الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: تسرب الشرك إلى البشرية ومناهج الأنبياء السالفين في محاربته
.
…
الفصل الثالث: تسرب الشرك إلى البشرية ومناهج الأنبياء السابقين في محاربته: ويشتمل على ما يلي:
1-
الشرك في قوم نوح عليه السلام ومنهجه في محاربته:
تقدم معنا في موضوع أقدمية التوحيد على الشرك، بأن نبي الله آدم عليه السلام قد عاش موحداً لله تعالى، على أنقى ما يكون التوحيد وأصفاه، وأنه قد ربى أبناءه على هذا التوحيد، وأن ذريته تلقت هذا التوحيد من جيل إلى جيل، وأنهم كانوا على الإسلام يعبدون الله تعالى وحده، حتى عهد نوح عليه السلام.
وكان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون على الإسلام، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان بين آدم ونوح عشرة قرون على الإسلام"1.
والقرن إما أن يكون المراد به مائة سنة، كما هو المشهور عند كثير من الناس، وإما أن يكون المراد به الجيل من الناس، كما في قوله تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ} 2.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} 3.
فقد كان الجيل قبل نوح يعمّرون الدهور الطويلة، فعلى هذا يكون
1 تقدم تخريجه ص: 54
2 سورة الإسراء الآية: 17.
3 سورة المؤمنون الآية: 31.
بين آدم عليه السلام، ونوح عليه السلام ألوف السنين1.
والذي أميل إليه، أن المراد بالقرن هو الجيل من الناس، ويؤيد ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم
…
" 2 الحديث.
والمراد أن الناس من آدم عليه السلام إلى عهد نوح عليه السلام كانوا على التوحيد، يعبدون الله وحده، ولا يشركون به شيئاً، وكانوا على الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، كما قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ} 3.
ولما انحرف الناس عن الفطرة بسبب جهلهم وبعدهم عن العلم، وإغواء الشيطان لهم، وعبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان، وقبور الصالحين، بعث الله إليهم نوحاً عليه السلام، ليردّهم إلى الصواب، وعبادة الله وحده.
1 البداية والنهاية لابن كثير 1/101.
2 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/3 كتاب فضائل الصحابة.
وصحيح مسلم 4/1963 كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم: 211، 212.
ومسند أحمد 1/378.
3 سورة آل عمران الآية: 19.
سبب دخول الأصنام في قوم نوح:
وكان سبب عبادتهم للأصنام، ما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن جريج عند تفسير قوله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1.
قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك، وانتسخ العلم، عبدت2.
قال ابن عباس: "وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد
…
"3.
وروى ابن جرير بسنده عن محمد بن قيس في تفسيره: "كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يعتقدون بهم، فقالوا: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس، فقالوا: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون
1 سورة نوح الآية: 23.
2 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/167 كتاب التفسير، تفسير سورة نوح.
3 تفسير ابن كثير 4/452.
المطر، فعبدوهم"1.
ونقل ابن كثير عن ابن أبي حاتم بسنده عن أبي المطهر قال:" ذكروا عند أبي جعفر الباقر يزيد بن المهلب، فقال: أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله، ثم ذكر "ود"، قال: وكان ود رجلاً صالحاً، وكان محبباً في قومه، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان، ثم قال: أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكون في ناديكم فتذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره، قال: هل لكم أن أجعل لكل أهل بيت تمثالاً مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال: وأدرك أبناؤهم فجعلوا يسرُّون ما يصنعون به، وتناسوا ودرس أمر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله، قال: فكان أول ما عبد غير الله في الأرض "ود" الصنم الذي يسمونه بود"2.
أقول: وما تقدم من أدلة على أن أول حدوث الشرك في البشرية كان في قوم نوح عليه السلام، يجعلنا نتردد في ما جاء في كتاب الأصنام للكلبي: "أول ما عبدت الأصنام، أنَّ آدم عليه السلام لما مات جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند، وكان بنو
1 تفسير ابن جرير الطبري 29/99، وانظر: تفسير ابن كثير 4/452.
2 البداية والنهاية لابن كثير 1/106، ومثله في تفسيره 4/452، وفي الدر المنثور للسيوطي 6/269-270.
شيث يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل إن لبني شيث دواراً1 يدُورُون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء، فنحت لهم صنماً، فكان أول من عملها"2.
فإن معنى هذا الخبر أن عهد بني آدم عليه السلام بالتوحيد لم يبق طويلاً، وأنهم لم يلبثوا أن غيرُوا بعد موته، والحق أنَّ هذا ليس صحيح، وغير معقول لما تقدم من أدلة، لا سيما وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما:"كان بين آدم ونوح عشرة قرون على الإسلام"3.
ومن هنا نجد أن تعظيم القبور والدعاء عندها، والتمسح بها، وتقبيلها هو من أسباب الشرك، وعبادة غير الله تعالى من الأصنام والأوثان.
1 يقال: دار يدور واستدار يستدير، بمعنى: إذا طاف حول الشيء، وإذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه.
لسان العرب لابن منظور 4/296، والنهاية لابن الأثير 2/139.
2 الأصنام لابن الكلبي ص: 50-51.
وانظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص: 52-53، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/205.
3 تقدم تخريجه ص: 54.
ولهذا ندرك أيضاً السر العظيم في نهي الإسلام عن اتخاذ القبور مساجد، واتخاذ السرج عليها، والنهي عن رفعها، وإقامة القباب عليها، وتعظيمها إلى غير ذلك مما قصد به سد الذريعة، وقطع دابر الشر والفتنة.
منهج نوح عليه السلام في دعوة قومه إلى التوحيد:
وقد سلك نوح عليه السلام في ردّ قومه إلى عقيدة التوحيد منهجاً فريداً وعجيباً، جديراً بالتأمل والاعتبار، يمكن تلخيصه فيما يلي:
1-
لين الكلمة، وسهولة الأسلوب، وعدم مقابلة السب والأذى بمثله، يظهر ذلك واضحاً من جوابه لقومه عندما قالوا له:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} 1.
حيث ردّ عليهم في هدوء ولين، قائلاً لهم:{يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 2.
2-
تبرؤه من ادعائهم ما ليس له، كما وصف القرآن الكريم: {وَلَا
1 سورة الأعراف الآية: 60.
2 سورة الأعراف الآيتان: 61-62.
أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} 1.
3-
تنويعه للأساليب في الدعوة، فلم يلتزم أسلوباً معيناً، أو حالة واحدة، ولكنه أخذ يدعوهم في الليل والنهار، وفي السر والجهر، يظهر ذلك من قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَاّ فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} 2.
4-
ترغيبهم بمغفرة الذنوب إنْ هم أطاعوه، وصدقوا ما جاء به، ويمد الله في أعمارهم، ويدرأ عنهم العذاب الذي إنْ لم يجتنبوا ما نهاهم عنه أوقعه الله بهم، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا
1 سورة هود الآية: 31.
2 سورة نوح الآيات: 5-9.
جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.
كما رغبهم في سعة العيش، ويسر الحياة السعيدة، وذلك بهطول الأمطار، والإمداد بالأموال والبنين، إنْ هم استغفروا الله تعالى، وتابوا إليه من الشرك وجميع الذنوب، قال تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} 2.
