الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: توجيهات وتحذيرات للمشركين
ويشتمل على ما يلي
1-
الأمر الجازم بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه.
ولما كان الله تبارك وتعالى هو الخالق وحده، والرازق المتفضل على جميع خلقه بأنواع النعم، فهو المستحق وحده للعبادة، وإخلاصها له، وعدم الإشراك بأحد من مخلوقاته، فقد أمر الله تعالى الناس بعبادته وحده، ونهاهم نهياً مطلقاً عن عبادة ما سواه، وبين أنَّ العلة في خلق الجن والإنس، إنّما هو من أجل عبادته، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 1.
وقد جاءت الأوامر بعبادة الله وحده، والنواهي عن عبادة غيره في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} 2.
1 سورة الذاريات الآية: 56.
2 سورة البقرة الآيتان: 21-22.
وقال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} 1.
وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} 2.
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 3.
وقال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5.
قال ابن كثير: " أي: لا تكونوا من المشركين الذي فرقوا دينهم، أي: بدلوه وغيروه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، كاليهود والنصارى
1 سورة النساء الآية: 36.
2 سورة الأنعام الآية: 151.
3 سورة الإسراء الآية: 23.
4 سورة الحج الآيتان: 30-31.
5 سورة الروم الآية: 31.
والمجوس وعبدة الأوثان، وسائر أهل الأديان الباطلة -ما عدا أهل الإسلام-، فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومذاهب باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنها على شيء، وهذه الأمة أيضاً اختلفت فيما بينهم على نحل، كلها ضلالة إلاّ واحدة، وهم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه"1.
وقد أرشد الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت الحرام، أن يبنيه على اسم الله تعالى وحده، وأن يطهره من الشرك وعبادة الأوثان، فقال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 2.
وأوصى لقمان الحكيم ابنه بعدم الشرك بالله تعالى، فقال الله عنه:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3.
1 تفسير ابن كثير 3/451-452. بتصرف يسير.
2 سورة الحج الآية: 26.
3 سورة لقمان الآية: 13.
وأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ} 1.
وقال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 2.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 4.
1 سورة الأنعام الآية: 14.
2 سورة الأنعام الآية: 106.
3 سورة يونس الآيات: 104-106.
4 سورة الرعد الآية: 36.
وقال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 1.
إن واحداً من هذه الأوامر أو واحداً من هذه النواهي يكفي دليلاً للإقلاع عن هذه العبادة، فكيف والقرآن مليء بالأوامر بعبادة الله وحده والنواهي عن عبادة ما سواه!
1 سورة الحجر الآية: 94.
2 سورة القصص الآيتان: 87-88.
2-
الأساليب الخبرية:
أ-أسلوب الخبر المجرد:
وقد جاء هذا الأسلوب مجرداً عن المؤكدات، بياناً للحق، وإعلاماً للخلق، كما في قوله تعالى:{الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، وقوله عز وجل:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2.
ب- أسلوب الخبر المؤكد:
والمؤكدات التي جاء بها القرآن الكريم في شأن التوحيد والوحدانية كثيرة، منها:
1-
التأكيد بالقسم.
2-
التأكيد بأن.
3-
التأكيد باللام.
وقد اجتمعت هذه المؤكدات الثلاثة في قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
1 سورة الفاتحة الآية: 1.
2 سورة البقرة الآية: 163.
وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 1.
4-
التأكيد بأساليب القصر، كأسلوب النفي والاستثناء، كما في قوله تعالى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا} 2.
وأسلوب القصر "بإنّما"، كما في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} 3.
وأسلوب القصر بالتقديم والتأخير، كما في قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فتقديم المفعول {إِيَّاكَ} أفاد قصر العبادة على الله تعالى وحده، دون غيره.
1 سورة الصافات الآيات: 1-5.
2 سورة طه الآية: 14.
3 سورة الأنعام الآية: 19.
3-
الدعوة إلى التجرد من التقاليد الموروثة:
لقد كانت التقاليد والعادات الموروثة تتحكم في عقائد الجاهلية، ومن أجل ذلك تعرضت العقائد للانحراف، وانهارت أمام القيم والأخلاق، واختلت الموازين والأعراف، فكان الواقع يرفض كل المسلمات والبدهيات، ولا يقبل سوى ما كان عليه الآباء والأجداد.
ولذلك فقد ناقش القرآن الكريم هذه القضية مناقشة جادة، وعالجها معالجة شافية، كعادته في معالجة القضايا ذات الأهمية البالغة، وبين أن هذه القضية لم تكن حديثة المولد والنشأة، ولكنها قديمة التاريخ، عميقة الجذور، فلم يكن العرب الذين واجههم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هم أول من قال هذه المقالة، بل لقد رددها الذين استحبوا العمى على الهدى من الأمم السابقة.
لقد قالها قوم نوح عليه السلام: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} 1.
1 سورة المؤمنون الآية: 24.
وقالها قوم هود عليه السلام: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 1.
وقالها قوم صالح عليه السلام: {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 2.
وقالها قوم إبراهيم عليه السلام، لما قال لهم:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} 3.
ولما قال لهم: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 4.
وقالها قوم شعيب عليه السلام: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ
1 سورة الأعراف الآية: 70.
2 سورة هود الآية: 62.
3 سورة الأنبياء الآيات: 52-54.
4 سورة الشعراء الآيات: 72-74.
أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 1.
وقيلت لموسى عليه السلام: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} 2.
وقد بين القرآن الكريم أن تلك المقالة قد قيلت لكافة الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} 3.
وقص علينا ربنا تعالى قول الأقوام السابقين لرسلهم: {قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} 4.
وأخيراً قالها مشركو مكة للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم،
1 سورة هود الآية: 87.
2 سورة يونس الآية: 78.
3 سورة الزخرف الآية: 23.
4 سورة إبراهيم الآية: 10.
قال تعالى: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} 1.
و {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} 2.
فهذا سندهم الوحيد، وهو دليلهم الفريد، إنه التقليد الجامد الذي لا يقوم على علم، ولا يعتمد على برهان، بل ولا حتى على تفكير أو روية، إن هذا الموقف إنّما هو استجابة لدعوة إبليس، فهل هم مصرون على السير في هذا الطريق، وراء تقليد الآباء حتى دخول نار جهنم؟
إنّها لمسة مزعجة، موقظة منبهة، ولكن لمن ألقى السمع وهو شهيد.
1 سورة البقرة الآية: 170.
2 سورة المائدة الآية: 104.
3 سورة لقمان الآية: 21.
4 سورة سبأ الآية: 43.
وفي سورة الزخرف آيات كثيرة تناقش هذه القضية، قال تعالى:{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} 1.
