الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفْسِيرُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
وردت الآيات السابقة لهذه الآية في حال من انهزموا يوم التقى المؤمنون والمشركون في يوم أحد، وتضمنت تلك الآيات الكريمة استحقاقهم للملامة والتعنيف؛ حيث تولوا منهزمين، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه العدو، ولو جرى معهم رسول الله - صلوات الله عليه -، على ما يستحقون، لقابلهم بالعتاب والتوبيخ، ولكنه لاقاهم في رفق، ولم يواجههم باللوم، وذلك معنى قوله تعالى:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} :
فالفاء في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} للترتيب؛ لأنهم فروا من مواطن الجهاد، واستحقوا اللوم والتأنيب، فقابلهم عليه الصلاة والسلام باللين، و (ما) في قوله تعالى:{فَبِمَا} مزيدة للتأكيد؛ أي: تأكيد الاختصاص الذي دل عليه تقديم الجار والمجرور؛ أعني قوله: (بما رحمة) على الفعل؛ أعني: قوله:
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثالث من المجلد الحادي عشر.
{لِنْتَ} ، والمعنى: ما لنت لهم إلا برحمة من الله، ونظيره قوله تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة: 13]؛ أي: ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم.
والرحمة يوصف بها الإنسان، فتكون بمعنى العطف والحنو، وهذا المعنى الذي هو رقة القلب لا يصح أن تفسر به الرحمة الواردة وصفاً للباري جل جلاله ، بل نقول: إن رحمة الله صفة ثابتة له تعالى، لا نعلم حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذي هو إيصال الخير، كما أننا لا نعلم حقيقة علمه تعالى، وإنما نعرف أنه صفة تحيط بالأشياء على ما هي عليه.
دلت الآية على أن لينه عليه الصلاة والسلام لمن خالفوا أمره، وتولوا عن موقع القتال، إنما كان برحمة من الله. فالله حقيق بحمد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ وفقه لفضيلة الرفق بأولئك المؤمنين، وحقيق بحمد أولئك المؤمنين؛ إذ كان لين رسول الله إنما هو أثر من أثر رحمة الله.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ} :
الفظاظة: الخشونة. وغلظ القلب: قسوته. والانفضاض: الانصراف، والمعنى: لو كنت خشناً في قولك أو فعلك، قاسي القلب، لانصرفوا من مجلسك، ولما استضاؤوا بنور هديك، والفعل الواقع بعد (لو) الشرطية في حكم المنفي، فقوله تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} ينفي عنه عليه الصلاة والسلام الفظاظة التي تظهر في قول أو فعل، وقوله:{غَلِيظَ الْقَلْبِ} ينفي عنه سبب الفظاظة الذي هو جفاء الطبع، وبهذا يثبت له عليه الصلاة والسلام لين الجانب، وسماحة الخلق، وكأن الآية تقول: هو لين في قوله وفعله، وإن لينه هذا لم يصدر عن أمر عارض من نحو رغبة أو رهبة، بل كان عن طبيعة كريمة في النفس.
وليعتبر في هذه الآية من يتولى أمراً يستدعي أن يكون بجانبه أصحاب يظاهرونه عليه، حتى يعلم يقيناً أن قوة الذكاء وغزارة العلم وسعة الحياة وعظم الثروة، لا تكسبه أنصاراً مخلصين، ولا تجمع عليه من فضلاء الناس من يثق بصحبتهم إلا أن يكون صاحب خلق كريم من اللين والصفح والاحتمال.
وطبيعة اللين وسماحة الخلق، لا تنافي مزية الحزم، والأخذ بالتي هي أشد عندما يقتضي الحال ذلك:
إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع
…
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وتمييز موضع اللين من موضع الشدة يرجع إلى ذكاء الإنسان، وإدراكه لطبائع الأشخاص الذين ينالونه بمكروه.
{فَاعْفُ عَنْهُمْ} :
العفو: عدم المؤاخذة على الإساءة مع القدرة على المؤاخذة عليها، والحلم: ضبط النفس في هيجان الغضب، وإذا قيل: إن العفو والحلم متقاربا المعنى، فلأن عدم المؤاخذة على الإساءة المسمى عفواً إنما يعد في مكارم الأخلاق متى صار طبيعة للنفس، وإذا صار طبيعة لها، سهل ضبطها عن هيجان الغضب، وكذلك ضبط النفس عن هيجان الغضب يعد في مكارم الأخلاق بالنظر لما يتبعه من عدم المؤاخذة على الإساءة، فأمر الرجل بأحد الوصفين: العفو والحلم، أو مدحه به، يغني في نظر علماء الأخلاق عن أمره أو مدحه بالآخر.
والعفو الخالص: أن لا يؤاخذ الرجل بالإساءة، ولا يبقى له في نفسه أثر من غيظ، حتى يكون حاله في معاملة المسيء، وحبه له الخير، كحاله
لو لم يسئ إليه.