5-
استعماله معهم أسلوب الجدل والحوار، يتضح ذلك من آيات كثيرة، منها ما جاء في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَاّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ
1 سورة نوح الآيات: 2-4.
2 سورة نوح الآيات: 10-12.
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} 1.
وكما هو واضح من قوله تعالى حكاية عن قولهم: {
…
يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 2.
6-
التكرار الدائم في دعوتهم، على الرغم من مرور الأعوام الطوال، وبذله كل الجهود الهادفة إلى إرجاعهم إلى الحق، وسلوك الطريق المستقيم، ولكن ليس هناك جدوى تذكر، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
…
} 3.
وعن كثرة دعوته إليهم وتكرارها، كما في الآية المتقدمة: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا
…
} 4.
7-
دعوتهم إلى النظر إلى الكون، وما فيه من نظام وإبداع، وإلى
1 سورة الشعراء الآيات: 105-117.
2 سورة هود الآية: 32.
3 سورة العنكبوت الآية: 14.
4 سورة هود آية: 32.
الأنفس وما فيها من عجائب تدل على عظمة الخالق جل وعلا، وأنه المستحق للعبادة وحده، قال تعالى:{مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا} 1.
وبعد أن بذل نوح عليه السلام غاية جهده في سبيل هداية قومه وإصلاحهم، وصبره وحلمه الطويل عليهم، ومع ذلك كله {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَاّ قَلِيلٌ} ، وأخيراً لجأ إلى ربه يشكو قومه:{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2.
كما دعا عليهم بالهلاك قائلاً: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَاّ فَاجِرًا كَفَّارًا} 3.
وقد استجاب الله لدعاء رسوله، وأوحى إليه أنه لن يؤمن من قومه
1 سورة نوح الآيات: 13-20.
2 سورة الشعراء الآيتان: 118-119.
3 سورة نوح الآيتان: 26-27.
سوى من آمن منهم، وأمره أن يصنع سفينة لنجاته ونجاة من آمن معه، وأعلمه أنه سيكون محاطاً بعنايته ورعايته، وأخبره أن من لم يؤمن من قومه فإنَّ مصيره الغرق؛ لإصراره على الكفر والعناد، وأن لا يحزن لغرقهم وهلاكهم، قال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَاّ مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} 1.
وبعد أن انتهى نوح عليه السلام من صنع السفينة، وحمل فيها من كل زوجين اثنين، وركب هو فيها وجميع من آمن معه، وأهل بيته إلا من سبق عليه القول منهم ممن لم يؤمن بالله تعالى، وأمره الله ومن آمن معه أن يذكروا اسم الله تعالى الذي عليه توكلهم واعتمادهم، وهو المجري والمرسي للسفينة، كما ذكرهم بأنَّ الله تعالى رحيم بعباده المؤمنين، ومن رحمته أنجاهم من الغرق والهلاك الذي حلّ بالكافرين، عند ذلك (أرسل الله من السماء مطراً لم تعهده الأرض قبله، كأفواه القرب، وأمر الأرض
1 سورة هود الآيات: 36-39.
فنبعت من جميع فجاجها، وسائر أرجائها) 1.
وفي خلال زمن قليل جداً تم هلاك الكافرين، ونجاة المؤمنين، فأمر الله الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تمسك عن المطر، قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ
1 البداية والنهاية لابن كثير 1/112.
2 سورة هود الآيتان: 40-41.
3 سورة القمر الآيات: 9-16.
عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1.
يقول صاحب المنار: "ما أفظع المنظر! ما أشد هوله! ما أعظم روعته! ماء ينهمر من آفاق السماء انهماراً، وأرض تتفجر عيوناً فوارة فتفيض مدراراً، ماء ثجاج يصير بحراً ذا أمواج، خفيت من تحته الأرض بجبالها، وخفيت من فوقه السماء بشمسها وكواكبها
…
فتخيل أنك ناظر إلى هذه السفينة كما صورها لك التنزيل، تتفكر في أمر هذا الخطب الجليل، واستمع لما بينه الذكر الحكيم، في أوجز عبارة، وأبلغها تأثيراً، جعلت أعظم ما في العالم، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً"2.
وهكذا انتهت محنة دامت طويلاً بهلاك الكفرة المشركين، الذين حادُّوا الله ورسوله، وأبوا التوبة والعودة إلى الله تعالى في مدة قصيرة، فهل من مدكر؟
1 سورة هود الآية: 44.
2 تفسير المنار 12/79-80.
2-
الشرك في قوم هود عليه السلام ومنهجه في محاربته.
وبعد أن أهلك الله تعالى المشركين من قوم نوح عليه السلام بالغرق، وأنجى الله نبيه نوحاً والذين آمنوا معه، عاد الناس إلى عبادة الأصنام والأوثان في قوم هود عليه السلام.
وذكر ابن كثير رحمه الله: "أن عاداً الأولى كانوا أول من عبد الأصنام بعد الطوفان، وكان أصنامهم ثلاثة: صمداً، وصموداً، وهراً، فبعث الله فيهم أخاهم هوداً عليه السلام، فدعاهم إلى الله"1.
وعن دعوة هود عليه السلام في قومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، يقول تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 2.
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ مُفْتَرُونَ} 3.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ
1 البداية والنهاية 1/121، وانظر: تاريخ الطبري 1/216.
2 سورة الأعراف الآية: 65.
3 سورة هود الآية: 50.
مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1.
منهجه في دعوة قومه:
وقد سلك هود عليه السلام في دعوة قومه منهجاً راشداً وطريقاً واضحاً، يمكن تلخيصه فيما يلي:
1-
ضرب لهم المثل بما أصاب قوم نوح من قبلهم، وما وقع منهم من عناد ومكابرة، وإصرار على الزيغ والضلال، وكيف دمّر الله عليهم سعادتهم حينما بغوا وتجبّروا، وأصروا على الباطل والاستكبار، مذكراً إيّاهم بنعم الله عليهم، إذ زادهم في الخلق بسطة، وجعلهم خلفاء من بعد قوم نوح.
2-
وذكرهم بنعم الله تعالى عليهم محاولاً إقناعهم بالرجوع إلى طريق الحق، مبيناً لهم أنّ الله تعالى جعلهم وارثين للأرض من بعد قوم نوح، الذين أهلكهم الله بذنوبهم، وزادهم قوة في السلطان وفي الأجسام، وذكرهم بإعطائهم الخيرات الجليلة من الأنعام والبنين، والحدائق والمياه،
1 سورة الأحقاف الآية: 21.
2 سورة الأعراف الآية: 69.
وخوفهم من العذاب الأليم، وانقلاب النعمة إلى نقمة إذا لم يؤمنوا بالله وحده.
وهذا يتضح من الآية السابقة، كما يتضح من قوله تعالى:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1.
3-
ومن منهجه عليه السلام القول اللين، والخطاب الجميل، وعدم مقابلة الأذى بمثله، يتضح ذلك عندما رماه قومه بالسفه والكذب، حيث ردّ عليهم قائلاً:{يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} 2.
4-
واستعمل معهم أسلوب الجدل والحوار، يظهر ذلك عندما أصر زعماؤهم على عبادة الأوثان، وقالوا لهود عليه السلام بأنه لم يأتهم ببينة واضحة على صحة ما يدعو إليه، وقالوا له: إنهم غير تاركي آلهتهم، ولن يؤمنوا به، وزعموا أن آلهتهم قد مسته بضر، فصار يتكلم بأقوال باطلة،
1 سورة الشعراء الآيات: 128-135.
