الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: حالة العقائد قبيل البعثة المحمدية
أولاً: حالة العقائد داخل الجزيرة العربية.
أ-الحالة الدينية للعرب قبل الإسلام:
العرب كانوا على التوحيد:
كان العرب على دين إبراهيم وإسماعيل، وعلى دين من بعثه الله تعالى فيهم من أنبياء لعاد ولثمود ولمدين وغيرهم.
فقد بعث الله تعالى هوداً عليه السلام لعاد، الذين سكنوا الأحقاف جنوب الربع الخالي وشمال حضرموت، وبعث صالحاً عليه السلام لثمود الذين سكنوا بالحجر ووادي القرى بين المدينة النبوية وتبوك.
وأبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وإن كان ولد ببابل، إلاّ أنه لم يستقر بها، بل أخذ يتنقل بينها وبين حران ومصروفلسطين، ثم كان مهاجره إلى مكة ومعه ولده إسماعيل وأمه هاجر، وقد استقرّ المقام بإسماعيل وأمه بمكة، ورفع إبراهيم وابنه إسماعيل بمكة قواعد البيت الحرام.
1 سورة البقرة الآيتان: 127-128.
وكانت على مقربة من الجزيرة العربية رسالة لوط، ورسالة شعيب عليهما السلام.
ولهذا فإنَّ العرب في الجزيرة العربية كانوا يؤمنون بدعوة التوحيد التي دعا إليها هؤلاء الأنبياء وغيرهم، لأنَّ الصحيح المقطوع به، أنّ الرسل المذكورين في القرآن الكريم ليسوا كل الرسل الذين بعثهم الله تعالى، بل إنه يوجد رسل غيرهم، كما قال تعالى لخاتم رسله بعد أن ذكر عدداً من الرسل:{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} 1.
وقال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} 2.
تحول العرب من التوحيد إلى الوثنية:
وعن تحول العرب عن عبادة الله تعالى إلى الوثنية، قال أبو المنذر الكلبي: "إن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام لما سكن مكة، وولد له بها أولاد كثيرون، حتى ملاءوا مكة، ونفوا من كان بها من العماليق، ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد إلتماساً للمعاش، وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة، إنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجراً
1 سورة النساء الآية: 164.
2 سورة فاطر الآية: 24.
من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابة1 بمكة، فحيثما حلوا وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم، وصبابة بالحرم، وحباً له، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ثم سلخ ذلك بهم إلى أنْ عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، وانتجثوا (استخرجوا) ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام منها، على إرث ما بقي فيهم من ذكرها، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها، من تعظيم البيت، والطواف به، والحج، والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه"2.
وقد كانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك" فيوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده، يقول تعالى لنبيه محمد صلى
1 الصبابة: رقة الشوق وحرارته. مختار الصحاح ص: 354.
2 الأصنام ص: 6، وأخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي 1/166، وسيرة ابن هشام 1/177، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/210، وتلبيس إبليس لابن الجوزي 55-56.
الله عليه وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} 1.
أي ما يوحدونني لمعرفة حقي، إلاّ جعلوا معي شريكاً من خلقي2.
وذكر السهيلي وغيره: "أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحي، وأن إبليس تبدى له في صورة شيخ، فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه، ويقول كما يقول، واتبعه العرب في ذلك"3.
وقد ذكر ابن الكلبي: "أنَّ أولّ من غير دين إسماعيل عليه السلام فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية، عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أبو خزاعة.
وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة، فلما بلغ عمرو بن لحي نازعه في الولاية، وقاتل جرهما ببني إسماعيل، فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم عن بلاد مكة، وتولى حجابة البيت بعدهم"4.
وذكر السهيلي: "أن العرب قد جعلته رباً لا يبتدع لهم بدعة، إلاّ
1 سورة يوسف الآية: 106.
2 الأصنام للكلبي ص: 7، وسيرة ابن هشام 1/78، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188، والفتاوى لابن تيمية 1/156، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/210-211.
3 الروض الأنف 1/102، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188.
4 الأصنام للكلبي ص: 8، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص: 56، وبلوغ المرام للألوسي 2/200.
اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس، ويكسو في الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة ألاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلة"1.
وقد نص الشهرستاني أن عمرو بن لحي وضع الأصنام في البيت في أول ملك "سابور" ذي الأكتاف2".3
وعن جلب الأصنام من الشام إلى مكة، يروي ابن الكلبي أنّ عمرو بن لحي مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إنَّ بالبلقاء من الشام حمة، إنْ أتيتها برأت، فأتاها فاستحم بها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة"4.
وهناك رواية أخرى تذكر أنّ أول من اتخذ تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم من الناس هو: هذيل بن مدركة5.
1 الروض الأنف 1/102، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/211.
2 هو: سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام، أحد ملوك الفرس، قتله الروم وله من العمر 72 سنة، وهلك في أيامه عامله على العرب امرؤ القيس بن عمرو بن عدي.
انظر: الكامل لابن الأثير 1/228-231، ومروج الذهب للمسعودي 1/254.
3 الملل والنحل 2/233.
4 الأصنام ص: 8، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص: 56، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/211، وبلوغ الإرب للألوسي 2/201.
5 الأصنام لابن الكلبي ص: 9، ومعجم البلدان للحموي 3/276، وبلوغ الإرب للألوسي 2/20.
وعلى كل فالرواية الأولى هي المعروفة والمشهورة بين الإخباريين عن منشأ عبادة الأصنام عند العرب1.
والحق إنه إذا كان للدعوة الإلهية أنبياء ودعاة يدعون الناس إلى الخير، وإلى عبادة الله تعالى وحده، فكذلك فإن للدعوات الشيطانية دعاة يدعون إلى أبواب جهنم، وإلى عبادة الأوهام والطواغيت، ومن أكبر دعاة الضلال عمرو بن لحي الخزاعي، حيث استورد الأصنام من بلاد بعيدة، ووزعها في الجزيرة العربية، بل في أرض الحرم.
فإنَّ العرب جميعاً من قحطان وعدنان كانوا قبل عمرو بن لحي على التوحيد يعبدون الله وحده، ولا يشركون به شيئاً، فلما جاء عمرو بن لحي أفسدهم، ونشر بينهم الأضاليل بما جلبه لهم من بلاد الشام من أصنام، فكان داعي الوثنية عند العرب، ومضلهم الأول، وموزع الأصنام بين القبائل، ومقسمها عليها، فكان من دعوته تلك عبادة الأصنام والأوثان، إلى أن جاء الإسلام، فأعاد العرب إلى سواء السبيل.
وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو
1 انظر: تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 5/73.
ابن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب" 1.
وجاء في صحيح البخاري أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً، ورأيت عمراً يجر قصبه، وهو أول من سيب السوائب"2.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق أبا بني كعب هؤلاء، يجر قصبه في النار"3.
وروى ابن كثير عن ابن إسحاق عن أبي هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجوزي الخزاعي "يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك له، ولا بك منه"، فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال: لا إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحّر البحيرة، وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة،
1 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/283 كتاب التفسير، المائدة، باب ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة.
2 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/283 المرجع السابق.
3 صحيح مسلم 4/2191 كتاب الجنة وصفة نعيمها رقم: 50.
وحمى الحامي" 1.
بعض أصنام العرب:
وفي طليعة الأصنام التي عبدها العرب:
الصنم "ود" وكان لبني كلب.. وكان منصوباً بدومة الجندل2.
ويذكر ابن الكلبي أن عمرو بن لحي قد دفع هذا الصنم إلى عوف ابن عذرة ابن زيد اللات.. من قضاعة بعد أن أجابه إلى عبادة الأصنام، وأن عوف بن عذرة هذا حمله إلى وادي القرى، فأقره بدومة الجندل، وسمى ابنه عبد ود، فهو أول من سمى به،.. ثم سمت العرب به بعد ذلك، وجعل عوف ابنه عامراً
…
سادناً له، فلم تزل بنوه يسدنونه حتى جاء الله بالإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد من غزوة تبوك لهدمه، فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ود، وبنو عامر
1 البداية والنهاية 2/189، وقال: ليس في الكتب من هذا الوجه.
ورواه ابن جرير الطبري في التفسير بنحوه 7/86.
وانظر السهيلي في الروض الأنف 1/100، ابن إسحاق بإسناد حسن. انظر سيرة ابن هشام 1/76، وانظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية د. مهدي رزق الله ص:68.
2 الأصنام لابن الكلبي ص: 10.
وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/190، ومعجم البلدان للحموي 5/368، وسيرة ابن هشام 1/78.
الأجداد، فقاتلهم حتى قتلهم، فهدمه وكسره1.
وكان "سواع" لبني هذيل بن إلياس بن مدركة بن مضر، وكان منصوباً بمكان يقال له رهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر2.
قال رجل من العرب:
تراهم حول قبلتهم عكوفاً
…
كما عكفت هذيل على سواع3
وقد هدم هذا الصنم عمرو بن العاص رضي الله عنه4.
وكان "يغوث" لبني أنعم من طيء، ولأهل جرش بن مذحج، وكان منصوباً بجرش5.
ويذكر ابن الكلبي أن عمرو بن لحي دفع بهذا الصنم إلى أنعم بن عمرو المرادي، فوضعه بأكمة مذحج باليمن، فعبدته مذحج ومن والاها
1 الأصنام ص: 55-56، وانظر: معجم البلدان للحموي 5/368.
2 الأصنام لابن الكلبي ص: 57، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191، وسيرة ابن هشام 1/78.
3 بلوغ الإرب للألوسي 2/201.
4 انظر: معجم البلدان للحموي 3/276، والطبقات لابن سعد 2/146معلقاً، ولسان العرب لابن منظور 10/24.
5 الأصنام لابن الكلبي ص: 57، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191، وسيرة ابن هشام 1/79.
من أهل جرش1.
وكان "يعوق" منصوباً بأرض همدان من اليمن، لبني خيوان بطن من همدان2.
ويذكر ابن الكلبي أن عمرو بن لحي وضع بهذا الصنم إلى مالك بن مرثد بن جشم، وقد عبدته همدان وخولان ومن والاهما من قبائل، وكان في أرب، قال مالك بن نمط الهمداني:
يريش الله في الدنيا ويبري
…
ولا يبري يعوق ولا يريش3
وكان "نسر" منصوباً بأرض حمير، لقبيلة يقال لها ذو الكلاع، وقد أعطاه عمرو بن لحي قيل: لذي رعين، يقال له: معد يكرب، فوضعه في موضغ "بلخ" من أرض سبأ، فتعبدت له حمير إلى أيام ذي نواس، حيث تهودت معه، وتركت عبادته، فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله
1 الأصنام لابن الكلبي ص: 30، 75، واللسان لابن منظور 2/175، ومعجم البلدان 5/439، والروض الأنف للسهيلي 1/103، وبلوغ الأرب للألوسي 2/201.
2 البداية والنهاية لابن كثير 2/191.
3 الأصنام لابن الكلبي ص: 57، والروض الأنف للسهيلي 1/103، واللسان لابن منظور 10/281، ومعجم البلدان للحموي 5/438، وسيرة ابن هشام 1/79-80، وبلوغ الارب للألوسي 2/201.
النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بهدمها1.
وهذه الأصنام الخمسة، قد كانت في قوم نوح عليه السلام، كما قال تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا..} 2.
ثم انتقلت هذه الأصنام في العرب بعد، كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما 3.
ويعد الصنم "مناة" أقدم الأصنام التي اتخذها العرب، وكان منصوباً على ساحل البحر، بناحية المشلل بقديد، بين المدينة ومكة، وكانت العرب تعظمه، وتذبح حوله، وكان أشد الناس إعظاماً له الأوس والخزرج وغسان من الأزد، ومن دان بدينهم من أهل يثرب (المدينة) وأهل الشام4.
1 الأصنام لابن الكلبي ص: 57-58، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191، واللسان لابن منظور 5/206، وسيرة ابن هشام 1/80، ومعجم البلدان للحموي 5/284، وبلوغ الارب للألوسي 2/201.
2 سورة نوح الآية: 22.
3 الأصنام لابن الكلبي ص: 13-14، 438، وسيرة ابن هشام 1/85، وأخبار مكة للأزرقي 1/124، وتاج العروس لمحب الدين الحسيني 10/351، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/112، وبلوغ الارب للألوسي 2/202.
4 الأصنام لابن الكلبي ص: 13-14، 438، وسيرة ابن هشام 1/85، وأخبار مكة للأزرقي 1/124، وتاج العروس لمحب الدين الحسيني 10/351، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/112، وبلوغ الارب للألوسي 2/202.
ومناة هي التي ذكرها الله تعالى بقوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} 1.
