المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: إقامة الحجج والبراهين على المشركين: - منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام - جـ ١

[حمود الرحيلي]

الفصل: ‌الفصل الثاني: إقامة الحجج والبراهين على المشركين:

‌الفصل الثاني: إقامة الحجج والبراهين على المشركين:

ويشتمل على ما يلي:

1-

الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن أقوى الأدلة التي أقامها القرآن الكريم على الناس عموماً والمشركين خصوصاً، ثبوت صدق النّبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مرسل من ربه تبارك وتعالى ثبوتاً، لا يحتمل الشك والمراء وقد دلل على ذلك من وجوه عديدة منها:

أ- شهادة الله له:

قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لَاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} 1.

ومعنى الآية الكريمة أنَّ الله تعالى يأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين أي شيء أعظم شهادة، حتى يشهد لي بأني صادق في دعوتي لكم للإيمان بنبوتي؟ فإنّ أجابوك، وإلاّ فقل لهم الله يشهد لي بصدق ما أدعو إليه، وكفى بشهادة الله لي.

ب- وجود صفته في كتب أهل الكتاب:

إنَّ أهل الكتاب كانوا يجدونه موصوفاً عندهم في التوراة والإنجيل،

1 سورة الأنعام الآية: 19.

ص: 391

بصفاته الكاملة، قال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1.

وقال تعالى: {

وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ

} 2.

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} 3.

وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم لا تزال توجد في كتب أهل الكتاب: العهد القديم، والعهد الجديد، رغم دخول التحريف والتبديل على هذه الكتب4.

1 سورة البقرة الآية: 146.

2 سورة الأعراف الآيتان: 156-157.

3 سورة الشعراء الآية: 197.

4 انظر في هذا إظهار الحق لرحمة الله الهندي، والفارق بين المخلوق والخالق لعبد الرحمن بك زاده، والأجوبة الفاخرة لشهاب الدين القرافي وغيرها.

وقد تحدثت عن هذا الموضوع في رسالتي للماجستير "منهج القرآن الكريم في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام".

ص: 392

ج- شهادة اليهود له:

وقد كان اليهود يستفتحون بالرسول صلى الله عليه وسلم على المشركين من العرب قبل البعثة، قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} 1.

ذكر ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور:.. يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم، فأنزل الله في ذلك من قولهم: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ

} الآية2.

1 سورة البقرة الآية: 89.

2 انظر: سيرة ابن هشام 1/547، وتفسير الطبري 1/410، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 3/283، وأسباب النزول للسيوطي ص:21.

ص: 393

وروى الإمام أحمد في مسنده عن سلمة بن سلامة رضي الله عنه -وكان من أصحاب بدر- قال: "كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال فخرج علينا من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ -أحدث من فيه سناً- على بردة مضطجعاً بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة، والحساب والميزان، والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائناً أنَّ الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به لَودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً، قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا من أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار، حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً، فقلنا: ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا ما قلت؟ قال: بلى وليس به"1.

1 مسند أحمد 3/467.

قال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع. انظر مجمع الزوائد 8/230. وصححه ابن حبان.

ص: 394

د- شهادة النصارى له:

وكذلك كان النصارى يترقبون مبعثه صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله عز وجل أن المسيح بن مريم عليه السلام قد بشر بني إسرائيل ببعثه صلى الله عليه وسماه لهم في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} 1.

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنَّ أحمد من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب"2.

ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ورقة بن نوفل الذي

1 سورة الصف الآية: 6.

2 أخرجه البخاري بشرح الفتح 6/554 كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، و 8/640 كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} .

وصحيح مسلم 4/1828 كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم.

ص: 395

ترويه عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه –وهو التعبد- الليالي ذوات العدد

إلى أن قالت: فأتت به خديجة ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، فقالت: اسمع من ابن أخيك، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا هو الناموس الذين نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب1 ورقة أن توفي"2.

ومن ذلك ما جاء في الصحيحين أيضاً من حديث أبي سفيان،

1 قال ابن الأثير: لم ينشب أي: لم يلبث، وحقيقته لم يتعلق بشيء غيره، ولا اشتغل بسواه. النهاية 5/52.

2 صحيح البخاري 1/3-4 كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومسلم 1/139 وما بعدها كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث:252.

ص: 396

عندما استدعاه هرقل في بلاد الشام، قال في آخر حديثه:"وقد كنت أعلم أنه خارج (نبي) ، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي"1.

ومن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق إلى أرض النجاشي، فذكر حديثه، قال النجاشي: "أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه"2.

ومن ذلك حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان، من قرية منها يقال له جى، وذكر الحديث إلى أن قال في قصته مع الرهبان النصارى، فإلى من توصي بي، وما

1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/32 كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومسلم 3/1393 كتاب الجهاد، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل.. .

2 سنن أبي داود 3/543 كتاب الجنائز، باب في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك، وإسناده حسن.

انظر: حاشية جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير 11/264.

ص: 397

تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تتبعه، ولكنه قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أنْ تلحق بتلك البلاد فافعل

"1.

هـ - شهادة مشركي العرب له بالصدق والأمانة:

لقد حفظ لنا التاريخ صحيفة بيضاء لحياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، ومما حفظ لنا التاريخ أنه صلى الله عليه وسلم اشتهر بالصدق والأمانة، وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين2، وكانوا يضعون

1 رواه أحمد في المسند 5/441 وما بعدها.

وانظر: دلائل النبوة للبيهقي 1/348.

قال ابن حجر: "ورويت قصته من طرق كثيرة من أصحها ما أخرجه أحمد من حديثه نفسه، وأخرجها الحاكم من وجه آخر عنه أيضاً، وأخرجه الحاكم من حديث بريدة، وعلق البخاري طرفاً منها". الإصابة 2/62.

2 انظر قصة الحجر الأسود في سيرة ابن هشام 1/197، والبداية والنهاية لابن كثير 2/303، وقصة المغيرة والمقوقس في دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني ص: 49، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 1/99، وأسمائه صلى الله عليه وسلم في الخصائص الكبرى للسيوطي 1/193.

ص: 398

عنده أماناتهم لِمَا يعلمونه من صدقه وأمانته1.

وكان رأيهم هذا يعد إجماعاً منهم فيه صلى الله عليه وسلم، يؤيد ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 2، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنت مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} "3.

1 انظر قصة تخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الهجرة في مكة من أجل تأدية الودائع التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، في تاريخ الطبري 2/378.

2 سورة الشعراء الآية: 124.

3 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/737 كتاب التفسير، سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .

وصحيح مسلم بشرح النووي 3/83.

ص: 399

فتأمل قولهم: "ما جربنا عليك إلا صدقاً"، معنى ذلك: أنهم لم يحفظوا عنه كذبة واحدة قبل أن يقول لهم ذلك القول، وإلا لذكروها له.

وشهد أبو سفيان -قبل أن يسلم- أمام هرقل بصدقه صلى الله عليه وسلم، قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان لا

"1.

كما شهد أمية بن خلف وزوجته قائلاً كلٌ منهما: "فوالله ما يكذب محمدٌ إذا حدث"2.

لقد قالوا ذلك مع شدة عداوتهم له صلى الله عليه وسلم، فيا لها من شهادة.

و إخبار الجن عنه صلى الله عليه وسلم:

روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول إنّي لأظنه كذا إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو أنَّ هذا

1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/32 كتاب بدء الوحي.

ومسلم 3/1393 كتاب الجهاد، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل.

2 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/629، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.

وأحمد في المسند 1/400.

ص: 400

على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، على الرجل، فدعي له فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم أستقبل به رجل مسلم، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك. قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها1، ويأسها2، من بعد إنكاسها3، ولحوقها بالقلاص4، وإحلاسها5؟ قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً أشد منه يقول: يا جليح6، أمر نجيح7، رجل فصيح يقول: لا إله إلا أنت فوثب القوم قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلاّ الله، فقمت، فما نشبنا أنْ

1 إبلاسها وفي رواية: "تجساسها" أي: أنها فقدت أمراً فشرعت تفتش عليه. الفتح 7/180.

2 المراد به اليأس ضد الرجاء. الفتح 7/180.

3 الإنكاس: الإنقلاب. الفتح 7/180.

4 القلاص: الفتية من النياق. الفتح 7/180.

5 الإحلاس: ما يوضع على ظهور الإبل تحت الرحل. الفتح 7/180.

6 الجليح معناه: الوقح المكافح بالعداوة. الفتح 7/181.

7 يقال نجح فلان، وأنجح، إذا أصاب طلبته. النهاية لابن الأثير 5/18.

ص: 401

قيل هذا نبي"1.

