الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفْسِير آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} :
ظاهر نظم الجملة أنهم سألوا عن الله، والسؤال لا يكون عن الذوات، وإنما يكون عن شأن من شؤونها، ولكن الجواب -أعني: قوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} - يدل على أنهم سألوا عنه تعالى من جهة القرب والبعد، ويؤيده الأثر المروي عن أُبَيٍّ، وهو أن المسلمين قالوا: يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه "ندعوه سراً"، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي. . .} .
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الحادي عشر من السنة الرابعة.
ولم يصدر الجواب بقُل، أو فقل؛ كما وقع في أجوبة مسائلهم الواردة في آيات أخرى، نحو:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105]، بل تولى جوابهم بنفسه؛ إشعاراً بفرط قربه منهم، وحضوره مع كل سائل؛ بحيث لا تتوقف إجابته على وجود واسطة بينه وبين السائلين من ذوي الحاجات.
{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} :
يجيب الله دعوة الداعي إذا صدرت عن إيمان وخشوع قلب، وورد تقييد إجابة الدعاء بالمشيئة في قوله تعالى:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41]، وورد في الصحيح ما يدل على أن المؤمن إذا دعا بما فيه خير، لم يخب عند الله دعاؤه، ولكن لا يلزم أن يعطيه نفس ما طلبه.
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل إليه دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها".
{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} :
وعد الله العباد في الجملة السابقة بأنه يجيب دعاءهم إذا دعوه، وأمرهم في هذه الجملة بإجابة ما يدعوهم الله إليه من الطاعات. والاستجابة: الإجابة. والرشد: حسن التصرف في الأمر من دين أو دنيا، وكأنه تعالى يقول: إني أجيب دعاءكم، وأنا ربكم الغني عنكم، فاستجيبوا أنتم لدعوتي، واذا استجبتم لها، فإنما تستجيبون ما فيه رشدكم الذي هو وسيلة سعادتكم في الحياتين العاجلة والآجلة، وأمرهم بالإيمان بعد الأمر بالاستجابة؛ لأنه أول مراتب الدعوة، وأولى الطاعات بالاستجابة.
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} :
رويت آثار في أن الناس كانوا عندما فرض صوم شهر رمضان إذا أفطروا يأكلون ويشربون، ويقربون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا، امتنعوا، واتفق أن باشر بعضهم امرأته بعد أن نام، وشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ. . . إلخ} و. وليلة الصيام: الليلة التي يصبح منها الإنسان صائماً. والرفث: الفحش من القول، ويكنى به عن مباشرة النساء، وهو المراد من الآية.
{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} :
هذه الجملة واردة مورد المقتضى لإباحة مباشرة النساء ليلة الصيام، ذلك أن كلاً من الزوجين يسكن إلى صاحبه، ويكون من شدة القرب منه كالثوب الملابس له، وقد كانت العرب تسمي المرأة: لباساً، وهذا حال يقوى معه الداعي إلى المباشرة، فمن رِفقه تعالى أن أحلها لهم ليلة الصيام.
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} :
هذا مظهر من مظاهر رفق الله بمن كانوا يباشرون أزواجهم قبل أن يحل الله لهم ذلك. و {تَخْتَانُونَ} : تظلمون وتنقصون، والمعنى: كنتم تظلمون أنفسكم، وتنقصون نصيبها من الخير بمباشرة أزواجكم قبل أن يحلها الله لكم، فقبل توبتكم، وعفا عنكم؛ أي: محا أثر ما فعلتموه بغير إذنه.
{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} :
هذا مرتب على قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} . و (الآن): ظرف
لما يقع في الزمن الحاضر وما يقرب منه. و {بَاشِرُوهُنَّ} : من المباشرة، وأصلها: اتصال البشرة بالبشرة، وكنى بها عن الجماع كالملامسة، والأمر للإباحة.
{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} :
ابتغوا: اطلبوا. و {مَا كَتَبَ اللَّهُ} : ما قضى به وقسمه، وأقرب ما يفسر به: الولد.