وقد كان سدنة هذا الصنم يرتزقون باسمه، إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سنة ثمان من الهجرة، وهو عام الفتح، فلما سار من المدينة أربع ليال أو خمس، بعث علياً فهدمها، وأخذ ما كان لها، فأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما أخذ سيفان كان الحارث ابن شمر ملك غسان أهداهما لها، أحدهما اسمه (مخذم) والآخر (رسوب) ، فوهبهما لعلي، فيقال: إنّ ذا الفقار سيف علي أحدهما، ويقال إنَّ علياً وجدهما في "الغلس" صنم لطي، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فهدمه2.
ويقال إنَّ الذي هدمه أبو سفيان بن حرب3.
وفي رواية للواقدي إن الذي هدم الصنم هو سعد بن زيد
1 سورة النجم الآية: 19.
2 الأصنام لابن الكلبي ص: 14-15، ومعجم البلدان للحموي 5/204، وبلوغ الارب للألوسي 2/202.
3 البداية والنهاية لابن كثير 2/192.
الأشهلي1.
وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بنو مُعَتِّبُ من ثقيف2.
ويذكر أن رجلاً ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج إذا مروا فيلت سويقهم، وكان ذا غنم، فسميت صخرة اللات فمات، فلما فقده الناس، قال عمرو: إنَّ ربكم كان اللات، فدخل في جوف الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليها بنياناً يسمى اللات
…
فاتخذها ثقيف طاغوتاً، وبنت لها بيتاً وجعلت لها سدنة وعظمته وطافت به، وقيل كانت صخرة مربعة، وكان يهودي يلت عندها السويق3.
وقد هدم اللات أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في جملة من هدم من الأصنام، وأحرق البيت، وقوضت حجابته بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات، أنَّ المغيرة هدمها لوحده4.
1 المغازي للواقدي 2/870، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/146 معلقاً.
2 البداية والنهاية 2/192.
3 الأصنام ص: 16 وما بعدها، ومعجم البلدان 5/4، وأخبار مكة 1/126، وبلوغ الارب 2/2034.
4 الأصنام ص: 17، ومعجم البلدان 5/5، والبداية والنهاية 1/192، وبلوغ الأرب للألوسي 2/20302.
وفي ذلك يقول شداد بن عارض الجشمي حين هدمت وحرقت، ينهى ثقيفاً عن العود إليها والغضب لها:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها
…
وكيف نصركم من ليس ينتصر
إن التي حرقت بالنار فاشتعلت
…
ولم تقاتل لدى أحجارها هدر
إن الرسول متى ينزل بساحتكم
…
يظعن وليس بها من أهلها بشر1
وكانت "العزى" لقريش وبني كنانة2، وهي أحدث عهداً من اللات ومنات، فقد سمّت العرب بهما قبل العزى، وقد سمى تميم بن مر ابنه زيد مناة، كما سمى ثعلبة بن عكابة تيم اللات، وكان عبد العزى بن كعب من أقدم ما سمت به العرب، وكان الذي اتخذ العزى ظالم بن أسعد3، وكانت بواد من نخلة الشامية يقال له: حراض عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، فوق ذات عرق بتسعة أميال، فبنى عليها بيتاً، وكانوا يسمعون فيها الصوت، وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانت قريش تطوف بالكعبة، وتقول:"واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى".
1 الأصنام لابن الكلبي ص: 17.
2 سيرة ابن هشام 1/83، 2/436، والبداية والنهاية لابن كثير 2/192، والطبقات لابن سعد 2/147 معلقاً.
3 الأصنام لابن الكلبي ص: 17-18، ومعجم البلدان للحموي 4/116.
وكانوا يقولون: "بنات الله" تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهن يشفعن إليه، فلما بعث الله رسوله أنزل عليه:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} 1.
وحمت لها قريش شعباً من وادي حراض، يقال له: سقام، يضاهون به حرم الكعبة، وكان لها منحر ينحرون فيه هداياها، يقال له: الغبغب، وكانت قريش تخصها بالإعظام، فلذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل، وكان قد تأله في الجاهلية، وترك عبادة الأصنام:
تركت اللات والعزى جميعاً
…
كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها
…
ولا صنمي بني غنم أزور
ولا هبلاً أزور وكان رباً
…
لنا في الدهر إذ حلمي صغير2
وقد بلغ من حرص قريش على عبادتها، أنه لما مرض أبو أحيحة مرضه الذي مات فيه، دخل عليه أبو لهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما
1 سورة النجم الآيات: 19-23.
2 الأصنام لابن الكلبي ص: 18، وأخبار مكة للأزرقي 1/126، ومعجم البلدان للحموي 4/116، وبلوغ الأرب للألوسي 2/203-204.
يبكيك يا أبا أحيحة، أمن الموت تبكي، ولا بدّ منه؟ قال: لا والله، ولكن أخاف أن لا تعبد العزى بعدي، قال أبو لهب: والله ما عبدت حياتك لأجلك، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: الآن علمت أنّ لي خليفة1.
وكان سدنة العزة بنو شيبان من بني سليم خلفاء بني هاشم، وكان آخر من سدنها دبيه بن حرمي السلمي، فلم تزل كذلك حتى بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فعاب الأصنام، ونهاهم عن عبادتها، ونزل القرآن فيها، فاشتد ذلك على قريش، فلما كان يوم الفتح، دعا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فقال: انطلق إلى شجرة ببطن نخلة فاعضدها، فانطلق فقتل دبية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد قال له: أئت بطن نخلة، فإنك تجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى، فأتاها فعضدها فلما جاء إليه عليه الصلاة والسلام، فقال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: فاعضد الثانية، فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: فاعضد الثالثة، فأتاها فإذ هو بخناسة، (بجيشة) نافشة شعرها، واضعة ثيابها على عاتقها، تصرف
1 الأصنام ص: 23، ومعجم البلدان للحموي 4/117.
بأنيابها. وخلفها دبيه السلمي، فلما نظر إلى خالد، قال:
أغراء شدي شدةً لا تكذبي
على خالد ألقي الخمار وشمري
فإنك إن الا تقتلي اليوم خالداً
تبوئي بذل عاجل وتنصري
فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حمحمة، ثم عضد الشجرة، وقتل دبية، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:"تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد اليوم"1.
قال أبو المنذر: "ولم تكن قريش ومن بمكة يعظمون شيئاً من الأصنام أعظامهم العزى، ثم اللات، ثم مناة، فأما العزى فكانت تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية، وكانت ثقيف تخص اللات، وكانت الأوس والخزرج تخص مناة، وكلهم كان معظماً لها، أي: (العزى) "2.
وكانت لقريش في جوف الكعبة وحولها أصنام عديدة، يقول ابن الكلبي:"وكان أعظمها عندهم "هبل" وكان فيما بلغني من عقيق أحمر، على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش
…
فجعلوا له يداً
1 الأصنام لابن الكلبي ص: 22- 26، وأخبار مكة للأزرقي 1/127-128، ومعجم البلدان للحموي 4/117.
2 الأصنام لابن الكلبي ص: 27.
من ذهب.
وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة
…
وكان يقال له هبل خزيمة، وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها: صريح، والآخر ملصق، فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج صريح ألحقوه، وإن خرج ملصق دفعوه، وقدح على الميت، وقدح على النكاح
…
فإذا اختصموا في أمر، أو أرادوا سفراً أو عملاً، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه، وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله"1.
وفي معركة أحد علا صوت أبي سفيان "أعل هبل"2.
ويذكر ابن هشام: أن الصنم هبل كان أول صنم جاء به عمرو بن لحي من مآب بأرض البلقاء3.
بينما يذكر السهيلي بأن عمرو بن لحي استورد هذا الصنم من هبت، وهي من أرض الجزيرة بالعراق4.
1 الأصنام لابن الكلبي ص: 28، وأخبار مكة للأزرقي 1/118-119، وبلوغ الأرب للألوسي 2/205.
2 الأصنام لابن الكلبي ص: 28، وسيرة ابن هشام 2/93.
3 سيرة ابن هشام 1/77، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188.
4 الروض الأنف 1/105.
وكان لكفار قريش "إساف ونائلة"، على موضع زمزم، ينحرون ويذبحون عندهما تجاه الكعبة، وهما في الأصل كما يذكر ابن الكلبي وابن إسحاق: رجل وامرأة من جرهم، فجرا في الكعبة، أو أحدثا فيها فمسخا حجرين، ووضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما، فلما طال مكثهما، وعبدت الأصنام، عبدا معها، وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم، فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر1.
وفي رواية أنهما أخرجا إلى الصفا والمروة، فنصبا عليهما ليكونا عبرة وموعظة، فلما كان عمرو بن لحي نقلهم إلى الكعبة، ونصبهما على زمزم، فطاف الناس بالكعبة وبهما، حتى عُبِدا من دون الله2.
ويذكر أن الطائف إذا طاف بالبيت كان يبدأ بإساف، ويستلمه، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها، فكان ذلك.. حتى كسرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأصنام يوم فتح مكة3.
وأما صنم "ذي الخلصة" فكان صنم خثعم، وبجيلة، وباهلة، ودوس، وأزد السراة، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة، قال رجل منهم:
1 الأصنام ص: 29، وأخبار مكة 1/119، وسيرة ابن هشام 1/82، والبداية والنهاية 2/191، وبلوغ الأرب 2/205-206.
2 الروض الأنف 1/105، وأخبار مكة 1/120، والبداية والنهاية 2/185، 191.
3 أخبار مكة 1/120، وبلوغ الأرب 2/206.
لو كنت يا ذا الخَلَص الموتورا
مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
وكان أبوه قتل، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة فاستقسم عنده بالأزلام، فخرج السهم بنهيه عن ذلك، فقال هذه الأبيات، ومن الناس من ينحلها امْرأ القيس بن حجر الكندي1.
وكان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج، وكان بتبالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة2.
وكانت لهذا الصنم ثلاثة أقداح: الآمر، والناهي، والمتربّص، وكان الناس يأتون إليه للاستقسام3.
وفي رواية لابن إسحاق أن عمرو بن لحي نصب ذا الخلصة بأسفل مكة، فكانوا يلبسونها القلائد، ويهدون إليها الشعير والحنطة، ويصبون عليها اللبن، ويذبحون لها، ويعلقون عليها بيض النعام4.
1 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 8/70 حديث: 4355-4357.
وصحيح مسلم 4/1925، حديث:2476.
وانظر: الأصنام ص: 35، والروض الأنف 1/108، وسيرة ابن هشام 1/86، وبلوغ الأرب للألوسي 2/207.
2 الأصنام ص: 34، وبلوغ الأرب 2/207.
3 الأصنام ص: 47.
4 أخبار مكة 1/124.
وقد هدم بنيان ذي الخلصة في الإسلام، وأضرم فيه النار فاحترق، هدمه جرير بن عبد الله البجلي، بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة1.
وهناك صنم يقال له: "سعد" لمالك وملكان ابني كنانة، وكان صخرة طويلة بفلاة، على ساحل جدة2، وقيل إنه قرب اليمامة3.
وقد أورد عنه الإخباريون القصة التالية: "أقبل رجل من بني ملكان بإبل له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته، فيما يزعم، فلما رأته الإبل، وكانت مرعية لا تركب، وكان يهراق عليه الدماء، نفرت منه، فذهبت في كل فج، فغضب ربها وأخذ حجراً فرماه به، وقال: "لا بارك الله فيك، نفرت عليّ إبلي" ثم خرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له قال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا
…
فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
1 قصة تكسير ذي الخلصة في صحيح البخاري مع الفتح 8/70 كتاب المغازي، باب غزوة ذي الخلصة، الأحاديث: 4355، 4356، 4357.
وانظر: دلائل النبوة للبيهقي 5/396-397، والأصنام لابن الكلبي ص: 36، وبلوغ الأرب للألوسي 2/207-208، وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 5/106.
2 الأصنام ص: 36.
3 تاج العروس لمحب الدين الحسيني 2/378.
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة1
…
من الأرض لا تدعو لغي ولا رشد2
وكان لدوس ثم لبني منهب بن دوس صنم يقال له: "ذو الكفين"، فلما أسلموا، بعث النبي صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي، فحرقه وهو يقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا
…
ميلادنا أكبر من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا3
وأما "ذو الشرى" فهو صنم معروف بين العرب الشماليين، ذكر ابن الكلبي أنه كان لبني الحارث بن يشكر بن مبشر من الأزد4.
وأما "الأقيصر"، فكان صنم قضاعة ولخم وجذام وعاملة، وغطفان، وكان في مشارف الشام، وأنشد ابن الأعرابي:
1 الأصنام ص: 37، وسيرة ابن هشام 1/81، والروض الأنف 1/104-105، والبداية والنهاية 2/191، ومعجم البلدان 3/221، وبلوغ الأرب 2/208.
2 التنوفة القفر من الأرض، وهي المفازة، وقيل: التي لا ماء بها ولا أنيس وإن كانت معشبة. لسان العرب 9/18.
3 الأصنام لابن الكلبي ص: 37، وأخبار مكة للأزرقي 1/131، والطبقات لابن سعد 2/157 معلقاً، وبلوغ الأرب للألوسي 2/209، والواقدي 3/992-923.
