المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: التعريف بهم - مواقف الطوائف من توحيد الأسماء والصفات

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: أهل السنة والجماعة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة

- ‌المطلب الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة

- ‌المطلب الثاني: بيان وسطيتهم

- ‌المبحث الثاني: موقفهم من توحيد الأسماء والصفات

- ‌المطلب الأول: موقفهم من توحيد الأسماء والصفات عموما

- ‌المطلب الثاني: موقفهم من باب الأسماء

- ‌المطلب الثالث: موقفهم من باب الصفات

- ‌الفصل الثاني: طوائف المعطلة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: الفلاسفة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات

- ‌المطلب الأول: التعريف بهم

- ‌المطلب الثانى: قولهم في توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني: أهل الكلام وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات

- ‌المطلب الأول: التعريف بهم

- ‌المطلب الثاني: مواقفهم من توحيد الأسماء والصفات

- ‌الفصل الثالث: المشبهة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول: من عرف بالتشبيه وبيان أقوالهم

- ‌المبحث الثاني: من نسب إلى التشبيه

- ‌المطلب الأول: الفرق بين التشبيه والتجسيم

- ‌المطلب الثاني: من نسب إلى التشبيه

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المطلب الأول: التعريف بهم

‌المبحث الثاني: أهل الكلام وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات

‌المطلب الأول: التعريف بهم

المطلب الأول: التعريف بهم

وأما أهل الكلام فقد شاركوا الفلاسفة في بعض أصولهم، وأخذوا عنهم القواعد المنطقية والمناهج الكلامية، وتأثروا بها إلى درجة كبيرة. وسلكوا في تقرير مسائل الاعتقاد المسلك العقلاني على حد زعمهم، وهم وإن كانوا يخالفون الفلاسفة في قولهم: إن هذه الحقائق مجرد وهم وخيال، إلا أنهم شاركوهم في تشويه كثير من الحقائق الغيبية، فلا تجد في كتب أهل الكلام على اختلاف طوائفهم تقريرا لمسائل الاعتقاد كما جاءت بها النصوص الصحيحة، فبدل أن تسمع أو تقرأ قال الله أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم أو قال الصحابة، فإنك لا تجد في كتبهم إلا قال الفضلاء، قال العقلاء، قال الحكماء، ويعنون بهم فلاسفة اليونان من الوثنيين، فكيف جاز لهم ترك كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والأخذ بكلام من لا يعرف الله ولا يؤمن برسوله. والمطلع على كتب أهل الكلام يدرك عظم الضرر الذي جنته على الأمة المسلمة، إذ تسببت تلك الكتب في حجب الناس عن المعرفة الصحيحة لله ورسوله ولدينه، وجعل بدل ذلك مقالات التعطيل والتجهيل والتخييل. وأهل الكلام ليسوا صنفا واحدا بل هم عدة أصناف، وأشهرهم:

1-

الجهمية، 2- المعتزلة، 3- الكلابية، 4- الأشاعرة، 5- الماتريدية. وهذه الأصناف الخمسة كل له قوله ورأيه بحسب الشبه العقلية التي استند إليها.

أولا: الجهمية، وهم أتباع جهم بن صفوان الذي أخذ عن الجعد بن درهم

ص: 85

مقالة التعطيل عندما التقى به بالكوفة11، وقد نشر الجهم مقالة التعطيل وامتاز عن شيخه الجعد بمزية المغالاة في النفي وكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه نظرا لما كان عليه من سلاطة اللسان وكثرة الجدال والمراء.

من أشهر معتقداتهم:

1-

إنكارهم لجميع الأسماء والصفات كما سيأتي تفصيله.

2-

إنهم في باب الإيمان مرجئة، يقولون: إن الإيمان يكفي فيه مجرد المعرفة القلبية، وهذا شر أقوال المرجئة.

3-

إنهم في باب القدر جبرية، ينكرون قدرة العبد واختياره في فعله. 4- ينكرون رؤية الخلق لله يوم القيامة.

5-

يقولون: إن القرآن مخلوق.

6-

يقولون بفناء الجنة والنار.

إلى غير ذلك من المعتقدات الباطلة التي قال بها الجهمية.