قال ابن كثير رحمه الله: " أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك، سوى تقليد الآباء والأجداد، بأنهم كانوا على أمة
…
ثم بين جل وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقتهم إليها أشباههم ونظائرهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل تشابهت قلوبهم "2.
ويربط القرآن الكريم مقالتهم بمقالات الأمم السابقة المكذبة، والتي أهلكها الله تعالى بسبب كفرهم وتقليدهم الأعمى لآبائهم.
والآيات السابقة تبين لنا أن التقاليد الوراثية قد استحكمت في
1 سورة الزخرف الآية: 22.
2 تفسير ابن كثير 4/135.
3 سورة الزخرف الآيات: 23-25.
عقول الناس من عهود الأنبياء السابقين، وإلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنّ تلك المقالة قد قيلت، وستقال كلما عدل الناس عن منهج الإسلام.
وتبين الآيات كذلك أنَّ القوم المعارضين لم ينظروا إلى الدعوة بعين الإنصاف والتدبر، وإنّما نظروا إليها بالجحود والجمود، والاستسلام المطلق لتلك التقاليد والعادات الموروثة عن الآباء والأجداد.
ولقد بين القرآن الكريم سذاجة هذه الأقاويل، ووضح أنّها لا تستند إلى دليل من نقل أو عقل، فقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} 1.
فالآيات الكريمة تبين لنا أن القوم مستسلمون لتقاليد آبائهم وأجدادهم، حتى ولو كان آباؤهم وأجدادهم لا يعقلون شيئاً، ولا
1 سورة البقرة الآية: 170.
2 سورة المائدة الآية: 104.
يعلمون شيئاً، بأن كانوا جهالاً لا يميزون بين ما هو حق، وما هو باطل.
والقرآن الكريم يطلب من هؤلاء المقلدين أنْ يحاكموا تقاليدهم إلى ميزان العقل، إن كانت لديهم عقول، إلاّ أن القوم رفضوا توجيهات القرآن الكريم، واستمروا على تعصبهم، الأمر الذي جعل القرآن ينكر عليهم، ويتعجب من فعلهم، قال تعالى حكاية قول هود عليه السلام لقومه:
وقال تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} 2.
وبين القرآن الكريم أنّ الطاعة العمياء، والإغراق في الجهالة والضلال، وتتبع خطا الآباء من غير دليل ولا برهان، جعلت مصيرهم ومرجعهم إلى دركات الجحيم.
1 سور الأعراف الآية: 71.
2 سورة الشعراء الآيتان: 75-76.
كما بين القرآن الكريم أنّ كل إنسان يتحمل تبعة عمله فقط، ولا يسأل عن حسنات أو سيئات الآخرين، كما ورد في كثير من الآيات البينات.
قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
…
} 2.
وقال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 3.
وقال الله تعالى: {أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ
1 سورة الصافات الآيات: 68-71.
2 سورة الإسراء الآية: 13-15.
3 سورة فاطر الآية: 18.
مَا سَعَى} 1.
وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 2.
1 سورة النجم الآيتان: 38-39.
2 سورة الزلزلة الآيتان: 7-8.
4-
استعمال الحكمة في دعوتهم:
ولما كانت دعوة القرآن الكريم مبنية على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال تعالى:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1.
فقد أمر الله المؤمنين بأنْ لا يسبوا آلهة المشركين، مخافة أنْ يحمل هذا السب أولئك الجهلة على سب الله تعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالوا يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهي الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدواً بغير علم3.
1 سورة النحل الآية: 125.
2 سورة الأنعام الآية: 108.
3 أسباب النزول للواحدي ص: 127، وتفسير ابن جرير 7/309، وتفسير ابن كثير 2/177.
وقال قتادة: كان المسلمون يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أنْ يستسبوا لربهم قوماً جهلة، لا علم لهم بالله1.
وقال السدي: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أنْ ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبيّ أبناء خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري إلى أبي طالب، فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا، وأن محمداً قد آذانا، وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعه وإلهه، فدعاه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا يريدون؟ فقالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، فقال أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطيكنها وعشر أمثالها، فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله، فأبوا
1 أسباب النزول للواحدي ص: 127، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 103، وتفسير الطبري 7/309.
واشمأزوا، فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي، فإن قومك قد فزعوا منها، فقال: يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها، فقالوا: لتكفنّ عن شتمك آلهتنا أو لنشتمك، ونشتم من يأمرك، فأنزل الله هذه الآية1.
والآية الكريمة تنهى المؤمنين عن سب معبودات المشركين التي يدعون أنها تجلب لهم النفع، أو تدفع عنهم الضر، لأن المؤمنين إذا سبوا وشتموا معبودات المشركين، ربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول، وذلك لأنَّ طبيعة البشر أن كل من عمل عملاً، فإنه يستحسنه
1 رواه أحمد في المسند 3/314-315 تحقيق أحمد شاكر، وإسناده صحيح.
والترمذي 8/361، حديث: 3230، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
والحاكم في المستدرك 2/432، وصححه، ووافقه الذهبي، والطبري في التفسير 7/309، والواحدي في أسباب النزول ص: 127، والسيوطي في الدر المنثور 5/295، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه. ورواه غير هؤلاء من أهل الحديث.
وممن رواه من أهل السير: ابن إسحاق بإسناد منقطع كما في سيرة ابن هشام 2/67-68، والسير والمغازي 236 معلقاً، ويشهد له ما جاء بأسانيد صحيحة عند أهل الحديث.
وانظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله ص: 166-176.
ويدافع عنه، فإنْ كان الشخص يعمل الطيبات استحسنها ودافع عنها، وإنْ كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها، ومن هنا فإنَّ واجب الداعية أن يبين الحق الواجب بيانه من بطلان عبادة المشركين وسخافتها، وعدم جوازها، وأنها لا تضر ولا تنفع، وأنها لا تستحق شيئاً من العبادة، وأن أي شيء يصرف إليها يكون محرماً، ويوصل صاحبه إلى نار جهنم، ويخلد فيها ما لم يرجع عن ذلك، ويتوب إلى الله تعالى قبل الموت، ثم يترك شأنهم إلى الله تعالى، إذ أنّ مصيرهم إليه، وهو الذي يجازيهم على أعمالهم.
أما أسلوب الدعوة عن طريق السباب والشتائم، فإنه لا يأتي بفائدة، وإنما يأتي بالنتائج العكسية من النفور عن الدعوة، وعدم قبولها، كما قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} 1.
وسب آلهة المشركين يترتب عليه المواجهة بالمثل من سب الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الدين، أو القرآن، وذلك لجهل المشركين، وعدم معرفتهم بعظمة الله تعالى، وبالتالي فشل الدعوة التي أتعب الداعية نفسه من أجلها.