4 الأصنام ص: 38، وبلوغ الأرب 2/209، وتاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 5/109.
وأنصاب الأقيصر حين أضحت
…
تسيل على مناكبها الدماء1
وكان لمزينة صنم يقال له: "نهم"، وكان سادنه يسمى خزاعي بن عبد نهم، فلما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ثار على الصنم فكسره وأنشأ يقول:
ذهبت إلى نهم لأذبح عنده
…
عتيرة نسك كالذي كنت أفعل
فقلت لنفسي حين راجعت عقلها
…
أهذا إله أبكم ليس يعقل؟
أبيت فديني اليوم دين محمد
…
إله السماء الماجد المتفضل2
وأما "سعير"، فهو صنم عنزه، وكان الناس يطوفون حوله، ويعترون العتائر له، فخرج جعفر بن خلاس الكلبي على ناقته فمرت به وقد عترت عتيرته عنده، فنفرت ناقته منه، فأنشأ يقول:
نفرت قلوصى من عتائر صرعت
…
حول السعير يزوره ابنا يقدم
وجموع يذكر مهطعين جنابة
…
ما إن يجير إليهم بتكلم3
وعميانس "عم أنس"، هو صنم لخولان في أرضهم، وكانوا يقسمون له من أنعامهم وحروثهم، قسما بينه وبين الله فيما يزعمون، فما
1 الأصنام لابن الكلبي ص: 38، وبلوغ الأرب للألوسي 2/209.
2 الأصنام ص: 39-40، وبلوغ الأرب 2/210.
3 معجم البلدان للحموي 3/222، وبلوغ الأرب للألوسي 2/210.
دخل في حق عميانس "عم أنس" من حق الله الذي قسموه له، تركوه له، وما دخل في حق الله من حق الصنم، ردوه عليه، وفيهم أنزل الله تعالى:{وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} 1.
وكان لطي صنم يقال له: "الفلس" وكان أنفا أحمر في وسط جبلهم الذي يقال له أجا، أسود كأنه تمثال إنسان، وكانوا يعبدونه، ويهدون إليه ويعترون عنده عتائرهم،
…
وكانت سدنته بنو بولان، وبولان هو الذي بدأ بعبادته
…
، ولم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهدمه2.
وقد كانت عبادة الأصنام في جزيرة العرب منتشرة انتشاراً واسعاً قبل الإسلام.
1 انظر الأصنام لابن الكلبي ص: 43-44، وسيرة ابن هشام 1/80، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191، وبلوغ الأرب 2/211.
والآية 137 من سورة الأنعام.
2 الأصنام ص: 59 وما بعدها، والروض الأنف 1/107، ومعجم البلدان للحموي 4/273، والواقدي 3/984، والطبقات لابن سعد 2/64، وسيرة ابن هشام 1/87.
يوضح ذلك قول ابن الكلبي: "كان لأهل كل دار من مكة صنم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر مايصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً
…
واستهترت العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً، ومن لم يقدر عليه، ولا على بناء بيت، نصب حجراً أمام الحرم، أو أمام غيره، مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت
…
فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً، وجعل ثلاث اثافي لقدره، وإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلاً آخر، فعل مثل ذلك"1 ا.?.
ويذكر الأزرقي أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دخل يوم الفتح، وجد حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً، فجعل يطعنها ويقول:{جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} 2، {جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} 3، كما رأى فيها صور الأنبياء عليهم السلام، فأمر
1 الأصنام لابن الكلبي ص: 33.
وانظر: سيرة ابن هشام 1/83، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191-192.
2 سورة الإسراء الآية: 81.
3 سورة سبأ الآية: 49
بها فطمست1 ا.?
بعض معبودات العرب من غير الأصنام:
قد كانت الحياة العقدية قبل البعثة المحمدية اخلاطاً من الضلالات، وأمشاجاً من الأوهام والخرافات، فإلى جانب عبادة الأصنام والأوثان، كان للعرب نحل وديانات أخرى.
فمنهم من عبد الشمس، ومنهم قوم بلقيس ملكة سبأ باليمن، صاحبة القصة مع سليمان عليه السلام، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، في قوله: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَاّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا
1 أخبار مكة للأزرقي 1/121، 1/165.
وانظر: الكامل لابن الأثير 2/171 ذكر فتح مكة، وسيرة ابن هشام 2/417.
تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1.
ويشير القرآن الكريم إلى عبادة المشركين الجاهليين للأجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، فقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2.
قال الألوسي: "وطائفة أخرى اتخذت القمر صنماً، وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي، ومن شريعة عبادتهم أنهم اتخذوا له صنماً على شكل عجل، وبيد الصنم جوهرة يعبدونه ويسجدون له، ويصومون له أياماً معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل، أخذوا في الرقص والغناء، وأصوات المعازف بين يديه، ومنهم من يعبد أصناماً اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم، وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه، وصنم يخصه، وعبادة تخصه"3.
1 سورة النمل الآيات: 20-26.
2 سورة فصلت الآية: 37.
3 بلوغ الأرب للألوسي 2/216.
ومنهم الثنوية الذين اتخذوا إلهين اثنين، يقول الله تعالى:{وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} 1.
قال ابن الجوزي:" وهم قوم قالوا صانع العالم اثنان:
ففاعل الخير نور، وفاعل الشر ظلمة، وهما قديمان لم يزالا، ولن يزالا قويين حساسين، سميعين بصيرين، وهما مختلفان في النفس والصورة، متضادان في الفعل والتدبير، فجوهر النور فاضل حسن نير صاف نقي، طيب الريح، حسن المنظر، ونفسه نفس خيرة كريمة حكيمة نفاعة، منها الخير واللذة، والسرور والصلاح، وليس فيها شيء من الضرر، ولا من الشر، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح، وقبح المنظر، ونفسه نفس شريرة، بخيلة سفيهة منتنة ضرارة منها الشر والفساد"2 ا.?
وصنف من العرب دهريون، وهم قوم أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا الطبع المحيي، والدهر المفني، وهذا الصنف هم المشار إليه في القرآن في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا
1 سورة النحل الآية: 51.
2 تلبيس إبليس ص: 43-44، وانظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 2/244.
يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ} 1.
وصنف منهم أقروا بالخالق، وابتداء الخلق والإبداع، وأنكروا البعث والإعادة2، وهم الذين أخبر عنهم القرآن في قول الله تعالى:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 3.
ومن العرب من يصبو إلى الصابئة، وهم من يعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى لا يتحرك ولا يسكن، ولا يسافر، ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء، ويقول مطرنا بنوء كذا
…
4.
وصنف من العرب زنادقة، وهم طائفة من قريش، وقد أخذوها من الحيرة5.
والزنديق بالكسر: الثنوية أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، أو هو معرب [زن دين] أي دين المرأة، والاسم الزندقة6.
1 سورة الجاثية الآية: 24.
2 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 2/235.
3 سورة يس الآيتان: 78-79.
4 بلوغ الأرب للألوسي 2/223.
5 بلوغ الأرب للألوسي 2/228.
6 القاموس المحيط للفيروزابادي 3/243.
يقول الدكتور جواد علي: "ولا يستبعد أن يكون المراد بالزندقة التي أشار إليها الأخباريون المجوسية، فقد كان في الحيرة جماعة من الفرس هم مجوس، وقد كان لقريش وتجار مكة اتصال دائم بالحيرة لهم معها روابط وتجارات"1.
وبعض العرب جعل لله البنات، تعالى الله عن قولهم، قال الله عنهم:{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} 2.
ومن العرب من عبد الجن، وقد قص الله تعالى ذلك عنهم في قوله تعالى:{وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 3.
وقال تعالى حكاية عن قول الملائكة: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} 4.
وقال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ
1 تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي 5/364 بتصرف.
2 سورة النحل الآية: 57.
3 سورة الأنعام الآية: 100.
4 سورة سبأ الآية: 41.
فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 1.
ومن العرب من عبد الملائكة، قال تعالى:{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} 2.
وأشتات من العرب عبدوا النار، وكأن ذلك سرى إليهم من الفرس
1 سورة الجن الآية: 6.
2 سورة آل عمران الآية: 80.
3 سورة الفرقان الآيتان: 17-18.
4 سورة سبأ الآية: 41.
والمجوس1، ومن هؤلاء قوم من تميم، ذكروا منهم زرارة بن عدي وابنه حاجب، ومنهم الأقرع بن حابس والأسود جد وكيع بن حسان2.
الأديان السماوية في الجزيرة العربية قبيل البعثة:
كما عرفت الديانات السماوية طريقها إلى أرض الجزيرة العربية قبيل الإسلام.
وقد اختلف المؤرخون في سبب تسرب اليهود إلى الجزيرة العربية، وزمن وصولهم إليها بعد اتفاقهم على أن العنصر اليهودي عنصر دخيل على الجزيرة العربية، نازح إليها من بعيد، لا تربطه بسكان هذه الجزيرة أية رابطة من دين أو لغة أو دم3.
وذكر المؤرخون عدة أسباب لتسرب اليهود إلى هذه الأرض، من أشهرها:
1-
أن ذلك كان بعد أن قام بختنصر بالإستيلاء على القدس، حيث تفرقت بنو إسرائيل، ونزل بعضهم الحجاز بيثرب، ووادي القرى وغيرها، وهم بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو هدل4.
1 بلوغ الأرب للألوسي 2/233.
2 بلوغ الأرب 2/235، وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 5/364.
3 انظر: غزوة بني قريظة لمحمد أحمد باشميل ص: 35-36.
4 تاريخ الطبري 1/383، وفاء الوفاء للمسهودي 1/160، والبداية والنهاية لابن كثير 2/39.
2-
أن ذلك كان إثر الحرب التي وقعت بين اليهود والرومان في سنة 70 م، وكانت الغلبة فيها للرومان على اليهود، حيث قتلوا منهم مقتلة عظيمة، وضربوا فلسطين، ودمروا هيكل بيت المقدس، عند ذلك تفرقت اليهود، وقصد كثير منهم بلاد العرب، فخرج بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو هدل، هاربين إلى الحجاز، وسكنوا في يثرب1.
والرأي الأخير هو ما أميل إليه، بالإضافة إلى أن من أهم ما دعا اليهود إلى الإقامة في هذه المنطقة، أنَّ علماءهم يجدون صفة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وأنه يهاجر إلى بلد فيه نخل، بين حرتين، ولذلك خرجوا من الشام يعبرون كل قرية من القرى العربية بين الشام واليمن، يجدون نعتها نعت يثرب، فينزل بها طائفة منهم، ويرجون ان يلقوا محمداً فيتبعونه، وكان آباؤهم يحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء، فأدركه من أدركه من أبنائهم، فكفروا به، وهم يعرفونه، حسداً للعرب2.
هذا وقد اعتنق ملك اليمن الذي اسمه ذو نواس اليهودية، واعتنقها معه كثير من رعيته، وقد أخذ ذو نواس اليهودية من اليهود الذين هاجروا
1 معجم البلدان للحموي 5/84.
2 انظر: وفاء الوفاء للمسهودي 1/160-161، ومعجم البلدان للحموي 5/84.
إلى اليمن1.
وكانت اليهودية في حمير، بعد أن كان الغالب من المجوس وعبدة الشمس، ونحو ذلك
…
، وكانت اليهودية في كنانة وكندة وبني الحرث ابن كعب، ولعلها سرت إليهم من مجاورة اليهود في يثرب وخيبر، ونحو ذلك2.
وأما النصرانية:
فقد دخلت بلاد العرب بسبب جهود أباطرة الدولة الرومانية الشرقية، في القرن الرابع الميلادي، ولما كانت العلاقات وثيقة بين العرب والبيزنطيين، فقد تأثر العرب بالمسيحية إلى حد ما
…
فانتشرت في الجنوب عن طريق الحبشة، وفي الشمال عن طريق سورية، وشبه جزيرة سيناء الآهلة بالأديرة والصوامع
…
، وقد انقسمت النصرانية في ذلك الوقت إلى عدة فرق، تسرب منها إلى جزيرة العرب فرقتان:
فكانت النسطورية منتشرة في الحيرة.
واليعقوبية في غسان وسائر قبائل الشام.
وكان أهم موطن النصرانية في بلاد العرب نجران3.
1 انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي 1/174.
2 بلوغ الأرب للألوسي 2/240.
3 انظر: تاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم ص: 73، وموسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي 1/175.
ومن القبائل التي يحشرها أهل الأخبار في جملة العرب المتنصرة: غسان، وتغلب، وتنوخ، ولخم، وجزام، وسليم، وعاملة1.
وقد وفد أهل نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيهم نزلت آية المباهلة:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 2.
وثبت في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: "لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1 بلوغ الأرب للألوسي 2/241، وتاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي 6/216.
2 سورة آل عمران الآيات: 59-61.
هذا أمين هذه الأمة" 1.
