المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير آيات من سورة الأنفال - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - جـ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌تفسير آيات من سورة الأنفال

‌تَفْسِيرُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الأَنْفَالِ

ص: 395

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 24 - 26].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} :

وصف المخاطبين بالإيمان، وأورد الخطاب في صيغة النداء، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ؛ ليقوي داعيتهم إلى امتثال ما أمرهم به بعد، فإنَّ وصفهم بالإيمان إيذان بأن فيهم ما يبعث على حسن الطاعة، وهو الإيمان الذين يستدعي إجلال الأمر، وخوف مقامه، أو رجاء أنعامه، وصيغة النداء تجعلهم كأنهم في حضرة رب العالمين، وهو يسمعهم شهادته لهم بالإيمان، ويدلهم على ما فيه حياة العزة والكرامة.

وقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا} أمر من الاستجابة، وهي الإجابة والامتثال، وطاعة الرسول هي طاعة الله؛ كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ

(1) مجلهَ "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الحادي عشر.

ص: 397

اللَّهَ} [النساء: 80]، ولكنه أمر بها بعد الأمر بطاعة الله؛ للدلالة على وجوب طاعة الرسول فيما جاء به مما ليس في القرآن المجيد، وأكد هذا الأمر بإعادة حرف الجر مع حرف العطف، فقال:{وَلِلرَّسُولِ} ، مع صحة أن يقال:"والرسول".

والأمر بالاستجابة لله وللرسول يقتضي أن يقال: (إذا دعواكم) مسنداً إلى ضمير الاثنين، وإنما أفرد الضمير، فقال:{إِذَا دَعَاكُمْ} ؛ تنبيهاً على أن دعوة الرسول هي دعوة الله، فإسناد الدعوة إلى الرسول يغني عن إسنادها إلى الله، وإنما قلنا: إن الضمير في قوله: {دَعَاكُمْ} عائد إلى الرسول؛ لأن الرسول هو المباشر للدعوة، ولأنه أقرب مذكور في نظم الآية.

وهذه الآية إحدى الشواهد الناطقة بأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم أحد طرق التشريع، وأنه كالكتاب في العمل بما يتضمنه من الأوامر والنواهي. وقد ضل قوم السبيل، فزعموا أن التشريع مقصور على القرآن الكريم، واطرحوا الأحاديث، وأملت عليهم الزندقة حديث:"ما أتاكم عني، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله، فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله، لم أقله". قال يحيى بن معين: هذا الحديث وضعته الزنادقة، وقد عارض بعض أهل العلم هذا الحديث المصنوع بيد الزندقة، فقالوا: نحن عرضنا هذا الحديث على كتاب الله، فوجدناه مخالفاً لكتاب الله؛ إذ وجدنا كتاب الله يأمر بطاعة الرسول، ويحذر من المخالفة عن أمره في كل حال.

وقوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} يتعلق بقوله: {دَعَاكُمْ} ، والمعنى: أجيبوا الله والرسول إذا دعاكم الرسول لما يحييكم الحياة الطيبة في دنياكم وآخرتكم، وهي الطاعات، ولا ريب أن امتثال أوامر الدين واجتناب نواهيه،

ص: 398

يورثان الحياة الطيبة في الأولى والآخرة، ومما يحيى المؤمنين الحياة الطيبة: جهاد العدو المحارب، ذلك أن العدو إذا استولى على الأمة، قبض على زمام أمرها بيد غاشمة، وأقام بينها وبين القوة والعزة حواجز، فلا تعيش إلا في ضعف وذلة ونكد من العيش، وقتال العدو يدفع عنها هذه الكارثة، ويمكنها من أن تفوز بسلامة أعراضها وأموالها، وتتمتع بالحرية في إدارة شؤونها، وابتغاء وسائل رفعتها، وإقامة شعائر دينها، والتقاضي إلى أحكام شريعتها، وذلك عين الحياة الطيبة في الدنيا، ووسيلة الحياة الطيبة في الأخرى.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} :

يحول: يحجز، والمعنى: أن الله يحول بين المرء ومقاصده؛ أي: إنه قد يفعل ذلك، وقال:{بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} مكان بين المرء ومقاصده؛ لأن القدرة على الحيلولة بين المرء وقلبه تستلزم القدرة على الحيلولة بين المرء وكل مقصد يحضر قلبه، ويعقد عليه عزمه، وكذلك نرى المرء قد يريد خيراً أو شراً، ثم ينصرف عنه، نراه قد أراد خيراً، فيغضب، ويدفعه الغضب إلى أن يريد شراً، ونراه قد عزم على شر، فيرى حجة، أو يسمع موعظة، فيعود إلى إرادة الخير.

