المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[هل نرى الجن] - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌[هل نرى الجن]

وخلاصة معنى الآية، ما يلي:

يا بنى آدم، قد أنزلنا عليكم، مِن علياء فضلنا، لباسا يستر عوراتكم، وآخر فاخرا تتجملون به فما بينكم. ولباس الخشية من الله. خير لكم مما عداه، لأَنه يقيكم من عذاب الله.

ذلك الذي منحناه بني آدم - من أَي نوع كان - هو من آيات الله الشاهدة بقدرته، وفضله ورحمته، لعلهم يتعظون فيتورعون عن معاصيه.

27 -

{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا

} الآية.

كرر النداءَ لبنى آدم، لأهمية الوصية والوصى لهم.

والمعنى: يا بني آدم لا يوقعنكم الشيطان في الفتنة والمحنة بوسوسته بتزيين القبيح وتقبيح الحسن، فَتُحْرَمُوا الجنة وتدخلوا النار - فاحذروا أن تفتتنوا بوسوسته فتعاقبوا ..

كما فتن أبويكم آدم وحواء، فأَخرجهما من الجنة بسبب اتباعهما إياه، بعد ما تسبب في نزع لباسهما عنهما ليريهما عوراتهما. وكشف العورات إهدار للآدمية، وإخلال بمستوى البشرية.

{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} :

القبيل: الجماعة. والمراد بقبيل إبليس: جنوده من الجن. وهذه الجملة تعليل للنهى، عن الافتتان بالشيطان، وتأكيد للتحذير منه. فإن العدو إذا كان يستطيع الوصول إليك من حيث لا تراه، كان جديرًا بك أن تحذره أشد الحذر. فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم. فاحذروا خفىّ مكره ومكر قبيله، حتى لا تقعوا في حبائلهم.

{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} :

إنا جعلنا الشياطين قادة للذين لا يصدقون باللهِ ورسوله، يتولون إغواءهم بسبب إصرارهم على إهدار عقولهم، وإفسادهم فطرة ربهم.

[هل نرى الجن]

استدل بعض العلماء، بهذه الآية على أن الإنس لا يَرَوْن الجن.

وانفسم القائلون بذلك، إلى عدّة فِرق:

إحداها: تقرر عدم رؤْيتهم على حقيقتهم، أو متمثلين في أَية صورة.

ص: 1402

وبذلك يقول المعتزلة.

ومن أَدلتهم: أن القول بقدرتهم على التمثل أَمام بني آدم، يرفع الثقة بحقائق الأشياءِ فمن رأى ولده مثلا، يحتمل أَن يتخيَّل أَنه رأَى جنيًّا، كما أن رؤيتهم - على حقيقتهم - متعذرة لشفافيتهم.

وثانيتها: تقول: باستحالة رؤيتهم على حقيقتهم فقط.

وأُولئك هم الأَشاعرة.

وحجتهم: أَن الله لم يخلق في عيون البشر قدرة على رؤيتهم بحقيقتهم.

أما رؤيتهم متمثلين، فجائزة - عند الأشاعرة - مطلقا.

وقال النحاس: لا يراهم أحد على حقيقتهم، وإنما يُرَوْن إذا نُقِلوا عن صورهم.

ورؤيتهم متمثلين مقصورة على عصر النبوة فحسب؛ لأَنها من المعجزات للأنبياء.

فلا تكون إلا في عصرهم، كما حدث لسيدنا سليمان عليه السلام.

وقال القشيرى: "أجرى الله العادة، بأنَّ بني آدم لا يرون الشياطين اليوم. وفي الصحيحينِ وغيرهما: "إِنَّ الشَّيْطانَ يَجرى مِن ابنِ آدم مَجْرَى الدَّم". وقال تعالى: "الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناسِ" (1). وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ للمَلَك لَمَّةً، وللشَّيطانِ لَمَّةً .. فأَمّا لَمَّة الملَك فإيعاد بالخير، وأَمَّا لَمَّة ألشيطان فإيعاد بالشَّرِّ وتكذِيبٌ بالحقِّ" أ. هـ".

والقشيرى بإنكاره رؤيتهم المطلقة، يذهب مذهب المعتزلة.