على أن اليهودية والنصرانية لم تكونا عظيمتي الخطر، واسعتي الانتشار في الجزيرة العربية، فأما اليهودية فكانت دين الشعب المختار -على زعمهم-، وكان دخول العربي فيها لا يحقق المساواة مع اليهود من أبناء إسرائيل، ولذلك لم يقبل العرب أن يدخلوا ديناً يثبتهم في طبقة أسفل من طبقة دعاة ذلك الدين.
وأما النصرانية، فهي مملوءة بالتعقيدات التي لم يستسغها ذهن العربي، ومملوءة بالخلافات الحادة التي سببت الغموض للدين، وصرفت عنه من كان يمكن أن يتبعه من العرب2.
الموحدون من العرب:
وذكر المفسرون وأهل الأخبار أفراداً من العرب رفضوا عبادة الأصنام والأوثان، واعتقدوا بوجود الله تعالى وتوحيده، وقد عرف هؤلاء الأفراد بالحنفاء، ووصفوا بأنهم كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، ولم يكونوا من اليهود ولا من النصارى.
1 صحيح البخاري 5/120 كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران.
ومسلم 4/1882 كتاب فضائل الصحابة، فضل أبي عبيدة بن الجراح.
وأحمد 1/414.
2 انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي 1/175.
ومن الرجال الذين أشتهر بأنهم كانوا من هؤلاء الجماعة:
قس بن ساعدة الإيادي.
زيد بن عمرو بن نفيل.
أمية بن أبي الصلت.
أرباب بن رئاب.
سويد بن عامر المصطلقي.
أسعد أبو كريب الحميري.
وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي.
عمير بن جندب الجهني.
عدي بن زيد العابدي.
أبو قيس صرمة بن أبي أنيس.
سيف بن ذي يزن.
ورقة بن نوفل القرشي.
عامر بن الظرب العدواني. وغيرهم1.
قال ابن هشام: "واجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظمونه وينحرون له، ويعكفون عنده، ويدورون به،
1 بلوغ الأرب للألوسي 2/244 وما بعدها، وتاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 5/370.
فخلص منهم أربعة
…
وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف1 به، لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم"2.
ثم قال: " فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتب من أهلها، حتى علم علماً من أهل الكتاب.
وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانياً.
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم، فتنصر وحسنت منزلته عنده، ومنحه لقب "البطريق" وأراد تنصيبه ملكاً على مكة، ولكن قومه أبوا عليه ذلك، فلم يتم له مراده، ومات بالشام
1 الطواف في اللغة: الدوران حول الشيء.
انظر: لسان العرب لابن منظور 9/225، والقاموس المحيط للفيروزابادي 3/170.
ومعنى ذلك دورانهم حول الأصنام.
2 سيرة ابن هشام 1/222، والروض الأنف للسهيلي 1/253.
مسموماً، سمّهُ عمرو بن حفنه الغساني.
وأما زيد بن عمرو بن نفيل، فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموؤدة، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادى قومه بعيب ما هم عليه
…
وكان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته"1.
ومن شعر زيد بن عمرو في فراق دين قومه2:
أرباً واحداً أما ألف رب
…
أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعاً
…
كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها
…
ولا صنمي ابن عمرو أزور
ولا هبلاً أدين وكان رباً
…
لنا في الدهر إذ حلمي يسير
1 سيرة ابن هشام 1/223 وما بعدها، والروض الأنف للسهيلي 1/255-256.
2 الأصنام لابن الكلبي ص: 22، وسيرة ابن هشام 1/226، والروض الأنف للسهيلي 1/257، وبلوغ الأرب للألوسي 2/249.
إلى أن يقول:
ولكن أعبد الرحمن ربي
ليغفر ذنبي الرب الغفور
وذكر ابن هشام أن الخطاب بن نفيل كان يعاتب زيد بن عمرو على فراق دين قومه
…
ووكل به شباباً من شباب قريش وسفهائها، فقال لهم: لا تتركوه يدخل مكة
…
ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام، ويسأل الرهبان والأحبار، حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كله، ثم انتهى إلى راهب بميفعة (الأرض المرتفعة) في أرض البلقاء، وكان عالماً بالنصرانية، فسأله زيد عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتطلب ديناً ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق بها، فإنه مبعوث الآن، هذا زمانه
…
1 فخرج سريعاً حين قال له ذلك الراهب ما قال، يريد مكة، حتى إذا توسط بلاد لخم، عدوا عليه فقتلوه"ا.?
وقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله
1 وكان الرهبان يعلمون ذلك عن طريق البشارات الموجودة في التوراة والإنجيل، وقد تحدثت عن هذا الموضوع في رسالتي الماجستير "منهج القرآن الكريم في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام".
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح1، قبل أن ينزل على النبي عليه السلام الوحي، فقدّمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة
…
فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إنكاراً لذلك وإعظاماً له2.
ومن هنا نستطيع القول بأن من العرب من رفضوا عقائد قومهم الذين يعبدون من دون الله ما لا يضر ولا ينفع، وأن بعضهم قد طاف في البلاد يبحث عن العقيدة الصحيحة، والدين القيم.
وهؤلاء الجماعة لم يكونوا من اليهود، ولا من النصارى، وإنما عبدوا الله تعالى على ما فهموا من دين إبراهيم عليه السلام، وقد قال الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ
1 بلدح: مكان في طريق التنعيم، ويقال هو واد. انظر: فتح الباري لابن حجر 7/143.
2 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/124 كتاب مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل.
مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1.
ب- الحالة الإجتماعية:
أما الحالة الإجتماعية، فقد كان الفرد جزءاً من قبيلته، يعيش لها ويدور في فلكها في كل أمر: خير أو شر، ويعبر عن ذلك قول دريد بن الصمة:
وهل أنا إلاّ من غزية أن غوت
…
غويت وإن ترشد غزية أرشد2
ومن قولهم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً".
ويقول شاعرهم:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
…
طاروا إليه زرافات ووجدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
…
في النائبات على ما قال برهانا3
وكثيراً ما يتخذون من السلب والغارة، وسيلة من وسائل العيش، فيسلبون الأموال والنساء والأولاد، ثم تتربص القبيلة المغار عليها، فتفعل ما فعلت القبيلة المعتدية، بل إنَّ القبيلة تقاتل نفسها إذا لم تجد عدواً من
1 سورة آل عمران الآية: 67.
2 ديوان الحماسة لأبي تمام 1/337.
3 المرجع السابق 1/5.
غيرها، يمثل ذلك قول القطامي:
وأحياناً على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلاّ أخانا1
وكان من عادات العرب في الجاهلية، أن الرجل يتزوج بزوجة أبيه إذا مات عنها، ويرثها إرث المال.
فقد ذكر العلماء أن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً} 2.
أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت، خطب ابنه امرأته فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال:"ارجعي إلى بيتك"، فنزلت الآية3.
وعن صلة الرجل بالمرأة في الجاهلية، تروي لنا السيدة عائشة رضي الله عنها: " أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: منها
1 فجر الإسلام لمحمد أمين ص: 9.
2 سورة النساء الآية: 22.
3 وقد تزوج أبو قيس هذا المذكور زوجة أبيه أم عبيد الله، وكانت تحت أبيه الأسلت، وتزوج الأسود بن خلف زوجة أبيه ابنة أبي طلحة، وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه فولدت له أولاداً، وهذا كان كثيراً شائعاً في العرب.
انظر: تفسير الطبري 4/318، وأسباب النزول للسيوطي ص: 66، وأضواء البيان للشنقيطي 1/277.
نكاح الناس اليوم
…
والنكاح الآخر، كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد
…
ونكاح آخر، يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهذا ابنك يا فلان: تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل
…
والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات، تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا القافة1، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه2 ودعي ابنه لا يمتنع
1 القائف: هو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع القافة. انظر: لسان العرب 9/293، والنهاية لابن الأثير 4/121.
2 إلتاطه أي: التصق به. انظر: لسان العرب 7/395، والنهاية 4/277.
من ذلك"1.
والمجتمع العربي الجاهلي مجتمع طبقي، تفصل بين طبقاته حدودو واضحة، فكان فيه:
1-
طبقة الأحرار: وهم أبناء القبيلة الصرحاء، الذين يجمع بينهم الدم الواحد، والنسب المشترك.
2-
طبقة الموالي: وهم من انضموا إلى القبيلة من العرب الأحرار، من غير أبنائها عن طريق الجواز، أو الحلف، أو العتقاء من الأرقاء فيها.
3-
طبقة الأرقاء: وهم المجلوبون عن طريق الشراء أو أسرى الحرب، ولكل من هذه الطبقات واجب لا يتعداه، فرضه عليه نظام المجتمع الجاهلي2.
ج- الحالة السياسية:
وإذا ذهبنا إلى الحالة السياسية، فإننا نجد أنَّ العرب كانوا جماعات غير منظمة، تعيش عيشة قبيلة، ويحكمها عرف القبيلة وسلطانها، وليس هناك حاكم له نواب ووزراء، وقادة وقضاة،
1 صحيح البخاري بشرح الفتح 9/182-183 كتاب النكاح، باب من قال لا نكاح إلاّ بولي.
2 انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ص: 31.
وجيش منظم كما هو معروف، ومع ذلك فهم قوم أحرار لا يملكهم أحد، يثأر المعتدي عليه لنفسه، وعلى قبيلته أن تقوم معه، وتشد أزره.
يقول ابن حزم: " وكانت العرب بلا خلاف، قوماً لقاحاً لا يملكهم أحد، كربيعة ومضر وأياد وقضاعة، أو ملوكاً في بلادهم يتوارثون الملك كابراً عن كابر
…
"1.
ويوضح المستشرق توماس.و. أرنولد المنهج السياسي عند العرب، فيقول:" لم يكن هناك إطلاقاً أي منهج منظم للإدارة أو القضاء، كالذي نعرفه عن فكرة الحكومة في العصر الحديث، وكانت كل قبيلة أو عشيرة تؤلف جماعة منفصلة مستقلة تمام الاستقلال، وينسحب هذا الاستقلال أيضاً على أفراد القبيلة فكل فرد منهم لا يعتبر زعامة شيخ القبيلة أو سلطته إلا رمزاً لفكرة عامة، شاءت الظروف أن يأخذ هو منها بنصيب، بل كان له مطلق الحرية في أن يرفض ما اجتمع عليه رأي الأغلبية من أبناء قبيلته، وأبعد من هذا أنه لم يكن هناك نظام لنقل سلطة الرئيس، إذ كان يختار لها –غالباً- أكبر أفراد القبيلة سناً، وأكثرهم مالاً، وأعظمهم
1 الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 2/84.
نفوذاً، وأجدرهم بكسب الاحترام الشخصي، وإذا ما تضخمت قبيلته تشعبت فروعاً كثيرة، يتمتع كل منها بحياة منفصلة ووجود مستقل، ولا تتحد إلاّ في ظروف غير عادية اشتراكاً في الدفاع عن القبيلة، أو قياماً بغارات بالغة الخطورة"1 ا.?.
ولكن الحرية التي يتحدث عنها أرنولد ليست مطلقة، فإن العربي كان حراً في أن يرفض ما اجتمع عليه أبناء قبيلته، أو أن يأخذ به، لكن هذا الرفض، يعرض صاحبه إلى الطرد والإبعاد، وحينئذ لا يجد له طريقاً سوى الالتجاء إلى قبيلة أخرى، ويصبح مولى من مواليها، أو يعمد إلى الصحراء ليتخذ من السلب والنهب وسيلة للحياة.
وكانت العرب قبل الإسلام طوائف متنازعة، وقبائل متباغضة، ونحلاً متحاسدة: "لذلك كانت الجزيرة دائمة الحروب والمنازعات، قلما يخلو منها زمان أو مكان، وإذا رجعت إلى أسبابها المباشرة، وجدتها في بعض الأحيان تافهة، كما كان في حروب الفجار
…
وفي البعض الآخر تراها أموراً يمكن حلها على أسهل الوجوه، كالحروب بين عبس وذبيان، وبين بكر وتغلب، ولكن الأسباب الحقيقية سابقة على ذلك، وهي النفور
1 الدعوة إلى الإسلام لتوماس و. أرنولد ص: 51-52.
المتأصل في القلوب"1.
إنها أمة فرقتها الحروب، وأنهكت قواها الأحقاد والغارات، فلا غرو أن تسقط ممالكها الشهيرة تحت أيدي المحتل الغاصب "فاليمن فقدت استقلالها منذ نهاية الربع الأول من القرن السادس، وسقطت تحت حكم الأحباش، ثم حكم الفرس2.
والحيرة فقدت استقلالها بعد أن غيرت فارس سياستها نحوها، بعد أن استنفذت كل طاقتها الحيوية، وجعلت منها إمارة فارسية يحكمها أمير فارسي3.
ومملكة الغساسنة، فقدت قوتها كذلك بعد أن غير الروم سياستهم نحوها، فاضطربت أحوالها، وذهبت قوتها، وأصبحت في شبه فوضى.