فالآية تشعر المخاطبين بأنهم لا يملكون تنفيذ ما عزموا عليه إلا أن يأذن به الله، فإذا استجابوا لله وللرسول، فليس من حقهم أن ينسبوا الطاعة إلى أنفسهم كأنهم استقلوا بها من بدايتها إلى نهايتها، بل واجبهم أن يذكروا عند القيام بالطاعة فضل الله عليهم؛ إذ وفقهم لها، ولم يحل بينهم وبينها. أمرهم أن يعلموا أنه يملك قلوبهم التي هي مواطن إرادتهم، ثم أمرهم أن يعلموا أن مصيرهم إليه، فقال تعالى:

ص: 399

{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} :

أي: تبعثون، وفي هذا إعلام بأن أمرهم في كلتا الحياتين بيده، فلا يعملون في الدنيا عملاً إلا بإذنه، ولا يجزيهم على أعمالهم في الآخرة إلا هو.

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} :

الفتنة في أصل وضعها: الامتحان والاختبار، ووردت بمعنى: الكفر، والضلال، والمعصية، والعذاب، ويصح أن تفسر الفتنة في الآية بالمعصية. وإصابتها للظالمين وغيرهم، بمعنى: إصابة أثرها لهم، وهو ما تجره في الدنيا من شقاء وعذاب.

والفتنة التي يعم وبالها مرتكبيها وغيرهم: ما كان من نحو إقرار المنكر، وتفرق الكلمة وإهمال التعليم الديني والقعود عن دفاع العدو، فإن شؤم عاقبة هذه المعاصي لا يخص الذين ظلموا، وهم المقرّون للمنكر، والعاملون لا نفصام عرا الاتحاد، والمهملون للتربية الدينية، والقاعدون عن الجهاد تكاسلاً، بل يتعداهم إلى غيرهم من نحو الأطفال والمستضعفين من الرجال والنساء، وهذه المعاصي تُسقط الأمم من عليائها، بل هي الطعنات النافذة في مقاتلها، فإقرار المنكر سبب كثرة الفسوق وانتشاره في البلاد، وانتشارُ الفسوق يفسد الأخلاق، ويذهب بالرجولة والغيرة على الكرامة، وإذا فسدت أخلاق القوم، وذهبت الرجولة من نفوسهم، انحدروا في خزي ودمار.

وتفرق الكلمة سبب التخاذل، وعدم التعاون على فعل الخير ودفع السوء، وذلك ما يلقي بالأمة في بؤس وهوان، وترك تربية النشء تربية دينية يأتي بعواقب مشؤومة، وأي عاقبة أشأم من أن يتولى أمور الأمة ملاحدة

ص: 400

يسوسونها على ما توحيه إليهم أهواؤهم، ويعطلون ما استطاعوا أحكام شريعتها، والقعودُ عن الدفاع سبب وقوع الأمة بأجمعها تحت سلطان عدو يذيقها من عذاب الهون ما تؤثر من أجله الموت على الحياة.

ويصح أن تفسر الفتنة في الآية بما تأتي به تلك المعاصي من وبال؛ كولاية الفجار التي يأتي بها إهمال التربية الدينية، وكقهر العدو للأمة الذي يأتي به ترك إعداد القوة، أو القعود عن الدفاع، واتقاءُ الفتنة على هذا الوجه يحصل باتقاء أسبابها.

ولا يشكل علينا عموم الفتنة، وإصابتها للظالمين وغيرهم بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]؛ فإن مورد هاتين الآيتين عقاب الآخرة، ويلحق به عقوبات الجنايات في الدنيا، فهذان العقابان لا يتجاوزان المسيء إلى البريء، وأما الآية التي نحن بصدد تفسيرها {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} ، فموردها البلاء الدنيوي الذي جرت سنة الله بحلوله عقب تلك المعاصي ذات الآثار المشؤومة. روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم".