1 سورة آل عمران الآية: 159.
ومن هذا القبيل جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه"1.
1 صحيح البخاري بشرح الفتح 10/403 كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه.
وصحيح مسلم 1/92 كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها.
5-
أسلوب القصة:
ومن أوسع أساليب القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد أسلوب القصة، وذلك لما للقصة من تأثير في النفوس البشرية، وسهولة في الحفظ والانتشار بين الناس.
ونكتفي هنا بإيراد مثال واحد في هذا الشأن: وهو ما ذكره الله تعالى لنا من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع قومه، وتحطيمه لأصنامهم، وذلك أنه لما حطم الأصنام وسألوه عليه السلام عن من فعل ذلك الفعل؟
أحالهم إلى أخذ الإجابة من معبوداتهم الهزيلة، ساخراً منهم ومتهكماً بهم، وعند ذلك رجعوا إلى أنفسهم يلوم بعضهم بعضاً.
وقد ذكرت هذه القصة في عديد من السور، كالشعراء، والصافات، والأنبياء، ومنها قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَاّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ
الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 1.
وفي هذا تقرير للتوحيد بأبلغ أسلوب، وأقوى حجة، ونفي للشرك بأوضح بيان، فضلاً عما فيه من تحقير للأصنام وسخرية بالغة بعبادها.
وذلك أن معبودات القوم قد حطمت وقوضت وسويت بالأرض، ولم تستطع أن تدافع عن نفسها، فكيف يرجون أنْ تدافع عنهم، أو أن تصيبهم بالخير، أو تمسهم بالشر والمكروه، وزيادة على ذلك فهي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم.
ومن عمل إبراهيم هذا نستفيد درساً في الشجاعة الإقدام والاستماتة من أجل إقرار التوحيد، وإزالة جميع المعبودات من دون الله تعالى، حيث وقف عليه السلام وجهاً لوجه أمام قومه الذين فشت فيهم عبادة الأصنام، يسفه معتقداتهم ويدعوهم بالحجة والبرهان إلى ترك عبادتها، ومع ذلك كان وحيداً لا يوجد من يقف إلى جانبه، حتى والده كان ضده، بل تهدده بالرجم والهجران، كما حكى الله قوله لابنه: {لَئِن لَّمْ
1 سورة الأنبياء الآيات: 57-67.
تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} 1.
ومع هذا لم ينثن إبراهيم عن قصده، ولم يدخله الوهن، بل شرع في تدمير معتقدات قومه، وزلزلة بنيان مقدساتهم بيده، وهذا الفعل أشد أثراً من مقاومة الباطل بالقول الذي لم يجد معهم نفعاً.
وعلى هذا العمل جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"2.
1 سورة مريم الآية: 46.
2 صحيح مسلم 1/69 كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.
6-
الدعوة إلى الاعتبار بالسابقين:
يلفت القرآن الكريم أنظار المخاطبين إلى مصير الأمم المكذبة، وما تلقوه من الضربات القاصمة جزاء تمردهم على أنبياء الله تعالى، ويرشدهم إلى النظر والتدبر في الديار التي يمرون عليه مصبحين وممسين، ليكون منها الدرس والعبرة والذكرى.
جاء ذلك في كثير من الآيات البينات في كتاب الله العظيم.
ففي أعقاب قصة نوح عليه السلام، وهلاك قومه المكذبين بالطوفان، ونجاته ومن آمن معه بالسفينة، قال تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} 1.
وبعد أن عرض لأخبار صالح ولوط عليهما السلام ومصير قومهما، قال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
1 سورة العنكبوت الآيات: 20-22.
عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} 1.
وبعد أن ذكر قصة يوسف عليه السلام، وموقف أخوته منه، قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 2.
ويقول بعد أنْ ذكر ما حدث بين فرعون وجنوده مع موسى وأخيه هارون عليهما السلام، وما حاق بآل فرعون من سوء العذاب:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3.
وبعد أن ذكر ما حدث بين الروم والفرس، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ
1 سورة النمل الآية: 69.
2 سورة يوسف الآية: 109.
3 سورة غافر الآية: 82.
لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 1.
وقال تعالى بعد أن أشار إلى هلاك القرون السابقة، لما ظلموا:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 2.
والآيات التي تحث على النظر والتأمل، والدراسة والاعتبار بمصير الأمم السابقة كثيرة منها قوله تعالى:{فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} 3.
قال ابن كثير: " أي فكروا في أنفسكم وانظروا ما أنزل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم من العذاب والنكال، والعقوبة في الدنيا مع ما ادخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نجى رسله وعباده المؤمنين"4.
وقال الفخر الرازي: " فإن قيل: ما الفرق بين قوله {فَانْظُرُواْ} وبين قوله: (ثم انظروا) ؟ قلنا: قوله: {فَانْظُرُواْ} يدل على أنه تعالى
1 سورة الروم الآية: 9.
2 سورة يونس الآية: 14.
3 سورة الأنعام الآية: 11.
4 تفسير ابن كثير 2/135.
جعل النظر سبباً عن السير، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين.
وأما قوله (سيروا في الأرض ثم انظروا) فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة، وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ثم نبه الله تعالى على هذا الفرق بكلمة (ثم) لتباعد ما بين الواجب والمباح، والله أعلم"1ا.?.
وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} 2.
يقول ابن جرير الطبري: " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: سيروا في البلاد فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم، وكذبوا رسله، كيف كان آخر أمرهم، وعاقبة تكذيبهم رسل الله وكفرهم، أنا أهلكناهم بعذاب منا، وجعلناهم عبرةً لمن بعدهم، يقول فعلنا ذلك بهم، لأن أكثرهم كانوا مشركين بالله مثلهم"3.
1 التفسير الكبير للفخر الرازي 12/163-164.
2 سورة الروم الآية: 42.
3 تفسير الطبري 21/51. بتصرف.
فهذه الآيات الكثيرة حينما تدعو إلى السير والنظر في ديار الأمم السابقة، ليس الغرض منها الدعوة إلى مجرد التنقل والسياحة والترويح عن النفس، وإنما القصد هو التأمل وأخذ الدروس والعبر والاتعاظ بسنن الله تعالى في الكون، حتى لا يقع اللاحقون فيما وقع فيه السابقون، والسعيد
1 سورة السجدة الآية: 26.
2 سورة فاطر الآية: 44.
3 سورة غافر الآية: 21.
من اتعظ بغيره وتعلم من أخطاء الآخرين، كما قال تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 1.
1 سورة ق الآيتان: 36-37.
