المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقدمة الحاجة إلى منهج للغة: - مناهج البحث في اللغة

[تمام حسان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة الحاجة إلى منهج للغة:

-

- ‌تعريف بالرموز المستعملة في هذا الكتاب:

- ‌رموز الأصوات:

- ‌رموز الحروف

- ‌استقلال المنهج اللغوي:

- ‌اللغة والكلام:

- ‌منهج الدراسات اللغوية:تعدد الأنظمة في اللغة الواحدة:

- ‌منهج الأصوات-الفوناتيك:

- ‌الصوت:

- ‌الصوت اللغوي:

- ‌الملاحظة:

- ‌تسجيل الصوت:

- ‌البلاتوغرافيا: أو تكنيك الحنك الصناعي:

- ‌الكيموغرافيا:أو تكنيك التعرجات الذبذبية:

- ‌ صور الأشعة

- ‌الأصوات العربية:

- ‌أصوات العربية الفصحى:

- ‌الأصوات الشديدة:

- ‌الأصوات الرخوة:

- ‌الصوت المركب:

- ‌الأصوات المتوسطة:

- ‌أصوات العلة:

- ‌منهج التشكيل الصوتي- الفونولوجيا

- ‌مدخل

- ‌التفريق بين الصحاح والعلل:

- ‌تقسيم الحروف:

- ‌نظرية الفونيم

- ‌المجاورة في السياق:

- ‌المقطع:

- ‌الموقعية:

- ‌موقعية البداية:

- ‌موقعيات الوسط:

- ‌موقعة النهاية:

- ‌موقعيات الشيوع:

- ‌منهج الصرف:

- ‌المورفيم:

- ‌الصيغة:

- ‌الاشتقاق:

- ‌وسائل خلق الرباعي:

- ‌الملحقات:

- ‌الجدول التصريفي، والتوزيع الصرفي:

- ‌منهج النحو

- ‌مدخل

- ‌أقسام الكلام

- ‌وسائل الترابط في السياق:

- ‌مظاهر التماسك السياقي:

- ‌مظاهر التوافق السياقي:

- ‌منهج المعجم:

- ‌تعريف الكلمة:

- ‌ما المعجم

- ‌منهج الدلالة:

- ‌ النظرة الديناميكية:

- ‌ النظرة الاستاتيكية:

- ‌خاتمة:

- ‌المراجع

- ‌مراجع عربية

- ‌مراجع أجنبية

- ‌الخطأ والصواب

- ‌فهرس:

- ‌صور الكتاب

الفصل: ‌مقدمة الحاجة إلى منهج للغة:

‌مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم:

جيلنا هذا الذي نعيش فيه، من أقل الأجيال المصرية حظا من الدعة والراحة والطمأنينة؛ لأن المرحلة التاريخية التي يمر بها هذا الجيل، تتطلب منه أقصى غايات اليقظة، ومنتهى آماد الجهد، لقد عاشت مصر قرونا طويلة في ظل الاستعباد، والخوف، والجهل، وفقدان الثقة بالنفس، فكانت الأجيال التي عاشت في هذه القرون تألف الاستعباد فلا تتعلق بالحرية، وترضخ للخوف فتعزف عن التعبير، ويغمرها الجهل فلا تبتكر في العلم، وتعوزها الثقة بالنفس فلا تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

ذلك الطابع السلبي في الحياة المصرية، كان صفة غالبة في كل مجالات النشاط الفردي والاجتماعي؛ فقد المصري الاعتداد بالنفس في السياسة، فساسه كل طامع حتى المماليك، وفقد اعتداده بنفسه في العلم، فرضي بالقابلية دون الفاعلية: القابلية التي تقنع من المجهود العلمي بترديد آراء السلف، دون الإضافة إليها، والفاعلية المنتجة التي لا يستغنى عنها شعب يريد الحياة لنفسه، وفقد الاعتداد بالنفس في الحرب، فأصبحت جيوش مصر من غير أبناء مصر، وفقد الاعتداد بالشعب، فلم تقم في مصر ثورة واحدة، ذات خطر طوال هذه الآماد الطويلة، التي مرت على مصر المستعبدة الخاضعة.

