلبون من اللهِ الغيثَ ورفعَ القحطِ عنهم. فأنزلهم معاويةُ بن بكر عنده وأكرمهم. وكانوا أَخواله وأصهاره، فأَقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، ويسمعون غناءَ القِيان، وشغلوا عمّا جاءُوا من أَجله.

وكان معاوية يستحيى أَن يكلمهم، خشية أن يظنُّوا به ثقل مُقامِهم عليه، فأوعز إلى إحدى القينات فغنَّتهم بما ذكَّرهم ما حاءُوا من أَجله. فقال بعضُهم لبعضٍ: إن قومكم بعثوا بكم لِتَتَغوَّثُوا لهم من البلاء، فأبطأْتم عليهم!!!

فدخلوا الحرم. وقال رئيسُهم: اللهم اسقِ عادًا ما كنتَ تسقيهم. ولكنهم حقَّت عليهم كلمةُ اللهِ بما عصَوا رسولَهم هودًا واستعجلوا العذاب. فأَنشأَ اللهُ لهم سحائب ظنوها مطرا، خرجت على عاد من وادٍ .. يقال له: المغيث .. فقالت عادٌ: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} بينما كان هو العذاب الذي استعجلوا به، فهو ريحٌ عقيم. فيها عذاب أَليم: تدمرَّ كلَّ شيءٍ بأمر ربها .. سخَّرها الله عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوما. فأَهلكتهم جميعًا. فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنُهم.

وأنجى اللهُ هُودا ومَنْ آمن معه. فجاءُوا مكة. وعبدوا اللهَ حتى أدركتهم مناياهم.

ص: 1456

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)} .

المفردات:

{بَيِّنَةٌ} : معجزة ظاهرةُ الدلالة.

{وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} : وأنزلكم فيها مباءَات ومنازل.

{وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ} : النحت نَحْرُ الشىء الصلب. ونحتهم الجبال: اتخاذهم الأَحجار منها.

{آلَاءَ اللَّهِ} أَي: نعمه. جمع أَلى وهو النعمة.

{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ} : ولا تَسعوْا فيها بالإفساد.

التفسير

73 -

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} :

أي وأَرسلنا إلى ثمود أَخاهم صالحا، ليتركوا الشرك بالله، ويعبدوا الله وحده.

فقال: يا قوم اعبدوا اللهَ ما لكم مِن إلهٍ غيرُه.

ص: 1457

وقوم ثمود: من ولد ثمود بن جَائِر بن أرم بن سام. وكانت مساكنُهم بالحِجْر، بين الحجاز والشام. وكانوا عربا بعد عاد. وقد كثُروا وعَتَوْا وعبدوا غير الله. فبعث اللهُ إليهم صالحا ليهديهم سواءَ السَّبيل. وكان واحدا من أَشرافهم. ولذا قال:{أَخَاهُمْ صَالِحًا} فقالوا له: يا صالحُ قد كنتَ فينا مرجوًّا قبل هذا

أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤُنا؟ وكان في القوم بنَّاءُون مهرة، فكانوا ينحتون من الجبال أَحجارا، ويتخذون منها بيوتا، وكانوا في سعة من معايشهم.

فلم يزل صالح يدعوهم .. فم يؤْمن به إلا قليلٌ منهم من المستضعفين. فلما ألحَّ عليهم بالتخويف والإِنذار، طلبوا منه آية تشهد له بأَنه مرسل من عند الله تعالى. فقال لهم: أيّة آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إِلى عيدنا، في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعو إلهك وندعوا آلهتَنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإِن استجيب لنا اتبعتنا. فوافقهم صالح. فلما خرجوا في عيدهم، دَعَوْا أَوثانهم فلم تستجب لهم. فأشار رئيسُهم إِلى صخرةٍ وقال لصالح: أخرج لنا ناقةً - وذَكَرَ أَوْصَافَها - فإن فعلتَ صدقناك. فأَخذ عليهم العهود بذلك. ثم صّلى ودعا الله، فتمخضتِ الصخرةُ عن ناقة حسب الأوصاف التي أَرادوها، فقال لهم صالح:

{قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} وإِضافة الناقة إلى اللهِ لتعظيمها، ولأنها جاءِتهم من عنده - سبحانه - بلا وسائط وأَسباب معهودة. ولذا كانت آية.

وكان من عظم جسمها وعجيب أَمرها، أَنها إذا وضعت فمَها في الماء شربته كله. فلذا جُعِلَ لها يوم تختص فيه بشرب الماء، ولهم يوم آخر لا تشاركهم في شربه.

وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (1) وكانت تعطيهم لبنا بدل الماء في اليوم الذي تختص فيه بالماء، فيشربون ويدخرون.

فآمن بـ "صالح" جماعةٌ، بعد ظهور هذه الآية، وكفر به آخرون.

(1) سورة الشعراء، من الآية: 155

ص: 1458

وكانت أَنعامُهم تهرب منها إِذا أَبصرتها ترعى. فشقَّ ذلك عليهم. ولذا قال لهم صالح عليه السلام، محذّرا من مسّها بسوءٍ.

{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

أي فاتركوها تأَكل العشب في أرض الله، فإن الناقة ناقة الله، والأرض أَرضه - سبحانه -. فليس لكم أن تحولوا بينها وبين رزقها في أَرض الله، ولا أن تتعرضوا لها بشىءٍ يسوءُها، كمنعها الماء والمرعى، وغير ذلك من أنواع الإيذاءٍ، اتقاءَ أَن يأْخذكم عذاب شديد الإيلام، بسبب إِهانتكم لآية الله.

74 -

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ

} الآية.

أَي وتذكروا فضل ربكم عليكم، حين جعلكم خلفاءَ له في الأرض من بعد عاد، أو خلفاءَ لهم من بعدهم في أرضهم، وجعل لكم في أرض الحِجْر - بين الحجاز والشام - منازل أَنزلكم فيها، وبوَّأَكم في مباءاتها ومنازلها.

{تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} :

هذا استئناف، لبيان كيف بَوَّأهُم اللهُ في الأرض؟.

والمعنى: ومَكَّنَكُم اللهُ من الأرض، بحيث تبنون من سهولها قصورا، وتنحتون الجبال بيوتا.

أَمَّا بناؤهم من سهولها قصورا، فمعناه: أَن يُحوَّلُوا السهول إِلى مدائن ذات قصور رفيعة البنيان، ممَّا يجلبون إليها من مواد البناءِ، أو أن يجعلوا نفس السهول موادًا للبناءِ، كالآجر وطين اللصق، وكثير ذلك.

وأَمَّا نحتُهم الجبالَ بيوتا، فالمراد منه: اتخاذهم من حجارتها المنحوتة - أَي المنجورة المسوّاة - بيوتا، بوضع بعضها فوق بعض، بطريقة هندسية، يستمسك بها البناءُ ولا يتصدع.

وهذه النعمة التي يمنّ الله بها عليهم، تدل على أَنهم بلغوا في فن العمارة والحضارة شأْوا بعيدا، في هذا العهد الضارب في القدم، المتوغل في أَوائل البشرية.، حيث كانت البشربة تغطُّ في نومٍ عميق.

وتلك تعمة تُوجِبُ على "ثمود" أَن تذكرها لله فتشكره عليها.

ص: 1459

ولذا قال تعالى، حكاية عن وعظ صالح عليه السلام لهم.

{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} :

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} .

التفسير

75 -

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ

} الآية.

بعد أَن نصح صالح عليه السلام قومه ألَّا يتعرضوا لآيةِ اللهِ - وهي الناقة - بسوءٍ، وذكَّرهم نعمة الله عليهم، ونصحهم أَن يشكروها ولا يكفروها، ولا يعثَوا في الأرض مفسدين - قال أَشرافُ قومه المستكبرون، للذين استضعفوهم، وهم المؤمنون منهم، سائلين - بطريق الاستهزاءِ - هل تعلمون أَن صالحا مرسل من ربه، حتى سارعتم إلى الإيمان به؟ فأَجابهم أَولئك المؤمنون - في ثقةٍ واطمئنانٍ وجرأَةٍ - إِنَّا بما أُرسل به من ربّه مؤمنون، لأَننا نعلم أَنه مرسل من ربه بالحق.

76 -

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} :

قال الأَشراف المستكبرون للمستضعفين المؤمنين - بعد أَن سمعوا منهم جوابهم - إنا بـ "صالح" الذي آمنتم به كافرون. ولم يقولوا: إِنا بما أُرسل به كافرون، إظهارا لمخالفتهم إيَّاهم وردًّا لمقالتهم.

ص: 1460

{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)} .

المفردات:

{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} : العقر، الجرح. ويطلق على النحر.

{وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} : استكبروا عن امتثاله.

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} : فأَهلكتهم الزلزلةُ.

{جَاثِمِينَ} : خامدين: ميِّتين.

التفسير

77 -

{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ

} الآية.

كان للناقة شرب يوم، ولهم شرب يوم من الماء. ويقال: إِنها كانت تعوِّضهم عن يومها ماءً باللَّبن. كما يُقال: إِنها كانت حين ترعى صيفا أو شتاءً، تهرب منها أنعامُهم لضخامتها - فعقروها، واقتسموا لحمها، وخالفوا بذلك أمر رسولهم صالح عليه السلام. فقال لهم:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (1).

وفي اليوم الرابع، أَتتهم صيحةٌ من السماءِ ورجفة من الأرض: أَسكتت قلوبَهم فهلكوا، فأصبحوا - في ديارهم وأرضهم - جاثمين، خامدين، لا حراك بهم.

(1) سورة هود، من الآية: 65

ص: 1461

وأَصل الجثوم: القعود. ويقال للناس: هم جثوم - أَي قعود لا حراك بهم ولا ينبسون.

قال أَبو عبيدة: الجثوم للناسِ والطير، والبروك للإبل.

والمراد؛ كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب بهم - فلمّا فوجئوا - وَهم كذلك - بالعذاب، هلكوا وهم على حالهم، من غير اضطراب ولا تحرك.

ولا يخفى ما فيه من شدّة الأَخذ وسرعة البطش ..

79 -

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} :

أَي فانصرف بعد ما شاهد من حالهم، وقال - متحسرا على ما فاتهم من الإِيمان - لقد أَبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم بالترغيب والترهيب، وبذلت فيكم وسعى.

ولكنكم لا تحبُّون الناصحين، فبقيتم على غيِّكم، حتى أَصابكم اللهُ بالهلاك.

وظاهر الآية أَنه تولّى بعد أن رأَى حالهم من الهلاك، وأنه خاطبهم وهم موتى بقوله:

{لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} الخ.

ومثل ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بصرعى بدر، حين وقف بهم وخاطبهمُ وهم في القليب قائلا:"إنَّا وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبكُمْ حَقًّا"؟. (1)

وقيل: إنما تولَّى عنهم قبل نزول العذاب بهم حين شاهد علاماته، وانصرف منكرا ما فعلوا، متوجها إلى فلسطين بمن معه من المؤمنين، ثم رجعوا - بعد هلاك الكافرين - فسكنوا ديارهم. والله تعالى أَعلم.

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} .

(1) انظر سيرة ابن هشام وغيرها.

ص: 1462

المفردات:

{الْفَاحِشَةَ} : الفعلة الشديدة القبح - والمراد بها هنا اللواط.

{مُسْرِفُونَ} : مجاوزرن الحد في المعصية.

التفسير

80 -

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} :

المعنى: وأرسلنا لوطا إِلى قومه حين قال لهم - موبِّخا منكرا زاجرا - أتأْتون الفعلة المتناهية في القبح، المتمادية في الشرّ والسوء؟ ما سبقكم بفعلها أَحد من العالمين، بل اخترعتموها أَنتم.

وقد أنكر اللهُ عليهم أَولا: إِتيان هذه الفاحشة. ثم وبَّخهم ثانيًا: على أَنهم أوَّل من ارتكبها، فإنه ليس المراد من قوله تعالى:{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} نفى سبق غيرهم لهم فحسب، بل المراد أَيضًا: أَنهم أَسبق العالمين إِليها. فهم أَول من أحدثها. وذلك على حدِّ ما قيل في قوله تعالى: {فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} (1)، فليس المراد منها أَنه لا يوجد أَظلم منهم فقط، بل المراد أنهم أَظلم من كل ظالم.

ثم بيَّن اللهُ هذه الفاحشةَ المهينة الشائنة فقال:

81 -

{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} :

إِنكم لتباشرون المذكور لمجرد الاشتهاء الفاجر، تاركين النساء اللاتى جعلهن الله مواضع الاشتهاء، عن طريق الزواج!! بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعاصي.

وكان لوط عليه السلام يقيمُ بقريةِ "سدوم" فأَرسله اللهُ إلى أَهلها، وكانوا أَهل كفر بالله وعصيانٍ له. وكان من أَخطره: إِتيان الذكران في أَدبارهم، وقطع السبيل على الغرباء لممارسة الفاحشة معهم. وكان من أَمر لوط معهم ما سبق بيانه مجملا في الآيتين الماضيتين.

وفيما يلي بيانُ ما أَجاب به قومه وعقاب الله لهم، على إصرارهم ومضيهم في الكفر والفاحشة.

(1) سورة الكهف، من الآية: 15

ص: 1463

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)} .

المفردات:

{يَتَطَهَّرُونَ} : يتنظفون من الفواحش.

{مِنَ الْغَابِرِينَ} : من الباقين. وفي المصباح: غَبَرَ. تُسْتَعمَلُ للماضى وللباقى.

فهي من الأَضداد.

التفسير

82 -

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ

} الآية.

المعنى: وما كان جواب قوم لوط على زجرهم عن الفاحشة، إلا أَن قال بعضُهم لبعضٍ: أخرجوا لوطا ومن آمن معه من قريتكم "سدوم " فإنهم أُناس يتطهرون.

وغرضهم من وصفهم بالتطهر الاستهزاءُ والسخرية بتطهرهم من الفواحش، والافتخار بما هم فيه من القذارة الخلقية. كما هو شأْن أَهل الدعارة.

83 -

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} :

المعنى: فأَنزلنا بهم العذاب: فأنجينا لوطا وأَهله، إِلا أمر أَنه كانت من الباقين بالقرية، حتى نزل بأَهلها الكافرين العذاب، فهلكت معهم، لأَنها كانت تُبْطِن الكفر وتظهر الإيمان .. والنفاق أَخطر أَنواع الكفران.

والمراد بأَهله الذين أَنجاهم الله معه: المؤمنون من أَهل القرية. سواء أَكانوا من أَقاربه أَم لا. وكانت نجاتُهم بتدبير اللهِ - تعالى -. فقد أَرسل الله جبريل وبعضَ الملائكة معه، لإهلاك قوم لوط، فأخبروه بمقصدهم، وأَمروه أَن يخرج ومن آمن معه إلى الشَّام، ويدع امرأَته فإنها من الهالكين.

ص: 1464

وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} (1).

84 -

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} :

المعنى: وأَرسلنا عليهم مطرا عجيبا .. بيَّنه اللهُ بقوله: {

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (2). فهلكوا جميعا.

فانظر، أَيها العاقل، متعجبا: كيف كانت عاقبة المجرمين الذين يفسدون في الأَرض ولا يصلحون.

وكانت قراهم خمسًا، تسمَّى "المؤتفكة" بين الشام والمدينة المنورة.

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)} .

(1) سورة الحجر، من الآية: 65

(2)

سورة الحجر، من الآية: 74

ص: 1465

المفردات:

{مَدْيَنَ} : اسم قبيلة شعيب، وهم أَولاد مدين بن إِبراهيم. وتطلق على المدينة التي كانوا يقيمون فيها، وهي واقعة قرب "معان"، بطريق الحجاز.

{بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} : حجة واضحة.

{تَبْخَسُوا} البخس: النقص مطلقا. ويدخل فيه نقص الكيل والميزان.

{وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : تمنعون الناسَ عن دين اللهِ.

{وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} : وتطلبون أَن تكون معوجة.

{فَكَثَّرَكُمْ} : زاد في عددكم وأَموالكم.

{يَحْكُمَ} : يَفصل.

التفسير

85 -

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا

} الآية.

ذُكِرَت هذه القصة في القرآن الكريم عدّةَ مرَّات. فقد وردت في الأَعراف، وهود، والشعراء. وتخنلف في عدد آياتها إيجازا وإِطنابا. وأَطولها ما ذكر في سورة هود.

المعنى: وأَرسلنا إلى أهل مدين واحدا منهم، هو أَخوهم في النسب "شعيب" عليه السلام. وهو من سلالة إبراهيم عليه السلام من فرع إسحق.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا ذُكر "شعيب" قال: "ذاك خطيب الأنبياء"، لحسن مراجعته قومه.

