المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: أصالة التوحيد في البشرية ودعوة جميع رسل الله إليه - منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام - جـ ١

[حمود الرحيلي]

الفصل: ‌الفصل الأول: أصالة التوحيد في البشرية ودعوة جميع رسل الله إليه

‌الباب الأول: التوحيد والشرك في حياة البشرية

.

‌الفصل الأول: أصالة التوحيد في البشرية ودعوة جميع رسل الله إليه

.

الباب الأول: التوحيد والشرك في حياة البشرية ويشتمل على أربعة فصول:

الفصل الأول: أصالة التوحيد في البشرية ودعوة جميع رسل الله إليه.

ويشتمل على ما يلي:

تعريف التوحيد.

أسبقية التوحيد على الشرك وذكر الأدلة على ذلك.

خطأ بعض علماء مقارنة الأديان في هذا الموضوع والرد عليهم.

التوحيد دعوة جميع الرسل.

أنواع التوحيد والعلاقة بينها.

تعريف التوحيد:

تعريف التوحيد لغة:

التوحيد لغة قال ابن الأثير في النهاية -في أسماء الله الواحد-:"هو الفرد الذي لم يزل ولم يكن معه آخر"1.

وقال الأزهري: الفرق بين الواحد والأحد أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد، والواحد اسْم بني لمفتتح العدد، تقول: جاءني واحد من الناس، ولا تقول جاءني أحد، فالواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد منفرد بالمعنى، وقيل: الواحد هو الذي لا يتجزأ، ولا يثنى، ولا يقبل الانقسام، ولا نظير له ولا مثيل، ولا يجمع هذين الوصفين إلا الله تعالى"2.

وفي لسان العرب: "الواحد من صفات الله تعالى، معناه لا ثاني له، ولا يجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد، فأما أحد فلا ينعت به غير الله لخلوص هذا الاسم الشريف له جل ثناؤه، وتقول: أحَّدْتُ الله تعالى، ووحدته وهو الواحد الأحد"3.

وقال الفيروزأبادي: "التوحيد الإيمان بالله، والله الأوحد والمتوحد

1 النهاية لابن الأثير 5/159.

2 تهذيب اللغة 5/195.

3 لسان العرب 3/451.

ص: 47

ذو الوحدانية"1.

وقال الراغب:" الوحدة الانفراد، والواحد في الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة، ثم يطلق على كل موجود، حتى أنه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به، فيقال عشرة واحدة، ومائة واحدة، وألف واحد

"2.

من هذا يتبين لنا أن مادة "وحد" وكلمة وحدة تدور حول انفراد الشيء بذاته أو بصفاته أو بأفعاله، وعدم وجود نظير له فيما هو واحد فيه، أما إذا عدى بالتضعيف، فقيل: وحد الشيء توحيداً، أن معناه: إما جعله واحداً، أو اعتقده واحداً، قال تعالى حكاية عن المشركين:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} 3.

1 القاموس المحيط 1/344.

2 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص: 514.

3 سورة ص آية: 5.

ص: 48

تعريف التوحيد شرعاً:

فتوحيد الله معناه اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له، ونفي المثل والنظير عنه، والتوجه إليه وحده بالعبادة، وإذا قيل: الله واحد أو أحد، كان معنى ذلك انفراده بما له من ذات وصفات، وعدم مشاركة غيره فيها، فهو واحد في إلهيته، فلا إله غيره، وواحد في ربوبيته، فلا رب سواه، وواحد في كل ما ثبت له من صفات الكمال التي لا تنبغي إلا له1.

ونستطيع القول بأن التوحيد هو: الإيمان الجازم بتفرد الله تعالى ووحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله، ونفي الشركاء والأنداد عنه سبحانه اعتقاداً وعملاً على الوجه الذي جاء به الوحي الإلهي على ألْسنة الرسل عليهم السلام2.

1 انظر: مصرع الشرك والخرافة ص: 18.

2 انظر: دراسات في التفسير الموضوعي للدكتور زاهر الألمعي ص: 157 الطبعة الأولى 1405هـ.

ص: 49

2-

أسبقية التوحيد على الشرك، وذكر الأدلة على ذلك:

لقد بدأت البشرية على التوحيد الخالص والتنزيه الكامل لله وحده، وهذا ما قرره القرآن الكريم والسنة النبوية من أن آدم أبا البشر عليه السلام، كان نبياً موحداً على أنقى صور التوحيد وأصفاه، وأنه عرف حقيقة التوحيد وطبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق.

وقد خلق الله تعالى آدم من تراب، فسواه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته الكرام.

قال سبحانه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَاّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 1.

وقال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 2.

1 سورة ص الآيات: 71-75.

2 سورة طه الآيتان: 121-122.

ص: 50

ويعترف آدم عليه السلام، ويقر بخطئه، ويرجع إلى ربه تبارك وتعالى تائباً خاضعاً متذللاً، كما قال تعالى حكاية عن قول آدم ومعه زوجه حواء:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1.

كما أخذ الله تعالى الميثاق على آدم وزوجه أن يتبعا ما يأتيهما من هدى، وأن يبتعدا عن سبل الشيطان وخطواته، قال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 2.