ثم هبت على مصر ريح جديدة شعبية وطنية، فنفخت في الصور، وهب الراقدون من موتهم حيارى في هذا الفزع الأكبر، لا يدرون أي طريق يسلكون ولا أي سبيل يقودهم إلى النجاة والفلاح، وتشعبت المسالك أمام الشعب بعد أن تثاءب، وتمطي ونفض عن نفسه غبار الموت، فوجد أمامه طريقا في الماضي يقوده إلى التراث العربي الخصب، ورأى أنه لو بعث هذا التراث، وأحياه لكان دافعا

ص: 3

لعزة جديدة لا تقل روعة عن التاريخ العربي نفسه، ووجد أمامه طريقًا في المستقبل، معالمه ما في أيدي الأمم من علوم، ومعارف يمكن أن ترقى بمصر إلى مستوى هذه الأمم ذات العلوم والمعارف، ثم رأى أنه لو سلك الطريق الأول فحسب، لا نقطع به التاريخ عن الحياة، ولو سلك الثاني فحسب لانقطعت به الحياة عن التاريخ، ففضل أن يأخذ بنصيب من التراث العربي يوحى إليه بالاعتزاز، ونصيب من الثقافة المعاصرة يمنحه العزة.

إذًا فجيلنا الحاضر نهب بين الشرق والغرب، لا في الثقافة وحدها، وإنما هو كذلك في العادات وطرق المعيشة، وهذه النفس الموزعة بين الشرق، والغرب لا بد أن تكون نفسا قلقة غير ذات استقرار، حائرة تتطلب الهدى، وطموحة تتطلب وحدة الهدف ووضوحه، فإذا أضفنا إلى هذا العنصر من عناصر الحيرة والاضطراب، والقلق أن المقادير قد ألقت على كاهل جيلنا هذا، أخطر تبعة تلقى على الأجيال، ألا وهي تبعة البناء من الأنقاض، وتمهيد الطريق، ووضع معالمه للأجيال القادمة؛ تبين لنا مقدار خطورة هذا الجيل في التاريخ المصري الحديث.

ولست بحاجة إلى أن أنبه إلى أن هذا الجيل أهل للقيام بهذه التبعات، فلقد هدم نظاما كان ثابتا كالطود، وأقام مكانه نظاما أثبت، وأقوى وأصلح، وجيلنا هذا هو الذي هاجم الجدب في الصحراء، والفساد في المجتمع، والرشوة في الحكم، والكسل في العمل، والتسويف في الإصلاح، والبلادة في الضمائر، وسيصل بعون الله إلى نتيجة باهرة لكل هجمة من هذه الهجمات.

نحن إذا في تطور يجب أن يشمل كل مرافق حياتنا، من سياسية إلى علمية إلى اقتصادية إلى حربية إلى اجتماعية إلى غير ذلك، وواجب المصري من هذا الجيل ألا يقنع بما هو كائن، وأن يفكر تفكيرا مضنيا فيما يجب أن يكون، وهذا هو المعنى الذي حفزني إلى أن أحاول هذه المحاولة في تجديد مناهج البحث في اللغة بفروعها المختلفة، وهي محاولة أترك الحكم عليها للقارئ.

ولست أريد أن أنهي القول في هذا التقديم، دون أن أنبه إلى بضع ملاحظات هامة، أولاها اعتذاري عما في هذا الكتاب من أخطاء مطبعية لم آل رغبة في

ص: 4

تجنبها، ولكن الكمال لله وحده، وسيجد القارئ قائمة بتصحيح هذه الأخطاء، فهو مرجو أن يطلع عليها، وأن يثبت كل تصويب منها في موضعه قبل البدء في القراءة.