وقد بعثه اللهُ عز وجل رسولا إِلى أهل مدين، فدعاهم إِلى عبادته تعالى، ونهاهم عن أَكل أَموال الناس بالباطل. فكذَّبوه وعاندوا. فأَخذهم اللهُ بالصيحة. وبعثَهُ اللهُ إلى أَصحاب الأَيكة ولم يكن شعيب منهم نسبا، فكذَّبوه فأَخذهم اللهُ بعذاب يومِ الظُّلَّةِ.

ص: 1466

وفيما يلي قصته مع أهل مدين.

{قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} :

هذه دعوة إِلى توحيد اللهِ عز وجل وهي دعوة الرسل جميعا .. فيما من نبىًّ إلَاّ دعا قومه إلى توحيد الله تعالى، ونبذ عبادة غيره، وإِفراده بالعبادة. قال تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1).

{قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} :

أي وقال لهم: قد جاءتكم حجة واضحة ومعجزة ظاهرة، شاهدة على صدق نبوتى من ربَّكم، ومالِك أُموركم.

ولم تُذْكَرْ معجزتُه في القرآن، كما لم تُذْكَرْ معجزاتُ بعض الأَنبياءِ عليهم الصلاة والسلام.

ويكفى أن الله أخبر بمجيئه بالبينة. الواضحة لهم.

أَمَّا تعيينُها بشخصها، فلا ضرورة تدعو إليه.

{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} : بعد أَن أَمرهم شُعيب بتوحيد الله، وعظهم بالحفاظ على حقوق الناس، بإيفاء الكيل والميزان. ثم قال لهم:

{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} : أي ولا تنقصوا الناس أَشياءَهم، بأَخذها على وجه البَخْسِ. وهو النقص فيها خفيةً وتدليسًا.

ويدخل في البخس، وصفُ الأشياءِ بما ينقص قيمتَها، ويصرفُ الناسَ عنها. ويدخل فيه أَيضا نقصُ الكيل والميزان عند البيع، والمبالغة في استيفائه عند الشراءِ، وغير ذلك مما يسلب الحقوق.

{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} : أَي ولا تفسدوا في الأرض بالجور والكفر بعد إصلاح شأْن أَهلها بالشرائع التي جاءَ بها الأَنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام -.

{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} :

أي ذلكم المذكور من العمل بما أَمركم به الله تعالى، من توحيد الله، وإِيفاءِ الكيل والميزان، وترك ما نهاكم عنه من البخس والإفساد في الأَرض - خير وزيادة لكم في كل شىءٍ، لأَن الناس إِذا عرفوكم بالأَمانة والصدق والوفاءِ، رغبوا في معاملتكم لثقتهم فيكم.

{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} : أي إِن كنتم مصدَّقين لي فيما دعوتكم إليه، من توحيد الله تعالى، والعمل بسائر ما شرعه الله لكم من الأَحكام.

(1) سورة الأنبياء، من الآية: 25

ص: 1467

86 -

{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} :

أَي ولا تقعدوا بكل طريقٍ من الطرق المسلوكة: تخوّفون من آمن بشعيب ودينه بالقتل.

أو تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم.

{وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} :

أَي: وتمنعون من آمن بدين الله الذي جاءَ به "شُعَيب" من الاستمرار عليه، وتحملونه - بشَتَّى الأَساليب - على الرجوع عنه، كالطعن في "شُعَيب" بأَنه كذَّاب، جاءَ ليفتن الناس عمَّا هم عليه من تَدَيُّن.

{وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} : أَي وتطلبون لسبيل الله الاعوجاج بوصفها للناس بما يعيبُها وينقصُها.

وهي أبعد ما تكون عن العوج والنقص.

{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} :

أي وتذكروا نعمة الله عليكم، حيث كنتم قليلى العدد والمال، فوفَّر عددَكم بكثرة النسل. وزاد أَموالكم فأَغناكم.

{وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} :

أَي وتفكَّروا في عاقبة من أَفسدوا قبلكم من الأُمم المجاورة لكم، مثل قوم نوح، وعاد، وثمود. واعتِبروا بما حلّ بهم بعد عصيانهم.

87 -

{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} :

يقول شُعَيب عليه السلام: وإِن وُجدَ منكم جماعةٌ صدّقوا بالذى أُرسلت به من الشرائع والأَحكام، وجماعة أُخرى استمروا على التكذيب، فلم يصدقوا بذلك.

{فَاصْبِرُوا} :

الخطاب للمؤمنين بشُعيب عليه السلام، حثًّا لهم على الصبر، واحتمال ما ينزل بهم من إيذاءِ الكفار لهم.

{حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} :

أي واصبروا إِلى أَن يقضى الله بيننا وبينهم، وهو- ولا شك - ناصر للمؤمنين، ومنتقم من الكافرين .. فهذا وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين.

{وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي: وهو- عز وجل خير من يفصل بين الناس بالحق، ويميز المحقَّ من المبطل. فهو الحكم العدل: لا مُعَقِّب لحكمهِ ولا جَور فيه.

ص: 1468

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} .

المفردات

{الْمَلَأُ} : الرؤساءُ وَالوُجَهَاءُ.

{قَرْيَتِنَا} : هي مدين {مِلَّتِنَا} : دِيننا {افْتَرَيْنَا} : الافْتِراء: أَقْبَح الْكَذِب.

{وَمَا يَكُونُ لَنَا} : أي وَمَا يَنبغىْ وَمَا يَصِحُّ لَنَا (افتَحْ): احكم (الفَاتِحِين): الحاكمين.

التفسير.

88 -

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} :

بعد أن سمع قوم شعيب مواعظه ودعوته إِياهم إلى التوحيد واتباع الحق قال الرؤساء من قومه غير مكتفين بتكذيبه وعصيانه - قالوا - استعلاء عليه واستكبارًا وتطاولًا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ..

أي والله لنخرجنك يَا شُعَيْبُ وَالَّذينَ آمنوا معك من قريتنا - مدين - قهرا، استصغارًا لشأْنكم واستهانة بدينكم كى نستريح من مواظبتك على دعوتنا لاتباعك، وعقابا لكم على ترك ملتنا. إلا أن تعودوا إليها فنصفح عنكم ونبقيكم في وطنكم.

ص: 1469

{قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} .

أَي قال شعيب جوابًا لقولهم - أو لتعودن - أنعود في ملتكم حتى في حال كرهنا لها لن يكون منا ذلك مطلقا في أَي حال يعد أَن نجَّانا الله من ظلمة الكفر والضلال ومنّ علينا بنعمة الإِيمان.

وتوسيطهم النداء بقولهم (يا شعيبُ) بين تهديدهم له ولمن آمن معه بالإِخراج، لزيادة تهديدهم الناشىء عن غاية طغيانهم واستكبارهم.

89 -

{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} :

أَي نكون قد اختلقنا على الله كذبًا عظيما بلغ غاية القبح والشناعة إن رجعنا إلى الشرك الذي أنتم عليه بعد أن خلصنا الله منه وهدانا إِلى الإيمان إِذ يكون الرجوع حينئذ اعترافًا منا بظهور أَن ما كنا عليه من الإِيمان والتوحيد باطل وكذب. وما أَنتم عليه من الكفر والضلال حق وصدق - وهذا منتهى التناقض - ولا كذب أَقبح وأَشنع من هذا.

{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} : أي وما يصح وما يتصور منَّا الرجوع إلى الشرك في حال من الأَحوال إلَاّ في حال مشيئة الله - تعالى - خالقنا ومربينا، وحاشا أَن يشاء الله - ذلك بعد إنقاذه - سبحانه - لنا من الوثنية والضلال وعنايته بإِرشادنا وإبلاغنا إلى الكمال اللائق بنا فهو ربنا الرحيم بنا، الذي أبلغنا بتربيته لنا إلى ما نحن فيه من الكمال الدينى.

{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} : أَي أحاط علم خالقنا الذي ربَّانا وأَبلغنا إلى الكمال اللائق بنا، - أحاط علمه - بكل ما كان وما سيكون من الأَشياءِ، ومن جملة ذلك أَحوال عباده ونياتهم فلا يعيدنا إلى الكفر بعد أن أَنقذنا منه ما دمنا معتصمين بحبله المتين ودينه القويم {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}: أَي على الله وحده توكلنا وفوضنا إليه أَمر تخليصنا من الأشرار وتثبيتنا على الإيمان.

وبعد أن ظهر لشعيب ما عليه قومه من العتو والطغيان، وأَنه لا أَمل في إيمانهم، أَعرض عنهم ونادى ربه طالبا أَن يفصل بينه وبينهم بالحق. فقال:

ص: 1470

{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} : أَي يا ربنا اقض بيننا وبينهم بالقضاء الحق حتى يتميز الخبيث من الطيب وأنت خير الحاكمين - والتعبير بقوله "افتح": لأن القضاء بالحق يفتح الأَمر المغلق.

{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)} .

المفردات:

{الرَّجْفَةُ} : الزلزلة الشديدة.

{جَاثِمِينَ} : باركين على الركب أَذلاء.

{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} : أي كأَن لم يقيموا في مدينتهم. والمراد: أنهم استئصلوا بالمرة يقال غَنِىَ بالمكان يَغْنَى أَقام به - والمَغْنَى - المنزل.

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} : أَعرض عنهم وبعُدَ.

{آسَى} : أحزن.

التفسير

بعد أن بيَّن القرآن الكريم إصرار شعيب ومن آمن معه على دين الله وعدم عودتهم إلى ملة قومهم انتقل إِلى بيان ما قالوه تخويفًا لأَتْباعهم من اتِّباع رسالة شعيب. فقال تعالى:

ص: 1471

90 -

{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} : أَي وقال الرؤساءُ المستكبرون الذين أصروا على الكفر من قوم شعيب عليه السلام بعدما أَيقنوا بصلابته ومن آمن معه في الإيمان وإِصرارهم عليه، وخافوا إقبال الناس على دعوته. اتجهوا إِلى تخويف عامة الناس من قبول دعوته بقولهم:{لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} : أي لئن اطَعْتُم شُعَيبًا فَدَخَلْتُمْ في دِينِه وَتَرَكتُمْ مِلَّةَ آبَائكمْ إنَّكْم حينَئِذٍ لخَاسِرُونَ دينكم الَّذِى أَنتم عليه، وخاسرون دنياكم بفقدان مزاياكم التي تتمتعون بها بيننا في المسالمة والتبادل التجارى، والرضا عنكم، والإخلاص لكم، وفقدان المكاسب التي تحصلون عليها بالبخس وتطفيف الكيل والميزان وغير ذلك.

وبعد أَن حكى القرآن الكريم تكذيب أَهلِ مدين أَخاهم شعيبا وأنهم رفضوا دعوته عُتوًّا واستكبارًا وحث رؤساؤهم أَتباعَهم على عدم اتباعه، شرع يبين كيفية إهلاك هؤلاء الطغاة المتجبرين فقال تعالى:

91 -

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} : أَي فأَهلكتهم الزلزلة الشديدة فأَصبحوا باركين على ركبهم هالكين هلاك الذلة والصغار في أَماكنهم لا ينتقلون منها.

وقد جاءَ في سورة هود أَن قوم شعيب أُهلكوا بالصيحة كما قال - تعالى -: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} وفي الشعراءِ أنهم أُهلكوا بعذاب يوم الظلة {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} ويوجَّه هذا الاختلاف فيما أُهلكوا به بأَن شعيبا أُرسل إِلى أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة، فأَما أَصحاب الأَيكة فقد أُهلكوا بعذاب يوم الظلة، كما سيأْتى بيانه في سورة الشعراءِ، وأَما أَهل مدين فقد أُهلكوا بعذابين، أَحدهما سبب والآخر مسبب، فأَما السبب فهو الصيحة، والمراد بها صيحة جبريل عليه السلام بهم، وأَما المسبب فهو الزلزلة فقد أَصابتهم من صيحته رجفة وزلزلة قضت عليهم فنسب هلاكهم تارة إلى السبب الأَول وهو الصيحة، وتارة إلى السبب الثاني وهو الرجفة التي ترتبت على الصيحة - فلا تعارض بين الآيات.

وزيادة في إِيضاح ما حل بهم من أَهوال قال تعالى:

92 -

{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} :

ص: 1472

أَي: هؤلاءِ الذين كذبوا دعوة شعيب إلى توحيد الله والإِصلاح وترك الفساد في الأَرض.

{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أَي: كأَنهم بعد إِهلاكهم بالزلزلة الشديدة لم يقيموا أَبدًا بديارهم حيث استُؤْصِلُوا بالرجفة. وكانوا وحدهم الخاسرين في الدنيا بالهلاك الشديد وفي الآخرة بعذاب النار - خسروا وحدهم دون شعيب ومن آمن معه كما كانوا يظنون. اقرأ قولهم فيما سبق: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} .

وبمقابلة هذه الآية بما قبلها يتبين أمران:

1 -

أن استئصالهم بارتجاف الأَرض حتى كأَنهم لم يقيموا فيها كان في مقابلة تهديدهم لشعيب بقولهم: "لنخرجنك يا شعيب".

2 -

أن ما جاءَ في هذه الآية من خسران الكافرين من قوم شعيب وحدهم، جاءَ في مقابلة قول رؤسائهم لأتباعهم تحذيرًا من اتّباع شعيب:"لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذًا لخاسرون".

وبهذا ظهر أن جزاءهم كان من جنس ما كانوا يقولون، ولكنه يفوقه في الشدة.

93 -

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} :

أي فأَعرض شعيب وابتعد عن قومه حين رأَى الهلاك الذي نزل بهم وقال معتذرًا عن عدم حزنه عليهم وأَسفه على ما حل بهم، ومتبرئًا من ظلمهم يا قوم والله: لقد اجتهدت في إبلاغكم رسالات الله الذي خلقنى وربانى وبينت لكم ما فيها من سعادة دنياكم وأُخرا كم، وبذلت وسعى في توضيح طريقى الخير والشر فلم تستجيبوا لي - وكان الواجب أن تسمعوا قولى وتقبلوا نصحى. فحقت عليكم كلمة العذاب - بما قدمتم - فكيف أحزن على هلاك قوم بالغوا في الكفر، وأصروا عليه، واستكبروا استكبارًا، لن يكون ذلك مني.

ص: 1473

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} .

المفردات:

{بِالْبَأْسَاءِ} : بالبؤس وشدة الفقر.

{وَالضَّرَّاءِ} الضراءُ المرض.

{السَّيِّئَةِ} : هي كل ما يسوء.

{الْحَسَنَةَ} : كل ما يستحسنه العقل والطبع.

{عَفَوْا} : أَي كثروا عددًا ومالًا. يقال عفا النبات إذا كثر.

{مَسَّ آبَاءَنَا} : أَي: أَصاب آباءَنا.

{بَغْتَةً} : فجأة.

التفسير

94 -

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

} الآية: بعد أَن بين القرآن الكريم - فيما سبق - أَحوال الأُمم مع أنبيائهم وذكر منا حل بهم من الهلاك والدمار جزاء تكذيبهم. انتقل في هذه الآية إلى بيان سنة الله - تعالى - في إنذار المكذبين من الأُمم قبل إِهلاكهم:

والمعنى: وما أَرسلنا في قرية من القرى المهلكة أىَّ نبى من أَنبيائنا يدعو أَهلها إِلى عبادة الله - تعالى - فكذبوه وآذوه. إلا أَصبناهم قبل إهلاكهم بالشدة والضرر،

ص: 1474

كإصابتهم بالمرض ونقص الأَموال والأنفس والثمرات - إِنذارًا لهم - {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} : أَي ابتلاهم الله بذلك رجاء أن يلجأُوا إِليه - سبحانه - طالبين كشف البلاءِ ويتذللوا له، ويخلعوا عن أنفسهم أَردية العتو والاستكبار فيؤمنوا باللهِ ربهم ولا يشركوا به أَحدا.

ويجب أَن نلاحظ أَمرين:

1 -

أَن إِصابتهم بنحو الفقر والمرض لم تترتب على مجرد الإرسال. بل على تكذيب المرسلين، بعد أَن بذلوا غاية الجهد في إِبلاغ ما أُرسلوا به.

2 -

أن تكذِيب الأُمم للرسل مستتبع لنزول البلاء بهم بسبب عتوهم واستكبارهم.