2 سورة الأعراف الآيتان: 67-68.
فأجابهم هود عليه السلام بأنه يشهد الله، ويشهدهم بأنه بريء من الشرك الذي هم فيه.
ولما ضجرت عاد من نبيها هود عليه السلام، وتبرموا من كثرة نصحه لهم، تحدوه أن يقع فيهم إنذاره ووعيده، عند ذلك قال لهم هود عليه السلام لا بد أنْ يقع عليكم غضب من الله تعالى فانتظروا عذاب الله، وإني معكم من المنتظرين.
قال تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَب
1 سورة هود الآيات: 53-57.
أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} 1.
5-
وبيّن لهم عليه السلام أنه لا يطلب على نصيحته أجراً منهم، أو رياسة ينتزعها، ولا يريد منهم جزاءاً ولا شكوراً، وإنّما يطلب الأجر والثواب من الله عز وجل.
قال تعالى: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 2.
6-
وأرشدهم إلى الاستغفار والتوبة فبسببهما تهطل الأمطار المتتابعة، وتحصل الخيرات، ويزيدهم ربهم قوة إلى قوتهم، وعزاً إلى عزهم، قال تعالى:{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} 3.
لكن ما هو تأثير هذه الدعوة الطيبة المباركة على قبيلة عاد؟
إنهم احتقروا هوداً عليه السلام، واستصغروا أمره، ووصفوه بالسفه
1 سورة الأعراف الآيتان: 70-71.
2 سورة هود الآية: 51.
3 سورة هود الآية: 52.
والكذب، إلاّ أنْ هوداً عليه السلام نفى عن نفسه ما اتهموه به، وبين لهم إنه رسول من رب العالمين، لا يريد منهم إلا الخير والصلاح.
ولما تمادى قوم هود عليه السلام في الباطل والضلال، باتخاذ آلهة ما أنزل الله بها من سلطان، دعا ربه أن ينصر دينه، وقد أجاب الله تعالى دعوته، قال تعالى:{قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2.
لقد أرسل الله عليهم الريح العقيم، سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فأهلكهم الله وأبادهم، وصارت أجسامهم كأنها أعجاز نخل منقعر، وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة، ونجى الله هوداً والذين
1 سورة الأعراف الآيات: 66-68.
2 سورة المؤمنون الآيات: 39-41.
آمنوا معه برحمة منه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 1.
1 سورة الشعراء الآيتان: 139-140.
3-
الشرك في قوم صالح عليه السلام ومنهجه في محاربته.
ثم ظهرت عبادة الأصنام في ثمود، والتي كانت تسكن الحجر، بين المدينة وتبوك، وكانت ثمود تتعبد لأصنام كثيرة، منها الصنم:"ود" و (شمس) و (مناف) و (اللات) وغيرها.
فبعث الله تعالى فيهم نبيه صالح عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، وأن يخلعوا عبادة الأصنام والأنداد1.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} 3.
منهجه في دعوة قومه:
ومنهج صالح عليه السلام في دعوته، لا يختلف عن المنهج الذي
1 انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 1/331.
2 سورة هود الآية: 61.
3 سورة النمل الآية: 45.
سلكه نبي الله هود عليه السلام في دعوة قومه عاد.
ولعل السبب في ذلك وجود التشابه بين القبيلتين، فإنه بالإضافة إلى أنّ كلاً من الشعبين كان يسكن الجزيرة العربية، فقبيلة عاد تسكن في الجنوب بالأحقاف، بين اليمن وعمان، وثمود تسكن بالحجر، بين المدينة النبوية وتبوك –كما تقدم- فإن الأوضاع الاجتماعية والعمرانية في زمان كل منهما قد بلغت أقصى حدود القوة والمنعة، لا سيما في فنون البناء والعمارة، كنحت البيوت في الجبال، وإقامة القصور في السهول، وتشييد المصانع وشق العيون
…
وفوق ذلك فقد منحهم الله بسطة في الأجسام، وقوة في الأبدان.
كما يوجد تشابه في سلوك كل منهما القائم على البطر والطغيان، وإيثار الشرك على التوحيد، وقد قرن الله تعالى بين ذكر القبيلتين، وما حلّ بهما من العقاب الأليم في كثير من السور، كما في سورة: براءة، وإبراهيم، والفرقان، وص، وق، والنجم، والقمر، والحاقة، والفجر.
ونلخص منهجه عليه السلام في دعوة قومه فيما يلي:
1-
ضرب المثل لهم بقوم هود عليه السلام، مذكراً لهم بنعم الله عليهم، حيث جعلهم خلفاء من بعدهم، ومكّنهم في الأرض يتخذون من سهولها قصوراً ومن الجبال بيوتاً، قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا
فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 1.
2-
وذكّرهم بنعم الله تعالى عليهم، قال تعالى:{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} 2.
3-
كان لطيفاً في القول، ولين الجانب، يظهر ذلك في جوابه لهم: {
…
قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 3.
4-
أسلوب الحوار المبني على إقامة الحجة البينة، يظهر ذلك جلياً
1 سورة الأعراف الآية: 74.
2 سورة الشعراء الآيات: 146-152.
3 سورة هود الآية: 62.
4 سورة هود الآية: 63.
في كثير من السور التي تعرضت لقصته عليه السلام.
1 سورة هود الآيات: 61-65.
2 سورة النمل الآيات: 45-47.
5-
وأفهمهم أنه لا يطلب على دعوته أجراً، جاء ذلك في قوله لهم: {
…
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.
6-
ووجههم إلى الاستغفار والتوبة، فهما سبب للخير والبركة والقوة، جاء ذلك في قوله لهم: {
…
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} 2.
وقوله لهم: {
…
يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3.
إلا أنه على الرغم من هذه الدعوة المباركة المبنية على الحجة والإقناع، فإن الثموديين لم يؤمنوا بما نصحهم به نبيهم، ولم يسيروا في طريق الحق الذي أرشدهم إليه، بل أخذوا يتهمونه بالسحر الذي سيطر على عقله، فادعى أنه رسول من عند الله تعالى.
وطلبوا منه أن يأتيهم بمعجزة تدل على أنه رسول من عند الله حقاً.
قال ابن كثير: " وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوماً في
1 سورة الشعراء الآية: 145.
2 سورة هود الآية: 61.
3 سورة النمل الآية: 46.
ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح، فدعاهم إلى الله، وذكرهم وحذرهم، ووعظهم وأمرهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة –وأشاروا إلى صخرة هناك- ناقة صفتها كيت وكيت، وذكروا أوصافاً سموهاونعتوها وتعنتوا فيها
…
فقال لهم النبي صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم، أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به، قالوا: نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثم قام إلى مصلاه، فصلى لله عز وجل ما قدر له، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أنْ تتفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوا
…
فلما عاينوها.. رأوا أمراً عظيماً، ومنظراً هائلاً، وقدرة باهرة، ودليلاً قاطعاً، وبرهاناً ساطعاً، فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم، وضلالهم، وعنادهم"1. ا.?
لقد أظهر الله المعجزة العظيمة، الدالة على صدق رسوله عليه السلام، وأمرهم ألاّ يمسوها بسوء، وجعل لها شرباً في يوم معلوم، ولهم شرباً في يوم غيره، وأوعدهم بالعذاب إنْ هم اعتدوا عليها.
قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا
1 البداية والنهاية 1/134.
تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} 1.
وقال تعالى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 2.
ولكن المستكبرين من الكفرة أقدموا على عقر الناقة، غير مبالين بما توعدهم به نبيهم {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 3.
عند ذلك قال لهم نبيهم: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} 4.
وقد حقق الله جلت قدرته هذا الإنذار الذي وجهه إليهم صالح عليه السلام، فلم تمض ثلاثة أيام حتى حل بهم الهلاك والدمار.
يقول ابن كثير: "وأصبحت ثمود في اليوم الأول، وهو يوم الخميس، فإذا وجوههم مصفرة، كما أنذرهم صالح عليه السلام، فلما أمسوا نادوا
1 سورة هود الآية: 64.
2 سورة الشعراء الآيتان: 155-156.
3 سورة الأعراف الآية: 77.
4 سورة هود الآية: 65.
بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل، ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة، فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى يومان من الأجل، ثم أصبحوا في اليوم الثالث، وهو يوم السبت ووجوههم مسودة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى الأجل، فلما كان صبيحة يوم الأحد، تأهبوا وقعدوا ينتظرون ماذا يحلُّ لهم من العذاب والنكال والنقمة، ولا يدرون كيف يفعل بهم، ولا من أي جهة يأتيهم العذاب، فلما أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفت من أسفل منهم، ففاضت الأرواح، وزهقت النفوس، وسكنت الحركات، وخشعت الأصوات، وحقت الحقائق، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، جثثاً لا أرواح فيها، ولا حراك بها "1.
كما ذكر القرآن الكريم وجهاً آخر في سبب هلاكهم، وهو أن تسعة رجال منهم ائتمروا على مباغتة نبيهم صالح وأهله، وقتله سراً، فأهلكهم الله بالصاعقة بسبب ظلمهم وعدوانهم.
قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا
1 البداية والنهاية 1/136.
لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 1.
1 سورة النمل الآيات: 48-52.
4-
الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام ومنهجه في محاربته.
وبعد مدة طويلة من الزمن، ظهر في بابل عباد الأصنام، كما ظهر في حران عباد الكواكب والأصنام، فبعث الله تعالى فيهم إبراهيم الخليل عليه السلام.
وعن معبودات أهل بابل، يذكر صاحب قصة الحضارة:" بأنه كان لأهل بابل كثير من الآلهة
…
ذلك أن كل مدينة كان لها رب يحميها، وقد كان للمقاطعات والقرى آلهة صغرى تعبدها وتخلص لها، وإن كانت تخضع رسمياً للإله الأعظم، ثم قل عدد الآلهة شيئاً فشيئاً بعد أن فسرت الآلهة الصغرى بأنها صور أو صفات للآلهة الكبرى، وعلى هذا النحو أصبح "مزدك" إله باب كبير الآلهة البابلية.
وكان الملوك يشعرون بشدة حاجتهم إلى غفران الآلهة، فشادوا لها الهياكل وأمدوها بالأثاث والطعام والعبيد"1.
وأما عباد الكواكب من أهل حران، فكانوا على مذهب الصابئة المتعصبة للروحانيات، وهم يقولون بأن للعالم صانعاً فاطراً حكيماً، ولا يمكن الوصول إلى جلاله ومعرفته، وإنما يتقرب إليه بواسطة المقربين إليه، وهم الروحانيون المطهرون الذين {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
1 قصة الحضارة – ول ديورانت 2/211-214 بتصرف.
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 1.
ويعتقدون أن الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها، هي هياكل للروحانيات، فلكل روحاني هيكل، ولكل هيكل فلك، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به كنسبة الروح إلى الجسد، فهو ربه ومدبره، وكانوا يسمون الهياكل أرباباً، وربما يسمونها آباء، والله تعالى هو رب الأرباب، وإله الآلهة، ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة، ورب الأرباب2.
فأعلن إبراهيم عليه السلام في قومه دعوة التوحيد، وجادل وناقش كلا الفريقين بالحجة والبرهان، دون خوف أو مبالاة من أحد، وهو فريد لا يجد من ينصره أو يشد أزره، حتى إنّ والده، وهو أقرب الناس إليه وقف له بالمرصاد.
ولكن إبراهيم عليه السلام سار في طريقه، لا يأبه لشيء، وأعلن في الناس دعوته متحدياً كل من يتصدى له، قائلاً:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.
1 سورة التحريم الآية: 6.
2 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 2/6، 7، 49.
3 سورة الأنعام الآية: 79.
دعوة إبراهيم لوالده:
ولما كان والد إبراهيم عليه السلام أعلم القوم بصناعة الأصنام، وكان الناس يشترونها منه، كان إبراهيم عليه السلام يحمل أكثر وأقوى الإلزامات على والده، وقد ضرب إبراهيم عليه السلام المثل الرائع في الجمع بين قوة الحجة والإقناع، وأدب الحديث مع والده.
وقد قص الله تعالى لنا تلك المجادلة في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} 1.
وفي هذه الآيات نحس أسلوب الداعية المخلص في التوجيه والتعليم، الذي يحذر في لطف وينذر في لين، ويعرف منزلة الأبوة ومكانتها، فيعطيها حقها من اللين والاحترام.
ومع أنّ تلك الأبوة لم تقابل هذه الدعوة بالحنان والشفقة، بل انقلبت إلى نار تتأجج وجحيم يتوقد، تمثل ذلك في قول تلك الأبوة
1 سورة مريم الآيات: 41-45.
فإن إبراهيم عليه السلام لم يقابل تلك الشدة بمثلها، كما يفعل الأبناء الجهلة، ولكنه قابل تلك الشدة باللين والإحسان، فهو يقول لوالده:{سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} 2.
وهذا الاستغفار من إبراهيم عليه السلام إنّما كان طمعاً منه في إيمان أبيه، ولكنه حينما ظهر له إصراره على الشرك، وعداوته المتأصلة لدين الله تعالى، تبرأ منه وقطع صلته به، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} 3.
دعوة إبراهيم للوثنيين:
أما دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه الوثنيين، فقد سلك معهم منهجاً مرتباً لا تعقيد فيه ولا غموض، جاء ذلك في قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ
1 سورة مريم الآية: 46.
2 سورة مريم الآية: 47.
3 سورة التوبة الآية: 114.
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 1.
فمن خلال الآيات الكريمة، نرى أن إبراهيم عليه السلام قد دعا قومه دعوة بسيطة واضحة، وهي مرتبة في عرضها ترتيباً دقيقاً يحسن أن يتملاه أصحاب الدعوة، لينسجوا على منواله في مخاطبة النفوس والقلوب.
1-
فهو أولاً: بدأ ببيان حقيقة الدعوة التي يدعوهم إليها: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} .
2-
ثم أثنى بتحبيب هذه الحقيقة إليهم، وما تضمنته من الخير لهم، لو كانوا يعلمون أين يكون الخير {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
3-
وفي الخطوة الثالثة يبين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه:
أ- إنهم يعبدون من دون الله أوثاناً، والوثن -التمثال من الخشب-
1 سورة العنكبوت الآيات: 16-18.
وهي عبادة سخيفة، وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله.
ب- إنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أو دليل، وإنما يخلقون إفكاً وينشئون باطلاً من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة.
ج- إن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعاً، ولا ترزقهم شيئاً {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} .