وثانيتها أنني قد حددت الرموز الأصواتية المستخدمة في دراسة اللغة العربية الفصحى بين صفحتي 6، 13، ولست بحاجة إلى تحديد الرموز الأصواتية للكلمات الإنجليزية، التي وردت في منهج الدلالة؛ لأن كل مثال منها قد صاحبته كتابة الكلمة المرادة بالهجاء العادي، وهذا الهجاء يعين المراد بالكتابة الأصواتية، وقد وردت كلمات من لهجات الكرنك، وعدن والقاهرة في أثناء شرح منهج الأصوات، وكان لا بد من كتابتها بالرموز الأصواتية لهذه اللهجات، ولكن المطبعة العربية فقيرة في هذه الرموز، ولذلك عمدت إلى ما في يدي منها فعلا، فحاولت اسغلاله في كتابة هذه الكلمات، وأظن القارئ سيجد تباينا بين استخدام هذه الرموز من لهجة إلى أخرى، وهو تباين يقتضيه اختلاف النطق بين هذه اللهجات.

وأخيرا أرجو مخلصا أن تكون هذه المحاولة فاتحة محاولات أخرى في دراسة لهجاتنا العامية من جميع نواحيها، ومحاولات في التوسع في دراسة اللغة العربية الفصحى، بطرق البحث الجديدة الموضحة في هذا الكتاب، والله أسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، إنه نعم المولى، ونعم النصير.

تمام حسان.

ص: 5

‌مقدمة الحاجة إلى منهج للغة:

اللغة أخطر الظواهر الاجتماعية الإنسانية على الإطلاق، وكل تقدم اجتماعي كتب له الكمال إنما تم لوجود اللغة، تصو طائفة من الناس مجتمعة على عمل معين، لا يتم إلا بالتعاون بين أفراد هذه الطائفة؛ فذا التعاون يقتضي توزيعا للعمل بحيث يكون لكل فرد دوره الخاص الذي يقوم به، وبحيث يكون بعض الأفراد موجها، ورئيسا وبعضهم موجها ومرءوسا، وبحيث يلزم أن يتم اتصال من نوع معين بين الرئيس، والمرءوس لصالح العمل، ثم ابحث في خيالك وسوف لا تجد وسيلة للاتصال أنجح في هذا الباب من اللغة، وخير مثال لذلك العمل القائم الآن في كهربة خزان أسوان، والانسجام المطلق في العمل بين عمال المصانع، والتنظيم الدقيق للجهاز الحكومي؛ فكل أولئك أمثلة تتجلى فيها أهمية اللغة، كوسيلة من وسائل الاجتماع، وكأداة من أدوات تنسيق الجهود الفردية، ومزجها في مجهود جمعي عام.

واللغة أخطر رابطة تاريخية، تربط بين الأجيال المختلفة من الشعب الواحد رباطا، يجعل وحدة هذه الأجيال حقيقة ملموسة على رغم اختلاف العصور، ذلك بأن اللغة وعاء التجارب الشعبية والعادات، والتقاليد والعقائد التي تتوارثها الجيال واحدا بعد الآخر، فصفة الاستمرار لكل هذا لا تأتي إلا عن طريق اللغة، تورث معها، وتبقى ببقاء ما يدل عليها من المفردات والتراكيب، وإحساس الخلف بجهة شركة لغوية بينه، وبين السلف كفيل بخلق إحساس بالوحدة الشعبية بينه وبينه.

منذا الذي يستطيع الآن في أي بلد عربي أن يقطع بعروبته الخالصة؟ وهل يستطيع الكثيرون أن يقطعوا بأنهم عرب في أنسابهم، ودمائهم؟ الواقع أن لبعض العرب الآن من العلم بتاريخ عائلته، ما يدعوه إلى الحزم بأنه غير عربي النسب، ولكنه مع ذلك يحس بعروبته، كما يحس صريح العروبة أو أكثر، لماذا؟ لأن العربية لسان

ص: 1

كما ورد في الحديث؛ ولأن رابطة اللغة أقوى من أي رابطة اجتماعية أخرى، حتى إنها لتجعل المعاصرين من المصريين والعراقيين، والسوريين والتونسيين يفخرون في وقتنا هذا بمن غزا مصر والعراق، وسوريا وتونس في التاريخ العربي القديم؛ لأنهم يشعرون أن هؤلاء الغزاة من أسلافهم، وإن لم يكونوا كذلك من جهة النسب.