ومما لا شك فيه أن آدم عليه السلام قد قام بنقل ما تلقاه عن ربه جل وعلا من العقيدة والوحي الإلهي، وأن أبناءه قد تلقوا هذه التعاليم بالقبول والرضا وتوارثوها من بعد أبيهم جيلاً بعد جيل، حتى عهد نوح عليه السلام، كما سيأتي بيانه عند دعوته.

1 سورة الأعراف آية: 23.

2 سورة طه الآيتان: 123-124.

ص: 51

الأدلة على أسبقية التوحيد على الشرك:

من الأدلة على أقدمية التوحيد على الشرك ما يلي:

1-

أنه لأهمية التوحيد قد أخذ الله العهد والميثاق من جميع البشر على التزام أحكامه، وذلك قبل أن يخلقهم، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 1.

ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك من ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي"2.

1 سورة الأعراف الآية: 172.

2 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/363 كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته.

ونحوه في مسلم 4/2160 كتاب صفات المنافقين، باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهباً. وأحمد 3/127 وهذا لفظه.

ص: 52

2-

فطرية التدين وأصالته في حياة البشرية، كما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1.

وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء2 هل تحسون فيها من جدع اء3"4.

3-

كون الناس كانوا أمة واحدة على الهدى وعلى شريعة من الحق، قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} 5.

1 سورة الروم آية: 30.

2 أي: سليمة من العيوب، مجتمعة الأعظاء كاملتها، فلا جدع بها ولا كي.

النهاية لابن الأثير 1/296.

3 أي: مقطوعة الأطراف أو واحدها. النهاية لابن الأثير 1/247.

4 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/219 كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي هل يصلى عليه. ومسلم 4/2047 كتاب القدر، حديث: 22 و 24.

5 سورة البقرة آية: 213.

ص: 53

فعن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان الناس أمة واحدة كانوا على الإسلام كلهم".

قال ابن القيم رحمه الله:" وهذا هو القول الصحيح في الآية"1.

4-

اختلاف الناس عن الحق مع توالي العصور، فقد روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك في قراءة عبد الله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} فَاخْتَلَفُوا"2.

1 إغاثة اللهفان 2/204.

2 المستدرك لأبي عبد الله النيسابوري الحاكم 2/546.

هذا وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية هذا الحديث، وعزاه للبخاري في صحيحه ولفظه ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال:"كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" البداية والنهاية 1/101، وعزاه في قصص الأنبياء 1/74 بلفظه. وبعد البحث لم أجد الحديث في صحيح البخاري.

وقد ذكره السيوطي في الإتقان 2/175، وعزاه للحاكم فقط، مع أن ابن كثير رحمه الله نفسه ذكر هذا الحديث في التفسير عند قوله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} سورة البقرة آية: 113، وعزاه للحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. انظر: تفسير ابن كثير 1/259.

وقد رواه ابن جرير عن ابن عباس بسنده

انظر تفسير ابن جرير 3/334.

ص: 54

ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقد وافقه الذهبي على ذلك1.

وكلمة "فاختلفوا" ليست من لفظ الآية، وإنما ذكرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كتفسير لها، ويؤيد تفسيره لهذه الآية على هذا النحو الآية الأخرى في سورة يونس:{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2.

5-

إغواء الشياطين لبني آدم لصرفهم عن شريعة الحق، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عياض المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال3، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت

1 التلخيص مع المستدرك 2/547.

2 سورة يونس آية: 19.

3 قال النووي: "معنى نحلته أعطيته، وفي الكلام حذف أي قال الله تعالى: كل مال أعطيته عبداً من عبادي فهو حلال، والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي، وغير ذلك، وأنها لم تصر حراماً بتحريمهم، وكل مال ملكه العبد فهو له حلال حتى يتعلق به حق".

شرح النووي على مسلم 17/197.

ص: 55

عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً" 1 الحديث.

6-

إن الله تعالى أرسل إلى جميع الأمم رسلاً يرشدونهم الخير والهدى، ويحذرونهم من الشر والضلال، ولا شك أن في مقدمة تعليمهم وإرشادهم تعريفهم بخالقهم ورازقهم، ولم يتركوا الناس يتعرفون إلى خالقهم عن طريق البحث والاجتهاد، وقد كان هؤلاء الرسل من الكثرة بحيث أنهم بلغوا البشرية كلها دعوة الله، قال تعالى:{وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} 2.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 3.

ومما يدل على تبليغ الرسل لأممها أن الأمم المكذبة في يوم القيامة تقر وتعترف بتبليغ الرسل لها دعوة الله، قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ

1 صحيح مسلم 4/2197 كتاب الجنة وصفة نعيمها، حديث رقم: 63، ومسند أحمد 4/162.

2 سورة فاطر آية: 24.

3 سورة غافر آية: 78.

ص: 56

سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} 1.

ومن خلال الأدلة السابقة يتبين لنا بوضوح أسبقية التوحيد على الشرط، يقول الدكتور عبد الله دراز: "وقد انتصر لهذه النظرية أي فطرية التوحيد وأصالته جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإنسان، وعلماء النفس

"2.

وقوله رحمه الله عن حقيقة التوحيد أنها نظرية غير دقيقة.

ويقول الدكتور جواد علي: "وهو رأي رجال الدين بصورة عامة"3.

1 سورة الملك الآيتان: 8-9.