ز- معجزاته:

ومعنى الإعجاز في اللغة الفوت والسبق، يقال: أعجزني فلان، أي فاتني

قال الليث: "أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه"2.

والعجز في التعارف: اسم للقصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة3، قال تعالى:{أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي} 4.

والمعجزة في الإصطلاح: هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم عن المعارضة5.

والمراد بالإعجاز هنا: هو إظهار صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب بل الناس جميعاً عن معارضته في

1 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/177 كتاب مناقب الأنصار، باب إسلام عمر.

2 لسان العرب لابن منظور 5/370.

3 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص: 322.

4 سورة المائدة الآية: 31.

5 الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/148.

ص: 402

معجزته الخالدة –وهي القرآن الكريم- وعجز الأجيال من بعدهم إلى قيام الساعة.

فالقرآن الكريم قد جاء يحاج العقل البشري ويتحداه إلى الأبد، بعلومه ومعارفة، وأسلوبه وبلاغته، وإخباره الماضية والمستقبلة، وهذا بخلاف معجزات الأنبياء السابقين، وعلامات صدقهم، فإنها كانت محسوسة مشاهدة، وكانت من جنس ما اشتهر به أقوامهم.

وهذا ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "ما من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أنْ أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة"1.

وبيان ذلك أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث في قوم بلغ فيهم البيان العربي أوج عزته، وتفننت لديهم الفصاحة والبلاغة بأرقى الأساليب، وأوضح البيان.

فجاء القرآن الكريم كلاماً معجزاً وأفكاراً حية نابضة خالدة بخلود الزمن في المبادئ، والأخلاق، والعقائد، ومناقشة المبطلين، والرد عليهم، وإقامة الحجج والبراهين على بطلان مزاعمهم.

والرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك رجل أمي لا يعرف القراءة

1 صحيح البخاري 6/97 كتاب الفضائل، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل -المكتبة الإسلامية - استانبول.

ص: 403

والكتابة، ولم يدرس في مدرسة، أو يتعلم علومه في جامعة.. ولم يثبت عنه أنه تلقى شيئاً من العلوم والمعارف من بعض العلماء أو المبرزين في صنوف الثقافة والمعرفة، ولم يتصل بأحدٍ من علماء أهل الكتاب حتى يطلعَ على أخبار الأنبياء السابقين.

ومع ذلك فقد تحدى النبي صلى الله عليه وسلم العرب خاصة، والناس عامة بالقرآن الكريم على ثلاث مراحل:

1-

تحداهم أن يأتوا بمثله وأمهلهم سنين طويلة فلم يقدروا، كما قال تعالى:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} 1.

كما ورد التحدي بالقرآن الكريم كله، قال تعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 2.

لقد طلب منهم أن يأتوا بكتاب كامل غير هذا الكتاب الكريم، فإذا لم يستجيبوا لدعوته، دلّ ذلك على أنهم متعنتون، يعبدون الهوى، ويسيرون على غير الهدى.

2-

فلما عجزوا عن ذلك تحداهم بعشر سور من مثله مفتريات،

1 سورة الطور الآية: 34.

2 سورة القصص الآية: 49.

ص: 404

قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} 1.

3-

وبعد عجزهم عن ذلك تحداهم بالإتيان بسورة واحد مثله في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 2.

وكرر هذا التحدي في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 3.

وبرغم هذا النزول في التحدي إلى الإتيان بسورة واحدة، ولو

1 سورة هود الآيتان: 13-14.

2 سورة يونس الآية: 38.

3 سورة البقرة الآيتان: 23-24.

ص: 405

بأقصر السور، لم يتقدم واحد منهم إلى حلبة الميدان، رغم أنهم أئمة الفصاحة، وفرسان البلاغة، وثبت عجزهم، وظهر إعجاز القرآن الكريم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1.

وقد ظل القرآن الكريم منذ اكثر من أربعة عشر قرناً، وسيظل بإذن الله ما بقي الدهر، يتحدى سائر الأمم عن الإتيان بمثل سورة واحدة من سوره، وما ذلك إلاّ لأنه كلام رب العالمين.

وهناك معجزات أخرى كثيرة كانشقاق القمر، وحراسة السماء بالشهب، ومعراجه إلى السماء إلى سدرة المنتهى، وحماية الله له من أعداءه وعصمته من الناس، وإجابة دعائه، ونبع الماء من بين أصابعه، وإخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها أحد إلاّ بتعليم من الله تعالى

هذا وقد ذكر الإمام النووي في مقدمة شرح مسلم أنَّ معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على الألف والمائتين2.

1 سورة الإسراء الآية: 88.

2 انظر مقدمة شرح النووي على مسلم 1/ 2.

ص: 406

والاسترسال في هذا الموضوع يخرجنا عن المقصود، ومن أراد التوسع فعليه بكتب دلائل النبوة1.

1 من هذه الكتب: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للحافظ أبي بكر أحمد ابن الحسين البيهقي، القسم الأول، طبع بمطبعة دار النصر للطباعة، القاهرة، ونشرته المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، والقسم الثاني مخطوط بالجامعة الإسلامية تحت رقم:2593.

وهناك دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، وإعلام النبوة للماوردي الشافعي، وكلاهما مطبوع.

ص: 407

2-

أسئلة تفحم المشركين:

ومن الحجج التي أقامها القرآن الكريم على المشركين، استجوابهم عن أمور لا يمكنهم إنكارها، كالرزق والحواس، وأحوال الموت والحياة، وشئون التدبير.

قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَاّ يَهِدِّيَ إِلَاّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَاّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} 1.

1 سورة يونس الآيات: 31-36.

ص: 408

فهذه الآيات الكريمة قد اشتملت على استجواب المشركين على أربعة أمور لا يمكنهم إنكارها، وذلك أنَّ الكلام إذا كان واضحاً جلياً، ثم ذكر على سبيل السؤال والاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤل، كان ذلك أبلغ وأوقع في قلب السامع.

وهذه الأمور هي: أحوال الرزق، وأحوال الحواس، وأحوال الموت والحياة، وتدبير الأمر1.

فأما الأمر الأول: فهو السؤال عن مسبب الأرزاق، وذلك أن الرزق إنّما يحصل من السماء والأرض، أما من السماء فبنزول الأمطار، كما قال تعالى: {

وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2.

وقال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} 3.

1 انظر التفسير الكبير للفخر الرازي 17/76.

2 سورة الجاثية الآية: 5.

3 سورة عبس الآيات: 24-32.

ص: 409

وأما الرزق من الأرض، فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً، أما النبات فلا ينبت إلاّ من الأرض، وأما الحيوان فهو محتاج إلى الغذاء، فلزم القطع بأنَّ الأرزاق لا تحصل إلاّ من السماء والأرض، ومعلوم أن مدبر السموات والأرض ليس إلاّ الله سبحانه وتعالى، وفثبت أنَّ الرزق ليس إلا من الله تعالى1.

وأما الأمر الثاني: فهو أحوال الحواس، ومن أهمها وأشرفها: السمع والبصر، كما قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} 2.

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} 3.

وكان علي رضي الله عنه يقول: "سبحان من بصر بشحم، وأسمع

1 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 17/86 بشيء من التصرف.

2 سورة الأنعام الآية: 46.

3 سورة الملك الآية: 23.

ص: 410

بعظم، وأنطق بلحم"1.

وأما الأمر الثالث: فهو أحوال الموت والحياة في قوله تعالى: {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} 2.

قال الإمام القرطبي: "أي النبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والسنبلة من الحبة، والطير من البيضة، والمؤمن من الكافر"3.

وقال الإمام ابن كثير رحمه الله عند قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} 4، أي:" تخرج الزرع من الحب، والحب من الزرع، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذ المجرى من جميع الأشياء"5.

1 التفسير الكبير للفخر الرازي 17/86.

2 سورة يونس الآية: 31.

3 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/335.

4 سورة آل عمران الآية: 27.

5 تفسير ابن كثير 1/371.

ص: 411

أما الأمر الرابع: فهو قوله: {وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ، وذلك لأن أقسام تدبير الله تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي، وفي عالم الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها، فلما ذكر تعالى بعض تلك التفاصيل، لا جرم عقبها بالكلام الكلي، ليدل على الباقي1.

فهذه الآيات الكريمة تبين لنا أنّ استجواب المشركين عن هذه الأمور الأربعة، يهدف إلى إلزامهم بما يعترفون به حقيقة، وبما فطرت عليه نفوسهم من الإيمان بما تحس وما يحصل عندها من بداهة إلى حد الضرورة، ولهذا عندما سُئل المشركون هذا السؤال لم يكن بد من الاعتراف بما يعتقدونه من وجود الله تعالى، وتدبيره لشئون خلقه ووحدانيته، إذ لا مجال للعناد والمكابرة في شيء من ذلك لغاية وضوحه.