ومن هنا يظهر لنا إنه لم يبق متمتعاً بالاستقلال سوى مكة، وذلك لبعدها عن مجال التصارع الدولي في ذلك الوقت، وتمتع أهلها بنوع التنظيم الاجتماعي.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الأمن الذي حظيت به مكة، فقال
1 انظر: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية للشيخ الخضري ص: 24.
2 انظر: الكامل لابن الأثير 1/253، 254، 265.
3 انظر: تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 4/104.
تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} 1.
وقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} 2.
1 سورة العنكبوت الآية: 67.
2 سورة قريش الآيتان: 3-4.
ثانياً: حالة العقائد خارج الجزيزة العربية:
1-
الديانة اليهودية:
وإذا انتقلنا إلى الديانة اليهودية، وإلى شعب بني إسرائيل الذين حباهم الله تعالى بكثير من النعم، وبعث فيهم كثيراً من الأنبياء والرسل لدعوتهم إلى الخير، وتحذيرهم من الشر والفساد.
وكانت التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، فيها الهدى والنور، والحث على عبادة الله تعالى وحده، واتباع أوامره واجتناب نواهيه، وفيها كافة التكاليف التي يحتاجها شعب بني إسرائيل في ذلك الوقت، لذلك فإنًّ الله تعالى قد أرسل فيهم بعد موسى عليه السلام عدة رسل وأنبياء؛ لإحياء شريعة التوراة، والحكم بمقتضاها، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} 1.
وجعلهم الله تعالى يعيشون كالملوك، أعزاء، أقوياء، بعد أن كانوا أذلاء مهانين من قبل فرعون وقومه، وأتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين في زمانهم.
1 سورة المائدة الآية: 44.
وعلى الرغم من ذلك كله، نجد أنّ القوم جحدوا نعم الله، وتعالوا في كبرياء، ولم يلتزموا بما أخذوه على أنفسهم من مواثيق، وامتلأ تاريخهم بشتى أنواع المخالفات، وحتى التوحيد الذي هو أصل ديانتهم، لم يسلم من التأثر بما حدث من التحريف والتبديل والتمرّد على تعاليم الدين.
ولعل من أهم ما أصاب التوحيد من التحريف، هو ما أشار الله إليه في القرآن الكريم من قول اليهود:{عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} 3.
وما وصفوا به الخالق جل وعلا من صفات النقص والسوء،
1 سورة المائدة الآية: 20.
2 سورة الجاثية الآيتان: 16-17.
3 سورة التوبة الآية: 30.
والتشبيه، كقولهم:{إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} 1.
وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} 3.
وعن التنقص بالخالق وتشبيهه بالمخلوقين، جاء في سفر التكوين4:" أن الله تعالى بعد أن خلق السموات والأرض في ستة أيام، استراح في اليوم السابع، وكان يوم السبت، وأن الله قد بارك هذا اليوم من أجل ذلك، فحرم فيه العمل".5.
وفي هذا يقول الشهرستاني: "وقد اجتمعت اليهود عن آخرهم أن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض، استوى على عرشه مستلقياً على قفاه، واضعاً إحدى رجليه على الأخرى"6.
1 سورة آل عمران الآية: 181.
2 سورة المائدة الآية: 64.
3 سورة المائدة الآية: 18.
4 سفر التكوين الإصحاح الثاني فقرة: 1-2.
5 انظر الأسفار المقدسة لعلي وافي ص: 25-26.
6 الملل والنحل للشهرستاني 1/219.
ويرد القرآن الكريم على هذا الزعم الباطل في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} 1.
ومن ذلك ما يرويه سفر التكوين من قصة هلاك قوم لوط، وتدمير قريتي:"سدوم" و"عمورة"، إذ يذكر أن ثلاثة رجال وهم: الله وملكان معه، قدموا على إبراهيم وهو جالس أمام خيمته، وأن إبراهيم قد عرف الله من بينهم، ورجاه أن يستريحوا عنده قليلاً من وعثاء سفرهم، وقد إليهم ماء لشربهم وغسل أرجلهم، وأخذ عجلاً حينذاً لطعامهم، فانتحى ثلاثتهم تحت ظل شجرة، وأخذوا يأكلون مما قدمه إليهم، وإبراهيم جالس على مقربة منهم2، إلى الخ القصة.
وقد ذكر القرآن الكريم هذه القصة على حقيقتها، وبين أن الذين وفدوا على إبراهيم عليه السلام، إنّما كانوا ملائكة في صورة آدميين، فظنهم بشراً، فقدم لهم طعاماً، فلم تصل أيديهم إليه، لأن الملائكة لا يأكلون، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى
1 سورة ق الآية: 38.
ومعنى {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} ، أي: لم يحصل لنا من تعب، حتى نحتاج إلى الراحة.
2 انظر: سفر التكوين الإصحاح: 18 من: 1-8.
قَالُواْ سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوط
…
ٍ} 1.
وعن ملازمة بني إسرائيل لعبادة العجل والكبش والحمل، يقول ديورانت:"لم يتخلوا قط عن عبادة العجل والكبش والحمل، ولم يستطع موسى أن يمنع قطيعه من عبادة العجل الذهبي، لأن عبادة العجول كانت لا تزال حية في ذاكرتهم منذ كانوا في مصر، وظلوا زمناً طويلاً يتخذون هذا الحيوان القوي، آكل العشب، رمزاً لآلهتهم"2.
وبعد موسى عليه السلام، وفي عهد القضاء، تأثر بنو إسرائيل بمعبودات الكنعانيين تأثراً كبيراً ويوضح "كنْتْ"، أن إله الكنعانيين "بعل أصبح معبوداً لبني إسرائيل في كثير من قراهم، وفي أحوال كثيرة أصبح للطائفتين معبد واحد، به تمثال يهوه، وتمثال بعل، بل أصبح يهوه ينادى بعل، وقد ظل ذلك إلى عهد يوشع3.
يقول أحمد شلبي:" ولم يستطع بنو إسرائيل في أية فترة من فترات تاريخهم أن يستقروا على عبادة الواحد، الذي دعا له الأنبياء، وكان
1 سورة هود الآيتان: 69-70.
2 قصة الحضارة 2/338.
3 انظر: اليهودية لأحمد شلبي ص: 182.
اتجاههم إلى التجسيم والتعدد والنفعية واضحاً في جميع مراحل تاريخهم، وعلى الرغم من ارتباط وجودهم بإبراهيم إلاّ أن البدائية الدينية كانت طابعهم، وتعد كثرة أنبيائهم دليلاً على تجدد الشرك فيهم، وبالتالي تجدد الحاجة إلى أنبياء يجددون الدعوة إلى التوحيد، وكانت هذه الدعوات قليلة الجدوى على أي حال، فظهر للتاريخ بدائيون يعبدون الأرواح، والأحجار، وأحياناً مقلدون يعبدون معبودات الأمم المجاورة، التي كانت لها حضارة وفكر قلدهما اليهود"1.
ولعل من أسباب تحريفهم لكتبهم، هو أنه لما أقبلت عليهم الدنيا، أحبوها، واستولى حب المال على مشاعرهم وقلوبهم، كما قال تعالى:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} 2.
فمن أجل حرصهم على المادة، باعوا دينهم في سبيلها، وحرفوا ما أنزل الله عليهم من الكتب، طمعاً في الكسب المادي الرخيص، والعرض الدنيوي الزائل، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
1 أديان الهند الكبرى أحمد شلبي ص: 213.
2 سورة البقرة الآية: 96.
مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} 1.
لقد اعتدى بنو إسرائيل على الأنبياء، ومصادر الرحمة، فأطفأوا مصابيح الهداية، وأصموا آذانهم عن النداء الرباني، فعاشوا في الظلام الحالك، واستحقوا غضب الله ومقته بسبب ذنوبهم، ونقضهم لمواثيقهم.
قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَاّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ
1 سورة البقرة الآية: 79.
2 سورة آل عمران الآية: 187.
3 سورة آل عمران الآية: 78
بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} 1.
ونظر اليهود إلى الإنسانية في ازدراء واحتقار، وزعموا بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وأن لهم الفضل والسيادة، وغيرهم عبيد وحقراء، ولم يبالوا بما يصنعون بالبشرية، ولم يجدوا غضاضة في أن ينزلوا الظلم والاستغلال بأي إنسان من غير اليهود.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3.
وتاريخ اليهود من أوله إلى آخره مليء بالجرائم والمخالفات، ولم يشرق في أفقه سوى فترة قصيرة من الزمن، صبروا فيها فاستحقوا ثناء الله
1 سورة آل عمران الآية: 112.
2 سورة النساء الآيات: 155-157.
3 سورة آل عمران الآية: 75.
عليهم، وتفضيله لهم على عالمي زمانهم، أما بعد ذلك، فقد عثوا في الأرض فساداً، وبدأ ذلك في وقت مبكر، إذ لم يكن للمعجزات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام، أثر ظاهر في تغيير سلوكهم، ولم يتعظوا بما أنزل بفرعون وقومه من الهلاك، إذ ما كادوا يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم حتى قالوا لموسى:{اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1.
وعندما ذهب موسى عليه السلام ليتلقى الألواح من ربه، وفيها هدى ونور، نسي بنو إسرائيل إلههم الحق، حين رأوا العجل الذي سبكه لهم السامري من الحلي، فتوجهوا له بالعبادة، والطاعة من دون الله.
1 سورة الأعراف الآيتان: 138-139.
2 سورة الأعراف الآية: 148.
3 سورة الأعراف الآية: 152.
لقد عبدوا العجل، ولم يردهم عن غيهم نصح هارون لهم، حين قال:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} 1.
ولما أصر هارون عليه السلام على نصحهم بترك عبادة العجل، هموا بقتله، ولنستمع إليه وهو يعتذر لأخيه موسى في قوله تعالى:{قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2.
وإذا كان بنو إسرائيل قد هموا بقتل رسول الله هارون، فقد كان القتل من أعظم جرائمهم، قال تعالى:{أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} 3.
ولما عتوا عن الحق واستكبروا عن هدايات السماء، مسخهم الله
1 سورة طه الآيتان: 90-91.
2 سورة الأعراف الآية: 150.
3 سورة البقرة الآيتان: 87-88.
وغير قلوبهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وأذاقهم الله جزاء ما صنعوا، قال تعالى:{فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} 1.
وعن حالة اليهود قبيل البعثة المحمدية:
يقول أبو الحسن الندوي: "أصبحت اليهودية -أي في القرن السادس الميلادي- مجموعة طقوس وتقاليد لا روح فيها ولا حياة، وهي -بصرف النظر عن ذلك- ديانة سُلالية، لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة، ولا للإنسانية رحمة، وقد أصيبت هذه الديانة في عقيدة كانت لها شعاراً بين الديانات والأمم، وكان فيها سر شرفها، وتفضيل بني إسرائيل على الأمم المعاصرة في الزمن القديم، وهي عقيدة التوحيد التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب، فقد اقتبس اليهود كثيراً من عقائد الأمم التي جاوروها، أو وقعوا تحت سيطرتها، وكثيراً من عاداتها وتقاليدها الوثنية الجاهلية، وقد اعترف بذلك مؤرخو اليهود المنصفون، فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية ما معناه:
(إن سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان، تدل على أن عبادة
1 سورة الأعراف الآيتان: 166-167.
الأوثان والآلهة، كانت قد تسربت إلى نفوس الإسرائليين، ولم تستأصل شافتها إلى أيام رجوعهم من الجلاء والنفي في بابل، وقد قبلوا معتقدات خرافية ومشركة، إنَّ التلمود أيضاً يشهد بأن الوثنية كانت فيها جاذبية خاصة لليهود) "1.
2-
الديانة النصرانية:
أمّا الديانة التي جاء بها المسيح عليه السلام، وما فيها من الدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، وتنزيه الخالق جل وعلا، والتأدب بالأخلاق السمحة الرحيمة من الصفح والعفو، والترفع عن حب الدنيا، والعطف على الفقراء والمساكين، وتحمل الأذى، كما جاء في إنجيل متى:" سمعتم أنه قيل عين بعين، وسن بسن، وأمّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر.. بل من لطمك على خدك الأيمن، فاعرض له الآخر أيضاً، ومن أراد أنْ يخاصمك، ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين"2.
وجاء في نفس الإنجيل: "لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم، لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وماتشربون، ولا لأجسادكم بما
1 السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص: 20.
2 انجيل "متى" الإصحاح الخامس فقرة: 38-40.
تلبسون"1.
وقال: "ما أعسر دخول ذوي الأموال ملكوت السموات.. وأقول لكم بأنَّ مرور جمل في ثقب إبرة، أيسر من أنْ يدخل غني ملكوت الله"2.
فإنَّ هذه الديانة بعد رفع المسيح، لم تظل على ما كانت عليه، بل سرعان ما ذابت في شتى الفلسفات، والنحل الأرضية الأخرى، وتسربت إليها أساطير الوثنيات القديمة، كالبوذية والبراهمية، والإغريقية، والرومانية، وعقائد الفرس والروم وقدماء المصريين، فصار التوحيد تعدداً، وجعلوا الإله الواحد آلهة ثلاثة3.