2 بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان ص: 107.

3 تاريخ العرب قبل الإسلام 5/60.

ص: 57

3-

خطأ بعض علماء مقارنة الأديان في هذا الموضوع، والرد عليهم:

يزعم بعض الباحثين الغربيين -ممن يسمون بعلماء مقارنة الأديان، وكذلك مقلدتهم من الكتاب المسلمين بأن الشرك سابق على التوحيد، وأن عبادة الإله قد تطورت من جيل إلى جيل، حتى وصلت إلى التوحيد الخالص، حتى زعم بعضهم أن عقيدة الإله الأحد عقيدة جد حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس السامي1.

وقد اعتمد هؤلاء على نظرية التطور والارتقاء، حيث قاسوا التوحيد في حياة البشر على نمو وتطور العلوم والصناعات التي تنمو وتتطور بسبب الجهد البشري.

يقول الدكتور عبد الله دراز: "وهذه النظرية نادى بها أنصار مذهب التطور التقدمي، أو الإقتصادي الذي ساد في أوربا في القرن التاسع عشر، في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الأديان عدد من العلماء، وإن اختلفت وجهات نظرهم في تحديد صورة العبادة الأولى وموضوعها "2.

1 انظر: بحوث لدراسة تاريخ الأديان لعبد الله دراز ص: 107.

2 المرجع السابق.

ص: 58

وبالنظر إلى قيام الأدلة ووضوحها على أقدمية التوحيد وأسبقيته على الشرك والوثنية، فإننا نأسف كل الأسف لبعض الكتاب المسلمين الذين يعدون أنفسهم ويعدهم غيرهم من الباحثين المسلمين لانخداعهم بالأفكار الغربية، وتبنيهم لتلك النظرية الملحدة.

فهذا العقاد يقول في مقدمة كتابه المسمى "الله": "موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية منذ أن اتخذ الإنسان رباً إلى أن عرف الله الواحد واهتدى إلى نزاهة التوحيد".

ثم يشرح العقاد ما أجمل في هذه العبارة في الفصل الذي عقده بعنوان: "أصل العقيدة"، فيقول:"ترقى الإنسان في العقائد، كما ترقى في العلوم والصناعات، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى"1.

إلى أن يقول: "فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء إنما يبحث عن محال"2.

1 الله، للعقاد ص:13.

2 المرجع السابق ص: 14.

ص: 59

وينتقل العقاد إلى فصل آخر بعنوان:" أطوار العقيدة الإلهية"، فيقول:" يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالإلهية والأرباب، وهو دور التعدد، ودور التمييز والترجيح، ودور الوحدانية

"1.

ثم يقول: "فالتطور في الديانات محقق لا شك فيه، ولكنه لم يكن على سلم واحد متعاقب الدرجات بل كان على سلالم مختلفة تصعد من ناحية وتهبط من أخرى"2.

وأخيراً قرر العقاد رأي أولئك القائلين بتطور العقيدة زاعماً أن ديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح، حيث قال: " فديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح، لأنها أكبر ما تقع عليه العين، وتعلل به الخليقة والحياة، فإذا دخلت هي أيضاً في عداد المعلومات فقد أصبح الكون كله في حاجة إلى خالق موجد للأرض والسماء والكواكب والأقمار

وينطبق هذا الترتيب تمام الانطباق على فحوى قصة إبراهيم في القرآن الكريم: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا

1 الله للعقاد ص: 28.

2 المرجع السابق ص: 32.

ص: 60

أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} 1.

وواضح أن استدلال العقاد بهذه الآيات الكريمة دليل على أنه يرى رأي العلماء الغربيين وإلا لما استدل بهذه الآيات، ولما قال قبلها:"وينطبق هذا الترتيب تمام الانطباق على فحوى قصة إبراهيم".

والحق الذي لا ريب فيه أن الذين يقولون إن إبراهيم عليه السلام كان متحيراً في الاهتداء إلى معرفة ربه، قد خالفوا الحق والصواب؛ لأنهم استدلوا بظاهر الآيات على أن إبراهيم عليه السلام كان يريد أن يصل إلى معرفة ربه حتى هداه الله تعالى في النهاية.

والحق أن أول هذه الآيات وآخرها ومضمونها يدل على أن إبراهيم عليه السلام كان يتدرج في دعوة قومه -عباد الكواكب- ليقدم لهم الدليل المحسوس على بطلان ما يعتقدونه في تلك المعبودات.

1 سورة الأنعام الآيتان: 76-80.

ص: 61

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام والكواكب السيارة، وأشدها إضاءة الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} "1.

وقال صاحب الكشاف:" كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم، ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى ألا يكون شيء منها إلهاً وأن وراءها محدثاً أحدثها، ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها"2.

وقوله: {هَذَا رَبِّي} قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة.

وقال الشهرستاني: "ابتدأ بإبطال مذاهب عبدة الكواكب على صيغة

1 تفسير ابن كثير 2/163 باختصار.

2 الكشاف للزمخشري 2/31 بتصرف.

ص: 62

الموافقة، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: أتيناه الحجة كذلك نريه المحجة، فساق الإلزام على أصحاب الهياكل مساق الموافقة في المبدأ، والمخالفة في النهاية، ليكون الإلزام أبلغ والإفحام أقوى، وإلا فإبراهيم الخليل لم يكن في قوله:{هَذَا رَبِّي} مشركاً، كما لم يكن في قوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} كاذباً"1.