وهذا مشعر بأن النكاح شرع ليُبْتغى به النسل؛ حتى يتحقق ما يريده الله من بقاء النوع الإنساني. وإذا أضيف إلى النسل قضاء الشهوة، فلأن قضاءها قد يُبتغى للتعفّف عن الحرام، فيصح أن يدخل في معنى:{مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} .
{الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} : أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره، و {الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}: ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل. وجاء في الروايات الصحيحة: أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} تأخر نزوله عن الجمل السابقة له، في "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد، قال:"أُنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولم ينزل: "من الفجر"، فكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه يعني: الليل والنهار".
وورد في الصحيح عن عدي بن حاتم، قال: لما نزلت هذه الآية، عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت
أنظر في الليل إليهما، فلا يتبين لي، فعمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك، فقال:"إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار"، ونزل قوله تعالى:{مِنَ الْفَجْرِ} .
ولما جعلت الآية طلوع الفجر غاية لإباحة المفطرات التي من جملتها المباشرة، دلت على أن الإنسان إذا مضى عليه وقت من النهار وهو جنب، كان صومه صحيحاً.
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} :
الأمر بإتمام الصيام إلى الليل ينبئ بأن الصوم ينتهي عند غروب الشمس، وأن الليل ليس بوقت الصيام، فمن واصل الإمساك عن المفطرات في الليل، فلا ثواب له على هذا الإمساك؛ لأنه لم يقع في الوقت الذي رسمه الشارع لعبادة الصوم، بل يعدُّ هذا المواصل فاعلاً لمحظور، فلا بد للصائم من تناول شيء من المفطرات بعد الغروب، ولو شيئاً قليلاً من الماء. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوصال -وهو أن يصوم الشخص اليوم وما بعده من غير أن يتناول مفطراً في الليل الفاصل بينهما-، فقيل: يا رسول الله! إنك تواصل، فقال:"إني لست مثلكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني".
{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} :
الاعتكاف في اللغة: اللبث واللزوم. وفي عرف الشارع: لبث الرجل في المسجد مدة يقصرها على العبادة، ولا يخرج منه إلا لما تدعو إليه حاجة الإنسان مما يوجب إعادة الطهارة. ومن شروطه: الصوم، أو من سننه.
ولما أطلق في الجملة السابقة الإذن في مباشرة النساء ليلة الصيام،
كان ذلك الإطلاق مظنة لأن يراد منه إباحة المباشرة للصائم في جميع الأحوال والأماكن، فخُصَّ من سائر الأحوال: الاعتكافُ، ومن الأماكن: المساجد، فقال:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} :
المشار إليه: الأحكام المقررة فيما سبق؛ من إيجاب وتحريم. والحد في اللغة: الحاجز بين الشيئين المتقابلين؛ ليمنع من دخول أحدهما في الآخر. وسميت الأحكام حدوداً؛ لأنها تحجز بين الحق والباطل. والآيهَ واردة مورد النهي عن مخالفة تلك الأحكام. ومعنى: لا تقربوها: لا تأتوها بالمخالفة. ودل على النهي عن مخالفتها بالنهي عن قربها؛ مبالغة في التحذير من مخالفتها؛ لأن النهي عن القرب من الشيء نهي عن إتيانه نفسه بالأحرى. والآية تنبه بقولها: {فَلَا تَقْرَبُوهَا} ؛ لاجتناب ما فيه شبهة، وترشد إلى ترك الأشياء التي تفضي في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} :
المعنى: مثل ذلك البيان الذي بَيَّن الله به الحدود المنهيَّ عن قربها بالمخالفة، يبين آياته؛ أي: أدلته للناس وحججه؛ لكي يتقوا حدوده فيما أمر به، أو نهى عنه، أو أباحه.
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} :
لا تأكلوا: لا تأخذوا. والمعنى: لا يأخذ بعضكم مال بعض، ويستولي عليه بغير حق. وعبر عن الأخذ بالأكل؛ لأن الأكل أهم وسائل الحياة، وفيه تصرف الأموال غالباً. وهذه الآية أصل من الأصول التي يقوم عليه إصلاح المعاملات، وقد دلت على حرمة أكل أموال الناس بالباطل على وجه الإجمال،
وفصلت نصوص أخرى وأدلة وجوهَ أكل الأموال بالباطل؛ مثل: الغصب، والسرقة، والقمار، والربا، إلى ما هو مفصل في كتب الأحكام من المعاملات التي لا تختلف أنظار المجتهدين الراسخين في تحريمها.