ويرى كثيرٌ من أهل السنة أن رؤيتهم ممكنة وحاصلة فعلًا.

ويشهد لذلك أن عِفْريتًا تَفلَّتَ على النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلَه عن صلاته.

فأمكنه الله تعالى منه، وأَراد أن يربطه في سارية المسجد، ثم عدل عن ذلك.

(1) سورة الناس، الآية:5.

ص: 1403

فقد أَخرج الإِمام مسلم - بسنده - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "واللهِ لَوْلَا دعوة أَخى سليمان لأصبحَ موثقًا يَلعبُ بهِ وِلدانُ أهلِ الدينةِ " ودعوة سليمان هي قوله:

" قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِى لِأحَدٍ من بَعْدِىَ"(1).

وخرّج البخاري عن أبي هريرة قال: "وكلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِحفظ زكاة رمضان" وحكى قصة طويلة ذكر فيها أَنه أخذ الجنىَّ الذي كان يأْخذ التمر، وأَن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"ما صنع أَسيرُك البارحةَ"(2)؟

أمَّا ما ورد عن الإمام الشافعى من أنه قال: مَنْ زَعم أَنَّه رآهم رُدَّت شهادتُه وعُزِّرَ؛ لمخالفة القرآن؛ فمحمول على مَنْ زعم رؤيتهم على صورتهم الحقيقية، وهم متشكلون - يقول بها أَهل السّنة، والشافعى من خيارهم.

وأما القول بأَن رؤيتهم متشكلين، يرفع الثقة بحقائق الأشياءِ، فيجاب عنه: بأَن الله تعالى، كَفَل - لهذهِ الأمة - أَن يرفع عنها مثل ذلك، لاستلزامه الرِّيبة في الدين، ررفع الثقة بالعلماء، لاحتمال أن يكونوا متشكلين من الجن. فاستحال - شرعا - الاستلزام المذكور.

وأما استحالة رؤيتهم لِلَطافَتهم، وأن الله لم يقدر العيون على رؤيتهم بهذه اللطافة إِذا ظهروا على حقيقتهم - فيجاب عنه: بأَن ذلك مُسَلَّم، فيما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِذ لا مانع أن يخلق الله في بصره عليه السلام قوَّة يقدر بها على رؤيتهم على حقيقتهم، كما أقدره على رؤية جبريل على صورته الحقيقية.

وقد عمّ الناسَ - قديما وحديثا - القول برؤيتهم متشكلين، وأَصبح هذا حقيقة واقعة معترفا بها في جميع أَنحاءِ العالم.

والآية الكريمة مؤولة بأنها لتمثيل دقيق مكرهم وخَفِىِّ حيلهم. وليس المقصود بها نفى رؤيتهم حقيقة.

(1) سورة ص، من الآية: 35

(2)

راجع جـ 7 من القرطبى ص: 187

ص: 1404

{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} :

إِنا خلَّينا بين الشياطين وبين الذين لا يؤمنون، فكانوا لهم أَولياءَ وقادة، بسبب غفلتهم وسوءِ نياتهم وعماهم عن الهدى. قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1).

{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} .

المفردات:

{فَاحِشَةً} هي الفَعلة الشديدة القبح. ومثلها الفحشاء.

{بِالْقِسْطِ} القِسط - بكسر القاف - العدل. وهو التوسط في الأْمور. وضدّه القَسط - بفتح القاف - فهو الظلم.

{وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : المراد بالوجوه: الأنفس. وبإقامتها:

التوجه إِلى الله تعالى وبالمسجد: مكان العبادة، أَو زمانها.

{الدِّين} : المراد منه هنا: الطاعة.

(1) سورة الأنعام، الآية: 129

ص: 1405

التفسير

28 -

{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا

} الآية.

وإِذا فعل العصاة - الذين لا يؤْمنون - سيئة شديدة القبح كعبادة الأوثان، وكشف العورة في الطواف - قالوا محتجين لمن نهاهم عنها: وجدنا آباءَنا مواظبين عليها .... والله أمرنا بها.