وكما أنذر الله المكذبين بالفقر والمرض تارة. كذلك ابتلاهم وامتحنهم بالسعة والصحة مكانهما تارة أُخرى. يدل لذلك قوله تعالى:

95 -

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} :

أَي: ثم أَعطينا أُولئك المكذبين المُصِرِّين على الكفر، مكان ما ساءهم من البأْساء والضراء، أَعطيناهم مكان ذلك السلامة والرخاء. كما قال تعالى:"وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون" واستمر عطاوُّنا لهم حتى كثر مالهم وزاد عددهم فأَبطرتهم النعمة وأَطغتهم الكثرة ولم يشكروها.

{وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} : أي وقالوا جحودا للنعمة وكفرانا بالإِحسان بعد البأساء والضراء، وإعراضا عن العظة بنزول البلاءِ ورفعه بالنعماءِ: قد أصاب آباءنا من قبلنا البأْساءُ والنعماءُ ولسنا بدعا منهم فما أَصابنا على نمط ما أَصابهم، وهذا شأْن الدهر يداول السراء والضراء بين الناس فليس ذلك إنذارًا لنا.

{فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} :

أَي: فأَهلكناهم إثر ذلك أشد الإِهلاك وأقطعَه فجأَة، والحال أنهم لا يحسون أَدنى إِحساس بما سيلحقهم، ودون أَن يفكروا في أن شيئًا من المكاره سيحيق بهم، ليكون ذلك حسرة في قلوبهم وعبرة لغيرهم، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً

ص: 1475

فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} فينبغى لكل عاقل أن لا يغتر بالنعماء، وهو مقيم على معصية الله {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} .

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)} .

المفردات:

{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : أَي ليسرنا لهم الخير من كل جانب.

{بَيَاتًا} : أي وقت بياتهم.

{ضُحًى} : أَي ضحوة النهار وهى أَوله.

{مَكْرَ اللَّهِ} : المراد بمكره تعالى إهلاكه لهم من حيث لا يحتسبون.

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} : أفلم يصنع الهداية لهم.

{يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} : يخلفون من مضى قبلهم من الأُمم المهلكة.

ص: 1476

التفسير

96 -

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .. } الآية:

بعد أَنْ بَيَّنَ القُرآنُ الكرِيمُ، عاقبة المُكَذِّبين، جَاءتْ هَذِه الآية وَمَا تَلاهَا لتنْعَى على المكذبين من أَهل مكة ومن كان قبلهم وتوبخهم على إِصرارهم على الكفر إذ كان سببًا في إهلاكهم وحرمانهم من الخير.

أَي: ولو أَن كفار مكة والذين أُهلكوا قبلهم بسبب تكذيبهم آمنوا باللُه وبما أَنزله من الشرائع على أَنبيائهم، واعتبروا بما أَصابهم من الضراء والسراء قبل إِهلاكهم، وجعلوا بينهم وبين الكفر والمعاصي وقاية بامتثال أَوامر الله واجتناب نواهيه، ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: أي ليسَّرْنا لهم سبل الخيرات الكثيرة والأَرزاق الوفيرة ووسعناها عليهم من كل باب فأَنرلنا عليهم من السماء ماء مباركًا فأَنبت الزرع وأَدرَّ الضرع وأَخرجنا لهم الكثير من كنوز الأَرض وذللنا لهم ما على ظهرها من الدواب والأنعام {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} .

{وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : أَي ولكن كذبوا الرسل واستمروا على الكفر والقبائح، ولم يؤمنوا ولم يعتبروا بما أَصابهم فعاقبناهم جزاء ما قدمت أيديهم وَعِبْرَة لغَيرهمْ، وَمِن ذلكَ مَا أصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الجَدب وَالْقَحْط بَعْدَ هِجْرَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم عنهم، لإِصرارهم على الكفر فلما آمنوا فتح الله عليهم بركات من السماء والأرض وقد عبر الله تعالى عن إِفاضة النعم والبركات علي من يؤمن بالأَنبياءِ بقوله:(فتحنا) للإِيذان بأَنها ميسرة وكثيرة كأَنها تتدفق عليهم من أبواب مفتحة.

وفي سياق الحديث عن تقريع المكذبين من أَهل القرى يقول الله تعالى:

97 -

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} : أي أَغفل أَهل القُرَى عَمَّا في الإنْذَار بِالبَأْسَاءِ والضرَّاء مِنَ العِبْرة وما يليه مِنَ الأخْذ وَالإهْلَاك، فأمِنُوا أَنْ ينزلَ عليهم عذابُنا وقت بياتهم في منازلهم وهم غارقون في النوم؟

ص: 1477

وأهل القرى كما تقدم - يعلم كفار مكة ومن حولها، والمكذبين للرسل من الأُمم قبلهم، فتكون غفلة كفار مكة عدم اعتبارهم بإنذار من قبلهم ثم إِهلاكهم إنْ أصرُّوا، وغفلة المكذبين من قبلهم عدم اعتبار كل أُمة بإنذار من قبلها ثم إهلاكهم، أَو عدم اعتبار الأُمة الواحدة بإنذار الله لها بالبأْساء والضراء قبل إِهلاكها كما جرت سنة الله في إهلاك المكذبين.

ويقول الله تعالى في سياق توبيخهم:

98 -

{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} : أَي أَغفل أَهل القرى عما في إِنذار المكذبين ثم إهلاكهم من عظة وعبرة وأَمنوا أَن ينزل عليهم عذابنا في صدر النهار وقت الضحى عند انتشار ضوءِ الشمس إِذا ارتفعت {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} : أي وحالهم أنهم يلهون ويشتغلون بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون لشدة غفلتهم.

وجاءت الآية بأْسلوب التوبيخ كسابقتها للمبالغة في التقريع والتشديد.

والمراد استنكار أن يأْمن أهْل القرى نزول العذاب عليهم ليلًا أو في أَول النهار، وتقريرًا للاستنكار السابق قال تعالى:

99 -

{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} : أَي أَجهلوا سنة الله في خَلْقِه فأمِنُوا استدرَاجه إِيَّاهُمْ بإِغدَاق نِعَمِه عَلَيْهِم، وَأخْذه لَهُم فَجأةً من حيث لا يحتسبون؟ إِن هذا لمنكر وعجيب. لأَنه لا يأْمن نزول الهلاك إِلا الذين خسروا أنفسهم بالكفر. وأضاعوا فطرة اللهِ التي فطر الناس عليها بترك النظر والاعتبار:

وإشباعًا لاستنكار كفر المكذبين يعقب الله ما تقدم بقوله:

100 -

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} :

أَي أَو لم يجلب الهداية للكافرين الذين يرثون الأَرض من بعد إهلاك أَهلها، أن الشأْن لدينا لو نشاءُ لأصبناهم بالعذاب بسبب ذنوبهم، كما أَصبنا مِنْ قبلهم الذين ورثوهم الأَرض بعد هلاكهم بسبب ذنوبهم، فشأْننا في الوارثين هو شأْننا في الموروثين إذا كانوا على سنتهم، والمراد بالوارثين كل من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 1478

وكذَّب دعوته {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} : أَي ونحن نحكم إغلاق قلوبهم دون الخير بسبب إِساءتهم لأَنفسهم باختيار الكفر والضلال فهم لا يسمعون إِنذارا ولا يتدبرون إِرشادًا ولا يعتبرون بهلاك السابقين.

{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)} .

المفردات:

{بِالْبَيِّنَاتِ} : أَي بالمعجزات الواضحة الدلالة.

{وَمَا وَجَدْنَا} : أي وما علمنا.

{مِنْ عَهْدٍ} : أَي من وفاءٍ بعهد. والمراد ما عهد الله إليهم من الإيمان والتقوى.

{وَإِنْ وَجَدْنَا} : إِن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأْق، والتقدير: وإِنه وجدنا أي وإِن الشأْن وجدنا.

{لَفَاسِقِينَ} : أَي لخارجين عن الإِيمان والطاعة.

التفسير

101 -

{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} : أي تلك القرى المهلكة سبب بلوغ أَهلها غاية العتو والاستكبار. نذكر لك يا محمد من أخبارها وأخبار أهلها ما فيه تسلية وعبرة لمن أَرسلك الله إِليهم. وحسبكم في الدلالة على صدقها، ما نقل

ص: 1479

إِليكم أَباؤُكم من أَنبائها، وما ترونه من آثار تدميرها، وما تسمعونه من أَهل الكتاب عنها {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

على حين أَن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، أَولى بالتصديق من أهل الذكر، فهو المؤَيد بالمعجزات الباهرات، وهو الصادق الأمين.

{وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} : أي وتالله لقد جاء كل أُمة من تلك الأُمم التي خلت، رسولُها الذي بعثه الله إِليها بالمعجزة الخاصة به الواضحة الدلالة على صدقِ رسالته الموجبة للإيمان على ما قضَت به حكمته تعالى:

{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} : أي فما حدث لأُمة من تلك الأُمم الضالة الرجوع عمَّا هم عليه من كفر وضلال إلى هداية الرسل وإرشادهم، بل استمرُّوا على التكذيب وعَدم الإِيمان طول حياتهم ولم تغنهم الآيات والنذر، لكمال عتوهم وشدة طغيانهم، فاستحقوا بذلك ما نزل بهم من العذاب.

{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} : أي مثل هذا الختم الذي أغلقَ الله به قلوب هؤلاءِ السابقين بسبب اختيارهم الكفر على الإِيمان يختم الله على قلوب جميع الكافرين، ويجعل عليها سدًّا يغلقها. فلا يسمعون نصحًا ولا يبصرون حقًا، ولا تلين قلوبهم. إذ تركوا الحق واتبعوا الباطل واختاروا طريق الفساد.

ثم أضاف القرآن إلى ما تقدم شيئًا مِن سوء سلوكهم فقال تعالى:

102 -

{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} : أي وما علمنا لأَكثر الأُمم إلتى مضت من عهد (1) - أَي رعاية لحرمة - وإن الشأْن معهم أنا وجدنا أَكثرهم فاسقين خارجين عن القيم الخلُقية والدينية، وما آمن وأَصلح منهم إلا قليل.

(1) من جملة معانى العهد رعاية الحرمة، وهذا المعنى هو المناسب لقوله تعالى في ختام الآية:(وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) راجع المادة في القاموس.

ص: 1480

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)} .

المفردات:

{مَلَئِهِ} : الملأُ رؤَساءُ القوم.

التفسير

1030 -

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا

} الآية:

أَي: ثم أَرسلنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب الذين تقدمت أَخبارهم أَرسلنا بعدهم - موسى - بآياتنا. أَي: بمعجزاتنا التسع الدالة على صدقه رسالته، وهي العصا تنقلب حية واليد تخرج من جيبه بيضاء، والسنون المجدبة ونقص الأنفس والثمرات، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وطمس الأموال (1).

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} : أَي إلى ملك مصر ورؤَساء قومه ووجهائهم.

وخصوا بالذكر مع أَن رسالته لفرعون وقومه أَجمعين. لأَنهم يقومون بتدبير الأُمور، وغيرهم تبع لهم.

{فَظَلَمُوا بِهَا} : أَي فكفروا بهذه الآيات وكانوا بهذا الكفر ظالمين، لأَنها واضحة الدلالة على صحة رسالة موسى عليه السلام، ولم يؤمنوا بها.

أو المعنى: فظلموا أنفسهم إذ عرضوها للهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة بسبب تكذيبهم بهذه الآيات، وظلموا غيرهم بمنعهم من الدخول في دين الله.

(1) هذه الآيات ستذكر في هذه السورة، عَدا طمس الأموال، فهو مذكور في سورة يونس في قوله تعالى:"ربنا اطمس على أموالهم".

ص: 1481

{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} : أي فتأمل بفكرك مآل هؤلاء الذين أفسدوا في الأَرض بالشرك وقتل الأَنفس البريئة وتعذيب الضعفاء وسلب الأَموال، لا شك في أن مآلهم لا تحيط العقول بأَهواله وشدته. فقد أَغرقهم الله جميعًا بمرأَى من موسى ومن معه وتلك عاقبة الظالمين.

{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)} .

المفردات:

{جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ} : جئتكم بآيات وِاضحة الدلالة على نبوتى.

التفسير

104 -

{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

لما أجمل القرآن آيات موسى عليه السلام في قوله سابقًا: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} شرع يفصل تلك الآيات في هذه الآية.

والمعنى: قال موسى مخاطبًا فرعون: - يا فرعون - إني رسول من عند رب العالمين خالق كل شيء ومربيه ومتعهده، أرسلنى لأُبلغك الحق الذي جئت به.

105 -

{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} : أَي إن رسول من رب العالمين محقق الرسالة ثابِتها، ورسالتى قائمة على أن لا أَقول على الله إلا الحق، أَو حقيق بمعنى حريص أي: حريص على أن لا أَقول على الله غير الحق والصدق فلا إِهمال ولا تفريط.

أو المعنى: جدير بأن لا أَقول على الله إِلا الحق فتكون (على) في قوله تعالى: {عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ}

إلخ. بمعنى الباءِ إذ أَن كلا منهما يأْتى مكان الآخر.

ص: 1482

{قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} : أَي قد جئتكم بآيات بينة واضحة الدلالة على صدق رسالتى من عند خالقكم ومربيكم الرحيم بكم فكانت صادقة لذلك.

{فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} : أَي فخل يا فرعون أَمر بني إِسرائيل وأَطلق سراحهم ولا تعترض طريقهم وأَخرجهم من دائرة قهرك واتركهم أَحرارًا يعبدون الله وحده ولا تعذبهم.

{قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)} .

المفردات:

{ثُعْبَانٌ} : هو الذكر من الحيات.

{مُبِينٌ} : بَيِّنٌ ظاهرَ لا يشك أَحد في أَنه ثعبان.

{وَنَزَعَ يَدَهُ} : أَي وأَخرج يده من جيبه.

{بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي: بيضاء بياضًا خارجًا عن العادة يجتمع الناس عليه لينظروه تعجبًا من شدته.

التفسير

106 -

{قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : أي قال فرعون لموسى حين قال له ما قال: إِن كنت يا موسى جئت بمعجزة واضحة الدلالة من عند إلهك الذي أَرسلك كما تدعى {فَأْتِ بِهَا} : أَي فأَحضرها وأَظهرها لنا، إِن كنت في دعواك الرسالة من جملة الصادقين وفي عدادهم.

ص: 1483

107 -

{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} : أَي فأَلقى موسى عصاه على الأرض فور طلب فرعون ففاجأَتهم بكونها ثعبانًا عظيم الجثة مفزعًا لا يشك أَحد في أَنه ثعبان يسعى ويتحرك حقيقة لا متخيلا كما في سحرهم، وذلك لظهور أَمره ووضوح شأْنه. وتلك هي الآية الأُولى المؤيدة لصدقه، ثم بيَّن القرآن الكريم الآية الثانية بقوله:

108 -

{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} : أَي وأَخرج موسى يده من جيبه بعد أَن أَدخلها فيه أَمامهم على لونها الأَصلى فإِذا هي بعد إخراجها منه قد تغيرت على الفور من لونها الأَسمر إِلى لون أَبيض خارج عن العادة، جعل الناس ينظرون إليها وتتعجبون من أَمرها.

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)} .

المفردات:

{لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} : لساحر ماهر عظيم العلم في سحره يأْتى بأَفعال عجيبة.

{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} : أَي أرجئهما وأَخرهما لننظر في أَمرهما.

{الْمَدَائِنِ} : أَي المدن حيث يوجد السحرة.

{حَاشِرِينَ} : جامعين.

التفسير

109 -

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} : أَي قال الرُّؤساء أصحاب الرأْى من قوم فرعون حينما جاءهم موسى بالآية التي طلبها فرعون - قالوا - فزعًا وخوفًا ومجاراة لفرعون: إِن هذا الذي يدعى أَنه رسول رب العالمين لساحر ماهر في سحره بلغ الغاية في إتقانه.

ص: 1484

110 -

{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} : صَدْرُ هذه الآية من جملة حديث الملأ لفرعون، أَي وقالوا له أيضًا: يريْد موسى الساحر الماهر أَن يخرجكم من أَرضكم - مصر - بسحره العظيم، لينتزع ملكها من أَيديكم، ويرثها من بعدكم {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}: أَي قال فرعون بعد أن سمع مقالة أَصحاب الرأَى من قومه فبأَى أَمر تأَمرون وبأَى رأْي تشيرون في شأن موسى؟

111 -

{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} : أَي قال أَصحاب الرأْى - إِبداء للمشورة التي طلبها فرعون منهم أَخر القضاء في أَمرهما حتى يتضح للناس أَنهما ساحران حين ظهر عليه بسحرنا، وأَشاروا عليه بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله:

{وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} : أَي وابعث في مدائن مصر وقراها رجالا يجمعون السحرة من حيث يوجدون ويحضرونهم إِليك كما قال تعالى:

112 -

{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} :

أَي: يجيئوك بكل ساحر ماهر بلغ الغاية في إتقانه علم السحر.