ثانيا: المعتزلة، وهم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وهم فرق كثيرة يجمعها ما يسمونه بأصولهم الخمسة وهي:

1-

التوحيد، 2- العدل، 3- الوعد والوعيد، 4- المنزلة بين المنزلتين، 5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والاعتزال في حقيقته يحمل خليطا من الآراء الباطلة التي كانت موجودة في ذلك العصر، فقد جمع المعتزلة يين أفكار الجهمية، والقدرية، والخوارج والرافضة.

1 مختصر تاريخ دمشق (5016) ، والبداية (35019) .

ص: 86

فقد شاركوا الجهمية في بعض أصولهم، فوافقوهم في إنكار الصفات فزعموا أن ذات الله لا تقوم به صفة ولا فعل، كما سيأتي تفصيله. وقالوا بإنكار رؤية الله يوم القيامة وقالوا: إن القرآن مخلوق إلى غير ذلك.

كما شاركوا القدرية في إنكارهم لقدرة الله في أفعال العباد، وأخذوا عنهم القول بأن العباد يخلقون أفعالهم.

كما شاركوا الخوارج في مسألة الإيمان، وقالوا بقولهم إن الإيمان قول واعتقاد، وعمل، لا يزيد ولا ينقص، وانه إذا ذهب بعضه زال الإيمان. وبناء على ذلك شاركوهم في مسألة مرتكب الكبيرة، فالمعتزلة وإن قالوا بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، لكنهم وافقوا الخوارج في قولهم بأن مرتكب الكبيرة في الآخرة خالد مخلد في النار.

وأخذوا كذلك عن الخوارج رأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما أنهم شاركوا الروافض في الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من كلام واصل بن عطاء في أهل صفين قوله:" إن كليهما فاسق لا بعين" وقوله عن علي ومعاوية رضي الله عنهما: (لو أن كليهما جاء عندي يشهد على حزمة بقل ما قبلت شهادتهما"، وأواخر المعتزلة كانوا أقرب إلى التشيع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقدماء الشيعة كانوا مخالفين للمعتزلة بذلك (يعني مسائل الصفات والقدر) ، فأما متأخروهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك، فإنهم سار فيهم أن يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم، والمعتزلة شيوخ هؤلاء إلى ما يوجد في كلام ابن النعمان المفيد وصاحبيه أبي جعفر الطوسي، والملقب بالمرتضى ونحوهم هو من كلام المعتزلة، وصار حينئذ في المعتزلة من يميل إلى نوع من التشيع إما تسوية علي

ص: 87

بالخليفتين، وإما تفضيله عليهما، وإما الطعن في عثمان، وإن كانا المعتزلة لم تختلف في إمامة أبي بكر وعمر. وقدماء المعتزلة كعمرو بن عبيد وذويه كانوا منحرفين عن علي حتى كانوا يقولون: لو شهد هو وواحد من مقاتليه شهادة لم نقبلها، لأنه قد فسق أحدهما لا بعينه. فهذا الذي عليه متأخروا الشيعة والمعتزلة خلاف ما عليه أئمة الطائفتين وقدماؤهم "1

كما أخذوا عن الشيعة الرافضة أكثر آرائهم الخاصة بالإمامة.

وعلى هذا فأفكار المعتزلة إنما هي خليط من آراء الفرق المخالفة في عصرهم. وأفكار المعتزلة يحملها اليوم كل من: الرافضة الإمامية، والزيدية والإباضية، وكذلك من يسمون بالعقلانيين.

ثالثا: متكلمة الصفاتية (الكلابية- الأشاعرة- الماتريدية) .

1-

الكلابية، وهم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان2 (ت 243هـ) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين: فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.

والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.

فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري وغيرهما.

1 نقض تأسيس الجهمية (1/ 54- 55) .

(2)

مجموع الفتاوى (5/ 555) .

ص: 88

وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث: إنه راجع عن قوله1. فهذا النهج الذي أحدثه ابن كلاب هو ما صار يعرف فيما بعد بمنهج متكلمة الصفاتية لأن ابن كلاب كان في طريقته يميل إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن كان في طريقته نوع فن البدعة، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله، ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته.