هذا وقد كتب الدكتور مصطفى محمود كتاباً سماه "الله" أيضاً عرض فيه نفس الفكرة من تطور العقيدة على أيدي البشر حتى وصلت إلى التوحيد أخيراً، وإن كان قد ذكر بأن ذلك يمثل المجهود البشري، أما رسالات السماء فهي واحدة من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلا تطور ولا تبديل 2.

كما عثرت على كتيب لنفس المؤلف بعنوان "محمد" صلى الله عليه وسلم بدأه بالآية الكريمة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} 3، ثم قال: "هكذا بدأت الحال بالناس، أمة واحدة على الجهل

1 الملل والنحل 2/51-53 بتصرف.

2 انظر كتاب "الله" لمصطفى محمود ص: 47 وما بعدها.

3 سورة البقرة آية: 213.

ص: 63

والمادية والكفر وعبادة اللذة العاجلة لا يؤمنون إلا بما يقع في دائرة حواسهم، ولا تتجاوز أشواقهم دائرة المعدة والغرائز، ثم نزلت الكتب والرسل فتفرق الناس بين مصدق ومكذب، وبين مؤمن وكافر، واختلفوا شيعاً وطوائف

"1.

والحق أن هذه النظرية المادية هي شبيهة بنظرية من يزعمون بأن أصل الإنسان قرد أو سمكة ونحو ذلك ثم تطور حتى أصبح إنساناً قاتلهم الله أنى يؤفكون.

وقد جمع هـ. ج. ولز في كتابه معالم تاريخ الإنسانية بين النظرتين، فقال:"ونمت الديانة كما تنمو كل مصلحة إنسانية، ويقيناً أنه لم يكن في مقدور الإنسان البدائي بله أسلافه القردة وأسلافه من الثدييات2، أن يكون له أي فكرة عن الرب أو الدين، فلم يستطع ذهنه ولا قوى فهمه أن يصبح قادراً على تصور هذه الأفكار العامة إلا ببطء شديد، فالدين شيء نما مع الترابط الإنساني"3. ا.?

أقول: ما قرره بعض الباحثين الغربيين ومن أخذ برأيهم من كتّاب المسلمين من كون الشرك سابق على التوحيد، فيه إنكار للوحي السماوي

1 انظر كتاب محمد صلى الله عليه وسلم لمصطفى محمود ص: 7 دار المعارف.

2 الثدييات: الحيوانات اللبونية. قاموس إلياس العصري ص: 98 طبعة 1982 م.

3 معالم تاريخ الإنسانية ل هـ. ج. ولز 1/123-124 -ترجمة عبد العزيز توفيق، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر -القاهرة سنة 1956م.

ص: 64

والسنة النبوية، لأنهم اعتبروا الوصول إلى التوحيد إنما هو بسبب المجهود البشري الناتج عن الارتقاء العقلي والتقدم الثقافي.

والحق أن عقيدة التوحيد كانت منذ خلق الله الإنسان الأول على هذه الأرض إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وستبقى إلى قيام الساعة، فهي البداية وهي النهاية، ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تؤكد أن البشرية قد صاحبتها عقيدة التوحيد منذ بدايتها.

بدأ بذلك نبي الله أبو البشر آدم عليه السلام، وتلقاها من بعده أبناؤه جيلاً بعد جيل، وكلما انحرفت البشرية عن طريق الحق بسبب الجهل أو الانحراف في الفطرة البشرية بعث الله إليها من يعيدها إلى الحق والصواب.

فقد دعا نوح عليه السلام إلى عبادة الله وحده، وأعاد إلى العقيدة نقاءها وصفاءها بعد أن خرج قومه عن خط الهداية الإلهية، وشذوا عن طريق التوحيد الذي تقرر في الأرض منذ عهد آدم عليه السلام.

واستمر موكب الإيمان يتجدد من وقت لآخر، وتوالى الأنبياء في كل أمة يبينون للناس الحق والهدى كلما انتكسوا أو انحرفوا حتى جاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا إلى التوحيد من جديد، وسلك نهج سلفه من الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى، وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ

ص: 65

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} 1.

والكتب السماوية جميعها جاءت بتقرير هذه الحقيقة، وإذا كان قد حصل تحريف أو تبديل في الكتب السابقة على أيدي بعض الأتباع، فذلك لأن الله تعالى لم يتكفل بحفظ تلك الكتب، وأن دورها قد انتهى بانتهاء وقتها، وقد بقي القرآن الكريم محفوظاً بحفظ الله له يكشف الزيف، ويبين التحريف، ويهيمن على كل ما سبقه من كتاب، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.

وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} 3.

وكل ما يمكن أن يقال في هذا الصدد هو أنه إذا كان قد حصل تدرج أو اختلاف بين الرسالات، فإنما كان ذلك في الشرائع والأحكام التي قد تناسب أمة ولا تناسب أخرى، فمثلاً الصلاة كانت مشروعة في الأمم السابقة، لكن طريقة أدائها قد تختلف من أمة إلى أخرى، وكذلك

1 سورة المائدة آية: 3.

2 سورة الحجر آية: 9.