4-
وفي الخطوة الرابعة يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق، الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} ، والرزق مشغلة النفوس، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان، ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس.
وفي النهاية يهتف بهم إلى وهاب الأرزاق المتفضل بالنعم، ليعبدوه ويشكروه:{وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} ، ويكشف لهم أنه لا مفر من الله، فمن الخير أن يتوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
5-
وأخيراً بين لهم أنهم إن كذبوا بعد ذلك فلن يضروا الله شيئاً، ولن يخسر رسوله شيئاً، فقد كذّب الكثيرون من قبل، وما على الرسول إلى واجب التبليغ {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 1.
بهذا الأسلوب المثالي في الدعوة، أخذ إبراهيم عليه السلام يدعو قومه، ولكنه حينما لم يجد قبولاً لدعوته أو سماعاً لتوجيهاته ونصائحه، أخذته الغيرة والحماس لدين الله تعالى ونصرته، فصاح بهم قائلاً:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 2، {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} 3.
ثم توعدهم بتحطيم تلك الأصنام في غيابهم {وَتَاللَّهِ لأََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} 4.
وكان للقوم عيد يخرجون فيه كل عام بعيداً عن العمران، وطلبوا من إبراهيم أن يشاركهم في بهجة ذلك الاحتفال، لكنه رفض مشاركتهم واعتذر بقوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} 5، ولما خرجوا إلى ذلك الاحتفال، وغادروا المساكن والعمران، ذهب إبراهيم عليه السلام إلى معبودات أولئك القوم،
1 انظر في ظلال القرآن لسيد قطب 6/399.
2 سورة الأنبياء الآية: 52.
3 سورة الصافات الآية: 86.
4 سورة الأنبياء الآية: 57.
5 سورة الصافات الآية: 89.
فوجد أنهم وضعوا أمامهم شتى أنواع الأطعمة والأشربة، فقال في تهكم لهذا العمل السخيف {أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ} 1.
ثم انفلت عليها يحطم ويهدم، وقد ترك كبير الأصنام ليقيم به على قومه الحجة، لعلهم يفيقون إلى رشدهم، ويرعوون عن غيهم {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَاّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} 2.
وبعد أن انتهى القوم من احتفالهم ورجعوا إلى أصنامهم، فوجئوا بما حدث، قال بعضهم لبعض في دهشة:{مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} 3.
كان من المفروض أن يفيق أولئك القوم إلى رشدهم عند هذا الحد، ويوقنوا بسخافة عبادتهم لها، ولكن القوم استمروا في غيهم وجدالهم،
1 سورة الصافات الآيتان: 91-92.
2 سورة الأنبياء الآية: 58.
3 سورة الأنبياء الآية: 65.
وقالوا لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ} 1.
ورد عليهم إبراهيم عليه السلام ساخراً منهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 2.
ولما لم يبق في أيدي القوم شيء يحتجون به، عدلوا عن الجدل والمناظرة، وقرروا استخدام القوة والسلطان، لنصرة ما هم عليه من ضلال وباطل:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} 3.
وألقوا إبراهيم عليه السلام في نار مستعرة انتقاماً منه، ومما يدعو إليه، ولكن الله تعالى صرف كيدهم، وجعل تلك النار برداً وسلاماً عليه، قال تعالى:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} 4.
1 سورة الأنبياء الآية: 65.
2 سورة الأنبياء الآية: 66-67.
3 سورة الأنبياء الآية: 68.
4 سورة الأنبياء الآيتان: 69-70.
مناظرة إبراهيم للنمرود:
ولما سمع الملك الطاغية نمرود بن كنعان عن نجاة إبراهيم عليه السلام من النار، خشي على نفسه ومنصبه، فاستدعاه ليناقشه عن إلهه الذي يعبده، ويدعو الناس إلى عبادته، فأجابه إبراهيم عليه السلام بأن ربه الذي يحيي ويميت، ولكن النمرود أجاب بأنه هو كذلك يحيي ويميت، قال ابن قتادة وابن إسحاق والسدي وغيرهم: أنه كان يؤتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فيأمر بقتل أحدهما فيقتل، ويعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة في نظره1.
قال ابن كثير: "والظاهر والله أعلم أنه ما أراد هذا، لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم، ولا في معناه، لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة، ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 2"3.
ولما رأى إبراهيم عليه السلام حماقة الطاغية ومشابهته في الدليل،
1 تفسير ابن كثير 1/325.
2 سورة القصص الآية: 38.
3 تفسير ابن كثير 1/325.
عدل إلى دليل آخر، أجدى وأروع وأشد إفحاماً، فقال له:{فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} .
عند ذلك أخرس ذلك الفاجر بالحجة القاطعة، وأصبح مبهوتاً لا يستطيع أن ينطق بكلمة، وكأنما ألقم الحجر.
وكانت نهاية هذا الطاغية كما ذكر ابن كثير عن زيد بن أسلم قال: "دخلت بعوضة واحدة في منخر النمرود، وأخذ يعذبه الله بها مدة طويلة، حتى كان يضرب رأسه بالمرزاب، حتى أهلكه الله بها"2.
دعوة إبراهيم لعبدة الكواكب:
ولما انتقل إبراهيم عليه السلام من أرض بابل إلى منطقة حران،
1 سورة البقرة الآية: 258.
2 تفسير ابن كثير 1/326، وانظر: البداية والنهاية 1/149.
وأمله أن يجد من أهلها قلوباً تتفتح إلى النور والهدى، ولكنه مع الأسف وجد أهلها أشد ظلاماً، وأكثر جهلاً، حيث وجدهم يعبدون ويؤلهون الشمس والقمر والنجوم، فعند ذلك نزل إبراهيم عليه السلام حلبة الميدان، يجادل بالحجة والبرهان، مستخدماً معهم طرق العقل والمنطق، لعلهم يفيقون إلى رشدهم، ويعبدون الإله الحق الذي يسير تلك الكواكب، والآيات التالية تبين لنا الأسلوب الذي سلكه إبراهيم عليه السلام معهم في التدرج إلى معرفة الخالق تبارك وتعالى.
قال عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1.
ونلاحظ من خلال الآيات الكريمة أن إبراهيم عليه السلام قد أعلن لهم خيبة أمله في جميع هذه الكواكب، وأنَّ واحداً منها لا يستحقُّ أنْ يكون إلهاً حقاً، فهي تظهر من هنا، وتغيب من هنا، وإذا كانت الآلهة تغيب، فمن الذي يرعى الخلائق عند غيابها، أو من يدبر أمرها إذا أفلت.
فلا بدّ إذاً من إله خالق الكل، وهيمن على مسيرتها وحركتها، حتى أكبرها لا يعدو أن يكون واحداً من هذه الكواكب السيارة.
ورب هذه الكواكب هو الذي ينبغي التوجه إليه، وصرف العبادة له.
1 سورة الأنعام الآيات: 76-83.
5-
الشرك في قوم إسماعيل عليه السلام ومنهجه في محاربته.
ونأتي إلى إسماعيل عليه السلام، بكر أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، من زوجه هاجر المصرية، وقد رزق به لما بلغ من العمر ستاً وثمانين سنة، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة:{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} 1.
ومن الثابت أن إبراهيم عليه السلام قد انتقل بزوجه هاجر وابنه إسماعيل -وكان يومئذ رضيعاً- إلى مكة.