ومما يؤيد اعترافهم وإقرارهم بربهم الأعلى الذي يلجأون إليه في الرغبة والرهبة، ما رواه الترمذي عن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحصين: "كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: من لرهبتك ورغبتك، قال: الذي في السماء، قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين، فأسلم، وعلمه النبي

1 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 17/87.

ص: 412

صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي" 1.

ومن تقرير وحدانية الله تعالى واستقلاله بالملك والتصرف عن طريق السؤال الذي لا محيد لهم فيه عن الجواب الصحيح.

قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 2.

ففي هذه الآيات الكريمة أمرَ اللهُ رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين لمن الأرض وما فيها من الحيوانات والنبات والثمار، وسائر صنوف المخلوقات؟ ومن المالك لها والمتصرف فيها بالإيجاد، والإفناء؟ فإن كان لديكم علم بذلك فأخبروني به.

ستجد أنّهم عند ذلك ينطقون بالحق، وهو أن ذلك لله وحده، فإذا كان ذلك فقل لهم:{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ، أي: أفلا تعتبرون أنّه لا تنبغي العبادة

1 الجامع الصحيح للترمذي 5/519-520 كتاب الدعوات، باب جامع الدعوات، وقال: هذا حديث غريب. رقم: 3483.

2 سورة المؤمنون الآيات: 85-90.

ص: 413

إلاّ للخالق الرازق المحي المميت.

وقل لهم: {مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، أي: من هو خالق السموات الطباق بما في ذلك الشمس والكواكب والأقمار، ومن هو خالق العرش الكبير الذي تحمله الملائكة الأطهار؟

ستجد أنّهم يقولون الله وحده، فقل لهم يا محمد {أَفَلَا تَتَّقُونَ} ، أي: أفلا تخافون من عذابه فتوحدونه وتتركون عبادة غيره.

ثم قل لهم: {مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: من بيده الملك الواسع؟ ومن بيده خزائن كل شيء؟ ومن هو المتصرف في هذه الأكوان بالخلق والإيجاد والتدبير؟ وهو مع ذلك يحمي من استجار به والتجأ إليه.

وكانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحداً، لا يخفر في جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه، لئلا يفتات عليه1.

إن المشركين عند ذلك: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ، أي: إذا كنتم تقرّون بأنَّ الملك والتدبير كله لله جل وعلا، فكيف تخدعون وتعرضون عن طاعته وتوحيده.

1 تفسير ابن كثير 3/266.

ص: 414

قال أبو حبان: "والسحر هنا مستعار، وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها، بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط"1.

وقال صاحب كتاب التسهيل: "ورتب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج، فقال أولاً: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ، ثم قال ثانياً: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} ، وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثاً: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ، وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره"2.

وقال القرطبي: "ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار، وإقامة الحجة عليهم، ونبهت على أنّ من ابتدأ بالخلق والاختراع والإيجاد والإبداع، هو المستحق للألوهية والعبادة "3.

ثم قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 4، وهو إعلام من الله تعالى بأنه لا إله غيره، وقد قامت الأدلة الصحيحة الواضحة على ذلك، وأن المشركين لا يفعلون ذلك عن دليل، وإنّما يتبعون الإفك والضلال طريق آبائهم وأسلافهم في الجهل والتقليد.

1 البحر المحيط 6/418.

2 التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي 3/119.

3 الجامع لأحكام القرآن 12/146.

4 سورة المؤمنون الآية: 90.

ص: 415

3-

الاحتجاج على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية وإقرارهم بتوحيد الإلهية عند الشدائد:

أ-إقرارهم بتوحيد الربوبية:

ومن أقوى الأدلة التي أقامها القرآن الكريم على المشركين في تقرير وحدانية الله تعالى اعتراف المشركين بأن الله تعالى هو المستقل بخلق وتدبير ما في الكون من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، وسحاب وأنهار، وأنعام وحيوان، ونبات وأزهار

وأنه الخالق الرازق المالك لعباده، ومقدر أرزاقهم وآجالهم.

جاء هذا الاعتراف والإقرار في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 1.

وقوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

1 سورة يونس الآية: 31.

ص: 416

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1.

ويقول سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2.

ويقول تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} 3.

يقول سيد قطب رحمه الله عند تعرضه للآيات المتقدمة من سورة العنكبوت: " هذه الآيات ترسم صورة لعقيدة العرب فيما قبل الإسلام، وتوحي بأنه كان لها أصل من التوحيد، ثم وقع فيها الانحراف، ولا عجب في هذا فهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقد كانوا بالفعل يعتقدون أنّهم على دين إبراهيم، وكانوا يعتزون بعقيدتهم على هذا الأساس، ولم يكونوا يحفلون كثيراً بالديانة الموسوية أو المسيحية، وهما معهم في الجزيرة العربية اعتزازاً منهم بأنهم على دين إبراهيم، غير منتبهين إلى ما صارت إليه عقيدتهم من التناقض والانحراف، وكانوا إذا سئلوا عن

1 سورة المؤمنون الآيات: 84-89.

2 سورة العنكبوت الآية: 61.

3 سورة العنكبوت الآية: 63.

ص: 417

خالق السموات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السماء، ومحي الأرض بعد موتها بهذا الماء.. يقرون أنّ صانع هذا كله هو الله، ولكنهم مع هذا يعبدون أصنامهم، أو يعبدون الجن، أو يعبدون الملائكة، ويجعلونهم شركاء لله في العبادة، وإن لم يجعلوهم شركاء له في الخلق.. وهو تناقض عجيب

"1.

والحق أن المتأمل في القرآن العظيم، يجد أنَّ أكثر ما دار الحوار بين الأنبياء وأممهم، إنّما هو في إثبات الوحدانية لله تعالى، وإلا فإنّ الإقرار بوجود الله تعالى والاعتراف به خالقاً رازقاً مدبراً، أمر فطري في النفوس البشرية، إلا إذا انتكست تماماً، ولهذا قالت الرسل لأقوامهم المكذبة بإرسالهم إليهم: {أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

} 2.

وقد قالوا لهم ذلك على وجه الاستفهام الإنكاري والتوبيخ، لأنَّ وجود الله ووحدانيته أمر لا يحتمل الشك، لظهور الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة على ذلك، وصدق القائل:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد3.

1 في ظلال القرآن 6/428.

2 سورة إبراهيم الآية: 10.

3 إحياء علوم الدين للغزالي 1/141.

ص: 418

أما قول ذلك المارد (النمرود بن كنعان) الذي جادل إبراهيم عليه السلام في ربه، كما ذكر الله تعالى قصته في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1.

فقد حمله بطره وطغيانه وكفره بنعم الله عليه، بأنْ ادعى لنفسه مماثلة إله إبراهيم في الإحياء والإماتة، حيث فسر الإحياء بالعفو عمن يستطيع قتله، والإماتة بمن يستطيع إعدامه.

ومن هنا فإنّ إبراهيم عليه السلام قطع حجته الواهية، بأن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق، فعليه هو إن كان رباً صادقاً مثل إله إبراهيم، أنْ يأتي بالشمس من المغرب، ولو مرة واحدة؟ فعند ذلك أخرس ذلك الفاجر بالحجة القاطعة، وأصبح مبهوتاً لا يستطيع أنْ ينطق بكلمة.

وكذلك ما ادعاه فرعون من الربوبية والإلهية، كما حكى الله تعالى ذلك عنه في قوله:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 2.

1 سورة البقرة الآية: 258.

2 سورة القصص الآية: 38.

ص: 419

وقوله: {فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} 1، فقد وضّح القرآن الكريم أن فرعون وملأه قد عرفوا الحق في أنفسهم، ولكن منعهم الكبر والطغيان عن اتباعه، قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 2.

وأما ما حكاه الله تعالى عن الدهريين، في قوله تعالى:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} 3.

فهم قلة ممن فسدت فطرتهم فانحرفوا عن اتباع الحق، ومسلك العقلاء، وليس عندهم دليل على دعواهم سوى الظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً، ومن هذا يتبين لنا أن الإقرار بتوحيد الربوبية، هو حجة ملزمة على المشركين، لأنه إذا كان الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو الخالق الرازق وحده، فلماذا يعبدون غيره معه؟ وهم مع ذلك يعترفون أنَّ تلك المعبودات لا تملك لهم منعاً ولا عطاء، ولا تملك لأنفسهم ضراً ولا

1 سورة النازعات الآيتان: 23-24.

2 سورة النمل الآيتان: 13-14.

3 سورة الجاثية الآية: 24.

ص: 420

نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكيف تملك ذلك لغيرها؟!