واللغة سلاح من أقوى الأسلحة النفسية، للسيطرة على الأفكار والأشياء.

وما أمر الدعاية بالخطب والإعلانات بالأمر الهين، وفي الانتخابات النيابية والمحاكمة، غالبا ما يكون الجانب الظافر أقدر الجانبين على استخدام سلاح اللغة، ويغشى المصلون من المساجد، ما تمتع بإمام مجيد لاستخدام هذا السلاح. وقد كانت القدرة على الخطابة في بعض الأحيان، سببا من أسباب الاختيار لعضوية مجلس الوزراء، وليس السحر وأثره على النفوس والأشياء بما يمكن إغفاله في هذا المقام، وحسبنا أنه يفرق بين المرء وزوجه، وأنه يجعل العصا حية تسعى، وكثيرا ما تكون الكلمة ملزمة، كما لو كانت قوة مجبرة، والهزل في نظر الفقه يوقع الطلاق والعتق، والتوقيع على ورقة قد يكون سببا في شقاء أو سعادة، وقد يحول مستقبل شخص ما إلى طريق غير الذي كان يسير فيه. والدعاء يستنزل رحمة السماء أو غضبها، ولقد كان السب في الذات الملكية -وما هو إلا حركات من حركات اللسان- كافيا لإيداع الشاتم في السجن مدة قد تطول أو تقصر، وما كان الشاتم لينزل هذا المنزل الخشن لولا حركات لغوية مماثلة تجري على لسان القاضي، ومن الناس من يشتري السلعة دون حاجة إليها؛ لأن البائع قد نجح في إقناعه بفائدة الصفقة، وتؤثر بلاغة اللغة وجودة الغناء بها في نفوسنا، حتى لنخرج عن المزاج المنقبض إلى المزاج المرح المنبسط. وقد تتصرف ونحن تحت هذا التأثير تصرفا، لا يسهل علينا لو لم نكن تحت تأثير اللغة.

وقديما قالوا: الناس أعداء ما جهلوا. وإنك لترى الشخص الذي لا تعرفه وتجلس معه جنبا إلى جنب في القطار، فلا يهمك من أمر شيء، ولو لقي شدة وهو في حالة هذه لما دفعك دافع على التضحية من أجله، ولكنه إذا كان قد سبق فقدم نفسه إليك، وتحدث معك بعض الوقت، فقد يكون ذلك سببا كافيا من أسباب

ص: 2

اهتمامك له، والبذل من أجله لتخلصه من هذه الشدة، وإنك لتقابل الشخص تعرفه وليس بينك وبينه صادقة، فيتوقف استمراره الصلة على بضع كلمات آلية ترددانها مثل صباح الخير، أو السلام عليكم، أو كيف الحال؟ تقولانها وأنتما لا تقصدان منها غير العمل في إنهاء الموقف، دون إضرار بالمعرفة السابقة، وإذا كان الناس أعداء ما جهلوا، فإن أكثر الأمم جلبا للأصدقاء، هي تلك التي تعمل على تعريف الأمم الأخرى بها، سواء في ماضيها أو في حاضرها، أو في آمالها الطموحة إلى المستقبل، فإذا كانت اللغة خير وسيلة لهذا التعريف، فما أخطر اللغة إذا! لأن الأمة تستطيع أن تكسب الأصدقاء لنفسها، إذا عملت على أن يكثر عدد العالمين بلغتها من الأجانب، وكل أجنبي يتعلم لغتك مكسب لك؛ لأنه يجد نفسه أكثر استعدادا للشعور، كما تشعر والتفكير كما تفكر، ويعطف على آمالك وآلامك التي تعلمها من قراءة لغتك، والكلام بها.