{وَتُدْلُوا} : معطوف على: {وَلَا تَأْكُلُوا} ، والإدلاء في الأصل: إرسال الدلو في البئر، ويستعمل في معنى الدفع والإلقاء. وعلى هذا المعنى يفهم قوله تعالى في الآية:{وَتُدْلُوا بِهَا} .
و {الْحُكَّامِ} : جمع حاكم، وهو الذي يفصل بين الخصمين.
والفريق: القطعة المعزولة من جملة الشيء. والإثم: الفعل الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب. ومعنى الإدلاء بالأموال إلى الحكام: إلقاء أمرها، أي: حكومتها وخصومتها إلى القضاة؛ لتأخذوا من طريق الحكم قطعة من أموال غيركم -أعني: خصومكم- بما يوجب إثماً؛ كشهادة الزور، واليمين الفاجرة، أو تأخذوها متلبسين بالإثم في حال كونكم تعلمون أنكم على باطل. وإتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به. وحُكْم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يُحل في الواقع حراماً، ولا يُحرم حلالاً.
ومن المحتمل القريب أن يفهم من نظم الآية: تحريم إعطاء مال للحاكم على وجه الرشوة. والمعنى: ولا تدلوا بأموالكم -أي: بعضها- إلى الحكام؛ لتتوصلوا بأحكامكم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق.
ولا غرابة في أن يعنى القرآن الكريم في سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة؛ فإنها المعول الذي يهدم صرح العدل من أساسه، وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها، ولا يبقى للجالسين على كراسيها كرامة. وللرشوة شَبَه بالسرقة؛ لأنها تؤخذ من يد مالكها خفية. وشبه بالغصب؛ لأنها تؤخذ منه تحت سلطان القضاء.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} :
بيّن تعالى في الآيات السابقة أحكاماً عملية، منها: صيام شهر رمضان، وهو -أي: الصيام- يتضمن النهي عن كل الطعام في أيام ذلك الشهر، ولو كان المأكول حلالاً، ومن راض نفسه عن الامتناع من أكل الحلال في نحو ثلاثين يوماً نهاراً من السنة، صار مستعداً لأن يمتثل النهي عن أكل الحرام في جميع حياته، فكان المقام بعد ذكر شرع الصيام مناسباً للنهي عن كل المال بغير حق في جميع أيام الحياة، فقال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثاني عشر من السنة الرابعة.
ثم إن حديث الصيام اتصل بشرط رؤية الهلال، وهذا ما يحرك في النفوس خاطر السؤال عن الأهلة، فقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} .
{الْأَهِلَّةِ} : جمع هلال، وهو الكوكب الذي يطلع في أوائل كل شهر، ويسمى: هلالاً ثلاث ليال، أو سبع ليال؛ حيث يغلب ضوءه على ظلام الليل، ثم يسمى: قمراً إلى أن يعود من الشهر الثاني. ودلت الجملة على أن طائفة من الناس سألوا عن حال من أحوال الأهلة، وورد في بعض الروايات أن السائلين هم اليهود، وأنهم سألوا عن الحكمة من خلقها، وهذا ما يطابقه الجواب عن سؤالهم حيث وقع ببيان الحكمة فقال تعالى:
{قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} :
المواقيت: جمع ميقات، وهو وقت يقدر لعمل من الأعمال، فالأهلة معالم يوقِّت بها الناس صومهم، وزكاتهم، وحجهم، وعِدد نسائهم، ومُدد حملهن، ومدة الرضاع، وغير ذلك من آجالهم في تصرفاتهم المالية. وخص الحج بالذكر، مع أن الأهلة مواقيت لعبادات أخرى؛ كالصوم والزكاة، إيماء إلى أن الحج مقصور على الميقات الذي عينه الله تعالى له، وأنه لا يجوز نقله إلى شهر آخر كما كانت العرب تفعل؛ إذ كانوا ينقلون ما شاؤوا من الأشهر الحرم الأربعة -التي من جملتها ذو الحجة- إلى شهر آخر غير حرام، وهو النسيء المشار إليه بقوله تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37].