{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)} .

التفسير

113 -

{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} : تحكى هذه الآية أَن فرعون عمل بمشورة ملئه، فاستدعى السحرة من المدائن، فجاءُوه وقالوا له:{إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} : أي هل يكون لنا أجرٌ مؤَكد، إن تحققت لنا الغلبة بسحرنا على موسى يريدون بسؤَاَلهم هذا أَن يتحققوا من أَن لهم أجرًا على سحرهم إِن غلبوا، حتى يبذلوا الجهد الموصل إلى تلك الغاية بزعمهم، والاستفهام في الآية ملاحظ، وقرىء:

ص: 1485

{أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} : بإِظهار همزة الاستفهام، وقد أَجابهم فرعون على استفهامهم هذا بما يطمئنهم على أَن لهم أَجرًا مؤَكدًا، وذلك فيما حكاه الله بقوله:

114 -

{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} : أَي قال فرعون استجابة لهم: نعم لكم ما طلبتموه من الأَجر، وإِن لكم عندي زيادة على ذلك المكان القريب والمنزلة الرفيعة، فلا أَقف في تكريمكم عند إِعظام أَجركم وإِغداق المال عليكم.

وإِنما أَعلمهم بالأَجر والزلفى عنده قبل أَن يباشروا سحرهم، تحريضًا لهم على بذل الوسع في عمل السحر عند التقائهم بموسى عليه السلام.

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} .

المفردات:

{وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} : بالغوا في إِرهابهم وتخويفهم.

التفسير

115 -

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} : أَي قال السحرة عند مواجهتهم لموسى في ساحة التحدى: يا موسى إما أَن تلقى عصاك التي تنقلب حية قبلنا، وإِما أَن نكون نحن الذين نلقى حبالنا التي تنقلب أَفاعى قبل إِلقائك، وكان هذا التخيير في البدءِ، ناشئًا عن ثقتهم بالغلبة، سواء أَتأَخروا عنه أَم تقدموا عليه فكأَنهم قالوا: إِن أَمرك لا يهمنا فالغلبة لنا عليه، سواء أَبدأت أَم كنا نحن البادئين.

116 -

{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} :

أَي: قال لهم موسى عليه السلام استهانة بشأْنهم ووثوقًا بتأْييد الله - تعالى - له

ص: 1486

{أَلْقَوْا} : أَي ابدأَوا بإِلقاء ما تريدون إلقاءَه فسترون ما يحل بكم من افتضاح أَمركم وظهور كذبكم وتمويهكم.

{فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} : أَي فلما أَلقى السحرة ما عندهم من حبال وعصى صرفوا أَعين الناس عن إِدراك حقيقة هذه الأَشياءِ لكثرة ما أَتوا من أُمور عجيبة وتمويهات كثيرة أَثرت على الناس تأَثيرًا نفسيا بالغًا فخفيت عليهم الحقائق حتى خيل لهم مالًا حقيقة له كأَنه حقيقة، وأَرهبوهم بذلك إِرهابًا شديدًا وملأُوا قلوبهم رعبًا وخوفًا.

{وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} أَي: وأَتوا في باب السحر بأَنواع كثيرة وأَعمال عجيبة خيل للناظرين أَنها حقائق ثابتة: وليست كذلك فكان سحرهم عظيمًا عندهم لا في واقع الأمر.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} .

المفردات:

{تَلْقَفُ} : أَي تأْخذ وتبتلع بسرعة.

{مَا يَأْفِكُونَ} : ما يكذبون ويموهون الحقائق بقلبها - والإِفك في الأَصل قلب الشىء عن وجهه ومنه قبل للكذاب أَفاك لأَنه يقلب الكلام عن وجهه الحق إِلى الباطل.

{فَوَقَعَ الْحَقُّ} : ثبت وظهر.

{وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : ظهر بطلان السحر الذي كانوا يعملونه.

{وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} : وعادوا من مبارزة موسى مستسلمين وصاروا أَذلاء.

ص: 1487

التفسير

117 -

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} :

أَي: وبعد أَن أَلقى السحرة حبالهم وعصيهم، وجاءُوا بأَنواع كثيرة من السحر البارع الذي سحروا به أَعين الناس، وخيل، لهم ما خيل، وأَرهبوهم إِرهابًا شديدا.

بعد ذلك أَمر الله - تعالى - موسى عليه السلام بطريق الوحى تقوية لعزمه، وتسكينًا لروحه وإِذهابا للخوف عنه - أَمره - أَن يلقى عصاه فأَلقاها.

{فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} : أَي فإِذا هي حية عظيمة. تلتقم وتبتلع في سرعة فائقة عجيبة ومخيفة ما قلبوه واختلقوه من السحر.

118 -

{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : أَي فثبت وظهر بهذا أَن آيات الله لا تقف دونها الأَباطيل، وأَن موسى رسول رب العالمين، الذي أَعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى، بعثه الله إِلى فرعون بالحق المبين، وبطل بهذا التأْييد من الله ما كان يعمله الساحرون.

119 -

{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} : أَي فانهزم هؤلاء السحرة أَمام صدق موسى عليه السلام ومعجزته الواضحة التي جاء بها في المكان الذي وقع فيه بحضرة بحضرة تلك الحشود الكثيرة التي جمعها فرعون لشهود ما يجرى بين موسى عليه السلام وعلماء السحر يوم الزينة وقت الضحى، ورجع أولئك السحرة صاغرين أَذلاء لهزيمتهم، بعد ما كانوا يزعمون أَنهم هم الغالبون.

120 -

{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} : أَي فخر السحرة وقوعًا على وجوههم بقوة - كأَنما أُلقوا من علو ساجدين لله رهبة وخشوعًا، مؤمنين برب موسى مصدقين برسالته حينما وضح الحق لهم، كما قال تعالى - حكاية عنهم.

122،121 - {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}:

ص: 1488

: أَي وبعد أن تيقنوا أَن ما شاهدوه من أَن أَمر عصا موسى لا يمكن أَن يجىء من السحر. قالوا آمنا وصدقنا برب جميع المخلوقات ومبدع الكائنات وهو رب موسى وهارون الذي بعثهما إِلى فرعون وملئه بالقول اللين والحجة الواضحة وجاءَ تصديقهم غير مقتصر على ذكر وصفه تعالى بأَنه رب العالمين - بل ذكروا أَيضًا فيه - رب موسى وهارون دفعًا لتوهم أَنهم أَرادوا - فرعون - إذ حكى القرآن عنه قوله لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (1).

كما لم يكتفوا بذكر {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} خَشية أَن يتوهم معاند: أَن لموسى وهارون ربًّا سوى رب العالمين.

{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} .

التفسير

123 -

{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} :

أي: قال فرعون حينما آمن السحرة بموسى وصدقوا برسالته - قال - موبخا لهم ومهدِّدًا، أَقدمتم أَيها السحرة على التصديق بموسى والإِيمان بالإِله الذي دعاكم إِلى عبادته وتوحيده - أَقدمتم على ذلك بغير إِباحة مني وبدون رضاى فلسوف ترون ما أنزله بكم من العقاب الذي لا طاقة لكم به.

وكلام فرعون للسحرة يحتمل الإِخبار ويحتمل الاستفهام التوبيخى على جرأَتهم على الإِيمان به قبل أَن يأْذن لهم، تمهيدًا لوعيده الآتى لهم، وعلى الاستفهام تقدر الهمزة قبل آمنتم، وحذف حرف الاستفهام معهود في لغة العرب.

(1) سورة النازعات من الآية: 24

ص: 1489

{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} :

أَي إن إِيمانكم بموسى لم يقع منكم لوضوح حجته وصدق معجزته بل هو حيلة احتلتم بها وخديعة اتخذتموها بالاتفاق مع موسى في مدينة مصر لتخرجوا منها سكانها الأَصليين - القبط - فيزول ملكهم وتدول دولهم ويستقر لكم الأَمر من بعدهم.

وقد قصد الطاغية بهذا الأُسلوب: أَن يلقى في أَسماع عامة القبط بشبهتين:

الأُولى: أَن إِيمان السحرة كان بناءً على اتفاق سابق وتواطُؤ موسى.

الثانية: أَن ذلك كان لإخراج أَهل مصر من ديارهم، وقصده تثبيت أَهل مصر على ما هم عليه من عبادته والخضوع له وإِذكاء نار عداوتهم لموسى وحقدهم عليه إِذ ليس أَشق على النفوس من مفارقة الأَديان، وترك الأَوطان.

وبعد أَن أَلقى بهاتين الشبهتين توعد السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام فقال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} :

أَي فسوف تعلمون الأَهوال التي سأُنزلها بكم جزاءَ إِيمانكم بموسى وتواطئكم معه.

وقد عَقَّب وعيده المجمل بتفصيله كما حكاه الله تعالى بقوله:

124 -

{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} : أَي لأَقطعن اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أَو بالعكس.

{ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} : أَي ثم بعد تقطيع أَيديكم وأَرجلكم على الوجه المتقدم لأَربطنكم بالحبال على جذوع النخل، كما قال تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} (1).

وغرض هذا الأَثيم من صلب السحرة بعد تقطيع أَطرافهم زيادة التنكيل بهم، وأَن يكونوا عبرة لغيرهم.

(1) سورة طه الآية: 71

ص: 1490

{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} .

المفردات:

{مُنْقَلِبُونَ} : راجعون.

{أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} : أَفِضْهُ علينا وعُمَّنا به.

التفسير

125 -

{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} :

أَي: إِننا إِلى نعيم ربنا الدائم وثوابه الجزيل ورحمته الواسعة لصائرون إِذا نفذت فينا وعيدك. فعجل كى تتحقق أَحب الأَمانى إِلى قلوبنا أَلا وهي الفوز بلقاءِ ربنا. وهذا أَسمى ما ترقى إليه درجات الإِيمان والثبات على الحق.

أَو المعنى: إِننا جميعًا إِلى جزاءِ ربنا لراجعون بالموت لا محالة بأَى سبب سواء أكان بطريقتك أَم بغيرها، فلن يزيدنا هذا التهديد إِلا إيمانًا.

أَو المراد: إِننا جميعًا نحن وأَنت إِلى حساب ربنا لراجعون بالموت فمصيرنا ومصيرك إِليه تعالى. فيحكم بيننا بالحق وهو خير الحاكمين.

126 -

{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} : أَي وما تنكر منا وما تعيب علينا أَمرا من الأُمور وفعلا من الأَفعال سوى إيماننا بربنا - وهو الحق - وتصديقنا بآياته البينات حينما جاءَتنا واضحة هادية إِلى الخير على يد موسى عليه السلام فصدقنا بها وآمنا برب العالمين رب موسى وهارون.

والإِيمان باللهِ خير الأَعمال وأَساس كل سعادة، وأَصل المفاخر، فلا نَعدِلُ عنه أَبدًا، طلبًا لمرضاتك يا فرعون ورغبة في رحمتك، أو خوفًا من عقابك.

ص: 1491

وتقريرًا لما في قلوبهم من قوة الثبات على ما قالوه رغبوا عن خطاب فرعون ولجأُوا إلى الله يطلبون منه صبرًا جميلًا، وثباتًا على الإسلام إِذ قالوا:

{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} :

أَي: يا ربنا أَفِضْ علينا صبرًا عظيما صادقًا يغمرنا كما يغمر الماء الذي يصب بغزارة ما ينزل عليه - صبرًا - يكون عونًا لنا على تحمل الشدائد عند تنفيذ وعيد فرعون كى لا نعود بعد الإيمان كفارًا، وأَمِتْنا ثابتين على الإِسلام غير مفتونين بوعيد فرعون.

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)} .

المفردات:

{أَتَذَرُ مُوسَى} : أَي أَتترك موسى.

{وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} : ونستبقى نساءهم أَحياءً.

التفسير

127 -

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} :

أَي وقال أَصحاب الرأْى من قوم فرعون حين شاهدوا صدق موسى وغلبته وإِيمان السحرة به وظهور أَمره. قالوا يحرضون فرعون على إيذاء موسى ويشيرون عليه بمطاردته. والتخلص منه ومن أَتباعه: أتترك موسى وقومه أَحرارًا آمنين يعيثون في أَرض مصر فسادًا يصرفون الناس عن اتباعك ويحولونهم عن عبادتك. ويترك هو تعظيمك وتعظيم آلهتك التي شرعت لهم عبادتها، وجعلت نفسك الإِله الأَكبر لهم. كما حكاه القرآن عنه في قوله:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (1) إن هذا لا ينبغى أَن يكون كما زعموا.

(1) سورة النازعات، من الآية: 24

ص: 1492

وأُضيفت الآلهة إِلى فرعون لأَنه الآمر بعبادتها لتقربهم إِليه.

ويجوز أَن تكون له آلهة كان يعبدها مثل الشمس والكواكب، فأُضيفت إليه آلهته، إِضاقة المعبود للعابد، وأَما قوله تعالى حكاية عنه:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فيحملان على أَنه كان يؤله نفسه زاعمًا أَنه يمثل الآلهة السماوية، وأَنه بذلك يكون إِلههم الأَعلى من البشر، وأَنه لا يعلم لهم إِلها يستحق أَن يعبد سواه، لأَنه يمثل الآلههَ، ومثل هذا الاعتقاد موجود في اليابان، حيث يزعم الإِمبراطور أَنه يمثل الآلهة، ولذلك يعبده قومه الذين هم على مذهبه، وبعد أَن استعدى الملأُ فرعون على موسى وقومه بني إِسرائيل أَجابهم بقوله:

{سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} :

أَي: قال فرعون للملأ من قومه تهديدًا لقوم موسى سنعيد سيرتنا الأُولى معهم فنفعل بهم ما كنا نفعله من قبل فنقتل الذكور عند ولادتهم ونستبقى النساء أَحياء ليزدادوا بهن ضعفا، وليعلم موسى ومن معه أَننا ما زلنا الأقوياء الغالبين، وأَنهم ما زالوا الأَذلاء المقهورين كما قال تعالى:{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} : أَي وإِننا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان لم يتغير لنا حال ولم يتبدل لنا نظام.

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} .

التفسير

128 -

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} :

ص: 1493

لما سمع أَتباع موسى عليه السلام، وعيد فرعون وتهديده الذي مر بيانه، ملأ الخوف والفزع قلوبهم فدعاهم إِلى الاستعانة بالله وأَمرهم بالصبر ووعدهم النصر كما حكاه القرآن الكريم في هذه الآية.

والمعنى: قال موسى عليه السلام للمؤمنين به تثبيتًا لقلوبهم وتسلية لهم اطلبوا العون من الله فإِنه وحده القادر على إهلاك أَعدائكم الطغاة الظالمين، واثبتوا على الإِيمان والطاعة واصبروا على أذى فرعون وقومه ولا تجزعوا.

{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} :

أي: اصبروا ولا تجزعوا لأَن الأَرض ملك خالص لله وحده وفي قبضته. يمنح الحكم فيها من يشاء من عباده، فلا تجزعوا لوعيده، فسوف ينجيكم الله بنزع الملك منه، وتوريث الأَرض لمن يشاء توريثه إِياها من عباده، والعاقبة الحميدة لمن يتقى الله. وستكون لكم هذه العاقبة بالنجاة، وسيأْتى الحديث عن عاقبتهم.

وفي حزن عميق ومسكنة شديدة رد بنو إسرائيل على موسى فيما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى:

129 -

{قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} :

أَي قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أُوذينا من فرعون وقومه من قبل أَن تأْتينا برسالتك - أُوذينا - بقتل أَبنائنا وبسائر انواع العذاب والاضطهاد، وأُوذينا من بعد ما جئتنا رسولا بكل أَلوان الظلم والجور والاستعباد مع توعده لنا بمزيد من قتل الأَبناء واستبقاءِ النساءِ أَحياء مبالغة في إِذلالنا، ونكاية فيك يا موسى.

{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} :

أَي قال موسى عليه السلام لبنى إسرائيل تسلية لهم وتطييبًا لقلوبهم، وبعثًا للأَمل في نفوسهم: عسى ربكم أَن يدمر عدوكم الذي أَذاقكم العذاب أَلوانا بالقتل والعسف

ص: 1494

والجور، ويجعلكم خلفاء في أَرض مصر ولعل هذا الوعد الكريم يشير إلى حكمهم لمصر في عهد يوسف عليه السلام (1).

{فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} :

أَى فيرى ربكم كيف تعملون في عبادته ومعاملة خلقه حين تحكمون مصر، أَتتبعون سبيل الرشاد فتنجوا وتسعدوا؟ أَم تسلكون سبيل الغى والفساد فتؤاخذوا.