ومن أجل التحريف والتبديل في هذه الديانة، عقدت المجامع، وأصدرت القرارات القاضية بألوهية المسيح، فألوهية روح القدس، أو أن المسيح اجتمع فيه الإنسان والإله، وأنَّ مريم العذراء والدة الإله، وأنَّ المسيح اجتمع فيه الإنسان والإله، وأن المسيح إله حق معروف بطبيعتين:
1 انجيل "متى" الإصحاح السادس فقرة: 25.
2 انجيل "متى" الإصحاح التاسع عشر فقرة: 23، وإنجيل "لوقا" الإصحاح الثامن عشر فقرة: 25-26.
3 تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 6/88 وما بعدها، والمسيحية لأحمد شلبي ص: 130 وما بعدها.
طبيعة إلهية، وطبيعة إنسانية بشرية1.
ومما يؤكد أن عقائد النصرانية الحالية من تثليث وصلب وفداء، قد تسربت إليها عن طريق الوثنيات القديمة، هو وجه التشابه التام فيما بينها، ولو تتبعت هذا الأمر لطال بنا المقام، ولكني أقتصر على بعض ما نقله الأستاذ رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار –وكما يُقال يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق- 2.
جاء في كتاب خرافات التوراة وما يقابلها في الديانات الأخرى3، لصاحبه دوان، جاء ما ترجمته بالتلخيص: إنَّ تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة نفسه ذبيحة فداء عن الخطيئة، قديم العهد، بدأ عند الهنود الوثنيين وغيرهم.
وذكر الشواهد على ذلك، منها قوله: "يعتقدون أن كرشنا المولود البكر –الذي هو نفس الإله (فشنو) الذي لا ابتداء له، ولا انتهاء –على رأيهم- تحرك حنواً كي يخلص الأرض من ثقل حملها، فأتاها وخلص الإنسان بتقديم نفسه ذبيحة عنه.
وذكر أن مستر مور قد صور "كرشنا" مصلوباً كما هو مصور في
1 انظر: تاريخ الدعوة لجمعة الخولي 1/259-260.
2 تفسير المنار 6/32-33، وانظر: قصص الأنبياء للنجار ص: 514-515.
3 ص: 181-182.
كتاب الهنود، مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قمصيه صورة قلب الإنسان معلقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب.
والنصارى تقول: إن يسوع صلب، وعلى رأسه إكليل من الشوك.
وقال "هوك" في ص326 من المجلد الأول من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيون بتجسيد أحد الآلهة، وتقديم نفسه ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.
وقال "مونيورليمس" في ص 36 من كتابه الهنود: ويعتقد الهنود الوثنيون بالخطيئة الأصلية، ومما يدل على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسلاتهم التي يتوسلون بها بعد "الكباترى" وهو: إني مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني أمي بالإثم، فخلصني يا ذا العين الحندوقية، يا مخلص الخاطئين من الآثام والذنوب.
ونقل "هيجين" عن: "اندرار الكروزويوس" وهو أول أوربي دخل بلاد النيبال والتبت، أنه قال في الإله "أنددادا" الذي يعبدونه أنه سفك دمه بالصلب، وثقب بالمسامير لكي يخلص البشر من ذنوبهم، وأن صورة الصلب موجودة في كتبهم.
هذا وأما ما يروى عن البوذيين في "بوذا" فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح، من جميع الوجوه، حتى أنهم يسمونه المسيح والمولود الوحيد، ومخلص العالم، ويقولون إنه إنسان كامل، وإله كامل تجسد بالناسوت، وأنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر، ويخلصهم من
ذنوبهم، فلا يعاقب عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السموات.
بين ذلك كثير من علماء الغرب، منهم "بيلي" في كتابه تاريخ بوذا، و "هوك" في رحلته، و "مولر" في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتية وغيرهم.
ومن أراد المقابلة بين إله النصارى، وآلهة الوثنيين الأولين –في الشرق والغرب- فعليه أن يقرأ كتاب "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية" لمحمد طاهر التنير البيروتي، ففيه بلاغ ومقنع ا.?.
ومن هذا يتبين لنا أن عقائد النصارى الحالية تحتوي على عقائد وثنية شركية واضحة، وأنها مقتبسة من الوثنيات القديمة.
كما أنّ عقيدة النصارى الحالية أصبحت عقيدة مستغلقة، وتركيبات غير مفهومة، ولذلك فعسير على الذهن السليم أنْ يقبلها ولا تزال –حتى اليوم تصطدم بعقول شبابهم ومثقفيهم، ويحاول رجال الكنيسة بين فترة وأخرى إدخال بعض التفسيرات والتوضيحات من أجل استساغها وقبولها عند جماهير النصارى، ومن ذلك تفسيرهم أخيراً بأنَّ البنوة ليست ولادة كولادة البشر، وأن يفسروا الإله الواحد في ثلاثة بأنها صفات الله1.
وعن غموض العقيدة النصرانية الحالية، ووضوح الإسلام وسهولته،
1 انظر: النصرانية لمحمد أبي زهرة ص: 118، وتاريخ الدعوة لجمعة الخولي 1/361.
يقول جوستاف لبون في كتابه حضارة العرب: "لو أنك سألت مسيحياً عن عقيدته، لما استطاع أن يجيبك منهم إلاّ المتخصصون، والمتخصصون يجيبونك بكلام غير مفهوم، ولو سألت أي مسلم عن عقيدته، لأجابك لكلام واضح سهل، لا تعقيد فيه، ولا غموض، ولعل هذا سر عظمة الإسلام وانتشاره"1.
كما طرح الدكتور أحمد شلبي في كتابه المسيحية عدة أسئلة على النصارى، يسألهم فيها عن عقيدة التثليث عندهم، ومن تلك الأسئلة ما وظيفة كل فرد من أفراد هذا الثالوث؟ وكيف يتم فهم وحدة في تثليث، وتثليث في وحدة؟ وما معنى قولهم الابن مولود غير مخلوق، والابن ليس أحدث من الأب؟
ثم يقول: "لقد حاولت جهدي أنْ أصل إلى جواب صحيح لهذه الأسئلة عن طريق القراءة، أو المحادثة مع المسيحيين، ولكن أقرر أنني لم أستطع فهم إجاباتهم، بل صرح كثير منهم
…
أن هذه المسائل مسائل اعتقادية لا فهم، فاعترضت بأنّها مسائل أساسية، وهي المدخل للدين، فكيف لا تفهم؟ ولكن لم أتلق جواباً على اعتراضي، واتبع بعضهم التعبيرات الإنشائية التي لا توضح مقصوداً، كقول بعضهم (المحبة السرية
1 حضارة العرب لجوستاف لبون ص: 68.
التي بين المسيح والله) وقول الآخر: (كل ثروات الولاء والتعبد اختزنت في فكر يسوع المسيح، عوناً على فهم حقيقة الله
…
"1.
ثم ينقل الدكتور شلبي بعضاً من أقوال وآراء القسس النصارى في العقيدة النصرانية، وقد صرحوا بتناقضها، وعدم فهمها، فإليك طرفاً منها2:
يقول الدكتور يوسف بوست في قاموس الكتاب المقدس:
"طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية: الله الأب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق، بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال الإلهية على السواء".
ويقول القس بوطر صاحب رسالة الأصول والفروع في نهاية شرحه لعقيدة التثليث:" قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه فهماً أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السموات وما في الأرض، وأمّا في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية".
1 المسيحية لأحمد شلبي ص: 134.
2 المسيحية لأحمد شلبي ص: 134-139، وانظر النصرانية لأبي زهرة ص: 117 وبعدها.
ويقول القس وهيب عطاء الله: "إنَّ التجسد قضية فيها تناقض مع العقل والمنطق، والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية، ولكننا نصدق ونؤمن أنّ هذا ممكن حتى ولو لم يكن معقولاً".
وقد أورد الشيخ رحمة الله الهندي في تخبط النصارى في عقيدة التثليث، الحكاية التالية:"نقل أنه كان هناك ثلاثة أشخاص يعلمهم بعض القسس، فجاء أحد أصدقاء القسيس، وسأله: هل تعلموا شيئاً من العقائد النصرانية الضرورية، فقال: نعم، وطلب واحداً منهم ليري صديقه ما تعلمه، فسأله عن عقيدة التثليث، فقال: إنك علمتني أنَّ الآلهة ثلاثة أحدهم الذي في السماء، والثاني الذي تولد من بطن مريم العذراء، والثالث: الذي نزل في صورة الحمامة على الإله الثاني، بعد أن صار أبن ثلاثين سنة، فغضب القسيس وطرده، وقال: هذا مجهول، ثم طلب الآخر منهم، وسأله فقال: إنّك علمتني أنَّ الآلهة كانوا ثلاثة، وصلب واحد منهم، والباقي إلاهان، فغضب القسيس أيضاً وطرده، ثم طلب الثالث، وكان ذكياً بالنسبة إلى الأولين، فسأله فقال: يا مولاي حفظت ما علمتني جيداً، بفضل السيد المسيح، إنَّ الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد، وصلب واحد منهم، ومات، فمات الكل لأجل الاتحاد، ولا إله الآن، وإلاّ يلزم نفي الاتحاد "1.
1 إظهار الحق ص: 337.
والحق إنَّ قول النصارى في التثليث مصادم للعقول السليمة، ومعارض للأصول الثابتة، وتنفر منه الضمائر الحية، وتأباه الفطر السليمة، وفيه تنقص لرب العالمين، ورميه بالعظائم، وتعصّب النصارى لهذا المعتقد حتى اليوم يدل على جهلهم وغباوتهم.
يقول الفخر الرازي: "واعلم أنَّ هذا معلوم البطلان، ببداهة العقل، فإنَّ الثلاثة لا تكون واحداً، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى"1.
ويقول أبو محمد ابن حزم2: "ولولا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه، إذ يقول تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 3.
وإذ يقول تعالى حاكياً عنهم: {إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} 4.
وإذ يقول: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} 5، لما نطق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع السمج6 السخيف.
1 التفسير الكبير 12/60.
2 الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/49.
3 سورة المائدة الآية: 72.
4 سورة المائدة الآية: 73.
5 سورة المائدة الآية: 116.
6 السمج: القبيح. النهاية لابن الأثير 2/398.
وتالله لولا أننا شاهدنا النصارى، ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون، ونعوذ بالله من الخذلان.
ولعل من أهم العوامل التي أدّت إلى تحريف النصرانية، دخول بولس "شاؤول" فيها، وقد كان بولس أحد اليهود المغرمين بتعذيب النصارى وفتنتهم عن دينهم، وكان يسطو على الكنيسة، ويدخل البيوت، ويجر الرجال والنساء ويسلمهم إلى السجن1
…
وفجأة بينما كان بولس "شاؤول" في طريقه إلى دمشق للمساهمة في تعذيب المسيحين عام 38م زعم أنه رأى يسوع المسيح، وأنه آمن به وتسمى "بولس".
ويذكر لوقا صاحب الإنجيل، هذه القصة في أعمال الرسل فيقول:"وعندما كان بولس قريباً من دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض، وسمع صوتاً قائلاً: شاؤل شاؤل لماذا تضطهدني؟ فقال: من أنت يا سيد؟ فقال: أنا يسوع الذي تضطهده، فقال وهو مرتعد ومتحير يا رب ماذا تريد أن أفعل. فقال له: "قم وكرز بالمسيحية"2.
1 انظر أعمال الرسل الإصحاح السابع فقرة: 60، والإصحاح الثامن فقرة:3.
2 انظر أعمال الرسل الإصحاح التاسع: 30-20، وانظر: ترجمة بولس في المسيحية لأحمد شلبي ص: 104-109، والنصرانية لأبي زهرة ص: 81-88، والأسفار المقدسة لعلي وافي ص: 71-72.
ثم يقول لوقا: "وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح إنَّ هذا هو ابن الله"1 ا.?
كما إنه بعد رفع المسيح عليه السلام، وقع على أتباعه اضطهاد عظيم، فشُرِدُوا وعُذِبُوا وقُتِلُوا وصُلِبُوا، حتى كادت تختفي معالم المسيحية من الأرض، بسبب تلك الإضطهادات التي كان يتولاها أباطرة الرومان وعمالهم، وكذلك اليهود.
وأشد ما نزل بهم من الأذى، كان في عهد الإمبراطور نيرون (64م) ، ثم في عهد الإمبراطور ترجان (106م) ثم في عهد الإمبراطور ديسيوس (251م) ، ثم في عهد الإمبراطور دقلد يانوس (284م) .
فأما نيرون فقد اتهمهم بأنهم هم الذين أحرقوا مدينة روما، وتفنن في تعذيبهم، إذ كان يأمر أتباعه بوضع النصارى في جلود الحيوانات، ثم يطرحونهم للكلاب فتنتهشهم، كما كانوا يُلْبِسُون بعض النصارى ثياباً مطلية بالقار، ثم يجعلونهم مشاعل يستضيئون بنارها.