وبمكة نشأ إسماعيل وترعرع، وكان أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة، وقد تعلمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم بمكة، من جرهم والعماليق، وأهل اليمن2.
وقد أثنى الله تعالى على هذا النبي الجليل، ووصفه بالصبر والحلم، وصدق الوعد، والمحافظة على الصلاة والزكاة، وأمره لأهله بها، بالإضافة إلى الدعوة إلى عبادة الله وحده.
1 سورة إبراهيم الآية: 39.
2 انظر: قصص الأنبياء لابن كثير 1/306.
وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ} أي: إبراهيم {بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} 2.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الأَخْيَارِ} 4.
ولما شب إسماعيل عليه السلام، وأصبح في سن يستطيع معها أن يسعى ويعمل، رأى إبراهيم في المنام –ورؤيا الأنبياء حق- أن الله يأمره بأن يذبح ولده إسماعيل، وكان وحيده آنذاك، فعرض إبراهيم الأمر على ولده ليختبر إيمانه، وليكون ذلك أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يذبحه قهراً.
وكان جواب إسماعيل لأبيه أن يفعل ما أمره الله به، وأنه سيجده إن
1 سورة الأنبياء الآيتان: 85-86.
2 سورة الصافات آية: 101.
3 سورة مريم الآيتان: 54-55.
4 سورة ص الآية: 48.
شاء الله من الصابرين الراضين بحكم الله وإراداته، فلما استسلما لقضاء الله، وعزما على تنفيذ أمره، وأمرّ إبراهيم السكين على رقبة ابنه، غير أنه وجد أن السكين لم تقطع، وناداه ربه بالكف عن ذبح إسماعيل؛ لأنه قد حصل المقصود من الإمتحان والابتلاء، وفداء الله إسماعيل بكبش عظيم.
وقد كانت رسالته عليه السلام إلى القبائل العربية التي عاش في وسطها، وما والاها من قبائل جرهم والعماليق واليمن2.
وإذا كان القرآن الكريم لم يفصل الحديث عن دعوته عليه السلام، فإن من المرجح أنه سار على نهج والده في الدعوة إلى الله تعالى من تقرير عقيدة التوحيد، وعبادة رب الأرباب، وأداء الصلوات والزكوات وغيرها من العبادات.
ولعل معاصرته لأبيه عدداً من السنين، ومشاركته له في بعض مهام
1 سورة الصافات الآيات: 102-107.
2 انظر: قصص الأنبياء لابن كثير 1/306.
الدعوة ولوازمها، كبناء البيت الحرام، أو لعل ما جرى بخصوص دعوة أبيه من التفصيل والإيضاح، اقتصر في عرض دعوته عليه السلام.
وقد بين القرآن الكريم أنّ الله تعالى جعل البيت الحرام "مثابة" أي: مرجعاً للناس يقصدونه للعبادة، وأنه مكان أمن وأمان، لا يخاف قاصده، كما أشار الله إلى وصيته لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بتطهير البيت من الدنس الحسي، كالقاذورات، والدنس المعنوي كالشرك وعبادة الأصنام، ليكون طاهراً للطائفين حوله، والمعتكفين فيه للعبادة، والراكعين الساجدين لله تعالى فيه.
وبين القرآن الكريم إن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعد من البيت الحرام، ويدعوان الله تعالى أن يتقبل منهما عملهما، كما يدعوانه أن يبقيهما على الإسلام، ومن ذريتهما كذلك، وأن يبعث في تلك الأمة رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة.
1 سورة البقرة الآية: 125.
وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق، في بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً في الأميين، وسائر الأعجمين، من الإنس والجن، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين ترين"2.
1 سورة البقرة الآيات: 127-129.
2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/127 و 5/262 عن العرباض بن سارية، وعن أبي أمامة، وعن أبي النّضر، وعن فرج.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/212: "إسناد أحمد حسن".
وفيه: ((ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام)) .
ورواه الحاكم في المستدرك 2/616-617 بمثل سند أحمد، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
ورواه إسحاق بإسناد حسن، كما في سيرة ابن هشام 1/219-220 إذ إن جهالة الصحابي فيه لا تضر، ولذا قال عنه ابن كثير في البداية 2/299:"وهذا إسناد جيد قوي".
وانظر تخريجه في السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية للدكتور مهدي رزق الله ص: 112.
والمراد أنّ أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام، ولم يزل ذكره مشهوراً حتى أفصح باسمه آخر أنبياء بني إسرائيل، وهو عيسى بن مريم عليه السلام، حيث قال: {
…
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
…
} 1.
هذا والبشارات بالرسول صلى الله عليه وسلم ليس هذا مكانها2.
1 سورة الصف آية: 6.
2 وقد تحدثت عنها في رسالة الماجستير: "منهج القرآن الكريم في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام".
6-
الشرك في قوم يوسف عليه السلام ومنهجه في محاربته.
وفي زمن يوسف عليه السلام، كان الشرك سائداً في مصر، كسائر الأمم القديمة، وذكروا أنه كان لكل مدينة في مصر يومئذ معبود لا يشبه ما يجاورها من المدن، وكان لكل مدينة أو مقاطعة صغيرة آلهتها الخاصة، وعبادتها المختلفة، فكان موطن أوزيريس في أبيدوس، وفتاح في منفيس، وآمون في طيبة، وهوروس في أدفو، وهاتور في دندرة، ورع في هليوبوليس، وآتون في هرموبولس، وغيرها كثير هنا وهناك، وكانت مكانة الآلة مستمدة من مكانة المدينة أو المقاطعة التي يعبد فيها، وهكذا كانت الآلهة مراتب متفاوتة، تبعاً لتفاوت مراتب المقاطعات السياسية1.
كما كانت لهم معبودات أخرى كالشمس، والأسد، وابن آوى، وغير ذلك من الحيوانات والآلهة الحرقاء2.
وقد غاظ يوسف عليه السلام ما شاهده من انحراف شنيع عن عقيدة التوحيد، فلما واتته الفرصة أثناء وجوده في السجن، صاح في
1 مقارنة الأديان لأبي زهرة ص: 7، والأديان دراسة تاريخية مقارنة للدكتور رشدي عليان وسعدون الساموك ص: 53-54.
2 تاريخ الدعوة لجمعة الخولي 1/219، عن مؤتمر تفسير سورة يوسف 2/783 ط أولى، سنة 1961م.
يقول سيد قطب رحمه الله: " لقد رسم يوسف عليه السلام بهذه الكلمات القليلة الناصعة، الحاسمة المنيرة، كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة، كما هزّ بها كلَّ قوائم الشرك هزاً شديداً عنيفاً {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .
إنه يتخذ منهما صاحبين، ويتحبب إليهما بهذه الصفة المؤنسة، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة، وجسم العقيدة، وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة، إنّما يعرضها قضية موضوعية:
{أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ؟} .
وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها، ويهزها هزاً شديداً.
إن الفطرة تعرف لها إلهاً واحداً، ففيم إذاً تعدد الأرباب؟ إنَّ الذي
1 سورة يوسف الآيتان: 39-40.
يستحق أن يكون رباً يعبد ويطاع أمره، ويتبع شرعه، هو الله الواحد القهار، ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود، فيجب تبعاً لذلك أنْ يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس، وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد، وأنه هو القاهر، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره، ويتخذوا بذلك من دون الله رباً.