ثم بدأَ الله تعالى يحدثنا عن النذر التي سبقت عقابه لفرعون وآله بالإِغراق في اليم وهو مُليم فقال:

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)} .

المفردات:

{بِالسِّنِينَ} : السنون جمع سنة والمراد بها هنا القحط والجدب، يقال أصابتهم سنة أي جَدْبٌ.

{الْحَسَنَةُ} : كل خير والأَقرب هنا السعة والخصب.

{سَيِّئَةٌ} : السيئة كل ما يسوء والأَقرب هنا الجدب والقحط.

{يَطَّيَّرُوا} : يتشاءموا.

{طَائِرُكُمْ} : يطلق الطائر على الحظ والنصيب والعمل والرزق.

(1) أو لعله يشير إلى حكهم سابقا في أرض فلسطين، فقد كانوا فيها خلفاء لمن قبلهم، فيكونون قد وعدوا بإهلاك عدوهم، وبإبدالهم من بعد العبودية في مصر، ولاية الحكم في فلسطين، وصدْق هذا الوعد أو ذاك يتحقق ولو بمرة، وقد أزال الله دولتهم لبغيهم، وقطعهم في الأرض أمما، فخسروا استحقاقهم الوعد بميراثهم الأرض.

واحتمال ميراثهم حكم فلسطين - مؤقتا - هو الأقرب إلى قوله تعالى "وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" وسيأتي قريبا الكلام عليها.

ص: 1495

التفسير

130 -

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} :

أي والله لقد أَصبنا فرعون وقومه بالقحط الشديد والجدُوب المتراكمة. وأَنقصنا من ثمرات زروعهم وبساتينهم بتسليط الآفات والأَمراض التي فتكت بأَكثرها لعلهم يتعظون ويتدبرون في أمرهم. فيعلموا أَن ما نزل بهم إِنما هو بسبب كفرهم وطغيانهم فيرجعوا عما هم عليه من العتو والفساد، ويؤمنوا بالله الواحد القهار، فإِن الشدة ترقق القلوب، وترَغِّب فيما عند الله - تعالى - وتفتح أَبواب الضراعة إِليه. كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} (1) ولكنهم لم يتعظوا وظلوا في طغيانهم يعمهون.

131 -

{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} :

أَي: فإِذا جاءَت هؤلاءِ المكذبين بموسى السعة وأَثمرت أَراضيهم وتوالت عليهم الخيرات قالوا هذا حق لنا قد جاءَ لأَجلنا، أَصابنا عن استحقاق له وجدارة به، ينكرون بذلك إِنعام الله عليهم وإِحسانه إِليهم.

{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} :

أَي: وإِن تنزل بهم الخطوب والأَمراض، ويحل بهم الجدب والقحط يتشاءَموا بموسى ومن معه، وينسبوا ذلك إِليهم، ويقولوا ما حلت بنا الكوارث، وما أَصابتنا النوازل إلا بشؤم موسى ومن معه. وذلك لقسوة قلوبهم وتركهم التدبر في الآيات والنذر.

{أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} : أَي أَلا إن ما قدر لهم من الخير والسعة، وما أَصابهم من السوءِ والبلاءِ، إِنما هو من عند الله وبتقديره، وليس شرهم بسبب موسى وقومه، ولا خيرهم باستحقاقهم، وكل من الشر والخير ابتلاءٌ من الله تعالى لعباده، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} .

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : أَي ولكن أَكثر هؤلاءِ الطغاة الجبارين جهلاء لا يعلمون أن ما حل بهم من الشدائد والنوازل ما هو إِلا بلاءٌ من عند الله وحده بسبب ذنوبهم واستعلائهم في الأَرض بغير الحق ليزدجروا، لا بسبب موسى ومن معه. وما أَصابهم من الخير ما هو إلا فتنة لعلهم يتذكرون ربهم فيشكرون.

(1) سورة فصلت، من الآية: 51

ص: 1496

وقد صدرت جملة - ألا إِنما طائرهم - بأَلا التي للتنبيه لإِظهار كمال عناية القرآن الكريم بردّ قولهم الباطل وزعمهم الفاسد.

وأَصل التطيُّر من الطِّيرَة، وقد كانوا إذا أَرادوا سفرًا أو فعل أَي شيءٍ أَثاروا الطير.

فإِن اتجه يمينًا تفاءَلوا وأَقدموا على ما أَرادوا سفرًا كان أم غيره. وإِن اتجه شمالًا تشاءَموا وقعدوا. ثم كثر استعماله في معنى التشاؤم.

وقد كانت العرب تتيامن بالسانح - وهو الذي يأْتى من جهة اليمين - وتتشاءَم بالبارح - وهو الذي يأْتى من جهة الشمال - وكانوا يتطيرون ويتفاءَلون بغير ذلك فسموا توقع الشر ممّا يزعمون تطيرًا، وسموا توقع الخير مما يزعمون تفاؤلًا، مع أَن كلًا من عند الله. وليس للطير وغيره دخل في قدر الله تعالى.

{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)} .

التفسير

132 -

{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} :

أَي وقال فرعون وآله بعد ما رأَوا من أَمر العصا والسنين ونقص الثمرات وعاينوا ما عاينوا ولم يعتبروا - قالوا بعد ذلك - أَىُّ آية تأْتينا بها يا موسى وإِن عظمت وكثرت لتسحر أَعينَنا بها وتموه عينا وتصرفنا عن ديننا فلسنا لك بمصدقين ولا برسالتك مؤمنين.

{مَهْمَا} : اسم شرط، {تَأْتِنَا}: فعل الشرط، و {مِنْ آيَةٍ}: بيان وتفسير للضمير في {بِهِ} وجواب الشرط {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} - وسموا ما يأْتى به موسى آية - مجاراة لتسمية موسى مع قصد السخرية والاستهزاءِ.

ص: 1497

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)} .

التفسير

133 -

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ

} الآية:

أَي: فعاقبنا فِرعون وقومة بأَنواع أُخرى من العقوبات لا أَصروا على الكفر ولم يعتبروا بما رأَوا من الآيات.

وتلك العقوبات - هي:

1 -

إفاضة الماء الكثير وتسليطه عليهم حتى أَحاط بهم وملأَ بيوتهم وغطَّى أَرضهم وزرعهم. فأَتلف الزروع ومنع الناس من حرث الأَرض والسير في الطرق لقضاءِ حوائجهم وتدبير شئون حياتهم. وسلط عليهم:

2 -

الجراد الذي أَكل الزرع والغرس والثمار، وأَلحق بأَبواب بيوتهم وسقوفها التلف والدمار؛ وأَرسل عليهم:

3 -

الْقمَّلَ أَيضًا فملأَ ثيابهم وأَجسامهم وشعورهم وعيونهم - وهو الْقَمْل المعروف - وكذلك أَرسل عليهم:

4 -

الضفادع فملأَت المنازل والمضاجع والَاّطعمة - والأَشربة حتى أَقلقتهم وصاروا لا يطيقون الحياة معها. وأَيضًا أَصابهم:

5 -

الدم الذي اختلط بالماءِ فصاروا لا يستسيغون شربه، أَو ابتلاهم بالرعاف، وكانت هذه الآيات مفصلات، أَي بيّنات واضحات الدلالة على أَنها عقوبات لهم على كفرهم وبغيهم لا يشتبه في ذلك عاقل، وقيل: إِن تفصيلها هو تفريقها في أَزمان مختلفة، لامتحان أَحوالهم.

{فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} :

أَي: فاستكبر هؤلاءِ الطغاة عن الإِيمان بموجب آيات الله وصاروا باستكبارهم قومًا مبالغين في الكفر والعدوان ومصرّين عليهما.

ص: 1498

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)} .

المفردات:

{الرِّجْزُ} : العذاب.

{يَنْكُثُونَ} : ينقضون العهد بعد توكيده وأَصل النكث فك الغزل ثم استعير لنقض العهد كما هنا.

التفسير

134 -

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} :

أَي ولما نزل بفرعون وقومه العذاب الشديد لجأُوا إِلى موسى يطلبون منه أَن يدعو لهم، ويتوسلون إِليه بالنبوة التي هي عهد الله عنده، أَو يطلبون منه الدعاءَ المستجاب الذي هو عهد الله عنده، ووعدوه إِن دعا لهم أَن يؤمنوا به، ويرسلوا معه بنى إِسرائيل، ليذهبوا معه حيث شاء.

ثم بيّن القرآن الكريم أَنهم لم يوفُوا بعهدهم ولم يَبَرُّوا بقسمهم بعد أَن كشف الله عنهم ما نزل بهم من ضر، كما قال تعالى:

135 -

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} :

أَي فلما كشفنا عنهم ما نزل بهم من العذاب ورفعنا عنهم الضرَّ ورحمناهم بذلك إِجابة لدعاءِ موسى عليه السلام ونجيناهم إِلى وقت محدودٍ هم واصلون إِليه يعذبون بعده

ص: 1499

بأَنواع المصائب، ثم يهلكون إِن لم يؤمنوا وفاءً بعهدهم لموسى فلما كشفنا عنهم العذاب المذكور، إِذا هم يسارعون إِلى نقض العهد الذي وثقوه على أَنفسهم بالقسم حين قالوا لموسى:{لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} - إِذا هم ينقضون العهد - ويعودون إِلى اللجاج فيما كانوا فيه من التكذيب والطغيان من غير تدبر ولا تفكير.

136 -

{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ في الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} : أَي فعاقبناهم بسبب نقض العهد وعودهم إِلى تكذيب الآيات وارتكاب المعاصي والآثام، وكان هذا الانتقام هو إِغراقهم في البحر بإِطباقه عليهم حين أَرادوا اللحاق بموسى وهو يعبره بقومه إِلى سيناءَ بعد أن انشق له بضربة من عصاه، ثم صرح القرآن بسبب إِغراقهم في قوله تعالى:

{بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} :

أَي كان إِغراق الله لهم في البحر بسبب تكذيبهم بآيات الله التي ساقها إِليهم مفصلة، آية بعد أُخرى لعلهم يعقلون، ولكنهم كانوا عنها غافلين، فلم يتدبروا فيها، ونقضوا العهد الذي قطعوه على أَنفسهم بالإِيمان إِن كشف الله العذاب عنهم، وقد مرّ بيانه وهو عذاب الطوفان والجدب والجراد والقمل والضفادع والدم، وفي هذه القصة زجر للمكذبين بنبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم الجاحدين لآياته.

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)} .

المفردات:

{وَتَمَّتْ} : تحققت ومضت.

ص: 1500

{كَلِمَتُ رَبِّكَ} : وعد ربك بالنصر.

{الْحُسْنَى} : تأْنيث الأَحسن صفة للكلمة.

التفسير

137 -

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} :

أَي وبعد أَن أَغرق الله فرعون وقومه في البحر أَورث بني إِسرائيل الذين ظل فرعون زمنًا طويلا يطاردهم ويستذلهم ويستعبدهم ويذبح أَبناءهم، أَورثهم الأَرض التي عبروا البحر إِليها مع موسى ومكّن لهم بالتصرف في جوانبها الشرقية والغربية التي بارك الله فيها بالخصب وسعة الأَرزاق - مَكَّن لهم ووسع عليهم - بعد أَن أَذاقهم فرعون الهوان أَلوانًا، وهذا لطف عظيم من الله بهم وإِحسان جميل إِليهم.

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} : أَي وتحقق وعد الله - تعالى - الخالق الرزاق لبنى إِسرائيل بالنصر والتمكين في الأَرض. وهو ما جاءَ في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (1). وذلك بسبب صبرهم على إِيذاءِ فرعون لهم وتعذيبه إِياهم تنفيذًا لما أَوصاهم به موسى بقوله: {اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا} .

{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} :

أَي وأَهلكنا ما كان يشيده فرعون وقومه من القصور والصروح والعمارات، وما كانوا يهتمون بغرسه من البساتين والجنَّات.

وتلك نهاية عادلة لطغيان فرعون واستعلائه في الأَرض بغير الحق وفيها إِنذار لكل من يسير على دربه.

وفي الآية دعوة قوية إلى الصبر على البلاءِ. إِذْ كان صبرهم على الخطوب طريقًا إِلى تفريج الكروب.

(1) سورة القصص الآية: 5

ص: 1501

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)} .

المفردات:

{وَجَاوَزْنَا} : وعبرنا وقطعنا بهم البحر.

{فَأَتَوْا} : مَرُّوا، {يَعْكُفُونَ}: يقيمون ويلازمون.

{مُتَبَّرٌ} : هالك {وَبَاطِلٌ} : ومضمحل زائل.

التفسير

138 -

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ .. } الآية.

بعد أَن بين القرآن هلاك فرعون بطغيانه، وتحدث عن إِنجاءِ الله بنى إِسرائيل من ظلمه، وإِنعامه عليهم بنعم لم يعطها أُمة قبلهم - كانت تستوجب الشكر والطاعة - شرع يبيّن ما أَحدثوه من الأُمور الشنيعة كعبادة البقر وطلبهم رؤية الله جهرة وغير ذلك.

وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّا رآه من الكفار ويهود المدينة وإِيقاظًا للمؤمنين حتى لا ينسوا محاسبة أَنفسهم ومراقبة أَحوالهم.

والمعنى: وعبرنا ببنى إِسرائيل البحر إِلى شاطئه الشرقى، وسلكناه بهم بعد أَن انفلق وانشق بضربة من عصا موسى عليه السلام والمراد بالبحر هنا البحر الأَحمر.

والمراد به جزؤُه المسمى الآن بخليج السويس. إِذ العبور كان من الشاطىءِ الغربى. حيث تقع مصر إلى الشاطىءِ الشرقى حيث توجد سيناء.

ص: 1502

{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} :

أَي: فمر بنو إِسرائيل على جماعة من الناس يقيمون ويواظبون على عبادة أَصنام صنعوها بأَيديهم ويلتزمون بتعظيمها وتقديسها.

{قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} :

أَي: قال بنو إِسرائيل لموسى حين شاهدوا هؤلاءِ الذين مروا عليهم يواظبون على عبادة أَصنام سموها آلهة: اصنع لنا إِلها نختص به وننفرد بعبادته يكون مماثلا لتلك الآلهة التي اختص بها هؤلاءِ وانفردوا بعبادتها من دون الله.

{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} : أَي قال موسى عليه السلام يرد عليهم متعجبًا مما طلبوه بعد ما عاينوا الآية الكبرى والنعمة العظمى. نعمة نجاتهم وإِغراق عدوهم، وكيف حدث ذلك بانشقاق البحر لهم وانطباقه على فرعون وقومه. قال موسى يرد عليهم: إِنكم قوم تتصفون بالجهل التام بما يتعلق بالله الواحد القهار، وتتسمون بالغباءِ الكامل إِذ لم تدركوا عظم نعمة الله عليكم.

ولم يكتف القرآن بوصفهم بالجهل والسفه بل أَكد ذلك ببيان مآل الباطل الذي عكف عليه هؤلاءِ في قوله:

139 -

{إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

أَي: إِن هؤلاءِ الذين عكفوا على عبادة الأَصنام واستمروا على الغلو في الضلال، مدمر وهالك ما انغمسوا فيه من الشرك والفساد، وذاهب كل باطل استمروا على عمله وحرصوا على فعله.

ص: 1503

{قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)} .

المفردات:

{أَبْغِيكُمْ} : أَطلب لكم.

{الْعَالَمِينَ} : جمع عالَم وهو ما سِوَى الله. والمراد هنا عالمو زمانهم وعصرهم.

{يَسُومُونَكُمْ} : يلزمونكم إِياه. يقال: سامه الأَمرَ يسومه.

كلفه إياه وأَلزمه به، وأَكثر ما يستعمل في العذاب.

{بَلَاءٌ} : اختبار.

التفسير

وبعد أَن وصف القرآن الكريم بنى إِسرائيل بالجهل في طلبهم إِلهًا خاصًا بهم كما كان لغيرهم آلهة، وبيّن لهم بطلان جميع أَعمالهم، أَنكر عليهم طلبهم ووبخهم على مسلكهم بقوله:

140 -

{قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} :

أَي قال لهم موسى عليه السلام إِنكارًا عليهم، وتوبيخًا لهم: أَغير الله المستحق للعبادة وحده أَطلب لكم معبودًا آخر من صنع البشر، أَو من مخلوقات الله في السموات والأَرض، وقد خصكم بنعم عظيمة لم يعطها غيركم من أَهل عصركم.