3 سورة المائدة آية: 48.

ص: 66

الصيام وغيره، حتى بلغت حد الكمال في الشريعة الإسلامية الخاتمة التي نسخت كل ما لا يتفق مع الشريعة الوافية والصالحة لكل زمان ومكان.

قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 1.

وقال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2.

أما أصول الشرائع فهي واحدة في لبها ومضمونها وجوهرها، لم تختلف ولم تتغير، كما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} 3.

أما استدلال القائلين بأسبقية الوثنية على التوحيد بآثار الحفريات4

1 سورة المائدة آية: 48.

2 سورة البقرة آية: 106.

3 سورة الشورى آية: 13.

4 انظر: كتاب الإيمان كما يصوره الكتاب والسنة للدكتور علي عبد المنعم ص: 46، دار البحوث العلمية -الكويت الطبعة الأولى 1398?.

ص: 67

التي زعموا بأنها تدل على أن الناس في بادئ الأمر قد تدينوا بالوثنية، ثم تطورت عباداتهم مع تطورهم الفكري، فإن ذلك ما هو إلا مجرد التخمينات والتخرصات الوهمية والتي لا تقاوم القرآن الكريم، والسنة الثابتة.

ومن الممكن والمعقول جداً أن تكون تلك الآثار التي اكتشفوها قد وقعت لذرية آدم عليه السلام، فقد تكون لقوم نوح، أو لقوم هود، أو لقوم صالح، أو لقوم إبراهيم، أو لقوم شعيب، أو لقوم موسى، فقد حدث الشرك في أقوام أولئك الأنبياء عليهم وعلى نبينا السلام كما سيأتي بيانه، والدليل متى تطرق إليه الاحتمال، فلا يصح أن يكون دليلاً يحتج به، فكيف وأدلتهم تصطدم بنصوص القرآن والسنة؟

ص: 68

4-

التوحيد دعوة جميع الرسل

والدعوة إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى، وإفراده بالعبادة، والتذلل إليه، والانقياد لأمره وحكمه، وتنزيهه عن الند والصاحبة والولد، هي القضية الأساسية التي من أجلها بعث الله جميع أنبيائه ورسله، وقد جاء ذلك واضحاً جلياً فيما قصه الله تعالى علينا في القرآن الكريم من دعوة الرسل إلى أممهم وأقوامهم.

قال تعالى عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ اللهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 2.

وقال سبحانه عن هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3.

1 سورة الأعراف آية: 59.

2 سورة هود الآيتان: 25-26.

3 سورة الأعراف آية: 65، ومثلها آية: 50 من سورة هود.

ص: 69

وقال جل ذكره عن صالح عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1.

وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2.

وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} 3.

وقال تعالى عن يعقوب عليه السلام: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 4.

وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ

1 سورة الأعراف آية: 73، وسورة هود آية:61.

2 سورة الأنعام آية: 79.

3 سورة العنكبوت آية: 16.

4 سورة البقرة آية: 133.

ص: 70

وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} 1.

وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2.

وقال عن موسى عليه السلام: {قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 3.

وقال عن عيسى عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} 4.

أما عن خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعث

1 سورة يوسف الآيات: 38-40.

2 سورة الأعراف آية: 85.

3 سورة الأعراف آية: 140.

4 سورة آل عمران آية: 51.

ص: 71

بالدعوة العالمية الشاملة، وبالبيان الأكمل في شأن الدين كله عامة، والتوحيد منه خاصة، وقد جاء القرآن العظيم بأتم الحجج والبراهين الدالة على وحدانية الله، وسجل أقاويل ومزاعم الكفار والردود عليها، حتى تكون حجة الله بالغة باهرة إلى يوم الدين، وحتى لا تكون للناس على الله حجة بعد ختم النبوة، لأن القرآن الكريم هو صوتها الممدود، ودعاؤها الموصول إلى قيام الساعة، وفيه أكمل حديث عن التوحيد تقريراً، وإثباتاً، ورداً على المشركين والملحدين، وإبطالاً للشرك وكل ضروب الوثنية والانحراف عن التوحيد.

ويكفي هنا أن أذكر مثالاً واحداً لما أمره الله به أن يقوله للناس في كلمات موجزة جامعة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 1.

وما هذه الرسالة إلا محاولة في بيان مسلك القرآن في دعوة المشركين، وما أقامه عليهم من حجج وبراهين.

ومما لا شك فيه أنّ كل نبي أو رسول قد دعا قومه إلى كلمة التوحيد بنصها أو معناها، قال الله تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا

1 سورة الإخلاص بتمامها.

ص: 72

فَاعْبُدُونِ} 1.

قال القرطبي رحمه الله عند قوله: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} أي: قلنا للجميع لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول، وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد2.

وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 4.

فهذه مهمة الرسل من أولهم إلى آخرهم الدعوة إلى عبادة الله تعالى

1 سورة الأنبياء آية: 25.

2 تفسير القرطبي 11/280.

3 سورة الزخرف آية: 45.

4 سورة النحل آية: 36.

ص: 73

وحده وإفراده بالألوهية الصحيحة، فلا شريك له، ولا ندّ، ولا صاحبة، ولا ولد.