7-
تذكير المشركين بالنعم وتحذيرهم من النقم:
ومن الأساليب التي اتبعها القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، والإقرار بوحدانية الله تعالى، تذكيرهم بالنعم وتحذيرهم من النقم.
أ-تذكيرهم بالنعم:
ففي مجال تذكيرهم بالنعم، ذكّرهم القرآن بأنواع من النعم الكثيرة، التي امتن الله بها عليهم، وعلى عباده، والتي لا يستطيع أحد من خلقه أنْ يأتي بشيء منها، جاء ذلك في كثير من السور والآيات العديدة من ذلك ما تحدثت به سورة النحل عن الكثير من النعم التي امتن الله بها على الناس، والسورة مكية، والمشركون في مكة هم أول من خوطبوا بذلك.
ومما جاء في هذه السورة قوله تعالى:
{وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ
يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1.
ومعنى الآيات أن الله تعالى فاوت بين خلقه في الأرزاق، فهذا غني وذاك فقير، وهذا مالك وذاك مملوك، وأن الأغنياء ليس بمشركين فيما رزقهم الله من الأموال حتى يستووا في ذلك مع عبيدهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني"2.
وعنه رواية أخرى: "فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم".
وأنكر الله تعالى إشراك غيره معه، وهو المتفضل على خلقه بجميع أنواع النعم، ومن ذلك أنّ من آياته خلق النساء من جنس الرجال، ليحصل الائتلاف والمودة والرحمة بينهم، وجعل من هؤلاء الزوجات الأولاد والحفدة، ورزقهم بأنواع الثمار والحبوب، أفمع هذه النعم التي من الله تعالى يؤمنون بالأوثان، ويكفرون بالله تعالى ويضيفونها إلى غيره ممن لا يقدر على إنزال المطر، ولا على إخراج الزرع أو الشجر؟!!
ومن الآيات التي ذكرهم الله تعالى فيها بأنواع كثيرة من النعم المناسبة لهم لعلهم يتدبرون، فيسلمون ويخلصون له العبادة، حتى ينجوا من
1 سورة النحل الآيات: 71-74.
2 تفسير ابن كثير 2/625.
عذابه، قوله تعالى:
إنها نعم تأخذ بوجدان الإنسان العاقل إلى الشعور بالطمأنينة والراحة والسكون، وإنَّ الشعور بها ليؤدي إلى الشعور بالاستسلام إلى خالقها، والمنعم بها وفاءً له، وشكراً على كرمه وجوده، واعترافاً له بالجميل، وإقراراً بأنه لا أحد يقدر على إيجاد هذه النعم سواه.
ومن تذكير الله تعالى لعبيده بالنّعم الكثيرة الدالة على ربوبيته ووحدانيته، ما جاء في قوله تعالى من سورة المؤمنون: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ
1 سورة النحل الآيات: 80-83.
جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} 1.
وذكر الله تعالى ما امتن به على كفار قريش من الأمن والطمأنينة، حيث جعل بلدهم مكة حرماً مصوناً من السلب والنهب، بينما الناس من حولهم يقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، فقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} 2.
ومن الآيات التي ذكر الله فيها بعض نعمه على خلقه، قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} 3.
1 سورة المؤمنون الآيات: 18-22.
2 سورة العنكبوت الآية: 67.
3 سورة لقمان الآية: 20.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين نعم الله العظيمة التي لا تعد ولا تحصى، كما قال تعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} 2.
ب-تحذيرهم من النقم:
وفي مجال تحذيرهم من النقم، فقد حذّر القرآن الكريم المشركين وتهددهم بالجوع والخوف والمنع والحرمان.
1 سورة عبس الآيات: 24-32.
2 سورة النحل الآية: 18.
3 سورة النحل الآية: 112.
فهذا المثل ضربه الله تعالى لأهل مكة، بقوم كانوا في أمن واستقرار وسعادة ونعيم، تأتيهم الخيرات والأرزاق بكثرة من كل الجهات، فأبطرتهم ولم يشكروا الله على ما آتاهم من خير، وما وهبهم من رزق، فعصوا الله وتمردوا، فبدّل اللهُ نعمته بنقمة، وسلبهم نعمة الأمن والاطمئنان، وأذاقهم آلام الجوع والخوف بسبب كفرهم ومعاصيهم.
قال الفخر الرازي: "وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، وبالغوا في إيذائه، فعذبهم الله بالقحط والجوع سبع سنين، حتى أكلوا الجيف والعظام"1.
والمراد بهؤلاء كما ذكر المفسرون: مشركو قريش الذين بدلوا نعمة الله عليهم بالكفر، فكذبوا نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وقاتلوه يوم
1 التفسير الكبير للفخر الرازي 20/128.
2 سورة إبراهيم الآيات: 28-30.
بدر، وعبدوا الأصنام ليضلوا الناس عن دين الله1.
وبهذا يتبين لنا أن القرآن الكريم ذكر المشركين بأنواع من النعم، لعلهم يشكرون، وحذرهم من عقابه لعلهم يرجعون، وتذكير المخاطبين بالنعم وتحذيرهم من العذاب والنقم يدعوهم إلى التفكر بعين البصيرة، لترك عبادة غير الله تعالى.
1 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 13/219 وما بعدها، وتفسير ابن كثير 2/581، والقرطبي 9/364.
8-
الشرك خرافات وأوهام:
أ-بيان ضعف الشركاء ومهانة الآلهة المدعاة:
ولم يقف القرآن الكريم في دعوته للمشركين عند إقامة الحجج والبراهين دون أن يبين لهم سخف ما هم عليه من عقيدة واهية، وما اتخذوه من دون الله تعالى من آلهة مزعومة، لا تخلق شيئاً، بل هي مخلوقة مصنوعة، ولا تنصر عابديها، بل لا تملك لأنفسها نصراً، ولا تدفع عنها ضراً، سواء كانت تلك المعبودات من البشر، أو من الحجر، أو من الكواكب، أو من الموتى، أو من غير ذلك.
ولقد حاور القرآن أصحاب تلك العقائد الساذجة، وتلك العقليات السخيفة، وخاطب عقولهم لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري، مهما كانت طفولته، وبين لهم أنَّ تلك المعبودات ضعيفة مهانة لا حول لها ولا قوة، وإنّها لا تستطيع أن تنصر أنفسها، فضلاً عن أن تنصر غيرها.
قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ
لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} 1.
ومن الآيات الواردة في عجز تلك الآلهة المزعومة وضعفها، وحقارتها، وقلة شأنها، وأنَّ الإله هو رب واحد لا شريك له، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
…
} 2.
وعن فقر تلك المعبودات واحتياجها إلى التقرب إلى الله، والتوسل إليه بالطاعة والعبادة، قال تعالى:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 3.
1 سورة الأعراف الآيات: 191-198.