وقد كانا له جهود في الرد على الجهمية2 ولكنه ناظرهم بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولا هم واضعوها من امتناع تكلمه تعالى بالحروف، وامتناع قيام الصفات الاختيارية بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك3 فأصبح بعد ذلك قدوة وإماما لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها، لكن شاركوهم في بعض أصولهم الفاسدة التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول"4

فابن كلاب أحدث مذهبا جديدا، فيه ما يوافق السلف وفيه ما يوافق المعتزلة والجهمية. وبذلك يكون قد أسس مدرسة ثالثة وهي مدرسة " الصفاتية " التي اشتهرت بمذهب الإثبات، لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية5

1 درء تعارض العقل والنقل (2/1)

2 مجموع الفتاوى (12/366) .

3 مجموع الفتاوى (12/ 376) .

4 مجموع الفتاوى (12/366)

5 مجموع الفتاوى (12/206) .

ص: 89

وقد سار على هذا النهج القلانسي، والأشعري، والمحاسبي، وغيرهم وهؤلاء هم سلف الأشعري والأشاعرة القدماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقته هو وأئمة أصحابه، كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، وأبي سليمان الدمشقي، وأبي حاتم البستي"1

فابن كلاب هو إمام الأشعرية الأول، وكان أكئر مخالفة للجهمية، وأقرب إلى السلف من الأشعري2

ولكن هذا النهج الكلابي ابتعد شيئا فشيئا عن منهج السلف، وأصبح يقرب أكثر فاكثر إلى نهج المعتزلة وذلك على يد وارثيه من الأشاعرة.

فابن كلاب كما أسلفنا كان أقرب إلى السلف من أبي الحسن الأشعري وأبو الحسن الأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبي المعالي الجويني وأتباعه3 ولهذا يوجد في كلام الرازي والغزالي ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي الجويني وذويه، ويوجد في كلام الرازي والغزالي والجويني من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في

1 منهاج السنة (2/327)

2 مجموع الفتاوى (12/252،253) .

3 مجموع الفتاوى (12/203) .

ص: 90

كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه، ويوجد في كلام أبي الحسن الأشعري من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقه. ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة. وإذا كان الغلط شبرا صار في الأتباع ذراعا ثم باعا حتى آل إلى هذا المآل والسعيد من لزم السنة1

وقد تلاشت الكلابية كفرقة، لكن أفكارها حملت بواسطة الأشاعرة، فقد احتفظ الأشعري وقدماء أصحابه بأفكار الكلابية ونشروها، وبذلك اندرست المدرسة الكلابية الأقدم تاريخا والأسبق ظهورا في الأشعرية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والكلابية هم مشايخ الأشعرية، فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب، وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمنا وطريقة. وقد جمع أبو بكر بن فورك (ت406هـ) كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول " 2

فالكلابية أسبق في الظهور من الأشاعرة والماتريدية، فقد نشأت الكلابية في منتصف القرن الثالث، وهي أول الفرق الكلامية بعد الجهمية والمعتزلة، فقد توفي ابن كلاب سنة (243هـ)، وفي أول القرن الرابع الهجري نشأت بقية فرق أهل الكلام وهم الأشاعرة المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة (324هـ) والماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي المتوفى سنة (333هـ) وهي الفرق القائمة حتى زماننا هذا.

2-

الأشعرية:

يعد أبو الحسن الأشعري امتدادا للمذهب الكلابي فأبو الحسن الأشعري الذي عاش في الفترة ما بين (260هـ- 324هـ) كان معتزليا إلى سن الأربعين، حيث عاش في بيت أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في البصرة، ثم

1 بغية المرتاد (ص 451)

2 الاستقامة (1/ 105) .

ص: 91

رجع عن مذهب المعتزلة وسلك طريقة ابن كلاب وتأثر بها مدة طويلة، ولعل السبب في ذلك أنه وجد في كتب ابن كلاب وكلامه بغيته من الرد على المعتزلة وإظهار فضائحهم وهتك أستارهم، وكان ابن كلاب قد صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم. ولكن فات الأشعري أن ابن كلاب وإن رد على المعتزلة وكشف باطلهم وأثبت لله تعالى الصفات اللازمة لكنه وافقهم في إنكار الصفات الاختيارية التي تتعلق بمشيئته تعالى وقدرته فنفى كمالا المعتزلة أن الله يتكلم بمضيئته وقدرته. كما نفى أيضا الصفات الاختيارية مثل الرضى، والغضب، والبغض، والسخط وغيرها.