ب- إقرارهم بتوحيد الإلهية عند الشدائد:

وأما إقرار المشركين بتوحيد الإلهية والتجاؤهم إلى الله تعالى وحده عند الشدة والكرب وتركهم كلَّ ما كانوا يدعونه من دون الله من الأصنام والأنداد وغيرها، فقد ثبت ذلك عنهم في آيات كثيرة منها:

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 1.

ونذكر في هذا الصدد ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا –رحمه الله في تفسير هذه الآيات:

"والمعنى: قل يا أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين

أخبروني عن رأيكم أو عن مبلغ علمكم في ذلك إن أتاكُم عذاب الله الذي نزل بمن كان من أقوام الرسل قبلكم، كالريح الصرصر العاتية، والصاعقة أو الرجفة القاضية، ومياه الطوفان المغرقة، وحرارة الظلمة المحرقة، أو أتتكم الساعةُ بمقدمات أهوالها، أو ما يلي البعث من خزيها ونكالها، أغير الله في هذه الحالة تدعون؟ أم إلى غيره فيها تجأرون؟ إن كنتم صادقين في

1 الأنعام الآية: 40-41.

ص: 421

دعواكم ألوهية هؤلاء الشركاء، الذين اتخذتموهم أولياء، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء، أو إن كان من شأنكم الصدق فأخبروني أغير الله تدعون إذا أتاكم أحد هذين الأمرين؟ اللذين يحلو دونهما طعم الأمرين؟

ثم أجاب تعالى مخبراً إياهم عما تقتضيه فطرتهم فقال: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي لا تدعون غيره لا وحده ولا معه، بل تخصونه وحده بالدعاء، فيكشف ما تدعون إلى كشفه إن شاء وتنسون ما تشركون الآن من الشفعاء والأنداد، لأنَّ الفزع إليه سبحانه عند شدة الضيق واليأس من الأسباب مركوز في فطرة البشر تنبعث إليه بذاتها كما تنبعث إلى طلب الغذاء عند الجوع مثلاً"1.

قال الزجاج:" أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلاّ إياه، وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم عبدوا الأصنام"2.

وقال تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن

1 تفسير المنار 7/408-409.

2 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 3/37.

ص: 422

تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} 1.

ففي هذه الآيات الكريمة نرى القرآن الكريم يخاطب محمداً صلى الله عليه وسلم بمحاكمة المشكرين المعاندين إلى ما تنطق به فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية، وتلتجئ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة والضيق والحرج، حين يعانون في أسفارهم أهوال البر والبحر، فإنهم لا يتوجهون في تلك اللحظات إلى صنم ولا إلى كوكب، ولا إلى ملك ولا إلى جني، ولا إلى غير ذلك.

وإنّما يتوجهون إلى الله وحده مخلصين له الدين سراً وجهراً، ويعدون الله تعالى إذا أنجاهم من تلك الضائقة أن يكونوا من المؤمنين الشاكرين، ولكنهم بعد نجاتهم وأخذهم على أنفسهم العهد ألا يشركوا بالله تعالى يعودون إلى الشرك مرة أخرى.

ويماثل معنى الآيات السابقة، قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

1 سورة الأنعام الآية: 63-65.

ص: 423

الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 1.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} 2.

وقوله عز وجل: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُون لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 3.

وقوله عز من قائل: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} 4.

1 سورة يونس الآيتان: 22-23.

2 سورة الإسراء الآية: 67.

3 سورة النحل الآيات: 53-55.

4 سورة النمل الآية: 62.

ص: 424

وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1.

وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 2.

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين أنّ ما تقلده المشركون من الشرك، إنّما هو أمر عارض وشيءٌ طارئ يشغل أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الراحة والرخاء، أما إذا نزل بهم ما لا يُطاق من اللأواء وشدة الفزع، فإنهم يجأرون بالدعاء إلى الله وحده، مخلصين له الدين، وضلَّ عنهم كل ما كانوا يدعونه من الأصنام والأوثان، لأنَّ هذا دعاء القلب والفطرة، لا دعاء اللسان والتقليد الأعمى.

1 سورة العنكبوت الآية: 66.

2 سورة الزمر الآية: 8.

ص: 425

4-

الدعوة عن طريق السؤال والجواب:

ومن تنويع أساليب القرآن الكريم في الاحتجاج على المشركين، والتفنن في دعوتهم إلى توحيد الله تعالى –حتى لا يسأموا- استعمل معهم أسلوب الدعوة إلى التوحيد عن طريق السؤال والجواب.

قال الله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} 1.

ومعنى قوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ} ، أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاحدين لرسالتك، المعرضين عما جئتهم به من أمر التوحيد، والبعث والجزاء، لمن هذه المخلوقات في العالم كله، علوية وسفلية؟ لمن الكائنات جميعاً في السموات والأرض خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً؟ قل لهم تقريراً وتنبيهاً وإلزاماً هي لله تعالى وحده، لأنهم يوافقون ويقرون بذلك، ولا يستطيعون إنكاره، إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم.

وقد جزم صاحب الكشاف، بأنَّ السؤال للتكبيت، وأنَّ قوله تعالى:

1 سورة الأنعام الآية: 12.

ص: 426

{قُل لِلّهِ} تقرير لهم، أي: هو لله لا خلاف بيني وبينكم في ذلك، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره1.

وقال الرازي: "أمره بالسؤال أولاً، ثم بالجواب ثانياً، وهذا إنّما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب فيه قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع"2.

ومن الآيات التي وردت في إثبات الوحدانية عن طريق السؤال والجواب، قوله تعالى: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا

} 3.

قال القرطبي رحمه الله: " أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} ، ثم أمره أن يقول لهم هو الله إلزاماً لهم للحجة، إنْ لم يقولوا ذلك وجهلوا من هو"4.

وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

1 الكشاف 2/7.

2 التفسير الكبير 12/164.

3 سورة الرعد الآية: 16.

4 الجامع لأحكام القرآن 9/303.

ص: 427

مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 1.

إن الناس يشتاقون إلى مشرق الصبح حين يطول بهم ليل الشتاء، ويحنون إلى ضياء الشمس عندما تتوارى عنهم فترة وراء السحاب، فكيف بهم لو فقدوا الضياء، ولو دام عليهم الليل سرمداً إلى يوم القيامة؟ على فرض أنهم ظلوا أحياء، وإنَّ الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار، لو لم يطلع عليها النهار، والناس يستروحون الظلام حين يطول عليهم الهجير ساعات من النهار، ويحنون إلى الليل حين يطول النهار بعض ساعات في الصيف، ويجدون في ظلام الليل وسكونه الملجأ والقرار.

والحياة كلها تحتاج إلى فترة الليل لتجدد ما تنفقه من الطاقة في نشاط النهار، فكيف بالناس لو ظل النهار سرمداً إلى يوم القيامة على فرض أنهم ظلوا أحياء، وإن الحياة كلها معرضة للتلف والبوار، إن دام

1 سورة القصص الآيات: 71-75.

ص: 428

عليها النهار1.

أما العلم الحديث، فيقول كريسي موريسون:" إن الشمس التي هي مصدر كل حياة، تبلغ درجة حرارة مسطحها 12.000 درجة فهرنهايت، وكرتنا الأرضية بعيدة عنها إلى حد يكفي لأن تمدنا هذه النار الهائلة بالدفء الكافي، لا بأكثر منه، وتلك المسافة ثابتة بشكل عجيب، وكان تغيرها في خلال ملايين السنين من القلة، بحيث أمكن استمرار الحياة كما عرفناها، ولو أنَّ درجة الحرارة على الكرة الأرضية قد زادت بمعدل خمسين درجة في سنة واحدة، فإن كل نبت يموت، ويموت معه الإنسان حرقاً أو تجمداً.

والكرة الأرضية تدور

بمعدل ثمانية عشر ميلاً في الثانية، ولو أنَّ معدل دورانها كان مثلاً ستة أميال أو أربعين ميلاً في الثانية، فإن بعدنا عن الشمس أو قربنا منها يكون بحيث يمتنع معه نوع حياتنا، ولو أنَّ شمسنا أعطت نصف إشعاعها الحالي فقط، لكنا تجمدنا، ولو أنها زادته بمقدار النصف، لأصبحنا رماداً من زمن بعيد، هذا إذا كنا قد ولدنا بوصفنا شرارة بروتوبلازمية (خلية) للحياة، ومن ذلك نجد أن شمسنا هي الصالحة لحياتنا من بين ملايين الشموس غير الصالحة لهذه الحياة "2.

1 انظر في ظلال القرآن لسيد قطب 6/369-370 بتصرف.

2 العلم يدعو للإيمان ص: 55 الطبعة الخامسة 1965م.