ثم زاد في توبيخهم بتذكيرهم بإنقاذ الله لهم من عذاب فرعون حيث لم يشكروا نعمته فقال تعالى:

ص: 1504

141 -

{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} :

أَي واذكروا وقت أَن أَنقذناكم وخلصناكم من شر فرعون وقوله الذين أَذاقوكم أَشد أَلوان العذاب وسخروكم في أَشق الأَعمال، وأَنزلوا بكم من الذل والهوان صنوفا، وذبحوا أَبناءَكم واستبقوا نساءَكم أَحياءً لتزدادوا ضعفًا وذلا وهوانًا.

{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} : وفيما أَصابكم من سوء العذاب وقتل الذكور واستبقاءِ النساءِ لخدمة أَعدائكم، مصاب عظيم وغم جسيم، فاذكروا نعمة الله عليكم، إِذ نجَّاكم من هذا كله، واشكروه على ذلك ليزيدكم من نعمه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} .

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} .

المفردات:

{مِيقَاتُ رَبِّهِ} : أَي الوقت الذي وقته ربه وحدده لمناجاته وتلقى أَلواح التوراة.

{تَجَلَّى} : انكشف وظهر، {دَكًّا}: أَي مدكوكًا مُنْهارًا مهدومًا {خَرَّ} : سقط.

{صَعِقًا} : مغشيًا عليه.

ص: 1505

التفسير

142 -

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} الآية.

أَي ووعد الله موسى بعد أَن نجاه وقومه من فرعون بعبور البحر - وعده - بإِنزال كتاب يهتدى به بنو إِسرائيل إِلى ما يصلح شئون دينهم ودنياهم ويبيَّن لهم الحلال والحرام ويكون ذلك بعد مضى ثلاثين لَيْلَةً يقضيها في التوجه إِلى الله بالصيام والعبادة. وقد أَكملها سبحانه وتعالى بعشر ليالٍ يخلص فيها موسى العبادة لله والمناجاة لخالقه، فتم الزمن الذي وقَّته ربه وحدده لحصول هذه النعمة له أَربعين ليلة، أَنزل الله التوراة بعدها عليه وكلمه عند انتهائها.

وتعبير القرآن الكريم عن الميقات بقوله: (ثلاثين ليلة) لأَن التوقيت كان بالحساب القمرى، وهو يعرف بالأَهلة. والهلال يرى بالليل، وقد استفيد من هذا التوقيت: أَن ضرب الأَجل للمواعدة، سُنَّةٌ ثابتة مضت، ومبدأ قديم أَسس الله عليه قضايا العباد وحكم به في شئون الأُمم وأَحوالها، كما استفيد منه أَيضًا أَن التأَنى في الأَعمال هو الطريق إِلى إِجادتها وإِتقانها. ولهذا أَقَّت الله تلك المدة الطويلة لموسى قبل مناجاته لربه، ليحسن الاستعداد لها.

{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} :

أَي وحين أَراد موسى التوجه لمناجاة ربه تنفيذًا لأَمره قال لأَخيه هارون: كن خليفة عنى في قومى، ترعى شئونهم وتدبر أُمورهم وتراقب أَحوالهم فيما يأْتون ويذرون، واعمل على إِصلاح عيشهم وحياتهم وعقيدتهم حتى أَرجع إِليهم، ولا تسلك طريق الذين انغمسوا في الغواية والفساد ولا تطعهم في ذلك بل ردّهم إلى الحقّ والصواب وبيّن لهم طريق الهدى والرشاد.

143 -

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} : أَي ولما جاء موسى إِلى الجبل، لأَجل ميقات ربه وموعد كلامه معه، قال: يا رب أَسأَلك أَن تمكننى من النظر لكي أَراك.

{قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} :

ص: 1506

أَي قال الله لموسى، جوابًا له: لن ترانى في دنياك، ولكن انظر إِلى الجبل، فإِن رأَيته سكن وثبت في مكانه فسوف ترانى.

وقد جاءَ هذا الاستدراك، لبيان أَنه لا يطيق رؤيته سبحانه وتعالى ولا يتحمل ذلك لعدم إِعداده بعد لتلك الحالة.

{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} :

أَي فلما ظهر كبرياءُ ربه وبدت عظمته وقدرته جعل الجبل مفككا مهدماً وسقط موسى مغشيًا عليه من هول ما رأَى وشدة ما عانى.

{فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} :

أَي فلما عاد إِلى موسى وعيه وفهمه وذهبت عنه تلك الشدّة قال تعظيما لله وإِجلالا لمقامه: أُنزهك يا رب عن مشابهتك لشىءٍ من خلقك وأُجلُّك عن أَن أَسأَلك شيئًا بغير إِذن منك، وأَنا أول من أَسلم وجهه لك في هذه الأُمة وآمن بكبريائك وعظمتك فيها.

والجبل قيل: إِنه جبل زبير أَو جبل أُردن.

وقد دلت الآية على أَن الله تعالى كلم موسى، وكلامه تعالى له، مخالف لكلام الحوادث، فليس بحرف ولا صوت ولا يعلمه إِلا الله تعالى وقد دلت الآية أَيضًا على أَن الله تعالى لم يمكِّن موسى من رؤيته، وليس هذا دليلًا على استحالة رؤيته، بل على عدم وقوعها لموسى في الدنيا، لأَنه لم يهيأْ لهذه الرؤية بالتكوين المناسب لها، فإِن رؤْية الحادث للقديم تحتاج إِلى تكوين مناسب لها، كما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وكما سوف يحدث للمؤمنين في الجنة، ولهذا قال سبحانه لموسى في رده عليه:{لَنْ تَرَانِي} ولم يقل لن يرانى أَحد، أَو لن أُرى من أَحد من خلقى.

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)}

المفردات:

{اصْطَفَيْتُكَ} : اخترتك.

ص: 1507

التفسير

144 -

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي .... } الآية.

أَي قال الله تعالى يخاطب موسى عليه السلام بأُسلوب النداءِ إعظامًا لقدره وإِعلاءً لمكانته: إِنى فضلتك على جميع الناس المعاصرين لك، باختيارك رسولا دون أَحد سواك وآثرتك عليهم بإِنزال التوراة تبيانا لطريق الخير وإرشادا إلى ما يأْتون وما يذرون كما آثرتك بكلامى إِياك من غير واسطة.

{فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} :

فتقبل ما أَنعمت به عليك من شرف الرسالة، وارض بنعمة المناجاة وطب نفسًا بجعلك من المصطفين الأَخيار الذين يبلغون رسالات ربهم، واندمج في عداد الشاكرين، بأَداءِ الشكر على تلك النعم بدوام الطاعة والخشوع والإِخلاص لله.

وهارون وإن أَرسله الله مع موسى ردءًا يشد به عضده ويصدقه إِلا أَنه كان مأْمورًا باتباعه، فلم يكن صاحب شريعة خاصة به، ولم يكن كليما لله.

وفي الآية تسلية عظيمة لموسى عليه السلام عن عدم إِجابته إِلى الرؤية التي طلبها.

فكأَنه - سبحانه - قال له: إِن مَنَعْتُكَ الرؤيةَ التي طلبتها فقد أَعطيتك نعمًا عظيمة لم يعط مثلها أَحد من أَهل زمانك فاحرص عليها، وثابر على شكرها بدوام العبادة وبذل الجهد في دعوة الناس إِلى شريعة الله.

{وَكَتَبْنَا لَهُ في الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} .

المفردات:

{وَكَتَبْنَا لَهُ في الْأَلْوَاحِ} : أَي وخلقنا له الكتابة فيها؛ والأْلواح الصحف التي كتبت فيها التوراة.

{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} : أَي فتناولها وتقبلها بجد وعزيمة.

ص: 1508

التفسير

145 -

{وَكَتَبْنَا لَهُ في الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} :

أَي وبينا لموسى في التوراة التي أَنزلناها عليه مكتوبة في الأَلواح والصحف من كل شيءٍ يحتاج إِليه بنو إِسرائيل لإِصلاح شئونهم في الدين والدنيا من المواعظ وتفصيل الأَحكام وبيان الحلال والحرام والحسن والقبيح وغير ذلك من أَنواع الهداية والإِرشاد.

{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} :

أَي وبينا لموسى عليه السلام كل شيءٍ في الأَلواح وقلنا له: فتقبلها يا موسى بصدق وتناولها بحرصٍ وعزيمة كما يفعل أُولو العزم من الرسل وأْمر بني إِسرائيل أَن يمتثلوا مواعظها، ويتبعوا أَحكامها وشرائعها البالغة غاية الحسن والكمال بالنسبة لهم: إِذ فتحت أَمامهم أَبواب سعادة الدنيا والآخرة.

ويلاحظ أَن التوراة الأَصلية فقدت في الغزو البابلى، أَما توراة اليهود التي بأَيديهم فهى من صنعهم وتأْليفهم {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}:

أَي: سأُرى قومك - بنى إِسرائيل - ديار الهالكين، من عاد وثمود وأَمثالهم من الذين خرجوا عن طاعة الله وعصوا أَمر ربهم.

والحكمة في ذلك بعثهم على الجد والاجتهاد في امتثال ما أُمروا به، وتحذيرهم من الكفر والعصيان حتى لا يحل بهم ما حل بأُولئك الذين مردوا على الفسوق والطغيان، لأَن رؤية الديار خالية من أَهلها، خاوية على عروشها تدعو إِلى مزيد من الحذر والاعتبار،

وقيل معنى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} : سأُورثكم حكم الوثنيين في تلك الديار التي هاجرتم إِليها، بدليل قراءة:"سَأُورِثُكَم دَارَ الفَاسِقِينَ". وقيل: المراد بدار الفاسقين جهنم فإِنها دارهم في الآخرة. وإراءتهم إِياها كناية عن إِدخالهم فيها، إِن عصوا التوراة.

وخوطب قوم موسى عليه السلام بقوله: - سأُريكم - دون قوله - سأُريهم - التفاتًا إِليهم بعد الغيبة، ليكون أَبلغ في حملهم على الطاعة والامتثال وتخويفهم من اتباع طريق الظالمين.

ص: 1509

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)} .

المفردات:

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} : سأُبعد عن التدبر في آياتى، والمراد سأَطبع على قلوبهم وأُغلقها بسبب كبريائهم.

{سَبِيلَ الرُّشْدِ} : طريق الحق، {سَبِيلَ الْغَيِّ}: طريق الضلال.

{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} : بطلت أَعمالهم فلم ينتفعوا بها.

التفسير

146 -

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ .. } الآية:

بعد تحذير قوم موسى من مخالفة التوراة، جاءَت هذه الآيات لتأْكيد هذا التحذير.

والمعنى: سأُبعد عن الانتفاع بآياتى المرشدة إِلى مصالح الدين والدنيا، أُولئك الذين يتطاولون في الأَرض على الناس، ويرون لأَنفسهم مكانة فوق مكانتهم، ويأْنفون من اتباع الحق إصرارًا منهم على التمسك بباطلهم {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا}:

أَي ومع تعاليهم على الناس في الأَرض إِن يسمعوا كل آية من الآيات التنزيلية، أو يبصروا أَي معجزة من المعجزات المشاهدة المرئية لا يصدقوا بواحدة منها، بل يكفرون

ص: 1510

بجميع ما رأَوا، إِمعانًا منهم في التكذيب والإِعراض، لانغلاق قلوبهم دون الهدى، إِذ أَساءُوا اختيار الطريق.

{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} :

أَي وإِن يبصروا ويعرفوا طريق الهدى والخير لا يتوجهون إِليه ولا يسلكونه. لاختيارهم الشياطين أَولياء لهم من دون الله.

{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} :

أَي وإِن يتضح لهم طريق الغواية والفساد والانحراف، بتحذيرهم منه، يختاروه لأَنفسهم مسلكًا مستمرًا لا يعدلون عنه، مع وضوح التحذير منه، كى يصلوا إلى تحقيق شهواتهم ومآربهم وإِشباع أَطماعهم.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} :

أَي ذلك التكبر وعدم الإِيمان واتباع طريق الغى والإِعراض عن طريق الهدى - ذلك فعلوه - بسبب كفرهم بآياتنا الدالة على صدق ما أَرشدنا إِليه ودعونا إلى التمسك به، وفساد ما أَقاموا على فعله من القبائح والمنكرات، وبسبب غفلتهم عن التأَمل في الحق الذي أَنزلناه، ولو أَنهم تدبروا ما جئنا به وعقلوه لما فعلوا الأَباطيل، ولما سلكوا طريق الشيطان وتأْكيدًا للتحذير قال تعالى:

147 -

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

أَي الذين لم يصدقوا بآيات الله الداعية إِلى الإِيمان المحذرة من الكفر والعصيان، وضموا إِلى ذلك إِنكارهم لمجىءِ الدار الآخرة ووقوع الجزاء فيها على الخير والشر - هؤلاءِ - بطل ما عملوه في الدنيا من بِرٍّ وصلة رحم وإِغاثة ملهوف وغير ذلك، ولا يجزون إلا على ما عملوه من الكفر والمعاصي، إِذ الشرط في قبول أَعمال الخير والإِثابة عليها في الآخرة تحقيق الإِيمان باللهِ وشرائعه قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (1).

(1) سورة النور: الآية 39

ص: 1511

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)} .

المفردات:

{جَسَدًا} : جسد عجل مصنوعًا من الذهب لا روح فيه.

{خُوَارٌ} : صوت البقر.

{سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} : ندموا ندمًا شديدًا لأَن النادم يعض يده ويسقط ذقنه فيها غما فتصير يده مَسقوطًا فيها.

التفسير

148 -

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ .. } الآية.

لما توجه موسى عليه السلام لمناجاة ربه وترك أَخاه هارون خليفة عنه في قومه بنى إِسرائيل يرعى شئونهم ويصلح أَحوالهم، ويدعوهم إِلى الثبات على الحق والهدى.

صنع لهم السامرى تمثالًا مجوفًا من الذهب على شكل عجل من البقر، وكان دقيق الصنع، ووضعه في مهاب الريح، فإِذا هبت أَحدثت صوتًا كخوار البقر، ثم قال لبنى إِسرائيل: هذا إِلهكم وإِله موسى، ودعاهم إِلى عبادته فعبدوه وتقربوا إِليه، وكان هارون يدعوهم إِلى عبادة الرحمن واتباع أَمره، فلم يستجيبوا له. وظلوا عاكفين على هذا حتى رجع إِليهم موسى، وقد حكى القرآن الكريم تلك الحالة في هذه الآية التي سنشرحها فيما يلى:

المعنى: واتخذ قوم موسى من بعد ذهابه عليه السلام لمناجاة ربه، اتخذوا من حليهم المصنوع من الذهب الخالص تمثالًا على سورة العجل، يحدث خوارا كخوار البقر وصوتا

ص: 1512

كصوته إِذا وضع في مهاب الرياح، بسبب ما وضعه في حلقه من أَداة تحدث هذا الصوت إِذا دخلت الرياح جوفه، وكان السامرى خبيرًا بهذا الفن، وهو الذي صنعه لهم، ودعاهم إِلى عبادته.

والمراد من اتخاذهم العجل إِما صنعه - وقد نسب إِليهم لرضاهم به - وإِما جعلهم إِياه إِلهًا بعد أَن صنعه لهم السامرى.

{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} : أَي ألم يدركوا حين أَقدموا على هذا المنكر أَن هذا العجل لا يتصف بصفة من صفات الأُلوهية ولا بحكم من أَحكامها إِذ كان لا يقدر على كلام ولا يرشد إِلى طريق، فضلا عن أَنه لم يصل إلى أَحط درجات الحيوان، فكيف يكون إلهًا شأنه أَن يخلق ويبدع ويحيى ويميت؟ ويتكلم ويهدى إِلى سبيل الرشاد.

{اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} أَي فعلوا ذلك المنكر الشنيع وكان شأْنهم الظلم، والاستمرار عليه دائما - ووضع الأشياءِ في غير موضعها الصحيح، فلم يكن اتخاذهم العجل إِلها بدعا وما كان أَول منكر فعلوه.

وكان هذا الاستفهام لتقريعهم على فرط جهالتهم وحماقتهم وسفاهة أَحلامهم وقد كرر القرآن ذمَّهم بذكر "اتخذوه" أَي العجل همزة ثانية للتنبيه على عظم جرمهم والتمهيد لوصفهم بالظلم.

149 -

{وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

أَي: ولما ندموا أَشد الندم على ما فعلوا من عبادة العجل ومخالفتهم تعاليم موسى وإِرشاد خليفته هارون، واستضعافهم إياه وهمهم بقتله، وعلموا أَنهم بفعل هذه المنكرات قد تنكبوا الصواب وجاوزوا طريق الهدى {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: أَي قالوا مقسمين والله لئن لم يغمرنا إِحسان ربنا ويتقبل توبتنا رحمة بنا، فيكفر عنا سيآتنا ويتجاوز عن خطيآتنا لنكونن من جملة الذين خسروا حسن العمل في دنياهم، وخير الجزاءِ في أُخراهم فكانوا في جهنم خالدين.