أُمر عليه الصلاة والسلام بالعفو، وإنما يعفو فيما يختص به من الحقوق؛ كأن يؤذيه شخص في مال، أو يسيء إليه بكلمة جافية لا تبلغ حد الكفر، وأما الإساءة فيما هو حق الله؛ كترك الصلاة أو الصيام، أو شرب الخمر، فلا يملك عنه إلا الله، قالت عائشة رضي الله عنها فيما روي في الصحيح:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط، ما لم تكن حرمة من محارم الله".
وكان صلى الله عليه وسلم المثال الأكمل في هذا الخلق العظيم، وشواهد هذا ثابتة في كتب السيرة والحديث.
{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} :
اطلب لهم من الله المغفرة للذنوب المتعلقة بحقوقه تعالى، وأما الجنايات المتعلقة بحقوق العباد؛ من نحو: الجناية على مال شخص، أو بدنه، أو تناوله بغيبة، أو لمز، فأمر العفو عنها قد جعله الله في أيدي المجني عليهم، ووكله إلى رضاهم.
فعفوه عليه الصلاة والسلام عمن يسيء إليه، ودعاؤه لمن يقع في مخالفة أمر الله بالمغفرة، أوضحُ شاهد على أنه كان يحمل لأصحابه العطف الخالص، والشفقة التامة، وإذا رأينا في سيرته أنه كان يقيم الحدود، ويعاقب المعتدين على حق من حقوق الله، أو حقوق العباد، من غير لين، فلحفظ الدين، أو لإقامة العدل، أو لتقرير الأمن.
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} :
المشاورة في الأمر: المراجعة فيه لاستطلاع الرأي الصالح؛ أي:
راجعهم في الأمر لترى رأيهم فيه. والمراد من الأمر: ما يعرض من أمور الدنيا؛ من نحو: تدبير الحروب، وأما أمور الدين، فقد أغناه الله عن الشورى فيها بما ينزل عليه من الوحي، أو بالاجتهاد الذي ينظر فيه بنور الله إن قلنا: إنه كان عليه الصلاة والسلام يجتهد في بعض الأحكام العملية.
وهذه الآية قررت أصلاً عظيماً من أصول السياسة الرشيدة، وهو: أن لا يستبد ولي الأمر في تصريف الأمور دون أن يأخذ رأي أولي العلم، وقد قررت هذا الأصل بأبلغ وجه؛ إذ وجهت الأمر فيه إلى أكبر الناس عقلاً، وأعرفهم بطرق المصالح، وأقلهم حاجة إلى الاستعانة برأي غيره، وهو أكمل الخليقة - صلوات الله عليه -، فليس لأحد بعد هذا أن يتخيل أنه في غنى عن المشاورة بما أوتي من كمال العقل وسداد الرأي.
وفي الشورى: استبانة الرأي الحق من بين آراء متعددة، وفيها: تطييب خواطر من يهمهم أن يدبر الأمر على بصيرة، وفيها: تأليف قلوبهم؛ بما في مراجعة ولي الأمر لهم من التنبيه على رفعة أقدارهم في نظره.
وقد يتوهم الرجل: أن الاستشارة تنبئ عن الاحتياج إلى رأي غيره، فهي من علامات اعتقاده بضعف رأيه، والحقيقة أن الإنسان -وإن بلغ عقله الغاية- لا يستغني عن الاستعانة في مشكلات الأمور بآراء الرجال؛ إذ العقول قد تكون نافذة في ناحية من الأمر، واقفة عند الظاهر في ناحية أخرى منه، ولعلك لا تجد عقلَاّ فَي الناس ينفذ في كل ناحية وجهته إليها، ومن أدرك هذه الحقيقة، عرف يقيناً أن احتياج الإنسان إلى الاستشارة من مقتضيات الفطرة البشرية، ومن يجري على مقتضى الفطرة البشرية التي ليس في طاقته الخروج عنها إلا بعصمة من الله، لا يحق لأحد أن ينسبه إلى نقص. وإن
قلنا على وجه الفرض: إن احتياج الرجل إلى رأي غيره في بعض الأمور نقص، فإنا إذا وضعنا هذا النقص في كفة، ووضعنا الفوائد التي تحصل من الاستشارة في كفة، رجحت هذه الفوائد، وغطت على ذلك النقص، حتى كأنه ذهب، ولم يبق له عين ولا أثر.
{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} :
العزم على الشيء: عقد الضمير على فعله، والتوكل على الله: الاعتماد عليه، والثقة به، والآية ظاهرة في أن التوكل يكون عند تعاطي الأسباب، فقد أمرت بالتوكل عند العزم على العمل، فهنالك عزم وعمل يقارنهما التوكل، وفي هذا رد على من يتوهم أن التوكل نفض اليد من الأسباب جملة، ومن أثر هذا التوهم: أن وجد في الأمة أشخاص يرضون بأن يكونوا عالة على الناس، وهم قادرون على أن يقوموا بمطالب حياتهم، ويعيشوا في عزة وكرامة.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} :
المحبة من الإنسان: ميل الطبع إلى الشيء، وهذا المعنى ممتنع في حق البارئ جل جلاله ، فإذا أضيفت المحبة إليه تعالى، فهي صفة ثابتة له تعالى لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف من آثارها: إيصال الخير إلى المحبوب، وحفظه في الدنيا، وإعلاء منزلته في الدار الباقية.