وقد مضى الأشعري في هذا الطور نشيطا يؤلف ويناظر ويلقي الدروس في الرد على المعتزلة سالكا هذه الطريقة.

ثم التقى بزكريا بن يحي الساجي فأخذ عنه ما أخذ من أصول أهل السنة والحديث1 (1) ، وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها2 ثم لما قدم بغداد أخذ من حنبلية بغداد أمورا أخرى وذلك بآخر أمره.

ولكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك3

1 مجموع الفتاوى (5/ 386) تذكرة الحفاظ (2/ 7 0 9)

2 العلو (ص 150) ، تذكرة الحفاظ (2/ 907) .

3 مجموع الفتاوى (12/ 204) .

ص: 92

وقال عنه السجزي: " رجع في الفروع وثبت في الأصول"1 أي أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الأعراض وغيره2

وقال ابن تيمية: "أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري، وأبو الحسن الأشعري كانا يخالفان المعتزلة ويوافقان أهل السنة في جمل أصول السنة. ولكن لتقصيرهما في علم السنة وتسليمهما للمعتزلة أصولا فاسدة صار في مواضع من قوليهما مواضع فيها من قول المعتزلة ما خالفا به السنة وإن كانا لم يوافقا المعتزلة مطلقا "3

وقال أيضا: " والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام، وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشأها ويختارها، وأمثال ذلك"4 وقد مرت الأشعرية بأطوار ومراحل كان أولها زيادة المادة الكلامية ثم الجنوح الكبير للمادة الاعتزالية، ثم خلط هذه العقيدة بالمادة الفلسفية. " فالأشعرية المتأخرة مالوا إلى نوع من التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة الصحابة"5

فقدماء الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية بالجملة، كأبي الحسن الأشعري وأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي والقاضي أبي بكر الباقلاني

1 الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 168)

2موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 367)

3الاستقامة (1/ 212) .

4درء تعارض العقل والنقل (7/ 97) .

5المصدر السابق.

ص: 93

وأبي إسحاق الاسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء1 (1) . لكن المتأخرين من أتباع أبي الحسن الأشعري كأبي المعالي الجويني وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية، وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما.

ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله تعالى.

وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه. فهؤلاء يقولون تأويلها بما يقتضي نفيها تأويل باطل، فلا يكتفون بالتفويض بل يطلون تأويلات النفاة2 (2) . وهذا الاضطراب في العقيدة الأشعرية بين المتقدمين والمتأخرين سببه ما أسلفنا من ميل الأشاعرة بأشعريتهم إلى الاعتزال أكثر فأكثر بل إنهم خلطوا معها الفلسفة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالأشعرية وافق بعضهم المعتزلة في الصفات الخبرية، وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية، وأما الصفات القرآنية فلهم قولان:

فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها، وبعضها يقر ببعضها، وفيهم تجهم من جهة أخرى.

فإن الأشعري شرب كلام الجبائي شيخ المعتزلة، ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم.

1مجموع الفتاوى (4 1 47 1، 48 1)

2منهاج السنة (2/ 223، 224) .

ص: 94

وابن الباقلاني أكثر إثباثا بعد الأشعري، وبعد ابن الباقلاني ابن فورك، فإنه أثبت بعض ما في القرآن.

وأما الجويني ومن سلك طريقته فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن أبا المعالي كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثر فيه مجموع الأمرين1

فما إن جاء أبو بكر الباقلاني (ت 403هـ) ، فتصدى للإمامة في تلك الطريقة وهذبها ووضع لها المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية من حيث وجوب الإيمان بها2 وأسهم إلى حد كبير في تنظير المذهب الأشعري الكلامي وتنظيمه مما أدى إلى تشابه منهجي يين المذهب الأشعري والمذهب المعتزلي فقد كان الأشعري يجعل النص هو الأساس والعقل عنده تابع، أما الباقلاني فالعقيدة كلها بجميع مسائلها تدخل في نطاق العقل3 ويعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري4

ثم جاء بط بعده إمام الحرمين الجويني (ت 478هـ) فاستخدم الأقيسة المنطقية في تأكد هذه العقيدة، وخالف الباقلاني في كثير من القواعد التي وضعها. وإن كان الجويني قد استفاد أكثر مادته الكلامية من كلام الباقلاني، لكنه مزج أشعريته بشيء من الاعتزال استمده من كلام أبي هاشم الجبائي المعتزلي

1منهاج السنة (2/ 223، 224) .