ص: 429

والآيات تبين للناس جميعاً والمشركين على وجه الخصوص، أنَّ تعاقب الليل والنهار بهذا النظام الدقيق المحكم إلى يوم القيامة، يدل دلالةً جليةً على قدرة الخالق، وأنه لا إله غيره، ولا أحد يفعل كفعله، ولذا كان الخطاب عن طريق السؤال والجواب للتبكيت والإلزام بالحجة الواضحة التي لا يمكن إنكارها.

ص: 430

5-

أمثلة من البراهين العقلية على وحدانية الله:

الدين الإسلامي لا يدعو الناس إلى عقيدة غامضة، ولكنه يقوم على براهين عقلية واضحة، تدل على صحة ما يدعو إليه، ولا يهاجم مبدأ أو معتقداً آخر إلاّ بعد أن يقدّم الدليل الواضح على تفاهته وبعده عن الحق والصواب، وتعدد المعبودات –مثلاً- يجعل البشر عبيداً لتلك المعبودات، ومن جراء ذلك تقع الأعباء الكثيرة على كواهل عابديها، كتقديم الهدايا والنذور وغيرها من أنواع القرب.

قال تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1.

فالقرآن الكريم يبين الفرق العظيم، والبون الشاسع بين عبادة إله واحد يخضع الجميع لحكمه، وما يتطلبه ذلك التوحيد من التخفيف عن كواهل البشر من التضحيات المرهقة، والشعائر الرهيبة، وبين عبادة آلهة متعددة، غالباً ما ينشأ بسببها أنواع من الاختلاف والشقاق، كما يُحاج القرآن الكريم المشركين بأن تعدد المعبودات ليس له أساس من شرع أو

1 سورة يوسف الآيتان: 39-40.

ص: 431

حق، وإنما هي أسماء سموها هم وآباؤهم، ولذلك فإنّه يجب عليهم أنْ يرجعوا إلى عقولهم ويخلصوا العبادة لله تعالى وحده، فذلك الدين القيم الذي لا اعوجاج فيه.

قال الفخر الرازي: " إنّ كونه تعالى واحداً يوجب عبادته؛ لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا، ورفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أننا هل نعبد هذا أم ذاك؟ "1.

وهذا الذي قاله الرازي هو بعض ما يفهم من بعض مقتضيات التوحيد، ومن ذلك قوله تعالى:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.

وقد تضمنت الآية الكريمة استفساراً إنكارياً فيه تهكم وتقريع للمشركين، إذ أنّهُ من الواضح أنه ليس هناك موازنة بين ما عبدوه من دون الله من المعبودات التي ليس فيها شائبة خير، وبين من لا خير إلا خيره، ولا إله غيره.

قال سيد قطب رحمه الله: " ويبدو هذا السؤال بهذه الصيغة وكأنه تهكم محض، وتوبيخ صرف؛ لأنه غير قابل أنْ يوجه على سبيل الجد، أو

1 التفسير الكبير 18/140.

2 سورة النمل الآية: 59.

ص: 432

أن يطلب عنه جواب"1.

وتتابع البراهين الدالة على وحدانية الله تعالى، وقدرته وحكمته، يقول تعالى:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 2.

فهذه الآيات الكريمة واجهت المشركين بأسئلة مستمدة من واقع الكون الذي حولهم، والذي يشاهدونه ويلمسونه، ويتمتعون بفوائده وخيراته.

1 في ظلال القرآن 6/291.

2 سورة النمل الآية: 60-64.

ص: 433

إنَّ استخدام الحواس في النظر، والتدبر فيما يشاهد من خلق السموات والأرض وما فيهما من إبداع وتنسيق، لا يمكن أنْ يكون صدفةً، أو رميةً من غير رام.

إنَّ الأرض التي جعلت مستقراً للكائن الحي، إنساناً كان أو حيواناً، والأنهار التي تجري فيها لمصلحة الإنسان والحيوان، والجبال التي انتصبت على ظهرها لتثبيتها واستقرارها، وما جعله الله من حواجز تفصل بين المياه العذبة والمياه المالحة1.

إنَّ الذي فعل ذلك لا يمكن أن يكون معه شريك في ملكه، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون الحق، فيشركون مع الله غيره.

ويأتي البرهان الآخر في الآيات الكريمة عن طريق الاستفهام الإنكاري، لاستنهاض الذهن الخامل إلى القيام بالموازنة، بين الذي يجيب دعوة المضطر كلما تضرع إليه لإزالة ما ألم به من مكاره، ودفع ما أحاط به من نوازل، والذي يجعل سكان الأرض خلائق يعمرونها جيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وبين هذه المعبودات التي لا تفقه ولا تحس ولا تعي، ولا تدافع عن نفسها، فضلاً عن نفع أو إضرار غيرها.

ويأتي برهان آخر أيضاً، وهو أنه من يرشدهم إلى مقاصدهم في أسفارهم في الظلام الدامس، في البراري، والقفار، والبحار، والبلاد التي

1 انظر: تفسير ابن كثير 3/386.

ص: 434

يتوجهون إليها بالليل والنهار؟

ومن الذي يسوق الرياح مبشرة بنزول المطر الذي هو رحمة للبلاد والعباد؟

هل من إله مع الله يقدر على شيء من ذلك؟

تعالى الله وتقدس الخالق القادر عن مشاركة المخلوق العاجز.

ويأتي البرهان الأخير من سياق الآيات الكريمة، يسأل المشركين عن من يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده بعد فنائه؟

قال الزمخشري: " كيف قال لهم ذلك وهم منكرون للإعادة؟

والجواب: أنه قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار"1.

ويسألهم القرآن الكريم عن الذي يرزقهم من السماء بإنزال المطر، فينبت لهم من خيرات الأرض والزروع والثمار؟ فهل من إله غير الله تعالى يفعل شيئاً من ذلك؟

ثم قال لهم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، أي: أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدّعون وتزعمون إن كنتم صادقين في أنَّ مع الله إلهاً آخر.

قال أبو حيان: " وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه، فلما ذكر

1 الكشاف 3/297.

ص: 435

إيجاد العالم العلوي والسفلي، وما امتن به من إنزال المطر، وإنبات الحدائق، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم، والممتن بما به قوام الحياة، فختم بقوله:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، أي: يعدلون عن عبادته، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع، ولما ذكر جعل الأرض مستقراً، وتفجير الأنهار وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيها على تعقل ذلك والفكر فيه، ختم بقوله:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .

ولما ذكر إجابة دعاء المضطر وكشف السوء واستخلافهم في الأرض ناسب أن يستحضر الإنسان دائماً هذه المنة، فختم بقوله:{قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} إشارة إلى نسيان الإنسان إذا صار إلى الخير، بعد زال السوء عنه.

ولما ذكر الهداية في الظلمات، وإرسال الرياح مبشرات، ومعبوداتهم التي لا تهدي ولا ترسل، وهم يشركون بها، ختمه بقوله:{تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله:{أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} على سبيل التوكيد والتقرير، إنه لا إله إلا هو تعالى"1 ا.?.

1 البحر المحيط 7/91 بتصرف يسير.

ص: 436

6-

الاستدلال بالمتقابلات:

ومن الأدلة التي أقامها القرآن الكريم على المشركين، الإستدلال بالمقابلة بين خالق المخلوقات العظيمة –خاصة- ماله تأثير على حياة الناس ومنافعهم- وبين ما يعتقد فيه المشركون أنّ له شيئاًَ من التأثير كدفع ضر أو جلب نفع، وهو مخلوق حقير لا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعاً ولا يُدفع عنها ضراً- فضلاً عن نفع أو إضرار غيره.

ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 1.

قال الرازي: " والمعنى أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها، كمن لا يخلق، بل لا يقدر ألبتة على شيء، أفلا تذكرون، فإنّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر، ويكفي فيه أن تنتبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، فهذه الأصنام جمادات محضة، وليس لها فهم ولا قدرة، ولا اختيار، فكيف تقدمون على عبادتها، وكيف تجوزون الاشتغال بخدمتها وطاعتها"2.

وجاء في تفسير أبي السعود: " {أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه المصنوعات

1 سورة النحل الآية: 17.

2 التفسير الكبير 20/12. بتصرف

ص: 437

العظيمة، ويفعل هاتيك الأفاعيل البديعة، أو يخلق كل شيء، {كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} شيئاً أصلاً، وهو تبكيت للكفرة، وإبطال لإشراكهم وعبادتهم للأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها وبينه سبحانه وتعالى"1.

ومن آيات المقابلة في هذا الخصوص، قوله تعالى:{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 2.

وقد اشتملت الآية الكريمة على أربع متقابلات:

المقابلة الأولى: بين الله الذي هو رب السموات والأرض، وبين شركاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا يدفعون عنها ضراً.