والتوحيد أهم أصل من أصول الدعوة إلى الله، وأهم صفة يتصف بها أولياء الله، وأهم عنصر من عناصر الحكمة، وبيان ذلك ما يلي:

1-

ما جاء بشأن لقمان في وصيته لابنه، وتحذيره له من الشرك، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1.

2-

ما ذكره الله تعالى عن اتصاف أهل الكهف بالتوحيد في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} 2.

3-

وأثنى الله تعالى على مؤمن آل فرعون فوصفه بالتوحيد، كما

1 سورة لقمان آية: 13.

2 سورة الكهف الآيات: 13-15.

ص: 74

قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} 1.

كما أن الدين الذي بعث الله به رسله من أولهم إلى آخرهم، إنما هو الإسلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:"وكان دينه الذي ارتضاه لنفسه هو دين الإسلام، الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، ولا يقبل من أحد ديناً غيره، لا من الأولين، ولا من الآخرين، وهو دين الأنبياء وأتباعهم، كما أخبر الله بذلك عن نوح ومن بعده إلى الحواريين"2.

وقد استشهد رحمه الله تعالى ببعض الآيات الكريمة، وأنا أذكرها مع التصرف في الترتيب:

قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ

1 سورة غافر الآيات: 41-43.

2 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/11.

ص: 75

أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1.

وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} 2.

وقال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 3.

وقال تعالى عن موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ

1 سورة يونس الآيتان: 71-72.

2 سورة البقرة الآيات: 130-132.

3 سورة يوسف آية: 101.

ص: 76

تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} 1.

وقال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} 2.

وقال تعالى عن المسيح عليه السلام: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 3.

وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} 4.

وقال تعالى عن السحرة أنهم قالوا لفرعون: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَاّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} 5.

1 سورة يونس آية: 84.

2 سورة المائدة آية: 44.

3 سورة آل عمران الآيتان: 52-53.

4 سورة المائدة آية: 111.

5 سورة الأعراف آية: 126.

ص: 77

وقال تعالى عن بلقيس ملكة اليمن: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.

ثم يعلق رحمه الله على هذا بقوله: "فهذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم، هو دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادته تعالى في كل زمان ومكان بطاعة رسله عليهم السلام، فلا يكون عابداً له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله"2.

ومن هذا يتبين أن الأنبياء كلهم وكذلك أتباعهم -كما ذكر الله تعالى- كانوا مسلمين، وهذا يبين أن قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} 3.

وقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4، لا يختص بمن بعث إليه محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو حكم عام في الأولين والآخرين، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ

1 سورة النمل آية: 44.

2 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/12.

3 سورة آل عمران آية: 19.

4 سورة آل عمران آية: 85.

ص: 78

5-

أنواع التوحيد والعلاقة بينها:

أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه نوعان، حيث قال: "وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها التوحيد القولي العملي الذي تدل عليه الأسماء والصفات، وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فيها التوحيد القصدي العملي

"1.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "التوحيد نوعان: نوع في العلم والاعتقاد، ونوع في الإرادة والقصد، ويسمى الأول: التوحيد العلمي، والثاني: التوحيد القصدي الإرادي، لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة، والثاني بالقصد والإرادة، وهذا الثاني أيضاً نوعان: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الإلهية، فهذه ثلاثة أنواع"2.

ولما تحدث ابن القيم عن التوحيد عند الطوائف الباطلة كالفلاسفة والاتحادية، والجهمية، والقدرية، والجبرية

قال: وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله، ونزلت به كتبه، فهو وراء ذلك كله، وهو نوعان:

توحيد في المعرفة والإثبات.

وتوحيد في الطلب والقصد.

1 اقتضاء الصراط المستقيم ص: 465، وانظر مجموع الفتاوى 3/3.

2 مدارج السالكين 1/33.

ص: 80

فالأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه.

النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وقوله:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية1.

وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: "فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع:

أحدها: الكلام في الصفات.

والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء.

والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له"2.

وقد تحدث الإمام الطحاوي رحمه الله عن هذه الأنواع من التوحيد، ثم عقد موضوعاً بعنوان "التوحيد الذي دعت إليه الرسل".

قال فيه: "ثم إن التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان:

توحيد الإثبات والمعرفة. وتوحيد في الطلب والقصد.

1 سورة آل عمران آية: 64.

2 شرح العقيدة الطحاوية ص: 76.

ص: 81

فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.

والثاني: توحيد في الطلب والقصد"1.

وقال الشيخ حافظ بن أحمد حكمي رحمه الله: "التوحيد نوعان:

الأول: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، المتضمن إثبات صفات الكمال لله عز وجل، وتنزيهه عن التشبيه والتمثيل وتنزيهه عن صفات النقص، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات.

والثاني: التوحيد الطلبي القصدي الإرادي، وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وتجريد محبته والإخلاص له، وخوفه ورجاؤه، والتوكل عليه والرضا به رباً وإلهاً وولياً، وأنْ لا يجعل له عدلاً في شيء من الأشياء، وهو توحيد الإلهية"2.

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأما التوحيد فهو ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات"3.

1 شرح العقيدة الطحاوية ص: 88.

2 معارج القبول 1/54.

3 مجموعة التوحيد ص: 3.

وانظر: تيسير العزيز الحميد ص: 33، ومصرع الشرك والخرافة ص:19.