إنّ الرب لا بدّ أنْ يكون إلهاً يملك أمر هذا الكون ويسيره، ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله رباً للناس يقهرهم بحكمه.
والله الواحد القهار، خير من يدين الناس لربوبيته، من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء الجاهلية العمياء، عن رؤية ما وراء المنظور القريب، كالشأن في كل الأرباب إلاّ الله.
وما شقيت البشرية قط، مثل شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم، وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم"1 ا.?.
والذي لا شك فيه أن يوسف عليه السلام، قد عاش بين قومه الوثنيين يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويبلغهم رسالة ربه، وينصح لله تعالى ما استطاع، لكنه لم يتمكن من أن يحقق بينهم كلّ ما يرجوه من دعوته، وظل قومه في شك مما جاء به، كما أشار إلى ذلك مؤمن آل
1 في ظلال القرآن 4/723-724 بتصرف.
1 سورة غافر الآية: 34.
7-
الشرك في قوم شعيب عليه السلام ومنهجه في محاربته.
وفي عهد شعيب عليه السلام، ظهر في مدين1 قوم يعبدون الأيكة.
قال ابن كثير:" وكان أهل مدين كفاراً يقطعون السبيل، ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة، وهي الشجرة من الأيك، حولها غيضة ملتفة بها، وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيما يأخذون بالزائد، ويدفعون بالناقص، فبعث الله فيهم رجلاً منهم، وهو رسول الله شعيب عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من بخس الناس أشياءهم، وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، فآمن به بعضهم، وكفر أكثرهم، حتى أحل الله بهم البأس الشديد "2.
قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ
1 مدين: مدينة على بحر القلزم (البحر الأحمر) محاذية لتبوك، على نحو من ست مراحل، وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام، لسائمة شعيب، وقيل مدين اسم القبيلة، ولهذا قال تعالى:(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) . معجم البلدان للحموي 5/77-78.
2 البداية والنهاية لابن كثير 1/185.
إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 1.
فأنكر قومه دعوته، ولم يؤمنوا بما جاء به من عند الله تعالى، واستهزؤا به، ولم يرتدعوا عما يفعلونه، وقالوا له على سبيل السخرية والاستهزاء:{يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأََنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 2.
وكانت النتيجة أن أخذتهم رجفة شديدة، وزلزلة عظيمة أزهقت أرواحهم من أجسادهم، وانتهى أمرهم وزالت آثارهم، ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منه وإحسان، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا
1 سورة الأعراف الآية: 85.
2 سورة هود الآية: 87.
3 سورة هود الآية: 91.
شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} 1.
1 سورة هود الآية: 94-95.
8-
الشرك في قوم موسى عليه السلام ومنهجه في محاربته.
ولما كثر بنو إسرائيل في مصر، وتزايد عددهم وحكمهم فرعون ذلك الملك الطاغية، الذي ادعى الربوبية والألوهية معاً، وحكم قومه بالحديد والنار، وكان مما أوقعه بهم تفريقهم شيعاً وأحزاباً، وتسخيرهم في أشق الأعمال لإنهاك قواهم، وكان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، كما قص الله تعالى ذلك في قوله عز وجل:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 1.
وقال لهم: {
…
مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2.
فبعث الله تعالى إليه وإلى قومه موسى وأخاه هارون عليهما السلام، فدعواه باللين والحسنى إلى عبادة الله وحده، وترك التجبر والتكبر في
1 سورة القصص الآية: 4.
2 سورة القصص الآية: 38.
الأرض، قال تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 1.
وقد أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام التوارة، وهي كتاب سماوي، فيه هدى ونور، وضياء وذكر، وتمام على الذي أحسن، وتفصيل لكل شيء.
وأمر الله بني إسرائيل أن يأخذوا بأحسنها، وأن يقيموا أحكامها، وأن لا يشتروا بها ثمناً قليلاً، وأن لا يحرفوا كلمها عن مواضعه
…
كما جاءت التوراة بتفاصيل العبادة التي لا تنبغي إلاّ لله تعالى، وحذرت من الشرك وغوائل الوثنية.
فقد جاء في سفر الخروج:" أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة مما في السماء من فوق، ومما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهنَّ ولا تعبدهنَّ، لأني أنا الرب إلهك، إله غيور "2.
وجاء في سفر الخروج أيضاً: "من ذبح لآلهة غير الرب وحده
1 سورة طه الآية: 44.
2 سفر الخروج الإصحاح العشرين فقرة 3-5، وانظر هذا المعنى في سفر الخروج أيضاً الإصحاح 34 فقرة 11-15، وسفر التثنية الإصحاح 5 فقرة 6-22.
يهلك"1.
وجاء في سفر اللاويين: "لا تلتفتوا إلى الأوثان، وآلهة مسبوكة، ولا تصنعوا لأنفسكم"2.
وقد أشار القرآن الكريم إلى دعوة بني إسرائيل إلى التوحيد، فقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَاّ اللهَ} 3.
وقد استكبر فروعون وطغى، وتجبر واستخفّ قومه واستجلبهم، فأطاعوه لما دعاهم إليه من الكفر والضلال، قال تعالى عنه: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا
1 سفر الخروج الإصحاح 22 فقرة: 20.
2 سفر اللاويين الإصحاح 19 فقرة: 5.
3 سورة البقرة الآية: 83.
4 سورة المائدة الآية: 12.
تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 1.
وكان مصير فرعون وأتباعه أن أغرقهم الله تعالى في البحر، وأنجى الله تعالى موسى وهارون، ومن آمن معهما من بني إسرائيل، فكان ذلك آية وعبرة للناس إلى يوم القيامة.
1 سورة الزخرف الآيات: 51-54.
2 سورة يونس الآيات: 90-92.
3 سورة الشعراء الآيات: 65-68.
ولم يهمل القرآن الكريم الحديث عن مصير فرعون وقومه في الدار الآخرة، وما أعده الله لهم من العذاب، وسوء المصير، قال تعالى:{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 1.
وعلى الرغم مما لقي موسى عليه السلام في سبيل دعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله تعالى وحده من الأهوال والمعاناة، وما أيده الله به من المعجزات العظيمة الدالة على قدرة وعظمة الخالق، جلت قدرته، إلا أن رواسب الوثنية التي ألفها قومه طوال عهدهم في مصر، بقيت تعاودهم من حين إلى آخر.
ومن مظاهر ذلك أنهم عندما جاوزوا البحر الذي أغرق الله عدوهم به، مروا على قوم يعبدون الأصنام، فطلبوا من موسى عليه السلام أن يتخذ لهم صنماً يعبدونه مثل ما لأولئك الوثنيين، وقد لامهم موسى عليه السلام، وعاتبهم على جهلهم، وبين لهم أنَّ دين أولئك القوم هالك وباطل، وأنّ أعمالهم خاسرة ومضمحلة لعبادتهم ما لا يستحق العبادة.
قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى
1 سورة غافر الآيات: 45-47.
أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1.
وعندما ذهب موسى عليه السلام لمناجاة ربه، استغل السامري فرصة غيابه، وأخذ من بعض حلي النساء وأذابها بالنار، وسبك منها جسداً على شكل عجل، إذا دخلته الريح تجعل له صوتاً كصوت البقر، وأمرهم بعبادته، وقد تصدى لهم هارون عليه السلام، وأفهمهم بأنهم فتنوا بهذا العمل، وأجهد نفسه عليه السلام في ردهم عن عبادة العجل، ولكنه لم يفلح؛ لإصرارهم على عبادته حتى يرجع إليهم موسى.