وفي عهد ديسيوس، قد عم الخوف الجميع، وفر بعضهم بدينه، وقد أبعد كل مسيحي من خدمة الدولة مهما يكن ذكاؤه، وكل مسيحي
1 انظر أعمال الرسل الإصحاح التاسع: 30-20، وانظر: ترجمة بولس في المسيحية لأحمد شلبي ص: 104-109، والنصرانية لأبي زهرة ص: 81-88، والأسفار المقدسة لعلي وافي ص: 71-72.
يرشد عنه يؤتى به على عجل، ويقدم إلى هيكل الأوثان، ويطلب منه تقديم ذبيحة للصنم، وعقاب من يرفض تقديم الذبيحة، أنْ يكون هو الذبيحة بعد أنْ يجتهدوا في حمله بالترهيب
…
أما دقلد يانوس فقد جاء إلى مصر، وأنزل بها البلاء، وأمر بهدم الكنائس، وإحراق الكتب، وأصدر أمراً بالقبض على الأساقفة وزجهم في غياهب السجون، وقهر المسيحيين على إنكار دينهم، وقتل منهم حوالي ثلاثمائة ألف.
ومن قبل ومن بعد أنزلوا البلاء بعلمائهم، فما تركوا عالماً منهم بالديانة إلا قتلوه، وكان الولاة يتفننون في طرق إبادة النصارى من الوجود، أبادوا العلماء حتى لا يوجد من يرشد إلى النصرانية، ويتوارث العلم بها، وأبادوا الكتب حتى لا تحفظ تلك الديانة في الصدور أو السطور.
واستمر البلاء والاضطهاد ينزل بالنصارى والنصرانية من قبل اليهود والرومان حتى جاء عهد قسطنطين، في أول القرن الرابع الميلادي، وقد سمي عصره (284-305م) عصر الشهداء1.
1 انظر المسيحية لأحمد شلبي ص: 70-72، ومحاضرات في النصرانية لأبي زهرة ص: 34-38 وص: 106.
ولا شك أنَّ لهذه الإضطهادات الأثر البالغ في فقدان الإنجيل الأصلي، الذي أنزل على عيسى عليه السلام، وفي اضطراب الأناجيل القائمة حالياً، لا سيما أنها ألفت ودونت في تلك الفترة، مما جعل بعض علمائهم يقرون لمناظريهم أنَّ تلك الاضطهادات كانت السبب في فقدان سندها المتصل بصاحب الشريعة1.
بل الراجح أنّ هذه الأناجيل لا صلة لها البتة بالوحي الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام.
لذلك فإن النصرانية قد أصبحت بسبب تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين ووثنية المتنصرين ركاماً دفنت تحته تعاليم المسيح عليه السلام، واختفى نور التوحيد وإخلاص العبادة لرب العالمين، وراء هذه السحب الكثيفة.
وقد أصيبت النصرانية بما أصيبت به في وقت مبكر من حياتها، واستمرّ الحال على ذلك حتى "جاء القرن السادس المسيحي، والحرب قائمة على قدم وساق، بين نصارى الشام والعراق، وبين نصارى مصر، حول حقيقة المسيح وطبيعته، تحولت المدارس والكنائس والبيوت ومعسكرات متنافسة، يكفر بعضها بعضاً، ويقتل بعضها بعضاً، كأنها
1 انظر إظهار الحق لرحمة الله الهندي ص: 83، والفارق بين المخلوق والخالق لعبد الرحمن بك باجة جي زاده ص: 9 وما بعدها.
حرب بين دينين متنافسين، أو أمتين متحاربتين"1.
وقد أصحبت النصرانية في شغل شاغل بنفسها عن محاربة الفساد، وإصلاح الأمم.
يتحدث الأستاذ أبو الحسن الندوي عن المسيحية في القرن السادس الميلادي، فيقول: "لم تكن المسيحية في يوم من الأيام من التفصيل والوضوح ومعالجة مسائل الإنسان، بحيث تقوم عليها الحضارة، أو تسير في ضوئها دولة، ولكن كان فيها أثارة من تعاليم المسيح، وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط، فجاء بولس فطمس نورها، وطعمها بخرافات الجاهلين التي انتقل منها، والوثنية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية، حتى أصبحت النصرانية مزيجاً من الخرافات اليونانية، والوثنية الرومانية، والأفلاطونية المصرية والرهبانية، اضمحلت في جنبها تعاليم المسيح البسيطة، كما تتلاشى القطرة في اليَم، وعادت نسيجاً خشبياً من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح، ولا تمد العقل، ولا تشعل العاطفة، ولا تحل معضلات الحياة، ولا تنير السبيل، بل أصبحت بزيادات المحرفين، وتأويل الجاهلين تَحُولُ بين الإنسان والعلم والفكر، وأصبحت على
1 فتح العرب لمصر للفرد بتلرج تعريب محمد فريد أبو حديد ص: 37، 38، 47. وانظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص: 23.
تعاقب العصور ديانة وثنية"1 ا.?.
3-
بلاد فارس:
وإذا تجاوزنا بني إسرائيل، وذهبنا إلى بلاد فارس، نجد أن ديانة أهلها أشد اضطراباً وأكثر تعدداً، وأن بنيان هذه العقيدة عبادة النار، وإقامة بيوت للعبادة، وتقديم القرابين لها، والإيمان بالثنوية، أي: الإيمان برب للنور ورب للظلام، وإله للخير، وإله للشر، وأن كلا الإلهين يتنازع النفس الإنسانية والكون وما فيه.
يقول الشهرستاني: "ثم إنّ التثنية اختصت بالمجوس، حتى أثبتوا اثنين مدبرين قديمين، يقتسمان الخير والشر، والنفع والضر، والصلاح والفساد، يسمون أحدهما النور، والآخر الظلمة، وبالفارسية (يزدان وأهر من) ، ولهم في ذلك تفصيل مذهب.. ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين اثنتين.. أحدهما بيان سبب امتزاج النور بالظلمة، والثانية بيان سبب خلاص النور من الظلمة، وجعلوا الامتزاح مبدأ، والخلاص معاداً.."2.
وجاء – زاردشت 660-583 ق. م يهذب من عبادة المجوس، ويصلح من عقيدتهم، فما خرج كثيراً عنها، فقد ادعى أن النور والظلمة
1 ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 28.
2 الملل والنحل للشهرستاني 1/232.
أصلان متضادان، وأن الخير والشر والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان وجود العالم، وهما يتعاونان ويتغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة، والخير الشر، ثم يتخلص الخير إلى أعماله، والشر ينحط إلى أعماله، وذلك سبب الخلاص.."1.
وظهر "ماني" في أواخر القرن الثالث المسيحي، يزعم أن العالم مصنوع، مركب من أصلين قديمين، أحدهما نور، والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا، ولن يزالا، وفرض على أصحابه العشر في الأموال كلها، والصلوات الأربع في اليوم والليلة، والدعاء إلى الحق وترك الكذب، والقتل والسرقة، والزنا والبخل، والسحر وعبادة الأوثان،
…
واعتقاده في الشرائع والأنبياء: أن أول من بعث الله تعالى بالعلم والحكمة آدم أبو البشر، ثم بعث شيئاً بعده، ثم نوحاً بعده، ثم إبراهيم بعده عليهم الصلاة والسلام، ثم بعث بالبددة إلى أرض الهند وزرادشت إلى أرض فارس، والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب، وبولس بعد المسيح إليهم، ثم يأتي خاتم النبيين إلى أرض العرب2.
1 الملل والنحل للشهرستاني 1/237.
2 الملل والنحل للشهرستاني 1/248.
ومن بعد ماني ظهر "مزدك"، فرأى أن سبب الكراهية بين الناس، إنما تقع بسبب المال والنساء، فزعم أنه ليس هناك وسيلة لإزالة أسباب الشقاق والخلاص بين الناس، إلَاّ بجعل الأموال والنساء مشاعاً حراً يأخذ منه من يشاء ما يشاء..
يقول الشهرستاني: "أحل –مزدك- النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ"1.
وتحت ظلام هذه العقائد المزيفة، عاش الفرس يعانون قسوة الملوك، وتجبر الحكام الذين انتهزوا هذا الجهل المطبق، فادعوا أنهم من عناصر علوية مقدسة، وبنوا ادعائهم على مذهب "مترا" أحد مصلحيهم الذي رفع سلطان الملوك إلى عرش السماء، وقال:"إن الشمس تشع عليهم قبساً من نورها، وهالة من بركتها، فيرمزون بعروشهم على الأرض إلى عرش الله في عليين.."2.
وكانت الأكاسرة ملوك فارس يدعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، وكان الفرس ينظرون إليهم كآلهة، ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً، فكانوا يكفرون لهم، وينشدون الأناشيد بألوهيتهم، ويرونهم فوق القانون، وفوق الانتقاد، وفوق البشر، لا يجري اسمهم على
1 الملل والنحل للشهرستاني 1/249.
2 الله، للعقاد ص:98.
لسانهم، ولا يجلس أحد في مجلسهم، ويعتقدون أنَّ لهم حقاً على كل إنسان، وليس لإنسان حق عليهم، وأنَّ ما يرضخون لأحد من فضول أموالهم وفتات نعيمهم، إنّما هو صدقة وتكرم من غير استحقاق، وليس للناس قبلهم إلا السمع والطاعة1.
4-
بلاد الهند:
وإذا تجاوزنا بلاد فارس إلى ما وراءها من أرض المشرق، فإننا نجد الهند وما فيها من ديانات باطلة، وأفكار ساذجة، وأوضاع اجتماعية جائرة، تقوم على التفرقة الإنسانية بين الطبقات.
يقول الشهرستاني:" الهند أمة كبيرة، وملة عظيمة، وآراؤهم مختلفة، منهم البراهمة، وهم المنكرون للنبوات أصلاً، ومنهم من يميل إلى الدهر ومنهم من يميل إلى مذهب الثنوية، ويقول بملة إبراهيم عليه السلام، وأكثرهم على مذهب الصابئة ومناهجها، فمن قائل بالروحانيات، ومن قائل بالهياكل، ومن قائل بالأصنام، إلاّ أنهم مختلفون في شكل الهياكل التي ابتدعوها، وكيفية أشكال وضعوها، ومنهم حكماء على طريقة اليونانيين علماً وعملاً "2.
1 انظر كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ص: 40.
2 الملل والنحل 2/250.
ويقول أبو الحسن الندوي: "اتفقت كلمة المؤرخين في تاريخ الهند على أن أحط أدوارها ديانة وخلقاً واجتماعاً كان ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي.. فقد شاركت الهند جاراتها وشقيقاتها في التدهور الخلقي والاجتماعي، الذي شمل الكرة الأرضية في هذه الحقبة من الزمن.. وقد بلغت الوثنية أوجها، ووصل عدد الآلهة إلى 330 مليوناً، وقد أصبح كل شيء رائعاً، وكل شيء جذاباً، وكل مرفق من مرافق الحياة إلهاً يعبد.
وهكذا جاوزت الأصنام والتماثيل والآلهة الحصر، وأربت على العد، فمنها أشخاص تاريخية، وأبطال تمثل فيهم الله.. وجبال تجلى عليها بعض آلهتهم، ومعادن كالذهب والفضة تحمل سر الألوهية، وأنهار وآلات حرب، وآلات التناسل، وحيوانات أعظمها البقرة، والأجرام الفلكية، وغير ذلك.
وأصبحت الديانة نسيجاً من خرافات وأساطير، وأناشيد وعقائد، وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يستسغها العقل السليم في زمن من الأزمان.
وقد ارتفعت صناعة نحت التماثيل في هذا العهد، حتى فاق هذا العصر في ذلك العصور الماضية، وقد عكفت الطبقات كلها، وعكف أهل
البلاد من الملك إلى الصعلوك على عبادة الأصنام.."1.
والحق إنَّ فطرة الهند تنادي بأن الله واحد، ولكن جهلهم وضلالهم طمس هذه الفطرة، فأشركوا بالله الواحد مخلوقاته المسخرة بأمره.
انظر إلى قولهم في بعض أناشيدهم الدينية:
"إنني أنا الله، نور الشمس، وضوء القمر، وبريق اللهب، وميض البرق، وصوت الرياح، وأنا الرائحة الطيبة التي تنبعث في أنحاء الكون، والأصل الأزلي لجميع الكائنات، وأنا حياة كل موجود، وصلاح الصالح، أنا الأول، والآخر، والحياة، والموت لكل كائن"2.
أما الشهوة الجنسية، فقد امتازت بها ديانة الهند ومجتمعها منذ العهد القديم، بشكل ليس له مثيل، حتى عبدوا آلة التناسل، لإلههم الأكبر "مهاديو" وتصويرها في صورة بشعة، واجتماع أهل البلاد عليها من رجال ونساء وأطفال.. زد على ذلك أن بعض الفرق الدينية كانوا يعبدون النساء العاريات، والنساء يعبدون الرجال العراة..3
ويقرر دين البراهمة في الهند التفرقة بين الناس من حيث العبادة والزلفى لبراهما إلههم الأكبر، وانقسم الناس من حيث مهنهم التي تتوارث
1 ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 46-47.