2 سورة النحل الآيات: 20-22.
3 سورة الإسراء الآيتان: 56-57.
وهل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض قادرين على إحياء الموتى؟
كلا بل اتخذوا آلهة جمادة لا تتصف بالقدرة على شيء، قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1.
بل إنَّ هذه المعبودات التي عبدوها من دون الله تعالى لو اجتمعت كلها لما استطاعت خلق ذبابة صغيرة حقيرة، بل لو خطفت الذبابة شيئاً من حقير الطعام، وطارت به، لما استطاعوا إنقاذه وإرجاعه منها، رغم قلته وحقارته.
وقال تعالى: {
…
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن
1 سورة الأنبياء الآيتان: 21-22.
2 سورة الحج الآيتان: 73-74.
تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1.
ومما يبين حقارة تلك المعبودات وعجزها، ما ذكره الله في قصة إبراهيم عليه السلام مع الأصنام.
إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على ضعف تلك المعبودات، وعجزها، وأنها لا تستطيع أنْ تقدم لعابديها أو المتبركين بها، أو المتوسلين إليها أي خدمة مرجوة، لا كبيرة ولا صغيرة، وبالتالي يجب على المشركين أنْ يقلعوا عن عبادة تلك المعبودات الواهية والتقرب إليها، ويخلصوا العبادة لله تعالى وحده، الذي خلقهم وخلقها، والقادر على الإحياء والإماتة، والنفع والضر.
1 سورة فاطر الآيتان: 13-14.
2 سورة الصافات الآيات: 91-96.
ب- تسفيه وتهجين عقول المشركين:
لقد تحدث القرآن الكريم عن المشركين كثيراً، ووقف معهم طويلاً، وما ذلك إلاّ لتصفية النفوس البشرية من أدران الشرك، ورواسب الجهل، وطالما طالبهم بالرجوع إلى الفطرة، والتساؤل معها عن مظاهر الخلق والرزق والتدبير، والملك والحفظ والرعاية، لأن الفطرة السليمة لا تملك إلاّ الاعتراف بالربوبية لله سبحانه وتعالى، وما دامت الفطرة قد اعترفت بربها خالقها ورازقها، فما الذي يمنعها من الاعتراف بالإلهية الحقة، وما الذي يمنعها من أن توحده في ذاته وصفاته وأفعاله؟
إن القرآن الكريم يتوجه إلى مكنونات عقول المشركين، وإلى فطرهم السليمة، ويضع أيديهم على مفاتيح الحق، ويضيء لهم أنوار البصيرة.
إذ كيف يرضى عاقلٌ مدرك الوعي والشعور، أنْ يمرغ جبهته أمام حجر أصم، أو إنسان ضعيف عاجز، أو كوكب تسيره القدرة الإلهية، أو ميت هو في حاجة ماسة إلى عفو الله ورحمته وغفرانه؟
وكيف ينزل العقل الإنساني إلى هذا الدرك الأسفل من التخلف العقلي، مع اعترافه بأنَّ للوجود رباً خالقاً رازقاً؟ ويتوجه إلى هذا الخالق العظيم مباشرة؟ وهو القائل في محكم كتابه:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1.
لقد شنَّ القرآن الكريم حملةً عنيفةً على من يعترف بآلهة أخرى مع الله تعالى، أو يجعل له وساطات يتقربُ بها إليه، ويظهر القرآن فساد هذه الآلهة المدعاة وعجزها الشنيع، وفقرها البالغ، وحاجتها الماسة لمن يدبر أمرها ويقوم بحاجتها، فضلاً عن أن تعبد، أو تقدم لها الفروض والقربات!.
وقد تقدم معنا في مبحث ضعف الشركاء كثيراً من الآيات الدالة على عجز تلك الآلهة، وسخف عقلية عابديها، ونزيد هنا شيئاً مما قدمه القرآن العظيم من تسفيه وتهجين لعقليات أولئك العابدين مع الله غيره.
من ذلك ما ذكره الله تعالى، حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: {
…
أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 2.
وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ
1 سورة البقرة الآية: 186.
2 سورة الأنبياء الآيتان: 66-67.
وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} 1.
وقال تعالى عن قوم موسى عليه السلام الذين عبدوا العجل: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} 2.
وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} 4.
وعن ما وصل إليه المشركون من خطأ فادح، وضلال كبير واضح، يقول تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَاّ
1 سورة النحل الآية: 73.
2 سورة طه الآية: 89.
3 سورة الزمر الآية: 38.
4 سورة الأنبياء الآية: 43.
فِي ضَلَالٍ} 1.
ولفرط جهالتهم اتخذوا ما لا يملك لهم شيئاً أصلاً، شفعاء عند الله تعالى، قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} 4.
قال ابن كثير رحمه الله: "هذا ذم للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله -وهي الأصنام والأوثان التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم، بلا دليل
1 سورة الرعد الآية: 14.
2 سورة الأحقاف الآيتان: 5-6.
3 سورة الروم الآية: 40.
4 سورة الزمر الآية: 43.
ولا برهان، وهي لا تملك شيئاً من الأمر، وليس لها عقل تعقل به، ولا سمع تسمع به، ولا بصر تبصر به، بل هي جمادات أسوأ حالاً بكثير من الحيوانات"1.
وبين لهم القرآن الكريم أن عبادة غير الله ظلم وافتراء وكذب على رب العالمين.
وعن سذاجة عقول المشركين، وفعلهم مع الأصنام، يذكر ابن هشام وابن كثير: أن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله
1 تفسير ابن كثير 4/60 بتصرف يسير.
2 سورة العنكبوت الآية: 68.
3 سورة الصف الآيات: 7-9.
عنهما، وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها، ويتلفانها ويتخذانها حطباً للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ويرتأوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح -وكان سيداً في قومه- صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفاً ويقول له: انتصر، ثم يعدوان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضاً، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك، نظر فعلم أنَّ ما كان عليه من الدين باطل، وقال:
والله لو كنت إلهاً لم تكن
…
أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلهاً مستدن
…
الآن فتشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن
…
الواهب الرازق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن
…
أكون في ظلمة قبر مرتهن
بأحمد المهدي النبي المرتهن "1.
وقد اتخذت بنو حنيفة صنماً من حلوى، فعبدوه دهراً طويلاً، ثم أدركتهم مجاعة، فأكلوه، وفيهم يقول الشاعر:
1 انظر: سيرة ابن هشام 1/453، وتفسير ابن كثير 2/296.