وفسِّر - سُقِطَ في أَيدِيهم - بما تقدم على طريق الكناية، لأَن النادم المتحسر يعض يده غمًّا وحزنًا فتصير يده مسقوطًا فيها. كما تقدم في المفردات.

ص: 1513

والمراد بقوله تعالى: {رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} علموا وتيقنوا ضلالهم. وإِنما عبر العلم بالرؤية للإِشارة إلى أَنهم تبيَّنوا خطأَهم بوضوح كامل حتى كأَنهم رأَوه بأَعينهم.

وما حكاه القرآن عنهم من الندم والرؤية، وما قالوه وإِن كان بعد رجوع موسى عليه السلام إِليهم من الميقات كما دلت عليه آيات سورة طه. لكن أُريد بتقديمه هنا على رجوع موسى أَن يكون ما صدر عنهم من اتخاذ العجل والندم عليه في موضع واحد، مسارعة إِلى تذكير أَهل مكة، بندم بنى إِسرائيل على اتخاذهم العجل الذهبى الذي يخور خوار البقر، فهم أَحق منهم بالندم على عبادة ما هو دون ذلك من الأَحجار، أَمَّا ما جاءَ في سورة طه فهو تفصيل كامل للقصة يقتضي وضع كل حادث في موضعه.

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا في رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)} .

المفردات:

{أَسِفًا} : شديد الغضب أَو حزينا.

{بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} : أَي بئس ما فعلتموه من بعد غيبتى.

{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} : أَي أَسبقتم ما أَمركم به ربُّكم من التوحيد فعبدتم العجل قبل أَن يعود موسى من ميقات ربه، ليكون أَمام الأْمر الواقع، يقال: عجل الأْمر سبقه

ص: 1514

{وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} : طرحها على الأَرض.

{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} : أَي وأَمسك بشعر رأْس أَخيه يجره به إِليه.

{فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} : أَي فلا تفعل ما يكون سببًا لشماتتهم بى.

التفسير

150 -

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا

} الآية:

أَي: ولما رجع موسى عليه السلام إِلى قومه من الميقات الذي ناجى فيه ربه - رجع - وهو شديد الغضب والحزن على ما أَحدثه قومه في غيبته من الردة وإِهمال وصاياه، وكان الله - تعالى - قد أَخبره وهو في مكان المناجاة بما أَحدثوه.

{قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} :

أَي: قال موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات يذم قومه جميعًا المؤمنين منهم والمرتدين: بئس ما أَحدثتموه أَيها المؤمنون وأَيها المرتدون. أَما ذمّه المؤمنين فلأَنهم لم يكفوا عبدة العجل عما فعلوه وأَما ذم المرتدين فلعودتهم إلى الشرك بعد أَن رأوا حرص موسى عليه السلام على دعوتهم إِلى توحيد الله، وترك الشرك، وإِخلاص العبادة لله وحده - وواجب الخلفاءِ أَن يسيروا على نهج المستخلف - فالخطاب للجميع ويجوز أَن يكون الخطاب لعبدة العجل فذمهم على ما أَحدثوه من تغيير شريعة الله، كما يجوز أَن يكون الخطاب لهارون والمؤمنين معه، فالَّلوْمُ لهم إِذ لم يمنعوا عبدة العجل مما فعلوا. أَي بئس قيامكم مقامى إِذ لم تراعوا عهدى.

{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} :

أَي أَسبقتم ما أُمرتم به من البقاءِ على ما أَوصيتكم به من التوحيد حتى أَعود إِليكم من الميقات بكتاب من عند ربكم، حين سارعتم إِلى مخالفة أَمرى فغيرتم دينكم وعبدتم العجل. وتراخى المؤمنون في نصحكم.

{وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} :

أَي وطرح موسى عليه السلام أَلواح التوراة جانبًا، ليتمكن من إِمساك أَخيه وتعنيفه حين رأَى قومه وقد فتنوا بالعجل فعكفوا على عبادته.

ص: 1515

{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} :

أَي: وأَمسك موسى بشعر رأْس أَخيه هارون يجذبه إِليه منه، لظنه أَنه أَهمل في توعية قومه وإِرشادهم وإِصلاح حالهم، ونهيهم عن الإِشراك باللهِ.

{قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} :

أَي قال هارون يدفع تهمة التقصير في نصحهم عن نفسه يا ابن أُمى: إِننى بذلت قصارى جهدى في ترشيدهم وتوضيح سوء العاقبة لما فعلوا، حتى قهرونى، واستضعفونى وهموا بقتلى واقتربوا منه.

{فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} :

أْى: فلا تفعل بي أَمام هؤُلاء الأعداء ما يكون سببا لشماتتهم بى وفرحهم فيما يصيبنى من إِيذاءٍ وتعنيف.

والشماتة فرح العدو فيما يصيب عدوه من مكروه.

{وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :

أَي ولا تنظمنى بغضبك علىَّ في سلك الذين ارتكبوا أَقبح الظلم بعبادة العجل، ونقض العهد والفساد في الأَرض، ولا تجعلنى في عدادهم مع براءَتى من جرائمهم، وفيا بما استخلفتنى فيه.

وكان هارون لين الجانب كثير التحمل، ولذا نراه يخاطب موسى مما يرقق قلبه، وهو قوله له (يا ابن أُمَّ) إِلخ إذ الأُم عنوان الحنان وموطن العطف والرحمة، كما يشعر بلين عريكته ما في باقى أُسلوبه من توسل ورجاءٍ.

وبعد أَن سمع موسى عليه السلام مقالة هارون عليه السلام قال ما حكاه القرآن الكريم في قوله تعالى:

151 -

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} :

أَي قال موسى مناديًا ربه يطلب منه غفران فعله بأَخيه من غير جريرة ارتكبها، وغفران ما عساه أَن يكون قد وقع مع أَخيه من تقصير في نصحهم وتحذيرهم.

ولا يخفى: أَن كل إِنسان في حاجة إِلى استغفار ربه، طاعة له وطلبًا لرفع الدرجات، مع ما في استغفار موسى لنفسه من الترضية لهارون وإِعلان الشامتين بتمام رضاه عما فعله حتى ترد شماتتهم إِليهم كمدًا وحسرة.

ص: 1516

{وَأَدْخِلْنَا في رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} :

أَى: ومُنَّ علينا بمزيد من الإِنعام بعد غفران ما سلف منا، وشأْنك يا أَلله أَن رحمتك بجميع مخلوقاتك أَعظم من رحمة الخلائق بعضهم ببعض، ومن رحمتهم بأَنفسهم، فلا تحرمنا من واسع رحمتك في الدنيا والآخرة فهي كما قلت سبحانك:{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1).

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)} .

المفردات:

{غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} : المراد بغضب ربهم عذاب الآخرة.

{وَذِلَّةٌ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أَي وتشريد في الأَرض وإِخراج من الديار، بحيث لا تكون لهم عزة كعزة أَصحاب الوطن.

{الْمُفْتَرِينَ} أَي: المختلقين أشنع الكذب على الله تعالى.

التفسير

152 -

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} :

أَي إِن الذين اتخذوا العجل إِلهًا يعبدونه من دون الله واستمروا على عبادته كالسامرى وأَتباعه من بنى إِسرائيل، وأَشربوا في قلوبهم حبه، سيصيبهم في الآخرة عذاب شديد

(1) سورة الزخرف: من الآية 32

ص: 1517

من خالقهم ومربيهم الذي تفضل عليهم بأَجزل النعم فجحدوها ولم يشكروها، وسينزل بهم في الحياة الدنيا الذل الشديد والهوان المميت بتشريدهم من ديارهم وإجلائهم عن أَوطانهم.

{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} :

أَي: ومثل هذا العقاب الشديد الذي حل ببنى إِسرائيل نعاقب كل مفتر كذاب، وليست هناك فرية أَقبح مما افتراه هؤلاءِ الذين صنعوا العجل بأَيديهم ثم عبدوه وقالوا: هذا إِلهكم وإله موسى، بل لم يعرف أَن أَحدًا افترى مثل فريتهم. ولذا استوجبوا بالأَصالة هذا العقاب الأَليم.

وبعد أَن بين القرآن عقاب المصرين على الجرائم، وافتراءِ الكذب على الله، رغَّب في التوبة من السيئات وإِن كثرت وعظمت، ببيان أَن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن أَخلص في التوبة وصدق في الإِيمان باللهِ فقال تعالى:

153 -

{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} :

أَي والذين اقترفوا الكفر وسائر أَنواع المعاصي من الكبائر والصغائر ثم تابوا من بعدها وآمنوا باللهِ، إِيمانًا صادقًا يستتبع ما يقتضيه من أَعمال البر والطاعات، وإِقلاع عن المعاصي، يغفر الله لهم ما وقع من ذنوبهم مهما عظمت، لأَن ربك المنعم عليك بالخلق والتربية من بعد حصول تلك التوبة الخالصة لَعَظِيمُ المغفرة لذنوب التائبين واسعُ الرحمة بالخلق أَجمعين قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فتتسع من صدق في إِيمانه بعد الكفر، وأَخلص في الإِقلاع عن سائر المعاصي والآثام.

ولما بين القرآن الكريم طرفًا من قصة موسى مع قومه، شرع يكملها فقال:

154 -

{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} :

أَي ولما ذهب عن موسى الغضب وسكن وهدأَ روعه بعد اعتذار أَخيه وتوبة من تاب، وبيان أَنه قام بموجبات الخلافة عنه، ولكن القوم كانوا لنصحه كارهين، لما حدث هذا أَخذ ألواح التوراة التي أَلقاها.

ص: 1518

وفيما نسخ في هذه الصحائف وكتب فيها، هدايةٌ وإِرشادٌ إِلى خير الدنيا وصلاح الآخرة، ورحمة عظيمة واسعة للذين هم لعظمة مربيهم وحافظهم يخضعون ويخافون سوءَ العذاب.

وفي أُسلوب الآية الكريمة من البلاغة ووضوح المعنى وتأْكيده ما يبهر العقول ويأْخذ بالأَلباب، إِذ أَبان أَن الغضب بلغ بموسى عليه السلام حدا من الشدة والتسلط جعله كالآمر له بما قال وبما فعل، حتى إِذا سكت هذا الغضب عن إِثارة موسى سكن وأَخذ الأَلواح التي أَلقاها، ومضى في شأْن رسالته.

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} .

المفردات:

{لِمِيقَاتِنَا} : الميقات المكان الذي حدده الله ليذهب موسى وقومه إِليه.

{الرَّجْفَةُ} : الزلزلة الشديدة.

التفسير

155 -

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا

} الآية:

أَي واختار موسى سبعين رجلًا من فضلاءِ قومه الذين لم يبدلوا دينهم وذهب بهم إِلى المكان والزمان اللذين حددهما الله لهم، ليعتذروا عمن عبدوا العجل وعمن قصروا في نهيهم.

ص: 1519

{فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} :

أَي: فلما فاجأَتهم الزلزلة الشديدة ورجفوا وارتعدوا حتى كادت تنخلع مفاصلهم وتتمزق أَبدانهم وأَشرفوا على الهلاك وكان ذلك تأْديبا لهم على تقصيرهم في زجر قومهم عن عبادة العجل وسائر المنكرات، - لمَّا حدث ذلك - خشى موسى هلاكهم فتوسل إِلى الله - تعالى - فيما حكاه القرآن في قوله تعالى:

{قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} :

أَي قال موسى راجيًا عفو ربه عنهم في هذا اليوم: يا رب إِنك لو شئت إِهلاكهم من قبل هذا اليوم، حين قصروا في النهي عن عبادة العجل، وعدم مفارقتهم لعبدته حين أَيقنوا فيهم الإِصرار على الكفر والمعاصي، وكذلك لو شئت يا رب إِهلاكى من قبل ذلك حين طلبت رؤيتك، لفعلت يا إِلهى ذلك فقد استوجبنا الهلاك جميعًا بذنوبنا، ولكنك لم تفعل رحمة بنا، وتجاوزًا عما فرط من سيآتنا، فلا عجيب يا رب إِذا أَطْمَعنَا لطفُك السابق في طلب المزيد من عفوك وإِحسانك في هذا الموقف، ثم أَكد موسى عليه السلام عظم ثقته في عفو الله فيما حكاه القرآن.

{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} :

أَي قال موسى عليه السلام إِيمانًا بسعة رحمة الله تعالى - وإِيقانا بشمول إِحسانه: لا يكون منك يا عظيم العفو إِهلاكٌ لنا بسبب ما فعله الذين يجهلون قدرتك وما يليق بمقام أُلوهيتك، ولا يثبتون على الحق الذي أَظهرت معالمه وأَوضحت مسالكه فقد وسعت رحمتك كل شيء.

{إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} :

أَي ما كانت عبادتهم للعجل إِلا ابتلاءً منك تهلك بسببه من تشاء إِضلاله بتجاوزه حدود أَوامرك ونواهيك، وترشد به إِلى الحق من تشاءُ هداه فيقوى إِيمانه.

{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} : أَي أَنت وحدك يا الله القائم بتدبير أُمور دنيانا وأُخرانا، وناصرنا وحافظنا دون سواك، فاغفر لنا ما اقترفناه من الذنوب والآثام وتجاوز عنه إِذ من شأْن الولى الإِحسان إِلى المقصرين، والتجاوز عن ذنوب الآثمين {وَارْحَمْنَا}: أَي وأَفض علينا من آثار رحمتك التي وسعت كل شيءٍ

ص: 1520

ما نسعد به في الدين والدنيا، وأَنت وحدك الذي تغفر السيئآت وتمن بالحسنات، ولا يملك ذلك سواك، وعفو غيرك بتوفيق منك.

وخصت المغفرة بالذكر في قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} حيث لم يذكر معها الرحمة لأَن المقام مقام اعتذار عن الذنوب فيقتضيها.

{وَاكْتُبْ لَنَا في هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} .

المفردات:

{وَاكْتُبْ لَنَا في هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} : المراد بحسنة الدنيا ما يعم العيشة الراضية، والعمل

ص: 1521

الصالح والمراد بكتابتها تقديرها وإِبرازها، عبر عنها بالكتابة مجازًا، أو الكتابة على حقيقتها فإِن ما يقدر الله تنفيذه يكتب في اللوح المحفوظ، أو عند الملائكة المدبرات أَمرا.

{هُدْنَا إِلَيْكَ} : تبنا إِليك ورجعنا.

{إِصْرَهُمْ} : الإِصر في اللغة الأَمر الثقيل، والمراد به هنا التكاليف الشاقة على اليهود بسبب ظلمهم، كتحريم بعض الطيبات عليهم.

{الْأَغْلَالَ} : المواثيق الشديدة المشبهة للأَغلال في الأَعناق.

{وَعَزَّرُوهُ} : عظموه ووقروه، أَو أَعانوه.

التفسير

156 -

{وَاكْتُبْ لَنَا في هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ

} الآية.

بين القرآن الكريم فيما سبق، كيف بدأَ موسى توسله إِلى ربه ودعاءَه إِياه حين رأَى الرجفه تأْخذ الصفوة من قومه في الميقات، وجاءَت هذه الآية لإِكمال توسله.

والمعنى: وحقق لنا بفضلك في هذه الحياة الدنيا عيشة طيبة راضية وعافية وافرة، وتوفيقًا في الطاعة، ومُنَّ علينا بنعمك السابغة واجعل لنا في الآخرة المثوبة الحسنى والنعيم المقيم في جناتك الواسعة.

{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} :

أَي: أَعطنا ذلك لأَننا تبنا إِليك من ذنوبنا توبة صادقة، وأَتيناك مخلصين في الاعتذار عن آثامنا فاقبل دعاءنا - وجاءَت هذه الجملة "إِنا هدنا إِليك" لتعليل ما سبقها من الدعاءِ، رجاءَ قبوله وتحقيقه، وتصديرها بإِن التى هي للتأْكيد، للإِيذان بكمال صدقهم في توبتهم، طمعًا في أَن يقبلها الله الكريم منهم:

{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} :

أَي: قال الله تعالى جوابًا عما طلب موسى لجميع قومه: شأن عذابى أَن أُصيب به من أَشاءُ تعذيبه ممن لا يتقون الله {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} : أَي: وإِحسانى شمل كل شيءٍ من المكلفين وغيرهم ممن شئت له ذلك.