2مقدمة ابن خلدون (ص 465)، ط: مصرى محمد.

3مقدمة التمهيد للباقلاني (ص 15) ، بتحقيق الخضيري وأبو ريدة.

4نشأة الأشعرية وتطررها (ص 320) .

ص: 95

على مختارات له، وبذلك خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة.

وأما كلام أبي الحسن الأشعري فلم يكن يستمد منه، وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس1 وعلى طريقة الجويني اعتمد المتأخرون من الأشاعرة، كالغزالي (ت 505هـ) وابن الخطب الرازي (ت 606هـ) وخلطوا مع المادة الاعتزالية التي أدخلها الجويني مادة فلسفية، وبذلك ازدادت الأشعرية بعدا وانحرافا.

فالغزالي مادته الكلامية من كلام شيخه الجويني في "الإرشاد" و "الشامل" ونحوهما مضموما إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني. ومادته الفلسفية من كلام ابن سينا، ولهذا يقال أبو حامد أمرضه الشفا، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك. وأما الرازي فمادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي، وله مادة اعتزالية قوية من كلام أبي الحسين البصري (ت 436هـ) . وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني ونحوهما2 والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام وجبرية في باب القدر، وأما الصفات فليسوا جهمية محضة بل فيهم نوع من التجهم، ولا يرون الخروج على الأئمة بالسيف موافقة لأهل الحديث وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى أهل السنة والحديث3.

1بغية المرتاد (ص 448، 451) ، بتصرف.

2بغية المرتاد (ص 448) ، بتصرف.

3مجموع الفتاوى (6/ 55) .

ص: 96

والأشاعرة يخالفون أهل السنة في الكثير من مسائل الاعتقاد ومنها على سبيل المثال:

1-

أن مصدر التلقي عندهم في قضايا الإلهيات (أي التوحيد) والنبوات هو العقل وحده، فهم يقسمون أبواب العقيدة إلى ثلاثة أبواب: إلهيات نبوات، سمعيات، ويقصدون بالسمعيات ما يتعلق بمسائل اليوم الآخر من البعث والحشر والجنة والنار وغير ذلك وسموها سمعيات لأن مصدرها عندهم النصوص الشرعية وأما ما عداها أي الإلهيات والنبوات فمصدرهم فيها العقل. 2- زعمهم أن الإيمان هو مجرد التصديق، فأخرجوا العمل من مسمى الإيمان. 3- بناء على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا توحيد الألوهية من تقسيمهم للتوحيد، فالتوحيد عندهم هو أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا نطر له. وهذا التعريف خلا من الإشارة إلى توحيد الألوهية، فلذلك فإن أي مجتمع أشعري تجد فيه توحيد الإلهية مختلا، وسوق الشرك والبدعة رائجة لأن الناس لم يعلموا أن الله واحد في عبادته لا شريك له.

4-

وبناء- كذلك- على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا الإتباع من تعريفهم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فحصروا الإيمان بالنبي في الأمور التصديقية فقط، ومن أجل ذلك انتشرت البدع في المجتمعات الأشعرية.

5-

خالفوا أهل السنة في أسماء الله وصفاته وهذا سيأتي بيانه.

6-

خالفوا أهل السنة في باب القدر، فقولهم موافق لقول الجبرية.

7-

خالفوا أهل السنة في مسألة رؤية الله من جهة كونهم يقولون يرى لا في مكان.

ص: 97

8-

خالفوا أهل السنة في مسألة الكلام، فهم لا يثبتون صفة الكلام على حقيقتها بل يقولون بالكلام النفسي.

إلى غير ذلك من أنواع المخالفات.