فلما أخبر الله تبارك وتعالى رسوله موسى عليه السلام بما فعله السامري، وما أضل به القوم عن دينهم، عاد موسى عليه السلام وهو في أشد حالات الغضب والأسف، ولام قومه على فعلهم، كما لام أخاه هارون عليه السلام على عدم لحوقه به لإخباره بما حدث، كما توجه باللوم الشديد للسامري على تسببه في إضلال الناس، وبين له بوحي من الله تعالى أن عاقبته في الحياة أن يقول:"لا مساس"، فكان يتألم من مس أي إنسان له، فإذا لقي إنساناً وخشي أن يمسه يقوله له:"لا مساس".
1 سورة الأعراف الآيات: 138-140.
ثم ذهب موسى نحو العجل المصنوع، وأحرقه وأذراه في البحر.
قص الله تبارك وتعالى لنا ذلك في الآيات التالية:
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَاّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا
لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} 1.
كما بين موسى عليه السلام لقومه بوحي من الله تعالى أن توبتهم تكون بقتل أنفسهم، وكبت شهواتهم وتطهيرها من الشرك والآثام.
ويعلق الشيخ العدوي على تأصل الوثنية في بني إسرائيل على الرغم من دعوة موسى عليه السلام لهم الأيام والليالي الطويلة، فيقول: " فهذا نبي الله موسى يمضي الأيام في دعوة القوم إلى توحيد الله تعالى، ويدأب على محاربة الشرك والوثنية أياماً وليالي، ثم يترك أخاه هارون عليه السلام، فيطمع القوم في حلمه ولين جانبه، فينتهز السامري تلك الفرصة، ويضل القوم بعمل عجل من حلي الذهب والفضة على نحو خاص، بحيث إذا مرّ الهواء منه صوت كصوت العجل، واستغل سذاجة بني إسرائيل وجهلهم
1 سورة طه الآيات: 85-97.
2 سورة البقرة الآية: 54.
بحقيقة تلك الصنعة، ويريهم أن ذلك هو الذي ينبغي أن يعبد، فيعود نبي الله موسى، فيحزن على ذلك العمل الحزن العميق، ويأسف غاية الأسف على إضاعة مجهوده بسبب ضعف قومه، واستعدادهم لكل أنواع التحريف"1.
هذا وسيأتي معنا بعض الإيضاح عن مظاهر التحريف للديانة اليهودية بعد موسى عليه السلام، في الكلام عن حالة العقائد قبيل البعثة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
1 دعوة الرسل إلى الله تعالى ص: 22.
9-
الشرك في قوم عيسى عليه السلام ومنهجه في محاربته.
وتتابعت بعثة الرسل والأنبياء على بني إسرائيل على مرّ العصور والأزمان، لانتشالهم من الضلال والجهل وطغيان المادة، ولكن بني إسرائيل لم يقابلوا تلك النعمة بالشكر والامتنان، وإنما قابلوها بالجحود والكفر، وتمردوا على الشرائع الربانية التي جاء بها أنبياؤهم، واستمروا على الشرك وعبادة الأوثان، حتى قبيل ظهور المسيح عليه السلام ظهر من الآلهة المقدسة في الإغريق والرومان والفرس والشام ومصر وبابل وغيرها الأعداد الكثيرة.
يقول الدكتور أحمد شلبي في كتابه المسيحية: " قبل ظهور المسيح، كانت هناك معابد كثيرة تقدس عدداً كبيراً من الآلهة، فهناك مثلاً آيلو الذي كان يقدسه الإغريق، وهيركوليس معبود الرومان، ومترا معبود الفرس، وأدونيس معبود السوريين، وأوزيريس وإيزيس وحورس معبودات المصريين، وبعل معبود البابليين، وسواهم كثيرون.
وكانت هذه الآلهة تعتبر كلها من نسل الشمس
…
"1.
فجاء عبد الله ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام إلى بني إسرائيل، ليردهم إلى الطريق الحق، ويصحح لهم ما دخل على شريعتهم من تحريف
1 المسيحية، لأحمد شلبي ص: 176-177.
وتبديل، ويبلغهم ما أنزل الله عليه من شريعة جديدة، وما فيها من تحليل بعض ما حُرِّم عليهم في شريعة موسى عليه السلام بسبب بغيهم وعدوانهم، قال تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
…
} 1.
وأنزل الله تعالى عليه الإنجيل، فيه الهدى والنور، كما قال تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} 2.
وفيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم، وصاحب الشريعة العامة لكافة الخلق، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 3.
ودعا قومه إلى عبادة الله تعالى وتوحيده.
1 سورة آل عمران الآية: 50.
2 سورة المائدة الآية: 46.
3 سورة الصف الآية: 6.
وعلى هذا الأساس، أخذ عيسى عليه السلام يدعو قومه إلى عبادة الله تعالى، ويقارعهم الحجة، ويرفض أي إدعاء أو زيادة ترفع شخصه عن جنس البشرية، أو مقام النبوة.
وهكذا جاء عيسى عليه السلام بكلمة التوحيد خالصة لله تعالى، في وضوح وجلاء، ولم يقل مرة واحدة إنه إله، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى أي صله بربه، غير صلة العبودية الخالصة من جانبه، والربوبية المطلقة لله رب العالمين.
ومن هذا يتبين لنا أن عيسى عليه السلام لو جرِّد من كل ما أضافه
1 سورة المائدة الآية: 72.
2 سورة الزخرف الآية: 63-65.
إليه المحرفون الضالون، لكان كما وصفه رب العزة والجلال في كتابه الكريم:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} 1.
ولما كان اليهود الذين بعث فيهم عيسى عليه السلام قساة القلوب، فقد أعرضوا عن رسالته، وأخذوا يصدون الناس من سماع دعوته، ولما وجدوا أنَّ البعض يؤمن به ويلتف حول دعوته، أخذوا يحرضون الرومان عليه، ويوهمونهم أنّ في دعوة عيسى زوالاً لملك قيصر، وتقويضاً لسلطانه، فتمكنوا من حمل الحاكم الروماني على إصدار الأمر بالقبض عليه، والحكم بإعدامه صلباً2.
1 سورة مريم الآيات: 30-36.
2 قصص الأنبياء للنجار ص: 504، ومع الأنبياء في القرآن الكريم لعفيف طبارة ص:326.
ولكن الله تعالى لم يمكنهم مما أرادوا به من كيد ومكر، إذ رفعه الله تعالى إليه، وألقى الشبه على غيره، كما قال تعالى:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 1.
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} 2.
وسنلقي شيئاً من الضوء على ما حصل للديانة النصرانية من تحريف وتبديل بعد رفع المسيح عليه السلام، في الحديث عن حالة العقائد قبيل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا ولأنّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات، ولكونها عامة إلى جميع الناس، في كل زمان ومكان، أود أن أعطي فكرة عن حالة العقائد في العالم، قبيل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية، وفي خارجها، لنرى كيف أنَّ العالم بأسره كان في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة تنير له الطريق، وتكفل له أمنه واستقراره.
1 سورة النساء الآيتان: 157-158.
2 سورة آل عمران الآية: 55.