ص: 82

ومما سبق يتبين لنا أن العلماء المحققين قد اختلفت عباراتهم في أنواع التوحيد وأقسامه، فمنهم من جعل التوحيد يرجع إلى قسمين هما: التوحيد القولي العلمي أو العملي، والثاني: التوحيد القصدي العملي.

ومنهم من قال: التوحيد في العلم والاعتقاد، وفي القصد والإرادة.

ومنهم من قال: في المعرفة والإثبات، وفي الطلب والقصد.

ومنهم من جعله ثلاثة أنواع: هي توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

وبالتأمل في هذه الأقوال، نجد أن ما يبدوا عليها من خلاف ليس على ظاهره، وإنما هو مجرد خلاف في اللفظ والشكل فقط، والفرق بين من قسم التوحيد إلى نوعين، وبين من جعله ثلاثة أنواع، هو: أن من قسم التوحيد إلى نوعين فإنه أدخل توحيد الأسماء والصفات في توحيد الربوبية، ومن جعله ثلاثة أقسام فإنه قد أفرد توحيد الأسماء والصفات بقسم خاص، وذلك لوقوع النزاع فيه، كما سيأتي.

وبعد استعراض أقوال العلماء رحمهم الله في تقسيم أنواع التوحيد، أود أن أشير إلى معرفة هذه الأنواع بإيجاز:

أ- فأما توحيد الربوبية: فهو توحيد الله بأفعاله كالإقرار بأن الله تعالى هو الخالق الرازق، المحي المميت، المدبر لشؤون خلقه، النافع الضار، المنفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي بيده الأمر كله، وبيده الخير كله.

ص: 83

وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به، أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 1.

وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن، كما قال له موسى عليه السلام:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلَاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} 2.

وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 3.

ولهذا لما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} على وجه الإنكار والجحود، قال له موسى: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ

1 سورة إبراهيم آية: 10.

2 سورة الإسراء آية: 102.

3 سورة النحل آية: 14.

ص: 84

إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} 1.

أما مشركوا العرب فإنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وأن الله تعالى خالق السموات والأرض، كما أخبر تعالى عنهم بقوله:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2.

وقوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} 3، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

ولم يكن المشركون يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم4.

ولكن إقرارهم بهذا التوحيد لم يدخلهم في الإسلام، بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قاتلهم واستحل دماءهم وأموالهم5، وهو

1 سورة الشعراء الآيات: 24-28.

2 سورة لقمان آية: 25.

3 سورة المؤمنون الآيتان: 84-85.

4 انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 79.

5 مجموعة التوحيد ص: 3.

ص: 85

من الحجة عليهم1.

ب- وأما توحيد الأسماء والصفات: فهو إعتقاد ثبوت ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً ونفياً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، كالعلم والقدرة، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنه سميع بصير، رؤوف رحيم، وأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، على العرش استوى، وينزل لفصل القضاء، ونحو ذلك من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الإمام أحمد رحمه الله:"لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث"2.

ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا التوحيد، فيقول3: "فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما

1 مجموعة الفتاوى 1/23.

2 العقيدة الواسطية ص: 101.

3 مجموعة الفتاوى 3/3-4.

ص: 86

نفاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه، ولا في آياته، فإنّ الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1 ".

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن طريقة سلف الأمة وأئمتها، تتضمن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 3.

وبين رحمه الله إن في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل، ثم قال:

1 سورة الأعراف آية: 180.

2 سورة فصلت آية: 40.

3 سورة الشورى آية: 11.

ص: 87

والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل، فإثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصل له من التشبيه والتمثيل. انتهى.

وهذا التوحيد لا يكفي أيضاً في حصول الإسلام من الشخص بمجرد الاعتراف به، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه، من توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والمشركون كانوا يقرون بجنس هذا النوع من التوحيد، وإن كان بعضهم قد ينكر بعضه، إما جهلاً، وإما عناداً، كما قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل الله فيهم:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 1.

قال ابن كثير رحمه الله: "والظاهر أن إنكارهم هذا، إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم، فإنه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية الله بالرحمن.

قال ابن جرير: وقد أنشد بعض الجاهلية الجهال:

ألا ضربت تلك الفتاة هجينها

ألا قضب الرحمن ربي يمينها

وقال سلامة بن جندب الطهوي:

عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم

وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق2

1 سورة الرعد آية: 30.

2 تفسير ابن كثير 1/20، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري 1/58.

ص: 88

قال صاحب تيسير العزيز الحميد: "قلت ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد، إلاّ في اسم الرحمن خاصة، ولو كانوا ينكرونه لردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، كما ردوا عليه توحيد الإلهية"1.

وجاء في كتاب مصرع الشرك والخرافة2: "ولم يقع في هذا التوحيد خلاف في القرن الأول، بل كانوا مطبقين على ذلك، وإنما وقع النزاع فيه في أوائل القرن الثاني، وأول من عرف عنه القول بنفي الأسماء والصفات، هو: الجهم بن صفوان، تابعاً للجعد بن درهم، وفي أوائل المائة الثالثة فشت هذه المقالة، وكان المتصدر لنشرها والدعوة إليها، بشر المريسي في عصر المأمون.... ".