أمر باتقاء الفتن التي يمتد لهبها إلى الأبرياء، وكد التحذير منها بوعيد شديد، فقال تعالى:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} :

ففي قوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} إيذان بأن واضع يده في مثال هذه الفتن يجازيه الله عليها بالعقاب الشديد في الآخرة، وإن أدركه شؤم عاقبتها في الدنيا. قال تعالى:

ص: 401

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} :

الخطاب للمهاجرين، وقد كانوا بأرض مكة في قلة، وكفار قريش يستضعفونهم؛ أي: يجدونهم ضعافاً، فيصيبونهم بالأذى. والتخطف: الأخذ بسرعة، وفيه إيماء إلى شدة ضعفهم، وسهولة أخذهم؛ حيث أخبر أنهم يخافون أن يأخذهم الناس بسرعة، وإنما يؤخذ بسرعة من لم يكن له شيء من القوة يدافع به، ولو إلى حين، والمعنى: اذكروا وقت قلتكم وهوانكم على الناس، وخوفكم من اختطافهم لكم، والتذكير بوقت مضاف إلى شؤون إنما هو تذكير بتلك الشؤون نفسها.

وبعد أن ذكرهم بما كانوا فيه من قلة العدد، واستضعاف كفار قريش لهم، وخوفهم من تخطف الناس لهم، ذكرهم بنعمة إنقاذهم من ذلك الاستضعاف، وتأييدهم بالنصر على عدوهم، فقال تعالى:

{فَآوَاكُمْ} :

أي: جعل لكم مأوى تتحصنون فيه من عدوكم، وهي المدينة المنورة.

{وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} :

أي: قوى شوكتكم، وهيأ لكم وسائل النصر؛ من نحو: مظاهرة الأوس والخزرج، وإمدادكم بالملائكة في يوم بدر، وإلقاء الرعب في قلوب محاربيكم. وذكر في الآية النعمة التي أنقذهم بها من الاستضعاف والخوف، وهي: الإيواء، والتأييد بالنصر، ولم يذكر ما يقابل قوله تعالى:{إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} ؛ كأن يقال: "فكثر عددكم"؛ لأن تأييدهم بالنصر يشير إلى تكثير عددهم بمن انضم إليهم من الأنصار، أو لأن قلة العدد ليست مكروهة لذاتها، وإنما تكون

ص: 402

مكروهة من أجل ما يسام به ذوو العدد القليل من الاستضعاف، وما يساور قلوبهم من الخوف.

وما ضرنا أنا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

ولما كان الشأن فيمن قلَّ عددهم، وابتلوا باستضعاف عدوهم لهم، ولم يكونوا في أمن على حياتهم، أن يكونوا في عسر من العيش، ذكر تعالى في جملة ما أنعم به على المهاجرين: أنه رزقهم من الطيبات، وإن لم يذكر قبل أنهم كانوا في ضيق من العيش، فقال تعالى:

{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} :

وكذلك كان المسلمون بعد الهجرة في عيش أوسع مما كانوا فيه قبل الهجرة، فقد انفتحت أمامهم طرق الاكتساب من نحو التجارة، وأحل الله لهم التمتع بمغانم الجهاد.

لننظر في حال أولئك الرجال الذين كانوا قليلاً مستضعفين، غير آمنين على حياتهم، فآواهم الله، وأيدهم بنصره، ورزقهم من الطيبات، لعلنا نقف على سنة من سنن الله في ما يكون فيه القوم من ضعف وخوف، وبؤس وهوان على الناس، وإمتاعهم بالقوة والأمن وطيب العيش، والانتصار على العدو.

نرى أولئك الرجال يؤمنون بالله إيماناً صادقاً، ويصبرون للبلاء يصيبهم في سبيل الحق، ولو اشتدت مرارته، وطال أمده، ويأبون أن يلقوا إلى الضالين أو الفاسقين بالمودة، ويحملون في صدورهم الرحمة والسخاء، وكانوا ينظرون إلى عدوهم بعين الحذر، ويأخذون بأسباب النجاة ما استطاعوا، إلى نحو هذا من الخصال التي هداهم إليها الكتاب الحكيم.

فنقتبس من هذا أن سنة الله في القوم الذين يحتفظون بهذه الخصال أن

ص: 403

يجعلهم في أمن ومنعة وعزة، وعيشة راضية، ولا عجب أن نرى المسلمين اليوم في كثرة، وهم فيما نرى ونسمع من استضعاف، فقد أضاعوا جانباً عظيماً من الخصال التي تقوم عليها سنة الله في تخليص القوم من عدو يضع يده فوق أيديهم.

{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} :

كلمة (لعل) تُحمل في هذه الآية وأمثالها على معنى التعليل؛ أي: أسبغ عليكم تلك النعم لتشكروا، ومن مظاهر الشكر: استجابتهم لله والرسول إذا دعاهم، واتقاؤهم الفتن التي تصيب المجرم والبريء.

ص: 404