فطن الأوربيون إلى ذلك منذ زمن بعيد؛ فأنشأوا مدارس لهم في البلاد الأجنبية تعلم لغاتهم؛ فكانت لغاتهم أول سلاح من أسلحة السيطرة على البلاد، التي استعمروها؛ لأن اللغة كانت القنطرة، التي عبرت عليها المسيحية من عقل الأوروبي إلى قلب الأفريقي والأسيوي، كما كان الإسلام من قبل يسير جنبا إلى جنب مع اللغة العربية، ولعل المجلس البريطاني قد كسب لانجلترا من الأصدقاء، ما لم تحلم به سفاراتها وبعثاتها السياسية.

فإذا كان للغة هذا الخطر على نفس المواطنين، والجانب فحري بدراستها أن تكون محل عناية، وموضع اهتمام، ولقد حاربنا المستعمرون قديما بأن غرسوا في نفوسنا احتقار اللغة العربية؛ فأفقدونا ثقتنا بأنفسنا وبتاريخنا ومستقبلنا، وأصبح الكلام بلغتنا موضع تندر، وتكلمت الأسرات العريقة إحدى اللغات الأجنبية تركية كانت، أم فرنسية أم غير ذلك، وولغ الناس في سمعة مدرس اللغة العربية، كما يعتدون على سمعة كل طائفة قليلة الدخل، ولحقت عدوى احتقار اللغة طائفة المحامين في مبدأ نشأتها، ولا تزال تلحق طائفة المسرحيين من الممثلين في بعض الأوساط، ولكن وزارة المعارف قد عملت في ربع قرن على أن تداوي بعض

ص: 3

هذه الأدواء، وعلى رفع مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية، ففخر الناس بها، وتكلموها، وأعطوها حظا أكبر من العناية، ولكن وزارة المعارف -برغم رفعها مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية- خضعت للظروف السياسية، فهبطت بمستوى اللغة من الناحية الدراسية، ونتج عن ذلك أن انخفض المستوى التعليمي العام؛ لأن اللغة وهي أكبر وسيلة من وسائل التعليم، ترتفع بمستوى التعليم إذا ارتفع مستواها، وتنخفض به إذا انخفض مستواها.

وعلى هذه الدعوى الأخيرة، أريد أن أبني دعوى أخرى، هي أن خير التلميذين تقبلا للعلم أكثرهما معرفة باللغة التي يتعلم بها؛ وأكثر اللغتين جلبا لأصدقاء الأمة من الأجانب، تلك التي تسهل دراستها، وتقوم على منهج مقبول.

ولقد منيت الدراسات اللغوية العربية مدة طويلة بسمعة الصعوبة، وأحيانا بسمعة التعقيد، يشهد بذلك تلاميذ المدارس من جهة؛ وهؤلاء الذين لم يتخصصوا في اللغة من جهة أخرى، والجانب المستشرقون من جهة ثالثة، ولعل نعت الدراسات العربية هذه النعوت، إنما جاءها لعدم التجديد في منهجها؛ فما ورثناه عن آبائنا من خلط في التفكير اللغوي، لا يزال كما هو لسببين: أولهما الاعتقاد بأن الأوائل قد أتوا بما لا يمكن أن يزيد عليه الأواخر، "وتلك نظرة جعلت الأتراك في مرحلة من المراحل يقفلون باب الاجتهاد، أو بعبارة أخرى يحرمون البحث العلمي تحريما تاما"، والسبب الثاني ضيق النظرة إلى اللغة العربية، واعتبارها مرتبطة بالقرآن احتراما أو امتهانا، وقد أدى ذلك إلى قطع الصلة بينها وبين اللهجات العربية الأخرى القديمة والمعاصرة، وإلى تحريم الترخيص بالإضافة إلى محصولها، حتى إن بعضهم ليلزم استعمال ما جاء في المعاجم فحسب، ولا يسمح للوليد من الكلمات أن يدخل حظيرة الاستعمال اللغوي.