قال الفخر الرازي: " ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة لأنفسها،

1 تفسير أبي السعود 5/104.

2 سورة الرعد الآية: 16.

ص: 438

ودفع المضرة عن أنفسها، فبأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة لغيرها، ودفع المضرة عن غيرها، كان ذلك أولى، فإذا لم تكن قادرة على ذلك، كانت عبادتها محض العبث والسفه"1.

المقابلة الثانية: هي بين الأعمى، ويشمل المشرك الذي لا يبصر الحق، ولا يدرك الحقائق، وبين البصير ويشمل المؤمن الذي يبصر الحق، ويدرك الحقائق.

وهذه المقابلة هي في الواقع استدلال تدعيمي للمقابلة الأولى، لأنه من المسلم به بداهة أنْ لا تساوي بين الأعمى والبصير.

قال الرازي مبيناً العلاقة بين هذه المقابلة، والتي قبلها:" ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة، بين أن الجاهل بمثل هذه الحجة يكون كالأعمى، والعالم بها كالبصير"2.

المقابلة الثالثة: هي بين الظلمات والنور، وإيضاح ذلك، إنه إذا كانت الظلمة وما ينتج عنها من ضياع وضلال، فإنها لا يمكن أنْ تكون مساوية للنور، وما يتولد عنه من إنارة وإشعاع، واهتداء، فكيف تصح المساواة بين جمادات جاثمة من الأصنام والأوثان لا تحرك ساكناً، وبين من كان من إبداعه خلق السموات والأرض؟

1 التفسير الكبير 19/31.

2 التفسير الكبير 19/31.

ص: 439

المقابلة الرابعة: وهي بين من يخلق، ومن لا يخلق، وهي من تمام الاحتجاج عليهم، والتهكم بعقولهم، والمعنى هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله، فالتبس الأمر عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم؟

وإذا كان المشركون يعلمون بالضرورة أنّ تلك المعبودات من دون الله لم يصدر عنها فعل ألبتة، وما ظهر لها خلق إطلاقاً، ولما كان الأمر كذلك كان حكمهم إزاءها بأنها شركاء لله في الألوهية محض السفه والجهل.

قال القرطبي عند قوله تعالى: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق، وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله:{قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} معنى، بدليل قوله تعالى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، أي: فإذا اعترفتم، فلم تعبدون غيره؟ وذلك الغير لا ينفع ولا يضر، وهو إلزام صحيح"2.

1 سورة لقمان الآية: 25.

2 الجامع لأحكام القرآن 9/303.

ص: 440

ومن آيات المقابلة قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} 1.

وقد ذكر الله تعالى من مخلوقاته، في هذا السياق ما يلي:

1-

خلق السموات بغير عمد مرئية.

2-

جعل الرواسي الثابتة على الأرض حتى لا تهتز وتضطرب، فتهلك من على ظهرها.

3-

تفريق كل أنواع الحيوانات والدواب من مأكول ومركوب على سطح الأرض.

4-

إنزال الماء من السماء وفق نظام دقيق.

5-

أنبت من الأرض كل صنوف النبات ذات المنافع الكثيرة، والخلق البديع.

أما آثار الذين من دونه تعالى، فهي لا شيء بحكم واقع الأمر.

قال الرازي: "يعني: الله خالق، وغيره ليس بخالق، فكيف تتركون

1 سورة لقمان الآيتان: 10-11.

ص: 441

عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق"1.

فالتقابلات إذن تهدف إلى الاستدلال على أن الله تعالى ليس له شريك في ملكه أبداً، وهي تبرهن على عدم وجود أي مبرر منطقي يسوغ عبادة غير الله من الأوثان والأنداد وغيرها.

1 التفسير الكبير 25/144.

ص: 442

7-

ضرب الأمثال:

ومن الوسائل التي استعملها القرآن الكريم في دعوة المشركين، ضرب الأمثال للتذكير والوعظ والاعتبار، وتصوير الشرك بصورة محسوسة ليكون ذلك أقرب إلى الأنظار، وأثبت في الأذهان، وأسرع في الفهم والامتثال.

قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 1.

وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ الْعَالِمُونَ} 2.

والمثل في اللغة يطلق على المثل، والشبه والشبيه وزناً ومعنىً في الجملة3، وقيل المثل بفتحتين معناه: الوصف، ومنه قوله تعالى:{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} 4.

1 سورة الزمر الآية: 27.

2 سورة العنكبوت الآية: 43.

3 لسان العرب لابن منظور 11/160.

4 سورة الرعد الآية: 35.

ص: 443

فمثلها صفتها والخبر عنها1.

ونقل الميداني أنّ المثل: قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، مأخوذ من المثال، والأصل فيه التشبيه2.

ويقرر أبو هلال العسكري أن كلَّ كلمةٍ سائرة تسمى مثلاً، وقد يأتي القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به، إلا أنه لا يتفق أن يسير فلا يكون مثلاً3.

ويذكر الراغب الأصفهاني "بأن أصل المثول الانتصاب، والممثل المصور على مثال غيره، يقال: مثل الشيء أي انتصب وتصور، والتمثال الشيء المصور، وتمثل كذا تصور، قال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 4"5.

وقد نفى الله تعالى عنه المشابهة من كل وجه، فقال تعالى: {لَيْسَ

1 لسان العرب 11/610.

2 الأمثال للميداني 1/5 المطبعة الخيرية.

وانظر كتاب الجمهرة على هامش الأمثال ص: 10.

3 الجمهرة على هامش مجمع الأمثال 1/5.

4 سورة مريم الآية: 17.

5 المفردات في غريب القرآن ص: 462.

ص: 444

كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1.

ومن هنا نستطيع أن نقول إنَّ المثل هو: الشيء الممثل به، الذي يتضح به صورة المعنى المراد وصفه، وإبراز هذه الصفة بطريقة واضحة جلية.

1-

ومن الأمثال التي ضربها الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله تعالى يعبدونها، ويرجون نفعها بالعنكبوت اتخذت بيتاً لا يغني عنها في حر ولا برد، ولا مطر ولا أذى، قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2.

قال ابن كثير رحمه الله: " هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، يرجون نصرهم ورزقهم ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه، فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم، إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت، فإنه لا يغني عنه شيئاً، فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء، وهذا بخلاف

1 سورة الشورى الآية: 11.

2 سورة العنكبوت الآية: 41.

ص: 445

المسلم المؤمن قلبه لله، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع، فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها "1.

وقال القرطبي: " وهذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما إنَّ بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً "2.

وقال ابن القيم رحمه الله: "

وهذا من أحسن الأمثال، وأدلها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده"3.

2-

وضرب الله تعالى مثلاً آخر في بيان عجز معبودات المشركين وتفاهتها بالذباب الحقير، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 4.

قال ابن القيم رحمه الله: " حقيق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع موارد الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده، وإعدام ما يضره، والآلهة

1 تفسير ابن كثير 3/431.

2 الجامع لأحكام القرآن 3/345 نقلاً عن الفراء.

3 الأمثال في القرآن لابن القيم ص: 190.

4 سورة الحج الآية: 73.

ص: 446

التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق ذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه، ولا يقدرون على الانتصار من الذباب، وإذا سلبهم الذباب شيئاً مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذونه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان، ولا على الانتصار منه، واسترجاع ما يسلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى؟

وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله سبحانه في بطلان الشرك، وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم، والشهادة على أنَّ الشياطين قد تتلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة

إلى أن يقول: وأدلُّ من ذلك على عجزهم وانتفاء آلهتهم، أنّ هذا الخلق الأقل الأذل، العاجز الضعيف، لو اختطف منهم شيئاً واستلبه، فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه، لعجزوا عن ذلك، ولم يقدروا عليه.."1.

3-

كما ضرب الله تعالى لهم مثلاً واقعياً من أنفسهم، وهو أنه إذا كان أحدهم لا يرضى أن يكون عبده ومملوكه شريكاً له في ماله الذي رزقه الله تعالى، فكيف يرضى لله شريكاً له في العبادة، وهو في الأصل مخلوق لله، وعبد له؟

1 الأمثال في القرآن لابن القيم ص: 247-249.

ص: 447

قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1.

قال ابن كثير رحمه الله: " هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له، ملك له، كما كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"2.

وقال ابن القيم رحمه الله: " وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه، ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها، معلوم لها.

والمعنى: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله، حتى يساويه في التصرف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأن

1 سورة الروم الآية: 28.

2 تفسير ابن كثير 3/449.