وجوابهم هذا، يدلّ على أَنهم جعلوا تقليد الآباءِ، شريعةً متَّبعة لهم، وتقديمهم ذلك على أمر الله تعالى في الاحتجاج، يؤْذن بأنه - في نظرهم - أهم منه.

{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

قل لهم - أيها الرسول - إِن الله لا يأمر بالفحشاءِ والقبائح. وإِنما يأْمر بمحاسن العقائد والأعمال. فهو الحكيم. فكيف تنسبون إِليه تعالى ما لا يصحُّ ولا يليق من العقائد والأعمال؟ أَتقولون على اللهِ ما تجهلون، فتهلكون بنسبة الزور والبهتان إِليه سبحانه؟

وهذا ردُّ لحجتهم الثانية.

وقد أَغفل الله الرد على حجتهم الأُولى، وهي: تقليد الآباءِ فيما اعتقدوه وما فعلوه؛ لظهور فساد الاحتجاج بها.

وقيل: يجوز أن يكون قوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، ردًّا على الحُجَّتين جميعًا، فإنّه إذا كان اللهُ لا يأمر بالفحشاءِ، بل يأمر بالمحاسن، فكيف يتركون اتباع أَمره، إِلى اتباع آبائهم، فيما يقبح عقلا؟!

29 -

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} :

قل لهم - أَيها الرسول - أَمَرَ رَبى بالعدل. وهو التوسط في الطاعات بين التفريط والإفراط. فاستقيموا على ذلك، واتجهوا بأَنفسكم نحو الله تعالى عند كلّ مسجد تتعبدون فيه، ولا تنصرفوا عنه إلى سواه. واعبدوه مخلصين له الطاعة.

ص: 1406

ومن العلماء من فسَّر قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : تَوَجَّهُوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه إِليها في صلاتكم. وهي الكعبة، في أي مكان كنتم

والظاهر أن الوجه الأول هو المقصود من الآية. وخلاصته: توجهوا بنفوسكم وقلوبكم إِلى الله تعالى - وحده - للعبادة، فإنهم كانوا يتجهون بها إلى الأصنام.

ولذا عقبه الله بقوله: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .

أمَّا الأمر بالاتجاه إِلى الكعبة، فلا يساعد عليه المقام.

{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} :

أي: كما أنشأَكم ابتداءً - من غير مثال سبق - تعودون إليه انتهاءً.

30 -

{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} :

أي: فَريِقين؛ فريقا هداهم الله إِلى الحق، واستحقوا بذلك المثوبة بالجنة. وفريقا ثبتت عليهم الضلالة، واستحقوا العقوبة بالنار.

ومعنى هداية الله للعبد، توفيقه إِياه، عندما أخذ بأسباب الحق مخلصا.

والهداية المذكورة، قد تكون من البداية إلى النهاية، وقد تكون في النهاية بعد بداية غير صالحة. نسأَله - تعالى - حسن الختام.

ثم علَّل ثبوت الضلالة. وآثارها عليهم بقوله:

{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} :

أي: وفريقا ثبتت عليهم الضلالة وآثارها؛ لأنهم اتخذوا الشياطين أولياءَ وقادة لهم في أمور دينهم، فأطاعوهم من دون الله، وهم يظنون أنهم - بذلك - مهتدون.

وفي الآية تحذير شديد من الوقوع في المعاصي، بأنهم - أَي العصاة - عائدون إلى الله تعالى، لحسابهم على أَعمالهم.

ص: 1407

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} .

المفردات:

{عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : عند بمعنى: في. ومسجد مصدر ميمى بمعنى السجود. مراد منه الصلاة. أَو هو اسم مكان سماعى للسجود بمعنى الصلاة - أي عند كل مُصَلّى - وهو في كل ذلك مجاز - من إطلاق الجزءِ على الكل.

{وَلَا تُسْرِفُوا} : أي لا تتجاوزوا الحد الوسط.

{وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} المراد بالطيبات: المستلذات. أَو ما أحلَّه الله تعالى.

{الْفَوَاحِشَ} : قبائح الذنوب.

{سُلْطَانًا} : حُجَّة وبرهانًا.

التفسير

31 -

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

} الآية.