ولم يعدم العالم العربي في مختلف العصور، من يدعو إلى التجديد في منهج الدراسات اللغوية؛ ولعل أول محاولة لها خطرها في هذا الباب، هي محاولة ابن مضاء الأندلسي الظاهري المذهب، الذي دعا إلى اعتبار ما هو مستعمل فحسب من سيغ اللغة، دون الحاجة إلى التقدير والتعليل، وقد كثرت هذه المحاولات في العصر الحديث؛

ص: 4

حتى إن بعض هذه المحاولات، جاءت من أكثر الهيئات الثقافية محافظة على القديم وغيرة عليه، ألا وهي الأزهر، على أن هذه المحاولات قامت دائما على الذكاء، والاجتهاد الشخصيين ولم تقم على فلسفة لها عمقها في فهم اللغة. ولست أدعي لنفسي قسطا من الذكاء الشخصي، أكبر من حظ هؤلاء الذين قاموا بهذه المحاولات، بل إنني لا أسمح لنفسي -وهم أساتذتي الأجلاء- أن أساوي ذكائي بذكائهم الذي أشهد لهم به، ولكنني لا أستطيع أن أغمط حق النظرية، التي بنيت عليها هذه الدراسة، وهي نظرية جاءت نتيجة تجارب القرون في الغرب، فهيكلها غربي، وتطبيقها على اللغة العربية هو القسط الذي أنا مسئول عنه في هذا الكتاب.

ولقد جئت في هذا الكتاب بشرح مناهج الفروع الرئيسية في الدراسات اللغوية، وكم كنت أود أن يتسع الزمان، والمكان لدراسة فصول ثلاثة أخرى هي:

1-

التركيب والتحليل في اللغة.

2-

المستوى الصوابي والمجتمع اللغوي.

3-

الأبجدية "وظيفتها وتاريخها وإصلاحها"، ولعل المستقبل كفيل بأن أخصص لهذه الفصول الثلاثة مجلدا مستقلا، أقوم فيه على شرحها.

ويقوم تطبيق النظرية في هذا الكتاب على اللغة العربية الفصحى أولا، وقبل كل شيء، وحين يقضي المقام بالتمثيل من اللهجات العامية، يجد القارئ أن معظم الأمثلة، قد جاءت من لهجة الكرنك بمديرية قنا، وقد درستها لرسالتي التي حصلت بها على الماجستير من جامعة لندن، ولهجة عدن في جنوب بلاد العرب، وقد حصلت بدراستها على الدكتوراه من نفس الجامعة، فأما ما عدا ذلك من ذكر لهجات أخرى، فأمثلته مقتبسة من بطون المراجع، أو من ذاكرتي السمعية.

وتبدو الحاجة ملحة في أيامنا هذه إلى بناء الدراسات اللغوية على منهج له فلسفته، وتجاربه إراء للروح العلمية الخالصة من جهة، وتوفيرًا لجهود عشاق اللغة من جهة أخرى، فقارئ اللغة العربية في الوقت الحاضر، يجد نفسه أمام أمشاج من الأفكار غير المتناسبة يأتي بعضها من المنطق، وبعضها الآخر من الميتافيزيقا، وبعض ثالث من الأساطير، ورابع من الدين وهلم جرا، ومن هنا كانت الرغبة ملحة إلى تخليص منهج اللغة من هذه العدوى، حتى يسلم لقارئ اللغة نص في اللغة واللغة فحسب، غير

ص: 5

معتمد على أسس من خارجها، تلك هي الرغبة التي أملت هذا الكتاب، وستملي غيره إن شاء الله. وكم أود أن يمنح المجمع اللغوي هذا النوع من الدراسات قسطا من العناية بعد أن بدأت الجامعات في الاحتفال به، وكم أود أيضا أن يتسع صدر الجامعة، وكيسها لإنشاء معامل لهذه الدراسة في كلية دار العلوم وغيرها؛ وسوف لا يكلفها ذلك كثيرا من المال، وفي دار العلوم الآن نواة لهذا المعمل لا ننتفع بها، لعدم وجود أجزاء أخرى متكاملة معها، والله سبحانه وتعالى أسأل أن ينفع بهذا الكتاب؛ وأن يوفقنا إلى أن نتبعه ما وعدنا به من فصول أخرى عن اللغة، إنه سميع مجيب.

المؤلف.

ص: 6