أكلت بنو حنيفة ربها
…
زمن التقحم1 والمجاعة
لم يحذروا من ربهم
…
سوء العواقب والتباعة2
وقال بعض المشركين حين وجد الثعلبان قد بال على رأس صنمه:
إله يبولُ الثعلبانُ برأسه
…
لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالبُ3
ولهذه العقليات السخيفة، فقد سفه القرآن الكريم عقليات المشركين، واستهجن عبادتهم، لأنّ تلك المعبودات لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، ولهذا فقد بين القرآن أنّ عبادتهم تلك ظلم وافتراء، وكذلك على رب الأرباب، وإنَّ تلك العبادات ليس لها ما يبررها من دليل عقلي أو نقلي.
1 انظر: الدعوة إلى الله في سورة إبراهيم الخليل لمحمد بن سيدي الحبيب ص: 52.
2 التقحم: زمن الشدة والقحط. القاموس المحيط 4/161.
3 انظر: كتاب الحيوان للجاحظ 6/498 – دار صعب – بيروت، الطبعة الثانية 1398?. وتاج العروس للزبيدي 1/164، الطبعة الخيرية بمصر سنة 1306?، وكتاب الأصنام للكلبي ص:47.
9-
أضرار الشرك في الدنيا والآخرة:
أ- أضرار الشرك في الدنيا:
أما أضرار الشرك في الدنيا، فإنَّ الإسلام حينما يتصدى لمهاجمة الشرك ومحارته بجميع أشكاله وألوانه صغيره وكبيره، فإنَّ غايته من ذلك هو تحرير الإنسان من الخضوع والخنوع لأي مخلوق على ظهر هذه الأرض، لأن خضوع الإنسان للمتغير الذي يعتريه الفناء، معناه أنَّ الإنسان يصبح مضطرباً في التوجه والعبادة في حياته، ومضطرباً في غايته، وبالتالي فهو مضطرب في دوافع عمله وسلوكه.
فإذن فإن مهاجمة الإسلام للشرك، كانت لأجل أن يترفع الإنسان عن عبادة الناقص المتغير الفاني، إلى عبادة من له الدوام والاستقرار والكمال1.
إن الحياة التي يهيمن عليها الشرك، لهي حياة بهيمية، تعافها النفوس الزكية، وتأنفها الطبائع الإنسانية، فهذه المخلفات التي تتركها وراءها رواسب الشرك والوثنية، تعوق مسيرة الحياة، وتخالف السنن الكونية، تلك والله نتائج حرب الإبادة والتدمير لكافة القيم والمعاني الروحية
1 انظر: روح الدين الإسلامي لعفيف طباره ص: 96 بتصرف يسير.
والأصلية1.
إنَّ الإسلام حينما يبين فساد الشرك وبطلانه، وعدم الغفران لصاحبه إذا مات وهو مشرك، كما جاء ذلك في قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا} 2.
فما ذلك إلاّ لأنَّ الشرك بالإضافة إلى كونه تنقص لرب العالمين، وصرف العبادة لمن لا يستحقها من المخلوقين، فإنّه وليد الخرافة والجهل، لأنه يجلبُ من المساوئ للمجتمع ما لا يجلبه شيء آخر، فهو إلى جانب مناقضته للعقل والمنطق، فإنه يجعل الأذهان طيّعة لقبول الأوهام والخرافات والأساطير التي تهدم كيانه وتضعفه وتقف حاجزاً دون رُقيّه وازدهاره.
يقول الدكتور خليل هراس: "أعجبني كلمة لبعض الباحثين في هذا الصدد، أثبتها هنا بنصها، يقول: إنّ أكبر الكبائر الإشراك بالله تعالى، لأنّ الشرك ظلمات بعضها فوق بعض، وحجب متلاطمة لا يقرّ لها قرار، فهو يجعل الإنسان عبداً للمخلوق، وهو لا يعبد المخلوق إلاّ جلباً لفائدة أو
1 انظر: مصرع الشرك والخرافة للشيخ خالد محمد الحاج ص: 174 بتصرف يسير.
2 سورة النساء الآية: 116.
دفعاً لضرر، فهو في الواقع عبد لمصلحته، وبالتالي فهو عبد لنفسه، وعبادة النفس معناها أن الشّخص غير صالح ليكون عضواً عاملاً على الرقي بالجماعة الإنسانية، محققاً لسعادتها، بل هو على الضّد من ذلك يكون عدواً هادماً لأركانها، ساعياً في شقائها دون أن يدري
…
"1.
ب-أضرار الشرك في الآخرة:
أما أضرار الشرك في الآخرة فتتمثل فيما يلي:
1-
إحباط الأعمال.
2-
العذاب النفسي.
3-
الخلود في نار جهنم.
1-
إحباط الأعمال:
ولما كان الشرك بالله تعالى أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب والمعاصي، وأفظع المحرمات وأشنعها على الإطلاق، وأنَّ صاحبه خالد مخلد في النار إذا لم يتب إلى الله تعالى، ويمت على التوحيد، لذلك فإنَّ الله عز وجل لا يقبل عملاً من الأعمال مع الإشراك به، مهما كان حجم ذلك العمل.
قال تعالى بعد أن ذكر ثمانية عشر نبياً:
1 الدعوة إلى التوحيد ص: 75-76.
{وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1.
والمعنى لو فرض أنْ أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلو مكانتهم، وقدرهم عند الله تعالى، لبطل عملهم، فكيف بمن سواهم؟
وقد ذكر القرآن هذا تحذيراً من الشرك، مع أن الشرك محال أن يكون من الأنبياء.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير الآية: "يقول تعالى ذكره ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم بربهم تعالى ذكره، فعبدوا معه غيره، لحبط عنهم عملهم، أي: بطل، فذهب عنهم أجر أعمالهم التي كانوا يعملون، لأنّ الله لا يقبل مع الشرك به عملاً"2.
روى ابن عباس في هذه الآية: "أنَّ أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً، يقول: من عمل صالحاً التماس الدنيا،
1 سورة الأنعام الآية: 88.
2 تفسير ابن جرير الطبري 7/263.
3 سورة هود الآيتان: 15-16.
صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل، لا يعمله إلاّ التماس الدنيا، يقول الله تعالى:(أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وأحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين) ".
وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد.
وقال أنس بن مالك والحسن: نزلت في اليهود والنصارى، وقال مجاهد وغيره، نزلت في أهل الرياء، وقال قتادة: من كانت الدنيا همه ونيته، وطِلبته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاء.
وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة1.
وقال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} 2.
قال ابن جرير: "لئن أشركت بالله شيئاً يا محمد، ليبطلن عملك، ولا تنال به ثواباً، ولا تدرك جزاءً إلا جزاء من أشرك بالله،
…
ولتكونن
1 انظر: تفسير الطبري 12/11-12، وتفسير ابن كثير 2/471.
2 سورة الزمر الآيتان: 65-66.