بعد أَن بيَّن الله تعالى - في الآيات السابقة: أنه لا يَشرع الفواحش، وأنه يأْمر بالعدل، وهو التوسط في الأْمور، ويأمرنا بالاتجاه إليه - وحده - في العبادة، وبيّن أَن

ص: 1408

الناس فريقان يوم القيامة: مهديون طائعون، وضالُّون عاصون

وكل بسبب نيته وعمله - بعد أَن بيَّن هذا - عقَّبه، ببيان بعض ما شرعه الله وحرَّمه

ومن ذلك أن يقولوا على الله ما لا يعلمون.

ومعنى هذه الجملة ما يأتى:

يا بنى آدم، تجمَّلوا بزينتكم للصَّلاة في كل مصلّى، إِجلالًا لربكم الذي تقفون بين يديه في صلاتكم. فهو - سبحانه - أَحق بذلك من الملوك والرؤَساءِ، الذين يتجمل الناس للوقوف بين أيديهم ....

وبهذا المعنى، أخذ جماعة، منهم الحسن بن علي رضي الله عنهما، إذ كان يلبَس أَجود ثيابه إذا قام إِلى الصَّلاة، ويقول:"إنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ"(1) فأنا أَتجمل لربى وهو يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .

والأَمر بذلك للندب، إِذ الواجب ستر العورة بأَى ساتر.

والزينة شاملة للثياب الجميلة، والتمشط والتطيب، وغير ذلك، ممَّا ورد في السُّنة المطهرة أو شمله عموم اللفظ، ممَّا لا إسراف فيه.

وقيل: إن معنى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : إِلبسوا ثيابكم لستر عوراتكم عند كلّ صلاة أو طواف. فالمسجد - بمعنى السجود - مجاز عن الصلاة والطواف، فإن السجود لغة؛ الخضوع، وهو شامل للصَّلاة والطواف.

وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وغيره، لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما: أَنه كان هناك أُناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراةٌ حتى النساءِ، فنزلت الآية ليستتروا.

والأَمر على هذا، للوجوب.

ولكن هذا الرأْى لا يتفق مع ظاهر الآية.

(1) هذا جزء من حديث رواه مسلم وغيره.

ص: 1409

ولو كان الأمر كذلك، لقيل: خذوا ثيابكم، أَو استروا سوءَاتكم عند كل مسجد.

وبما أنه طلب في الآية أَخْذَ الزينة، فذلك أَمر تَجاوَزَ طلبَ السترِ، إِلى ما هو أكمل منه، وهو التجمُّل

فمن تجمّل بالثياب فقد ستر عورته وزاد التجمل

{مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} :

هنا، أكثر علم الصحة والاقتصاد، ملخصا موجزا في بضع كلمات ....

والمعنى: وكلوا واشربوا ما طاب لكم، ولا تسرفوا بالتعدى إِلى الحرام، أَو بتحريم الحلال. أو الإفراط فيه. إن الله لا يحب المسرفين.

قيل: كان أَهل الجاهلية: يحرمون الدسم وما زاد على القوت الضرورى، أيام حجّهم تعظيما له - فنزلت هذه الآية، لإباحة ذلك، والنهي عن الإسراف.

والظاهر: أن الآية قاعدة عامة، تتناول الحجَّ وغيره. نزلت ناهية عن الإفراط والشرَه، في الطعام والشراب، فإن في ذلك أضرارا كثيرة.

أَخرج أبو نعيم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال: "إِيَّاكم والبطنة من الطعام والشراب، فإنها مَفْسَدة للجسد، مورثة للسَّقَم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما، فإنه أَصلح للجسد وأَبْعَدُ عَن المسرف، وإِن الله ليبغض الحبر السمين. وإِن الرجل لن يهلك، حتى يؤثر شهوته على دينه".

وإِنما يكره الله الحبر السمين، لأَن المطلوب من أهل العلم، التقلل في الطعام والشراب وإيثار الآخرة على الدنيا، وطلب السلامة للجسد.

أما العالِم المسرف في طعامه وشرابه، المستكثر من الدسم، فهو مؤْثر لشهوة بطنه، مهتم بدنياه عن آخرته. فلذا يكرهه الله تعالى، لأَنه بذلك أسوأُ قدوة لغيره.