ص: 448

يتصرف فيه، كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم، فَلِمَ عدلتم لي من خلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلاً في خاطركم وعقولكم، مع أنه جائز عليكم، وممكن في حقكم، إذ ليس عبيدكم ملكاً لكم حقيقة، وإنّما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، وأنتم وهم عبادي، فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي، مع أنّ من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي، فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول "1.

4-

ومن ضرب الأمثال للمشركين، وإقامة الحجة عليهم، ما ضربه الله لهم في قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} 2.

ففي هذا المثل شبه الله المشرك بالعبد الذي يتولى أمره شركاء كثيرون بينهم اختلاف وتنازع، فهم يتنازعونه ويتجاذبونه في حوائجهم، واحد يأمره بأمر، وآخر يأمره بمخالفته، وثالث يأمره بكذا، ورابع يأمره بكذا، مما يجعل العبد في حيرة وضلال من أمره، لا يدري أيهم يرضي؟

1 الأمثال في القرآن ص: 201-203.

2 سورة الزمر الآية: 29.

ص: 449

وشبه الرجل الموحد بالعبد الذي لا يملكه إلاّ شخص واحد، حسن الأخلاق، فلا منازعة ولا معارضة مما يحقق للعبد الهدوء والاستقرار.

والسؤال الموجه إلى المشركين هو: هل يستوي العبد الذي يملكه شركاء بينهم نزاع في ذلك العبد المشترك بينهم وبين العبد الذي يملكه شخص واحد في حسن الحال وراحة البال؟

والجواب: إذا كان ذلك حقاً لا يستوي، فكذلك لا يستوي المؤمن الموحد الذي لا يعبدُ إلاّ الله وحده لا شريك له، مع المشرك الذي يعبد آلهة متعددة.

قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: "هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص"1.

وقال الرازي: "وهو مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك، وتحسين التوحيد"2.

5-

ومن الأمثال التي ضربها الله تعالى للمشركين، قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَاّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللهُ

1 تفسير ابن كثير 4/56.

2 التفسير الكبير 26/277.

ص: 450

مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 1.

فقد اشتملت الآيتان الكريمتان على مثلين:

الأول: ما ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام التي يعبدونها من دون الله جل وعلا، وبيان ذلك: أنَّ مثل هؤلاء المشركين مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك يتصرف في أمره كيف يشاء، مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى، فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات وأحقرها؟

وهو سبحانه المالك لكل شيء، ينفق كيف يشاء على خلقه، ليلاً ونهاراً، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء.

وقد ذهب إلى هذا القول مجاهد والسدي2.

وذهب ابن عباس وقتادة أنه مثل صربه الله للمؤمن والكافر، فالذي لا يقدر على شيء هو الكافر؛ لأنه لا خير عنده، وصاحب الرزق هو المؤمن، لما عنده من الخير3.

1 سورة النحل الآيتان: 75-76.

2 انظر تفسير الطبري 14/149-150.

3 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 4/472، والطبري 14/149.

ص: 451

قال ابن القيم رحمه الله: " والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسباً بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1"2.

والمثل الثاني: هو ما ضربه الله سبحانه لنفسه، ولما يعبدون من دونه أيضاً من الأصنام الباطلة، فالصنم بمنزلة رجل أبكم لا ينطق ولا يعقل، ولذلك فهو عاجز لا يقدر على شيء بالكلية، لأنه إما حجر أو شجر، ومع هذا فأينما أرسله صاحبه لا يأتيه بخير، ولا يقضي له حاجة.

والسؤال هو هل يستوي هذا الأخرس الذي لا يفيد شيئاً، وذلك الرجل البليغ المتكلم بأفصح بيان، وهو على طريق الحق والاستقامة؟

وإذا كان العاقل لا يسوي بينهما، فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه القادر العليم، المتكلم الآمر بالمعروف، والهادي إلى الصراط المستقيم.

وبهذا يتبين لنا أن ضرب المثل من الوسائل التي أثبت الله تعالى بها قدرته العظيمة، وعجز كل ما يعبد من دونه من إنسان أو حيوان، أو

1 سورة النحل الآيتان: 73-74.

2 انظر الأمثال في القرآن ص: 205-207.

ص: 452

حجر، أو شجر، وغير ذلك، وأنه من الأساليب التي اتخذها القرآن في إقامة الحجة على المشركين، حيث أنه أظهر الشرك في صور ملموسة محسوسة.

ص: 453

8-

الجدل:

قال ابن منظور في لسان العرب: " الجدل هو: اللدد في الخصومة والقدرة عليها.. يقال جادلت الرجل فجدلته جدلاً، أي: غلبته، ورجل جدل إذا كان أقوى في الخصام"1.

وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: " الجيم والدال واللام، أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة، ومراجعة الكلام"2.

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم النبيين في أم الكتاب، وإن آدم لمنجدل في طينته"3، أي ملقى على الجدالة، وهي: الأرض4.

ومن هذا يتبين لنا أن الجدل في اللغة هو اللدد في الخصومة، ومراجعة الكلام.

أما الجدل في الاصطلاح فقد عرفه أبو البقاء في كتاب الكليات، فقال: " الجدل هو عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجة أو

1 لسان العرب 11/105.

2 مقاييس اللغة 1/433.

3 سبق تخريجه ص: 211

4 النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/248.

ص: 454

شبهة، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره"1.

وعرفه صاحب المصباح المنير، فقال بعد أن ذكر المعنى اللغوي للجدل:" ثم استعمل على لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة؛ لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحق، وإلاّ فمذموم"2ا.?

قال الرازي: "والجدل المذموم في القرآن، محمول على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المال والجاه، والجدل الممدوح محمول على الجدل في تقرير الحق، ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله تعالى"3 ا.?.

هذا وقد جاء الجدل في القرآن الكريم على أنواع منها:

1-

ما كان القصد منه الرد على المعاندين وإلْزامهم بالحجة، وهذا ما جاء على ألسنة الرسل والأنبياء عليهم السلام، وعلى هذا قوله تعالى:{وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 4، وقوله:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 5.

1 كتاب الكليات لأبي البقاء 2/172.

2 المصباح المنير ص: 102.

3 التفسير الكبير للفخر الرازي 5/167. بتصرف يسير.

4 سورة النحل الآية: 125.

5 سورة العنكبوت الآية: 46.

ص: 455

2-

ما جاء في القرآن من الحوار بقصد الترجي، أو الاسترشاد وحب الاستطلاع.

ومن هذا القبيل، جدل إبراهيم عليه السلام مع ربه لتأخير العذاب عن قوم لوط عليه السلام، قال تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} 1.

وكذلك جدال الملائكة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 2.

وكذا جدال خولة بنت ثعلبة التي حكى الله قصتها في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 3.

3-

ما جاء على ألسنة الكفار والمعاندين من الاعتراضات والدعاوي

1 سورة هود الآية: 74.

2 سورة البقرة الآية: 30.

3 سورة المجادلة الآية: 1.

ص: 456

الباطلة، كما قال تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} 1.

والذي نحن بصدده الآن، إنّما هو جدل القرآن للمشركين في إثبات الوحدانية لله تعالى، وما أقامه عليهم من أدلة وبراهين، وإلزامهم بالحق في أسلوب واضح جلي.

هذا وقد سلك القرآن الكريم في الاستدلال على وحدانية الله تعالى مسلكين:

المسلك الأول: الاستدلال على وحدانية الله تعالى بانتظام الكون، وسلامته من الخلل والتصادم والفساد.

ومن أظهر الأدلة على هذا ما يسميه علماء الكلام بدليل التمانع، وعلى هذا قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 2.

قال الإمام عبد الرحمن بن نجم المعروف بالحنبلي في كتابه استخراج الجدل من القرآن، بعد إيراده للآية الكريمة: "وهذا الدليل معتمد أرباب

1 سورة غافر الآية: 5.

2 سورة الأنبياء الآية: 22.

ص: 457

الكلام من أهل الإسلام، وقد نقل بعض علماء السلف أنه قال: نظرت في سبعين كتاباً من كتب التوحيد، فوجدت مدارها على قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} "1.

ومعنى الآية الكريمة: "أي لو كان في السموات والأرض إله غير الله، لخرجتا وهلك من فيهما، ذاك أنه لو كان فيهما إلهان، فإما أن يختلفا أو يتفقا في التصرف في الكون، والأول ظاهر البطلان، لأنه إما أن ينفذ مرادهما معاً، فيريد أحدهما الإيجاد والثاني لا يريده، فيثبت الوجود والعدم لشيء اختلفا فيه، وأما أن ينفذ مراد أحدهما دون الثاني، فيكون هذا مغلول اليد عاجزاً، والإله لا يكون كذلك، والثاني باطل أيضاً؛ لأنهما إذا أوجداه معاً توارد الخلق من خالقين على مخلوق واحد.