3-

الماتريدية:

تعد الماتريدية شقيقة الأشعرية، وذلك لمابينهما من الائتلاف والاتفاق حتى لكأنهما فرقة واحدة، ويصعب التفريق منهما. ولذلك يصرح كل من الأشاعرة والماتريدية بأن كلا من أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي هما إماما أهل السنة على حد تعبيرهم1

ولعل هذا التوافق مع كونه يرجع إلى سبب رئيس هو توافق أفكار الفرقتين وقلة المسائل الخلافية بينهما خاصة مع الأشعرية المتأخرة، هناك أسباب مهمة يرجع إليها يجب اعتبارها وأخذها في الحسبان ولعل أهمها التزامن في نشأة الفرقتين مع كون كل فرقة استقلت بأماكن نفوذ لم تنازعها فيها الفرقة الأخرى. فالماتريدية انتصرت بين الأحناف الذين كانوا متواجدين في شرق العالم الإسلامي وشماله فقل أن تجد حنفيا على عقيدة الأشاعرة إلا ما ذكر من أن أبا جعفر السمناني- وهو حنفي- كان أشعريا.

بينما نجد الأشعرية قد انتصرت بين الشافعية والمالكية وهم اليوم يتواجدون في وسط وغرب وجنوب وجنوب شرق العالم الإسلامي، فجل الشافعية والمالكية على الأشعرية.

والماتريدية تنسب إلى أبي منصور محمد بن محمد بن محمود بن محمد

1 مفتاح السعادة (2/ 151، 152) . تأليف: طاش كبرى زاده.

ص: 98

الماتريدي المتوفى سنة (333هـ) 1 كان معدودا في فقهاء الحنفية، وكان صاحب جدل وكلام ولم يكن له دراية بالسنن والآثار2 (2) ، وقد نهج منهجا كلاميا في تقرير العقيدة يشابه إلى حد كبير منهج متأخري الأشاعرة، وعداده في أهل الكلام من الصفاتية من أمثال ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأمثالهما. وقد تابع الماتريدي ابن كلاب في مسائل متعددة من مسائل الصفات وما يتعلق بها3.

ومن المعلوم أن الأحناف وأهل المشرق عموما كانوا من أسبق الناس تأثرا بعلم الكلام، فقد كانت بداية الجهم من تلك الجهات، وفي هذا يقول الإمام أحمد في معرض كلامه عن الجهم:"وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة"4

فبشر بن غياث المريسي (228هـ) والقاضي أحمد بن أبي دؤاد (245هـ) وغيرهما كانوا من الأحناف، فلا غرابة أن يكون الماتريدي الحنفي من أولئك الذين ناصروا علم الكلام وسعوا في تأسيسه وتقعيده، إلى أن أصبح علما من أعلامه وصاحب إحدى مدارس الكلام التي صارت فيما بعد تعرف باسمه. فالماتريدي لا يبعد كثيرا عن أبي الحسن الأشعري (في طوره الثاني) فهو خصم لدود للمعتزلة، إلا أنه كان متأثرا بالمنهج الكلامي على طريقة ابن

1 انظر ترجمته في كتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات (1/ 209) للدكتور شمس الدنى الأفغاني.

2 العقيدة السلفية في كلام رب البرية (ص 279) تأليف: عبد الله بن يوسف

3 مجموع الفتاوى (7/ 433) ، كتاب الإيمان (ص 4 1 4) ، منهاج السنة (2/ 362) .

4 الرد على الجهمية (ص 103- 105) .

ص: 99

كلاب من الاعتماد على المناهج الكلامية في تقرير المسائل الاعتقادية شأنه في ذلك شأن أبي الحسن الأشعري، فكلاهما يعد امتدادا لمدرسة ابن كلاب التي عرفت كمدرسة ثالثة بعد أن كان الخلاف دائرا يين أهل السنة والجماعة من جهة، والجهمية والمعتزلة من جهة أخرى، فجاء ابن كلاب وأحدث منهجا ثالثا حاول فيه التلفيق بين النصوص الشرعية والمناهج الكلامية كما سبق الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن الكلابية.

فالمذهب الكلابي كان له وجوده في العراق والري وخراسان وكان له انتشار في بلاد ما وراء النهر التي كادت تغص بمختلف الطوائف والفرق1.

ولم تتعرض الماتريدية للتطور الذي حصل على العقيدة الأشعرية والذي سبق بيانه في الحديث عن الأشعرية فالماتريدية بقيت على ما كانت عليه.

1انظر أحسن التقاسيم للمقدسي (ص 323) .

ص: 100