من الهالكين بالإشراك بالله، إنّ أشركت به شيئاً"1.
وقال ابن الجوزي: "قال ابن عباس: هذا أدب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتهديد لغيره، لأن الله عز وجل قد عصمه من الشرك"2.
وقال غيره: إنّما خاطبه بذلك، ليعرف من دونه أنَّ الشرك يحبط الأعمال المتقدمة كلها، ولو وقع من نبي.
وقال أبو السعود: "والكلام وارد على طريقة الفرض، لتهييج الرسل، واقناط الكفرة، والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه"3.
ولقد جاءت الأحاديث النبوية تبين وتؤكد أنّ الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلاّ ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وأنَّ من أشرك بالله في شيء من أنواع العبادات، فعليه أنْ يطلب الأجر والثواب من غير الله تعالى، على وجه التحدي والتعجيز.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن
1 تفسير الطبري 24/24.
2 زاد المسير 7/195.
3 تفسير أبي السعود 7/262.
الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه" 1.
قال النووي: "ومعناه أنا غني عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيئاً لي ولغيري، لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير، والمراد أنَّ عمل المرائي باطل لا ثواب فيه، ويأثم به"2.
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يوم لا ريب فيه، ناد مناد من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإنَّ الله أغنى الشركاء عن الشرك"3.
وروى مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيره، فأنا منه بريء، وهو
1 صحيح مسلم 4/2289 كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله، حديث رقم:2985.
2 شرح النووي على مسلم 18/115-116.
3 رواه الترمذي 5/314 كتاب تفسير القرآن، رقم: 3154، وقال: هذا حديث حسن غريب.
وابن ماجه 2/1406 كتاب الزهد، رقم 4203، بإسناد حسن.
ومسند الإمام أحمد 3/466.
للذي أشرك" 1.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين أنّه لا يقبل عمل مع الشرك بالله، مهما كان حجم ذلك العمل.
2-
العذاب النفسي:
ويرشد القرآن الكريم هؤلاء المشركين الذين يتخذون من دون الله شركاء وأنداداً، ليمدوا بصائرهم إلى ذلك اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله الواحد الأحد، ليروا عند ذلك أن القوة لله جميعاً، فلا شركاء ولا أنداد مهما كان نوعها.
وأصبحت كلها عاجزة عن حماية أنفسها فضلاً عن حماية تابعيها، وعند ذلك يتبرأ المتبوعون من التابعين، وينشغل كل بنفسه، تابعاً أو متبوعاً من شدة هول العذاب الذي يقطع كل الأواصر والعلاقات، وكل وسائل القربى والمحبة.
وساعتها يعلم المشركون أنَّ الإله الذي يدبر عالم الآخرة، هو عين الإله الذي كان يدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين في الملجأ إلى سواه، وفي إشراك غيره معه، وأنَّ الضلال هو الذي هبط بعقولهم وأرواحهم، وكان منشأ عقابهم وعذابهم.
1 صحيح مسلم 4/2289 كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله رقم:46.
وسنن ابن ماجه 2/1505 كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة حديث رقم:4202.
وعن ما يقوله الله تعالى للمشركين المفترين عليه، المكذبين بآياته يوم القيامة، وما يقوله الأتباع للقادة والرؤساء منهم، وما يجيبونهم به:{قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَاّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} 2.
1 سورة البقرة الآيات: 165-167.
2 سورة الأعراف الآيتان: 38-39.
وقال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا
1 سورة سبأ الآيات: 31-33.
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 1.
ويذكر الله تعالى حال المشركين به في الدار الآخرة، وما يعانون هناك من العذاب الشديد، وما يحل بهم من الأمر الفظيع، وما يحصل لهم من الاضطراب النفسي الرهيب، حيث يختلقون الأعذار الواهية، ويستترون وراء الخيال والأوهام، ظانين أنها تغني عنهم شيئاً، فيزعمون أنّهم كانوا مؤمنين، كما يلقى بعضُهم التبعية على الآخرين، ويعلن البعضُ الآخر الكفر بما كانوا به مشركين، ويلتجئ آخرون منهم إلى الله قائلين، لو شاء اللهُ ما عبدنا من دونه من شيء، رغم طرق الهداية الكثيرة التي بينها الله لهم في الدنيا.
كل ذلك نتيجة للاضطرابات العصبية العنيفة التي تثيرها الحسرة والندامة، ولكن حين لا ينفع الندم، حين ينكشف الغطاء وتظهر الحقيقة التي لا مفرّ منها، فلا شركاء، ولا شفعاء، ولا أنداد ولا غيرهم، وأن جميع المتبوعين يتبرأون من التابعين.
عند ذلك يعلم المشركون أنّ القوة لله وحده، وأنه لا إله غيره، فلو تدبر هؤلاء المشركون واتعظوا بما سيحصل لهم من عذاب الله هناك، لانتهوا عما هم فيه من الشرك والضلال، ووحدّوا الله الذي لا إله غيره في الدنيا ولا في الآخرة.
1 سورة الصافات الآيات: 27-39.
هناك تتبرأ الملائكةُ من الذين يزعمون أنّهم يعبدونهم في الدنيا، فتقول الملائكة:{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} 1.
وتتبرأ الجن منهم كذلك، ويتنصلون من عبادتهم لهم، قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 3.
1 سورة القصص الآية: 63.
2 سورة سبأ الآيتان: 41-42.
3 سورة الأحقاف الآيتان: 5-6.
4 سورة إبراهيم الآية: 22.
قال الفخر الرازي: "قال المفسرون: إذا استقرّ أهلُ الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار، أخذ أهلُ النار في لوم إبليس وتقريعه، فيقوم في النار فيما بينهم خطيباً ويقول، ما أخبر الله عنه بقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} "1.
وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} 2.
وقال الخليل عليه السلام لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} 3.
وفي اليوم الآخر يسألُ اللهُ المشركين عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه. فيقول تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا
1 التفسير الكبير 19/110.
2 سورة مريم الآيتان: 81-82.
3 سورة العنكبوت الآية: 25.
مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} 1.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أما قوله: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّامُشْرِكِينَ} ، فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام فقالوا: تعالوا لنجحد {قَالوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلُهم {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} .2
وإن الكفار ليتمنون العودة إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملاً صالحاً، ويؤمنوا إيماناً صادقاً، حين يظهر لهم ما كانوا يخفونه في أنفسهم من
1 سورة الأنعام الآيات: 22-24.
2 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 7/168، تفسير ابن كثير 2/137، زاد المسير لابن الجوزي 3/17 الهامش.
3 سورة القصص الآيات: 62-64.
الكفر والمعاندة.