ص: 1522

{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} :

أَي: فسأَجعل رحمتى في الآخرة، للذين يحفظون أَنفسهم من المعاصي؛ بحيث لو أَصابوها تابوا إِلى ربهم، وأَجعلها للذين يؤدون الزكاة لمستحقها.

وخصت الزكاة بالذكر مع شمول التقوى لها لثقل إِخراجها على النفوس، إِذ المال عِدْل الروح وسأَجعل رحمتى الواسعة للذين يستمرون على الإِيمان بآياتنا كلها.

وفي الآية تعريض ببنى إِسرائيل إِذ كانوا لا يتقون الكفر والمعاصي ولا يخرجون الزكاة لشدة حرصهم على المال، كما كانوا يكفرون بآيات الله العظام التي جاء بها موسى عليه السلام.

ثم أَكمل القرآن الكريم أَوصاف المتقين الذين وعدهم الله بالحياة الرغيدة في الدنيا والنعيم في الآخرة بقوله تعالى:

157 -

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} :

أَي: هؤُلاء المتقون الذين وعدهم برحمته وفضله هم الذين يتبعون محمدا صلى الله عليه وسلم - النبىَّ - الذي جاء بأَكمل الاعتقادات والأَعمال والأَخلاق - الأُمىَّ - الذي لم يمارس القراءة والكتابة ولم يجلس إِلى معلم ولم يخط بقلم ومع ذلك فقد جمع الكتاب الذي جاءَهم به علوم الأَولين والآخرين، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ

} والأُمى نسبة إِلى الأُم كأَنه باق على حاله التي ولد عليها.

{الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} :

أَي أَن الله تعالى يكتب رحمته للذين يؤمنون بالنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى: يؤمنون بهذا النبي الذي يجدونه مكتوبًا باسمه ونعوته عندهم في التوراة والإِنجيل التي كتمها الكافرون منهم، أو أَساءُوا تأْويلها.

ثم شرع القرآن الكريم يفصل بعض آيات محمَّد وعلاماته في التوراة والإِنجيل فقال:

ص: 1523

{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} :

أَي يأْمرهم النبي الأُمى عن الله تعالى ويكلفهم بفعل كل ما عرفته الفطر السليمة وأَقرته واستحسنته، فإِن فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة، وينهاهم عن فعل كل ما أَنكرته الفطر السليمة ونفرت منه، فإِن فيه خسران الدنيا والآخرة.

{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} :

أَي: ويبيح لهم ما حرم عليهم بسبب ظلمهم ومعاصيهم كالشحوم.

{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} :

أَي: ويحرم عليهم كل ما هو خبيث وضار مما كانوا يتناولونه كالدم والميتة ولحم الخنزير، أَو يفعلونه كالربا والرشوة {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}: أَي ويخفف عنهم ما ثقل عليهم من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في القتل العمد والخطأ من غير شرع الدية، وكقطع الأَعضاء الخاطئة وإِحراق الغنائم.

{وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} :

أَي ويخفف عنهم كذلك الشروط المحرمة والمواثيق الشديدة التي كانت في شريعة موسى عليه السلام لتناسب ظلم بنى إِسرائيل وطغيانهم وغلوهم في الفساد والضلال.

والأَغلال جمع غُل وهو في الأَصل ما يوضع في العنق أَو اليد من الحديد يستعار للمواثيق الشديدة والتكاليف الشاقة.

ثم أَرشد الله تعالى إِلى كيفية اتباع محمَّد صلى الله عليه وسلم وبيَّن علوَّ منزلة أَتباعه فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} : أَي فالذين آمنوا بنبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم وصدقوا برسالته وأطاعوه فيما أَمر ونهى من اليهود وغيرهم وعظموه ووقروه وأَعانوه بمنع أَعدائه عنه ونصروه على أَعدائه في الدين واهتدوا بهدى القرآن الذي أَنزله الله مع نبوته ليضىء الطريق أَمام السالكين: وسُمِّى القرآن نورًا لكونه ظاهرا واضحا في آياته، مظهرا للحقائق كاشفا لها، يهدى متبعه إِلى العقيدة السليمة والعمل الصالح، كما يهدى النور الحسى من يتبعه إِلى سواء السبيل.

ولا يقال: القرآن نزل مع جبريل فما معنى أنزل معه؟ لأَن المعنى أَنزل مع نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم كما تقدمت الإِشارة إِليه، لأَنها كانت مصحوبة مشفوعة به.

ص: 1524

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :

أَي: أُولئك المتقون الذين علت درجاتهم وسمت منزلتهم، الموصوفون بتلك الصفات الجليلة هم وحدهم دون غيرهم الذين بلغوا غاية الفوز بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة.

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} .

المفردات:

{الْأُمِّيِّ} : المنسوب إِلى الأم، لأَنه لا يقرأ ولا يكتب، فهو على فطرته التي ولدته مه عليها، من حيث عدم القراءَة والكتابة.

التفسير

158 -

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} :

لما حكى الله ما في الكتابين من نعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف من يتبعه من أَهلهما ونيلهم سعادة الدارين - أَمر رسوله صلى الله عليه وسلم ببيان أَن تلك السعادة غير مختصة بأَهل الكتابين إِن آمنوا به بل هي شاملة لكل من يتبعه من جميع الناس، سواء أَكانوا في عصره أَم فيما تلاه من عصور إِلى يوم القيامة. فإِن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الناس في كل عصر من العصور قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) فتلك من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه.

(1) سورة سبأ: الآية 28

ص: 1525

أَما سائر الرسل فقد كانوا يبعثون إِلى أُمم خاصة، وقد يتعدد الرسل في وقت واحد لأُمم مختلفة أَو لأُمة واحدة، فقد كان لوط وإِبراهيم مرسلين في عصر واحد، كلاهما إِلى غير أمة الآخر، وكان موسى وهارون مرسلين معا إِلى فرعون وقومه وبنى إِسرائيل.

والمعنى: قل يا محمَّد مناديا الناس جميعًا من عاصرك منهم ومن بعدهم إِلى يوم القيامة حيث يبلغ عنك الحاضر منهم الغائب، والموجود منهم من سيوجد: قل يا أيها الناس إِنى رسول الله إِليكم جميعًا الذي له ملك السموات والأَرض من أَجزائهما وما استقر فيهما خلقا وملكا وتصرفا، ومن كان كذلك فلا معبود بحق سواه، ولا يصح أَن يكفر برسوله المؤيد بآياته.

{فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} :

هذا من جملة ما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه للناس، مفرع على ما بين لهم من رسالته إِليهم.

والمعنى: وحيث كنتُ رسوله إِليكم فآمنوا بالله الذي بينت لكم عظمته وآمنوا برسوله النبي الأمى، الذي جاءكم بكتاب فيه علوم الأولين والآخرين. وهو لا يقرأ ولا يكتب، وذلك من براهين رسالته، ومع كونه رسولا إِليكم فهو يؤمن باللهِ تعالى وبكتبه التي أَنزلها على رسله السابقين له، ويؤمن بالقرآن الكريم الذي هو من كلمات الله وكتبه، فهو يسبقكم إِلى الإِيمان به، واتبعوه في كل ما دعاكم إِليه فعلا وتركًا رجاء أَن تهتدوا باتباعه إِلى مطلوبكم من سعادة الدارين.

ووصفه صلى الله عليه وسلم بالنبي الأُمى بعد وصفه بالرسالة لمدحه والإِشارة إِلى نعته في الكتابين - التوراة والإِنجيل - تقريرا لأَمر نبوته حتى يقبلوا على الإيمان به.

ص: 1526

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)} .

المفردات:

{يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} : يرشدونهم بكلمة الحق.

{وَبِهِ يَعْدِلُونَ} : وبالحق يعدلون في الأَحكام.

{أَسْبَاطًا أُمَمًا} : أَي قبائل صارت أمما، وأَصل السبط ولد الابن أَو البنت.

{فَانْبَجَسَتْ} : فانفجرت.

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} : وجعلنا السحاب يظلهم من الشمس.

{الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} : المن صمغة حلوة، والسلوى السُّمانى.

التفسير

159 -

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} :

كلام مستأنف لدفع توهم حرمان أَسلاف قوم موسى من كل خير، بعد تخصيص من يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة الرحمة والتقوى والإِيمان بكلمات الله في الآية السابقة، ولبيان أَن اليهود ليسوا كلهم كما حكيت أَحوالهم، بل منهم أُمة يهدون الناس بالحق وبه يعدلون.

ص: 1527

والمعنى: ومن قوم موسى جماعة يهدون الناس بهدى الحق، وبالحق يعدلون في الأَحكام الجارية فيما بينهم، وذلك قبل أَن يبدلوا توراتهم، ويدخلوا فيها ما لم ينزله الله تعالى بها، فقد كان فيها هدى ونور حينئذ، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ .. } الآية (1). وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} الآيات (2).

ويجوز أَن يكون المراد بهم من آمنوا منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأَن يكون المراد بتلاوتهم آيات الله تلاوة القرآن الكريم، وهذا هو الظاهر.

160 -

{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} :

شروع في بيان بعض النعم التي أَنعم الله بها على قوم موسى، برهم وفاجرهم واعلم أَن السبط في اللغة معناه ولد الولد، ولما كان بنو إِسرائيل هم ذرية أَولاد إِسرائيل (3) الاثنى عشر، فلذا أطلق عليهم أَسباط، لأَنهم أَولاد أَولاده، وقد شاعت هذه التسمية فيهم حتى أَصبحت حقيقة عرفية، وهي فيهم كالقبيلة في ولد إِسماعيل عليه السلام.

والمعنى: وصيرناهم اثنتى عشرة أُمة، كل أُمة منهم ترجع إِلى ولد من أَولاده الاثنى عشر فكانوا لهذا أَسباطًا له، أَي أولادًا لأَولاده هؤلاء ..

وتأنيث اثنتى مع أَن المعدود مذكر وهو أَسباط، لتفسيره بالأُمم ولأَن الجمع يؤنث وصفه وكذا فعله الذي يسند إِليه.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} :

كان العطش قد استبد بقوم موسى، وهم في التيه، فاستسقوه - أَي طلبوا منه أَن يدعو الله تعالى أَن يسقيهم الماء الذي لم يجدوه في صحراء التيه - فاستسقى موسى ربه بأَن دعاه أَن يمن على قومه بالماءِ ليشربوه حتى لا يهلكوا عطشًا، فأَوحى الله إِليه أَن اضرب

(1) سورة المائدة: الآية 44

(2)

سورة آل عمران: الآيات 113 إلى 115

(3)

إسرائيل هو يعقوب عليه السلام.

ص: 1528

بعصاك الحجر ليخرج منه الماء لهم، فضربه فورًا بعصاه كما أَمره ربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بقدرة الله تعالى، لكل سبط من أَسباطهم عين خاصة بهم، عرفوها بذاتها حتى لا يختلفوا على مائهم.

ويفهم من ذلك أَن كل سبط منهم كان عدد أَفراده كثيرًا، حتى جعل لهم هذا العدد من العيون بعدد أَسباطهم.

وقد أَباح الله لموسى أَن يختار أَىَّ عصا ليضرب بها، وأَى حجر ليضربه بالعصا التي يختارها، فلم يعين له هذا ولا تلك، قال الحسن: ما كان إِلا حجرا اعترضه، وإِلا عصا أَخذها، ولعل الله تعالى أَراد بتكليف موسى عليه السلام بضرب الحجر بعصاه، ليكون خروج الماء بذلك معجزة له، حتى يزدادوا بنبوته استيقانا، ويقبلوا على العمل بما جاء به من التوراة، فلقد كان إِيمانهم ضعيفًا، ولذا عبدوا العجل وطلبوا من موسى أَن يرحمهم الله جهرة.

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} : كانت حال بنى إِسرائيل في التيه سيئة، فإِن صحراءَ التيه كانت عديمة الشجر مفقودة الظلال، فلذلك كانوا في أَشد الحاجة إِلى ما يقيهم حرارة الشمس التي يزيدها اتقادًا انعكاسها على رمال الصحراء.

ولقد تفضل الله فأَزال متاعبهم من جهة الماءِ بتفجير تلك العيون التي مر بيانها، ومن جهة الحر بأَن جعل الغمام يلقى ظلاله عليهم، ويقيهم حرارة الشمس، حيث أَرسل السحاب فوقهم في مقامهم ومسيرهم، فحال دون وصول أَشعة الشمس إِلى حيث يقيمون أَو يسيرون، وبقيت مشكلة الغذاءِ الذي لا مصدر له في التيه ولا يصل إِليهم به أَحد، فتفضل الله عليهم بإِنزال المن والسلوى ليكونا طعامًا لهم. أَما السنن فهو صمغة حلوة تشبه البرَدَ في منظره (1)، والشهد في حلاوته، ويسمى الترنجين، وأَما السمانى: فهى طيور معروفة بلذة لحومها، مطبوخة أَو مشوية، فكانوا يتغذون بالسلوى ويتحلون بالمن حيثما شاءُوا.

(1) البرد: قطع من الثلج كحب الحمص غالبا، ينزل مع المطر.

ص: 1529

وحين أَنزلهما الله عليهم، قال لهم متفضلا على لسان نبيه موسى:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وبذلك الأَمر الكريم أَباح الله لهم أَن يغتذوا بلذائذ هذا الرزق الكريم الذي أَنقذهم به من الهلاك جوعًا، وهم في تيههم منقطعون عن العالم، وكان من حق هذه النعم أَن تقابل منهم بشكرها.

{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : أَي وما ظلموا الله ولا بغوا عليه بكفرانهم نعمته، ولكنهم ظلموا أَنفسهم خاصة، فلا يتخطاهم ضرره وسوء عاقبته.

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)} .

المفردات:

{هَذِهِ الْقَرْيَةَ} : هي بيت المقدس أَو أَريحاء - على ما قيل.

{وَقُولُوا حِطَّةٌ} : من الحط وهو الوضع والطرح، والمراد بها أَن يطلبوا حط ذنوبهم وطرحها عنهم بغفران الله لهم.

{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} : وادخلوا باب القرية التي أمرتم بدخولها خاشعين خاضعين لله شكرًا له على تمكينكم من دخولها.

{رِجْزًا} : أَي عذابًا.

ص: 1530

التفسير

161 -

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} :

بين الله في الآية السابقة أَنه أَنعم على بنى إِسرائيل وهم في التيه فأَنقذهم من الهلاك في صحرائه، بما أَخرجه لهم من ينابيع الماءِ،، وأَنزله إِليهم من لذيذ الغذاءِ، كما بين أَنهم ظلموا أَنفسهم بكفران تلك النعم التي لا يستحقونها، وكان عليهم أَن يشكروها ويعتبروا بما أَصابهم من العقوبات على مخالفاتهم. وجاءت هذه الآية وما بعدها في إِثرها لبيان طرف آخر من آثامهم غير ما مر من كفرانهم بتلك النعم الجليلة، والغرض من سوق ذلك كله تذكير اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم بما صنعه أَسلافهم، حيث قابلوا فضل الله عليهم ونعمه بالجحود والتنكر لها، وأَنه إِذا خبث الأَصل كان فرعه مثله، فلا غرابة أَن يتنكروا للحق كما تنكر أَسلافهم.

والمعنى: واذكرْ أَيها الرسول لليهود المعاصرين لك، إِذ قيل لأَصولهم من قِبَلِ الله تعالى، على لسان موسى، أَو على لسان يوشع بعد موته عليهما السلام اسكنوا هذه القرية - بيت المقدس أَو أريحاء - بعد أَن نصركم الله على قومها الجبارين عباد الأَوثان - حين استجبتم لما أمرتم به من جهادهم. وادخلوا من بابها سجدا خاشعين خاضعين لله شاكرين له على نصركم عليهم، لا دخول المتجبرين المستكبرين أهل البطر والخيلاءِ فإِن نصركم من عند الله لا من عند أَنفسكم فلا يليق بكم أَن تشمخوا بأَنوفكم وتستكبروا على من حولكم، واتجِهوا إِلى ربكم قائلين له: حِطَّةٌ وغفرانٌ منك يا الله لذنوبنا، تأْكيدًا لتواضعكم، واعترافًا منكم بتقصيركم، فإِن فعلتم ذلك يغفر لكم الله ما مر من خطيآتكم، ولا نقتصر على ذلك، بل سنزيد المحسنين على المغفرة ثوابًا لا حد له.

وقد كان أَمر بنى إِسرائيل بدخولهم تلك القرية، بعد انتهاء مدة عقوبتهم في التيه وكانت أَربعين سنة يتيهون فيها في صحرائه، ولا يجدون لهم منفذًا إِلى أَرض الله، حتى

ص: 1531