ولعل الغرض: أَن الله يكره له ذلك، لا أَنه يبغضه فعلا، فإن الله لا يبغض سوى أَهل المعاصي.

وقد أجمع الأَطباءُ - قديما وحديثا - على أَن المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواءِ، وأن الدواء قلَّما ينفع مع عدم الحمّية. وكثيرا ما اعتمد حكماءُ الهند على حمية المريض أَياما، فَيَصِحُّ جسمه بدون علاج آخر.

ص: 1410

واختلف في تناول القَدْر الزائد عن الحاجة

فقيل: حرام. وقيل: مكروه.

قال ابن العرب: وهو الصَّحيح.

وقدر الشبع يختلف باختلاف البِلدان، والزمان، والسنّ، والأَشخاص.

والأفضل: التقليل الطَّعام، فإن فيه السلامة.

قال صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شرًّا من بطنه

بحسْب ابن آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يقمن صلبه .. فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه" (1).

قال بعض العلماء: لو سمع أَبقراط هذه القسمة، لعجب من هذه الحكمة!!

ونحن نقول: ما أَعظمَ حكمةَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذا الدستور، الذي وضعه لحماية الجسم البشرى من شَرَهِ جَهَازِهِ الهضمىِّ فإنَّ الأكل الكثير يورث التخمة، ونتن الفم، والجَشاء؛ لتخمُّر الطعام وفساده، وذلك يستتبع شتَّى العلِل. وقد يموت المرءُ بسكتة قلبّية بسبب امتلاء بطنه، وضغطه على القلب.

فلذا ينبغي اتباع هذا الطب النبوى الذي اشتمل عليه الحديث السابق، لتجتنب المعاطب.

{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} :

أي لا يرضي الله تعالى عن إسرافهم، ويكرههم من أجله.

والجملة تعليل للنهى عن الإسراف ..

وقد جمعت هذه الآية وجوه البلاغة وأُصول الأَحكام، باشتمالها على الأمر والنهي والإباحة والخَبَر، كما جمعت - في نصفها - الحكمة.

(1) أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدى كرب.

ص: 1411

تنبيه:

ذهب بعض العلماءِ إِلى أن النهي عن الإِسراف، يشمل: اللباس أَيضا، وهو رأى عكرمة وابن عباس أَيضا.

فقد أخرج ابن أَبي شيبة، وكذا البُخارى تعليقا قال: قال صلى الله عليه وسلم: "كُلْ ما شئت، والبَسْ ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ وَمَخِيَلَةٌ" والمَخِيلة: الكِبر.

32 -

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} :

قل يا أيها الرسول لقومك: مَن حرّم زينة الله التي خلقها لنفع عباده وتجملهم؟

ومَن حرَّم الطيبات من الرزق؟

والطيبات من الرزق: ما طاب طعما وكسبا.

واستُدِلَّ بهذه الآية: على أن الأَصل في المطاعم وأَنواع التجملات: الإباحة، لأَن الاستفهام في (مَنْ) لإنكار تحريمها على أبلغ وجه. كما استدل بها من قال بحل لبس الحرير والخزِّ للرجال، نظرا لعمومها.

رُوِى عن علي زين العابدين رضي الله عنه، أنه كان يلبَس كِسَاءَ خزٍّ بخمسين دينارا .. يلبسه في الشتاءِ - فإذا كان الصيف تصدق به، أو باعه وتصدق بثمنه .. وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع مصر، مُمَشَّقَيْن (أي مصبوغين بالمَشْق. وهو صبغ أحمر) ويقول:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .

كما روى أَن الإِمام الحسين رضي الله عنه، أصيب وعليه جُبةُ خَزٍّ، والخزُّ: نوع من الحرير.

والذي ينبغي التعويل عليه: أن إِطلاق الإباحة هنا، مقيَّد بأَدلة التحريم لبعض ما دخل فيه، كلبس الذهب والحرير للرجال، فقد حُرِّما بالسُّنة النبوية.

والتجمُّل بالحلال مستحب.

ففي صحيح مسلم، عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن في قلبه مثقال ذرَّة من كِبْر" فقال رجل: إِنَّ الرجلَ يُحبُّ أن يكون

ص: 1412