وأنهم يأتون يوم القيامة وحداناً ليس معهم شيء من الأنداد أو الأصنام أو الشفعاء الذين يزعمون أنهم يشفعون لهم، والذين ظنوا أنّهم شركاء في استحقاق العبادة. قال الله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} 2.
ويبين الله تعالى حالة المجادلين في آيات الله، المكذبين لرسله وما جاؤوا به، ما ينتظرهم من العذاب الشديد في الآخرة، وهناك يقول لهم على سبيل التبكيت والسخرية، أين معبوداتكم الذين كنتم تعبدونهم في الدنيا؟
1 سورة الأنعام الآيتان: 27-28.
2 سورة الأنعام الآية: 94.
ووقتها يضطرب المشركون في الجواب: فتارة يقولون: غابوا عنا فلا نراهم، وتارة يجحدون عبادتهم لها، ويقولون لم نكن نعبد شيئاً، وتارة يرجعون ذلك إلى مشيئة الله تعالى، ولكن ذلك التملص وتلك الأعذار لا تجديهم من عذاب الله وعقابه شيئاً.
وقال الله تعالى عنهم: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا
…
} 2.
1 سورة غافر الآيات: 69-76.
2 سورة غافر الآيتان: 84-85.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} 1.
إلى غير ذلك من الآيات التي تصف حال المشركين في الآخرة حين يتخلى عنهم الشفعاءُ والأنداد، وما يحصل لهم في ذلك اليوم الرهيب من ارتباك واضطراب نفسي عندما يواجهون مصيرهم إلى نار جهنم -نجّانا الله منها- وأنَّ أمراً هذا شأنه لجدير بالعناية والتأمل والخوف والحذر من الوقوع فيه.
3-
الخلود في نار جهنم:
ولعظم جريمة الشرك وكبر بشاعته وشناعته فقد بيّن القرآن الكريم أنّ الله تعالى لن يتسامح مع مرتكبي هذا الجرم الفظيع، وأنّ الشرك يقطع الصلة بين الله تعالى وبين العباد، فلا يبقى لهم معه أمل من المغفرة والرحمة إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون.
1 سورة فصلت الآية: 47.
2 سورة النحل الآية: 35.
ولا شكّ أنَّ الإنسان إذا لم تدله دلائل التوحيد المبثوثة في هذا الكون الكبير، وما جاء به الرسل الكرام من هداية البشرية، أنّ نفسه قد فسدت فساداً لا رجعة فيه، وأنه لم يبق في نفسه عنصر من عناصر الخير والصلاح، وأنّ فطرته التي فطره الله عليها قد انتكست وارتدت إلى أسفل سافلين، وبذلك فقد تهيأت بذاتها إلى حياة الخلود في دار الجحيم، والعياذ بالله.
والآيات التي تبين أنَّ المشرك إذا مات قبل أن يتوب إلى الله عز وجل توبة صادقة، فإنه يخلد في النار كثيرة، من ذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} 1.
قال الطبري: "وقد أبانت هذه الآية أنّ كلَّ صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليها، ما لم تكن كبيرته شركاً بالله"2.
وقال ابن الجوزي: "والمراد من الآية: لا يغفر الله لمشرك على
1 سورة النساء الآية: 48.
2 تفسير الطبري 5/126.
شركه، وفي قوله:{لِمَن يَشَاء} نعمة عظيمة من وجهين:
أحدهما: أنها تقتضي أن كلَّ ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب، وإنْ مات مصراً.
والثاني: أنّ تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع"1.
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ
1 زاد المسير 2/103-104.
2 سورة النساء الآية: 116.
3 سورة النساء الآيتان: 168-169.
عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 1.
ومعنى الآيات الكريمة، أي: أنَّكم أيها المشركون وما تعبدون من
1 سورة المائدة الآية: 72.
2 سورة الكهف الآيات: 100-106.
3 سورة الأنبياء الآيات: 98-100.
دون الله من الأوثان والأصنام، حطب جهنم ووقودها يوم القيامة، ولو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله تعالى آلهة صحيحة، لما وردوا النار ولما دخلوها، ولكن كُلاً من العبادين والمعبودين في نار جهنم خالدون مخلدون، وأنَّ لهؤلاء الكفرة في النار أصوات تخرج من قلوبهم المحزونة، ولكنهم مع هذا لا يسمعون من تلك الأصوات شيئاً، لأنهم يُحشرون صماً، كما قال تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} 1.
قال المراغي: " أي ونجمعهم في موقف الحساب بعد تفرقهم من القبور -عمياً وبكماً وصماً كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون، ولا ينطقون بالحق، ويتصامون عن استماعه، فهم في الآخرة لا يبصرون ما تقرّ به أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم، كما قال تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} 2"3.
وفي عدم سماع أهل النار، ذكر ابن جرير والسيوطي عن عبد الله
1 سورة الإسراء الآية: 97.
2 سورة الإسراء الآية: 72.
3 تفسير المراغي 15/98-99.
بن مسعود رضي الله عنه قال: "إذا ألقى في النار من يخلد فيها، جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابين في توابيت أخرى، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يرى أحدٌ منهم أنَّ في النار أحد يعذب غيره.."1.
وزاد ابن الجوزي قولين آخرين:
أحدهما: أنَّ السماع أنس، والله لا يحبُّ أنْ يؤنسهم.
والآخر: إنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم2.
وقال تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 3.
1 تفسير ابن جرير 17/95.
والدر المنثور 4/339، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن أبي الدنيا، في "صفة النار" والطبراني، والبيهقي في البعث.
2 زاد المسير 5/392.
3 سورة الشعراء الآية: 213.
4 سورة الزمر الآية: 8.
وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً، دخل النار"2.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لَقِيَ الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"3.
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، التي تبين المصير الأسود الذي ينتظر المشركين يوم القيامة، وهو الخلود الأبدي السرمدي في نار جهنم.
1 سورة بينة الآية: 6.
2 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/176 كتاب التفسير، باب {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً} .
وأحمد 1/374.
3 صحيح مسلم 1/94 كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار، حديث رقم: 152، وفي الباب أحاديث نحوه، انظر الآحاديث رثم: 150-151.
والحق أنَّ ذلك تقتضيه العدالة الإلهية بين البشر، بعد أن أوضح الله لهم سبل الهداية، وأرشدهم إلى طريق العبادة الصحيحة، إذ لا يستوي الموحدون والمشركون في ميزان الله تعالى، فالموحدون يستحقون الأجر والثواب على توحيدهم لربهم وإخلاصهم له في العبادة، والمشركون بالله يستحقون العذاب والنكال على شركهم وعصيانهم لله الذي خلقهم، واتباعهم طرق الغواية، وتنقصهم لرب العالمين.