ج- أما توحيد الإلهية:

فهو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، وهو مبني على إخلاص التأله لله تعالى وحده، وإفراده بجميع أنواع العبادات، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والدعاء، والنذر، والنحر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات والقربات.

ويسمى هذا التوحيد: توحيد العبادة، وقد عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من

1 تيسير العزيز الحميد ص: 35.

2 مصرع الشرك والخرافة للشيخ خالد الحاج ص: 21، والعقائد السلفية 1/48.

ص: 89

الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة

"1.

وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها لله تعالى فرضها ونفلها، باطنها وظاهرها، فلا يجعل فيها شيئاً لغير الله تعالى، لا ملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن ما سواهما.

وهذا التوحيد هو المطلوب من العباد إنسهم وجنهم، ولأجله خلقوا، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 2.

وهو دعوة جميع الرسل، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} 4.

وهذا التوحيد هو حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء

1 العبودية ص: 4.

2 سورة الذاريات آية: 56.

3 سورة الأنبياء آية: 25.

4 سورة النحل آية: 36.

ص: 90

الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"1.

وهو حق الله على العباد، كما جاء في الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً"2.

1 صحيح البخاري 1/8 كتاب الإيمان، باب أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس.

وصحيح مسلم 1/45 كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام.

2 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/58 كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار.

وصحيح مسلم 1/58 كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً.

والجامع الصحيح للترمذي 5/26 كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة.

وابن ماجه 2/1435 كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمه الله يوم القيامة.

وأحمد في المسند 2/39.

ص: 91

العلاقة بين أنواع التوحيد

أما العلاقة بين أنواع التوحيد فهي علاقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، فمن أتى بنوع منها دون الآخر، فإنه لم يأت بالتوحيد على وجه الكمال المطلوب، فالإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يكفي لتحقيق معنى التوحيد المطلوب من العبد شرعاً، وأن العبد لا يكون موحداً التوحيد الذي يمنع صاحبه من القتل والأسر في الدنيا، ومن عذاب النار في الآخرة بمجرد اعتقاده أن الله هو الخالق الرازق، المدبر للأمور جميعاً، المجيب الدعاء عند الاضطرار، لأن هذا التوحيد كان يقربه المشركون، قال تعالى:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 1.

وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2.

وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن

1 سورة يونس آية: 31.

2 سورة الزخرف آية: 87.

ص: 92

بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1.

وقال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} 2.

فهم مع إقرارهم بجميع ذلك، واعترافهم بأن الله واحد في هذه الأمور، لم يدخلوا بذلك في الإسلام، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، ولذلك فإنه لا بدّ مع الإقرار بتوحيد الربوبية من الإتيان بتوحيد الإلهية الذي هو الغاية من بعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام، والذي من أجله خلق الله الخلق، وجعل الجنة والنار، وفرق الناس إلى سعداء وأشقياء.

ومن المهم في توحيد الإلهية أن تصرف جميع العبادات لله تعالى، والإخلاص له فيها، سواء كانت هذه العبادات قلبية كالحب والخوف والإخلاص، والتوكل والصبر والتعظيم، والرضا والتسليم وغيرها.

أو كانت عبادات قولية كالدعاء والذكر والتسمية والاستعاذة والاستغاثة، والحلف والتوسل والشفاعة وغير ذلك.

أو كانت عبادات بدنية عملية مثل الصلاة من سجود وركوع،

1 سورة العنكبوت آية: 63.

2 سورة النمل آية: 62.

ص: 93

وتسليم، وكالصيام والحج، والطواف والسعي، والجهاد والرحلة في طلب العلم، وغير ذلك.

أو كانت عبادات مالية كالزكاة والصدقات والذبائح والنذور وغيرها.

وتوحيد الأسماء والصفات " لا يكفي وحده، بل لا بدّ مع ذلك من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية "1 كما تقدم.

جاء في معارج القبول للحكمي: " فإنه لا يكون إلهاً مستحقاً للعبادة إلاّ من كان خالقاً، رازقاً، مالكاً، متصرفاً، مدبراً لجميع الأمور، حياً، قيوماً، سميعاً، بصيراً، عليماً، حكيماً، موصوفاً بكل كمال، منزهاً عن كل نقص، غنياً عما سواه، مفتقراً إليه كل ما عداه، فاعلاً مختاراً لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا تخفى عليه خافية، وهذه صفات الله عز وجل لا تنبغي إلاّ له، ولا يشركه فيها غيره، فكذلك لا يسستحق العبادة إلا هو، ولا تجوز لغيره، فحيث كان متفرداً بالخلق والإنشاء والبدء والإعادة، لا يشركه في ذلك أحد، وجب إفراده بالعبادة دون من سواه، لا يشركه معه في عبادته أحد"2.

1 تيسير العزير الحميد ص: 19 المكتبة السلفية.

2 معارج القبول 1/350-351.

ص: 94

وبعد أن تحدثت عن معنى التوحيد وأصالته في البشرية، وأنه دعوة جميع الرسل، وتحدتث عن أنواعه، أود أن نعرف معنى الشرك وأنواعه، وبعض صوره في الاعتقاد وفي العبادات، وبعض المعبودات التي عبدت من دون الله تعالى في الفصل التالي.

ص: 95