ولما أثبت بالدليل أنّ المدبر للسموات والأرض لا يكون إلا واحداً، وأن ذلك الواحد لا يكون إلاّ الله، قال:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، أي: فتنزيهاً لله رب العرش المحيط بهذا الكون، ومركز تدبير العالم عما يقول هؤلاء المشركون من أنَّ له ولداً أو شريكاً"2.

1 استخراج الجدل من القرآن الكريم ص: 83.

2 انظر تفسير المراغي 17/19.

ص: 458

وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1.

قال ابن كثير رحمه الله: " أي لو قدر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما خلق، ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض، وما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق غاية الكمال"2.

وقال ابن القيم رحمه الله في هذا المقام: " فلا بدّ من أحد أمور ثلاثة: إما أنّ يذهبَ كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أنْ يعلوا بعضهم على بعض، وإما أن يكونوا كلهم تحت قهر إله واحد، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويمتنع من حكمهم ولا يمتنعون من حكمه، فيكون وحده هو الإله الحق، وهم العبيد المربوبون المقهورون، وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض، وجريانه على نظام محكم لا يختلف ولا يفسد، من أدل دليل على أن مدبره واحد، لا إله غيره"3ا.?.

وقال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَاّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ

1 سورة المؤمنون الآية: 91.

2 تفسير ابن كثير 3/267 بتصرف.

3 التفسير القيم ص: 371.

ص: 459

سَبِيلاً} 1.

ومعنى الآية الكريمة أنه لو فرض جدلاً أن مع الله آلهة أخرى، كما يزعم المشركون، لطلبوا كما قال ابن عباس رضي الله عنهما منازعة وقتالاً، وكما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض2.

وقد احتوت الآية الكريمة حجة جدلية، فلو كان لله شركاء في كونه، لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى، ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء3.

1 سورة الإسراء الآية: 42.

2 القرطبي 10/265، وهذا هو أحد وجهين في تفسير الآية الكريمة، والوجه الآخر لو كان الأمر كما تقولون، لكان أولئك المعبودون يبتغون سبيلاً إلى التقرب إليه بعبادته، وطاعته ويطلبون الزلفى لديه، وهو قول قتادة واختيار ابن جرير.

انظر تفسيره 15/91، وتفسير ابن كثير 3/45.

والوجه الأول أظهر والله أعلم، كما يقول أبو السعود، لأنه الأنسب لقوله تعالى بعدها {سُبْحَانَهُ} ، فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم.

انظر تفسير أبي السعود 5/174.

كما نصره الشوكاني حيث قال: " ومثل معناه قوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . انظر فتح القدير للشوكاني 3/230.

3 انظر التفسير الحديث لدروزة 4/236-237.

ص: 460

المسلك الثاني: في التركيز على إبطال معبودات المشركين، ومناقشتهم فيها مناقشة واضحة صريحة في تلك المعبودات التي لا تخلق ذبابة، ولا تستطيع أنْ تدفع عن أنفسها ضراً، ولا تجلب لها نفعاً، فضلاً عن نفع أو إضرار غيرها، وبيان أن تلك المعبودات ما هي إلاّ مجرد أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وأنّها وليدة الظن والهوى.

وقد مر معنا أنّ من أصنام العرب المشهورة اللاتن والعزى، ومناة.. وعن مناقشتهم في هذه المعبودات قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} 1.

قال محمد عزة دروزة: "والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضاً صريحاً بمعبودات العرب، وعقائدهم، ونقاشاً وحجاجاً وتسفيهاً وإفحاماً حول هذه العقائد "2.

ومجادلة المشركين هنا هو أنه إذا كان المشركون يعظمون البنين

1 سورة النجم الآيات: 19-23.

2 التفسير الحديث 1/221.

ص: 461

ويحتقرون الإناث، فكيف ينسبون ما يحتقرونه إلى الله تعالى، وما يحبونه ويعظمونه ينسبونه لأنفسهم؟ فهذه القسمة جائرة وباطلة، حتى ولو كانت بين المخلوقين، فكيف بهم وهم يقسمون ذلك بينهم وبين رب العالمين؟

كما بينت الآية الكريمة حقيقة هذه المعبودات، وأنها مجرد أسماء جاءت من نسج الخيال واستهواء الشياطين، وأن المشركين لم يستندوا في تسميتها أو عبادتها إلى علم أو برهان نقلي أو عقلي، وإنّما استندوا إلى مجرد الظن والتخريض، {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 1.

كما أنهم فعلوا ذلك اتباعاً لهوى أنفسهم، وهوى الأنفس لا يصلح أن يكون إلهاً مشرعاً، وإلاّ لما احتاج الناس إلى إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولكان إله كل إنسان هواه.

1 سورة النجم الآية: 28.

ص: 462

9-

تعجيز المشركين عن الإتيان بدليل عقلي أو نقلي يقر عبادتهم:

قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 1.

وفي هذه الآية الكريمة يخاطب الله تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يستجوب المشركين عن أمرين:

1-

هل يعقل أنْ يضاف إلى هذه الأصنام خلق جزء من أجزاء هذا العالم؟

2-

فإن لم يصح، فهل يجوز أنْ يقال: إنها أعانت إله العالم في خلق جزء من أجزاء العالم؟

ولما كان صريح العقل حاكماً بأنه لا يجوز إسناد جزء من أجزاء هذا العالم إليها، وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء، ولا يجوز أيضاً إسناد الإعانة إليه في أقل الأفعال وأذلها، فحينئذ صح أن الخالق الحقيقي لهذا العالم هو: الله سبحانه وتعالى، وأن المنعم الحقيقي بجميع أقسام النعم هو:

1 سورة الأحقاف الآية: 4.

ص: 463

الله تعالى.

والعبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التعظيم، وذلك لا يليق إلاّ بمن صدر عنه أكمل وجوه الإنعام، فلما كان الخالق الحق، والمنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، وجب أنْ لا تكون العبادة إلا له، ولما كانوا لا يستطيعون القول بأنها تستحق هذه العبادة، كما لا يستطيعون القول بأنا نعبدها لأجل أنْ الإله الخالق المنعم أمرنا بعبادتها، فعند هذا، ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذا السؤال فقال:{اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} .

وتقرير هذا الجواب أن ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي والرسالة، فنقول: هذا الوحي الدال على الأمر بعبادة هذه الأوثان، إما أن يكون قد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو في سائر الكتب الإلهية المنزلة على سائر الأنبياء.

وأما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهو معلوم البطلان.

وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه، فهو أيضاً باطل، لأنه علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب الإلهية على المنع من عبادة الأصنام.

وهذا هو المراد من قوله تعالى: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا} .

ص: 464

وأما إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء، سوى ما جاء في الكتب، فهذا أيضاً باطل، لأنّ العلم الضروري حاصل بأن أحداً من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام، وهذا هو المراد من قوله:{أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} ، ولما بطل الكل، ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل، وقول فاسد1.

ولهذا المعتقد الفاسد المبني على الضلال، أعقب الله تعالى الآية السابقة بقوله:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 2.

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى، قوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَاّ غُرُورًا} 3.

ومعنى الآية الكريمة: قل يا محمد –توبيخاً وتبكيتاً لهؤلاء المشركين

1 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 28/4 بتصرف يسير.

2 سورة الأحقاف الآية: 5.

3 سورة فاطر الآية: 40.

ص: 465

أخبروني عن شأن معبوداتكم من دون الله التي أشركتموها معه في العبادة، بأي شيء استحقت هذه العبادة؟

وإن كنتم تتوهمون فيها القدرة، فأروني أثرها؟

أروني أي شيء خلقوه في هذه الدنيا من المخلوقات حتى عبدتموهم من دون الله؟

أم أنهم شاركوا الله في خلق السموات وإبداعها فاستحقوا بذلك الشركة مع الله في الألوهية؟

أم أنزلنا عليهم كتاباً يشهد بالشركة، فهم على حجة ظاهرة واضحة في عبادة هذه الأوثان؟

ثم قال تعالى: {بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَاّ غُرُورًا} .

قال أبو السعود في هذا المعنى: " لما نفى أنواع الحجج في ذلك، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاف للأخلاف، وإضلال الرؤساء للأتباع بأنهم شفعاء عند الله"1 ا.?

وقد بين الله تعالى للمشركين به أن تلك المعبودات التي عبدوها من دونه لا تملك لعابديها وزن ذرة من خير أو ضر في السموات أو في الأرض، وليس له تعالى منها ولا من غيرها معين يعينه، أو مساعد يساعده، بل هو المنفرد بالخلق كله، المنفرد بالعطاء والمنع،

1 تفسير أبي السعود 7/155.

ص: 466