2 ذيل الملل والنحل لمحمد سيد كيلاني ص: 10.
3 انظر كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ص: 48-49.
وتصير المهنة عندهم أصلاً نسبياً ينتقل من الأصول إلى الفروع، ومن الفروع إلى فروعهم، إلى أربع طبقات:
1-
البراهمة، طبقة الكهنة ورجال الدين، ويزعمون أنهم خلقوا من رأس إلههم "براهما" ولذلك كانوا أعلى الناس، لأنهم خلقوا من أعلى الإله.
2-
طبقة الجند ورجال الحرب، ويزعمون أنهم خلقوا من مناكب إلههم براهما، ويديه، ولهذا فهم الحماة والغزاة ومواطن القوة.
3-
طبقة رجال الزراعة والتجارة، وهم مخلوقون من ركبتي إلههم.
4-
طبقة الخدم والرقيق، وهؤلاء خلقوا فيما يزعمون من قدمي إلههم، فهم أحط الطبقات، وأبعدها لبعدها عن رأس براهما.
وهناك فريق من الشعب الهندي لا يدخل في هذه القسمة الجائرة، وهم المنبوذون، وهم الذين يتناولون الأعمال الحقيرة في المدن، وقد حال انحطاط شأنهم دون اعتبارهم، حتى بين الطبقة الدنيا من الخدم والأجراء1.
وديانة المنبوذين تنحصر في عبادة الأرواح، وأعظم الآلهة عندهم
1 انظر: خاتم النبيين لأبي زهرة القسم الأول ص: 19-20، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 49، وذيل الملل والنحل 2/13.
يظهر في شكل "كومة" من الآجر، أو في هيئة أخرى ساذجة، وهذا الإله هو الذي يمنح الخصب للعواقر، ويحمي المحاصيل من الآفات، ويرعاهم برعايته وعنايته، ولكل مدينة إلهها1.
ومن هذه الإشارة العابرة عن الهند، يتبين لنا ما وصل إليه الكفر الهندي من انحطاط كبير في جميع نواحي الحياة الدينية والأخلاقية والإجتماعية، وأصبح في حاجة ماسة إلى من ينير له الطريق، ويرشده إلى الهدى.
5-
بلاد الصين:
أما الأمة الصينية، فإنها قد عاشت بلا دين صادق، أو عقيدة ثابتة، وإنّما توجهت إلى طبيعة الحياة تستلهم منها معنى الإله الحق، فعبدت السماء وما فيها من كواكب، وعبدت الأرض وما فيها من جبال وبحار وأنهار، وعبدت الأموات من أبطالها السالفين الذين بقيت ذكرياتهم حية في قلوبهم، فقدمت لهم ألواناً من العبادة والطاعة.
وبعد قرون طويلة، استقر الصينيون على أديان ثلاثة، وهي:
1-
الكنفوشية.
2-
البوذية.
1 ذيل الملل والنحل 2/13.
3-
التاوزمية1.
واشتهر حكيمهم ومعلمهم "كونفشيوس" بالإخلاص في الدعوة إلى إصلاح النفس الإنسانية، وتكوين مجتمع سليم، قوامه المحبة والإخاء، والعدل والطاعة والرضا.. يقدمها الولد لوالده، والأخ الأصغر للأخ الأكبر، والمحكوم لحاكمه.
كما اشتهر بجملة من الفضائل كالصدق والإخلاص، والقناعة والصمت، إلاّ فيما يجب الكلام فيه، ومعاملة الناس بالرفق والمودة، وغير ذلك من الفضائل.
لكن "كونفشيوس" لم يهتد إلى الحياة الأخرى، فأنكر الجنة والنار، والثواب والعقاب، وقد سأله بعض تلاميذه مرة عن الموت، فقال: إننا لم ندرس الحياة بعد، فكيف ندرس الموت!!
ومات "كونفشيوس" فتوجه الصينيون إلى روحه بالعبادة والتقديس، وأقاموا لها الهياكل، وقدموا لها القرابين، وانتقلت عبادة هذا الفيلسوف عبر الأجيال إلى يومنا هذا2.
وعلى مثال "كونفشيوس" كان الفيلسوف "لاوتسي" وهو أسن
1 انظر: ذيل الملل والنحل لمحمد سيد كيلاني 2/19.
2 انظر: ذيل الملل والنحل 2/22-26، بتصرف، وموسوعة النظم والحضارة لأحمد شلبي 3/31، والديانات القديمة لرشدي عليان وزميله ص: 107 وما بعدها.
من صديقه، وكلاهما دعا إلى الخير والفضيلة، إلاّ أنهما افترقا في الخلق والمزاج، وإن اتفقا في العقيدة والإيمان.
فلاوتسي يقول: "من كان طيباً معي، فأنا طيب معه، ومن أساء إليَّ فأنا طيب معه كذلك، فلنجز السيئة بالحسنة، ولنعمل الطيب على كل حال..".
أما كنفشيوس، فهو يوصي بأن تقابل السيئة بالعدل، وأن يقابل الإحسان بالإحسان1.
وأتباع لاوتسي يبنون منهجهم على التصوف، واحتقار العادات القديمة، والإعتقاد بأنَّ الدرس والتحصيل والتفكير العقلي ليس وسيلة لاكتساب المعرفة، إنّما سبيلها تطهير النفس والتدرج في كمالاتها إلى مرحلة الاتصال التام، أو الوحدة التامة بين الفرد والقانون الأعظم.
كما دعا لاوتسي إلى هجر العمل، والاقتصار على التأمل والتجربة الصوفية، وبعد وفاة لاوتسي أفسدت تعاليمه، وتفشت فيها الأساطير، وضمّت إليها أشد الطقوس والفكرات الخرافية تعقيداً، وخروجاً عن المألوف.
وحدث في الصين مثلما حدث في الهند بالضبط، وذلك أن نشطت
1 انظر كتاب الله للعقاد ص: 84.
فكرات السحر البدائية، وتحركت الأساطير البشعة التي ظهرت في الماضي تكافح ضدّ التفكير الجديد في العالم، ونجحت في أن تسدل عليه ساتراً سابلاً من طقوس غريبة مضحكة، وغير معقولة، وعتية بالية1.
وليس من الغريب أن تنتقل أكبر ديانات الهند إلى الصين، وتلك هي -البوذية- التي نشرها الهنود والصينيون الذين ذهبوا إلى الهند، وعادوا إلى قومهم حاملين رسالة البوذية، إلاّ أنهم حين نقلوها كانت قد فقدت بساطتها، وتحولت إلى عبادة تماثيل وصور.
يقول الأستاذ أيشوراتوبا: " لقد قامت في ظل البوذية دولة تعني بمظاهر الآلهة، وعبادة التماثيل"2.
نظرة عامة على الوضع العالمي
الجزيرة العربية انتشرت فيها العقائد الفاسدة، وجرفتها تيارات العصبية الممقوتة، وسادت فيها الأوضاع الاجتماعية الجائرة..
وبنو إسرائيل حرفوا وغيروا كتب الله وشرائعه، وكفروا بنعمه، وركنوا إلى المادة، وأصبح بأسهم بينهم شديد..
والفرس والهند هذه البلاد ضلت طريقها، وعاشت في ظلام الشك
1 انظر موجز تاريخ العالم تأليف ?. ج. ولز ص: 131.
2 المجتمع الإسلامي لأحمد شلبي ص: 33.
والجهل، والأوهام والبهتان..
وعلى هذه الشاكلة كان العالم يعيش بأسره في الصين وإسبانيا، وفرنسا وإنجلترا، وافريقيا وغيرها، فلم يبق موضع إلا وإنسان يمرغ نفسه أمام صنم، ويذل عزته وكرامته أمام الأرباب، ونسي الإنسان إنسانيته أمام الشهوة والشيطان، وضاع حقه بل كيانه لإطماع المستبدين.
ففي إسبانيا وفرنسا الجنوبية كان شعب "الويزيجو" الأوربيين يصاولون الملك كلوفيس وأولاده الكاثلوكيين، وفي فرنسا نفسها، كان أولاد كلوفيس هذا متقادرين متسافكين، وكانت الحروب التي شبت نيرانها بين المملكة "الويزيجوتية" و "برونهو" والمملكة الفرنكية "فيريد يجوند" تهيء للتاريخ أشد الصحائف إثارة للأسى والكمد.
أما في إنكلترا فكان "الأنجلو" ينازعون "السكسونيين" الأرض التي احتلوها، واستعبدوا فيها ذرية "كيمريس"، وهم أقدم المغيرين على تلك الجزيرة، التي تتطلع اليوم للوقوف في مقدمة الأمم علماً وصناعة وقوة، وهي التي كانت في ذلك الوقت مجالاً للقوة الوحشية السائدة في تلك الغياهب الحالكة.
أما في أفريقيا، فكان اليونان الرومانيون أنفسهم -وهم أخلاط من عساكر وتجار وحكام، مجموعين من آفاق مختلفة- دائبين على امتصاص دم القطر المصري، وعاملين على جعل مصر العلمية، ذات المجد القديم
كالجثة المصبرة، عديمة الحس والحراك، وكان هذا شأنهم أيضاً في الأقاليم الخصبية وقتئذ، الواقعة في الجهات الشمالية من أفريقيا التي انتزعوها من أيدي الفنداليين.
لقد كانت دولتا العالم، دولة الفرس في الشرق، ودولة الرومان في الغرب، في تنازع وتجالد مستمر.. دماء بين العالمين مسفوكة، وقوى منهوكة، وأموال هالكة، وظلم من الاحن حالكة..
ومع ذلك فقد كان الزهو والترف، والإسراف والفخفخة، والتفنن في الملاذ بالغة جداً ما لا يوصف في قصور السلاطين والأفراد والقواد، ورؤساء الأديان من كل أمة، وكان شره هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حد، فزادوا في الضرائب، وبالغوا في فرض الإتاوات حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم، وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها، وانحصر سلطان القوى في اختطاف ما بيد الضعيف، وفكر العاقل في الاحتيال لسلب الغافل، وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر، والذل، والاستكانة، والخوف، والاضطراب، لفقد الأمن على الأرواح والأموال1.
يوضح هذه الصورة المحزنة لحال العالم قبيل البعثة الأستاذ أبو الحسن
1 انظر رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص: 117.
الندوي في كتابه ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، فيقول:"أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرفين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة، والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال، والاحتلال وسوء النظام، وعسف الحكام، وشغلت بنفسها، لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري"1.
ويقول الندوي تحت عنوان: ظهر الفساد في البر والبحر: "وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء "2.
ثم يقول تحت عنوان: العالم الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم: "بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفاً، فإذا كل شيء فيه في غير محله.. نظر إلى
1 ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 28.
2 المرجع السابق ص: 63.
العالم بعين الأنبياء، فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضر، رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته..، وفسد نظام فكره..، وفسد ذوقه..، رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم، وكل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله..، فقد أصبح فيه الذئب راعياً، والخصم الجائر قاضياً، وأصبح المجرم فيه سعيداً حظياً، والصالح محروماً شقياً..، ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هوة الهلاك.
ورأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حدّ الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حدّ الإغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حدّ الجشع..، ورأى القسوة والظلم إلى حدّ الوأد وقتل الأولاد.. رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباد الله خولاً1، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله.
المواهب البشرية ضائعة أو زائفة، لم ينتفع بها، ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالاً على أصحابها، وعلى الإنسانية، فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية، والجود تبذيراً وإسرافاً، والأنفة حمية جاهلية،
1 خولاً: أي عبيداً وخدماً.
انظر: لسان العرب 11/224.
والذكاء شطارة وخديعة، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات والإبداع في إرضاء الشهوات.
رأى الأمم قطعاناً من الغنم، ليس لها راع، والسياسة جمل هائج حبله على غاربه، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه، ويجرح به أولاده وإخوانه "1 ا.?.
وخلاصة القول في هذا، أنَّ جو العالم كله كان يموج بالإضطرابات الوحشية إلى حدّ كبير، وذلك على حدّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلاّ بقايا من أهل الكتاب.." 2 الحديث.
وكان اعتماد الناس على وسائل الشر، أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير، ونستطيع أن نقول إنّ الإنسان في تلك الفترة قد فقد عقيدته، ونظام حياته، حيث عم الفساد والانحطاط، وأصبح التطلع إلى المنقذ وإلى رسالة السماء، والخروج من ذلك الكابوس أمراً ضرورياً، ولعل ظاهرة "التحنف" أصدق دليل على هذا التطلع والترقب.
1 ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 78-79.
2 رواه مسلم في صحيحه عن عياض المجاشعي 4/2197 كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار رقم:63.
وأحمد في المسند 4/162.