وخص الشارع المواقيت بالأهلة وأشهُرِها، دون الشمس وأشهُرِها؛ لأن الأشهر الهلالية تعرف برؤية الهلال ومحاقه، وذلك ما لا يخفى على أحد من الخاصة والعامة أينما كانوا؛ بخلاف الأشهر الشمسية، فإن معرفتها تنبني
على النظر في حركات الفلك، وهي لا تتيسر إلا للعارفين بدقائق علم الهيئة.
وورد في سبب نزول الآية رواية أخرى ضعيفة تتضمن أن بعض الصحابة سألوا عن سبب تزايد الهلال في أول الشهر، وتناقصه في آخره، فأجيبوا ببيان حكمة خلقها:{قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، ومقتضى هذه الرواية وورود الجواب ببيان حكمة خلق الأهلة، لا ببيان المسؤول عنه، وهو سبب اختلافها بالتزايد والتناقص: أن تكون الآية من قبيل ما يسميه علماء البلاغة: "الأسلوب الحكيم"، فكأن المسؤول يقول للسائل: كان الأولى بك أن تسأل عن هذا الحال الذي أجبتك به، وهو في الآية حكمة خلق الأهلة، لا عن الحال الذي سألت عنه، وهو سبب تزايدها في أول الشهر، وتناقصها في آخره.
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} :
لما ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للحج، صح أن يوصل ذلك بإنكار عادة جرى عليها الأنصار في حجهم، فقال تعالى:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} ، هذه العادة، كما روي في سبب نزول الآية: أن الأنصار كانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية، لم يدخل بيتاً من بابه، بل كان يدخل من نقب في ظهره، أو يتخذ سلماً يصعد فيه، فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم من إتيان المنازل من أبوابها.
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} :
تقدم أن البر اسم لخصال من الخير فُصلت في قوله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ} [البقرة: 177] الآية. ولما كان معنى التقوى حاملاً لتلك الخصال السنية، اكتفى بذكرها هنا في بيان معنى
البر، فقال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ، فالبر نفس التقوى. وأخبر عنه بمن يوصف بالتقوى، فقال:{مَنِ اتَّقَى} ، وقد تقدم أنه أسلوب معروف في كلام البلغاء؛ إذ يحذفون المضاف -الذي هو الخبر في المعنى- متى قام عليه دليل، وهو هنا الوصف الذي يحمله قوله:{مَنِ اتَّقَى} ، والمعنى: ولكن البر تقوى من اتقى.
{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} :
تضمنت الجملة السابقة أن إتيان البيوت من ظهورها ليس من البر، وبقي محتملاً لأن يكون من المباح الذي لا حرج فيه، فقال تعالى آمراً بالكف عنه، ومرشداً إلى أنه ليس بجائز:{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} . والأمر بإتيان البيوت من أبوابها يقتضي أن إتيانها من ظهورها باسم الدين غير مأذون فيه، وكل ما يفعل باسم الدين، وليس له في الدين من شاهد، فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} :
هذا أمر بالتقوى التي تتضمن القيام بجميع الواجبات، واجتناب البدع والمنكرات، فالمعنى: افعلوا ما أمركم الله به، واجتنبوا ما نهاكم عنه؛ لتكونوا من المفلحين، وهم الفائزون بالحياة المطمئنة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة.
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} :
أمر بالتقوى، ثم عطف على ذلك الأمر بعمل من أجلِّ مظاهرها، وأعزِّ ما تبذل النفوس في التقرب به إليه تعالى، وهو الجهاد، فقال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وهذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة. والمقاتلة
كالقتال: محاولة الرجل قتلَ من يحاول قتله. وسبيل الله: دينه. والمقاتلة في سبيل الله: الجهاد لإعلاء كلمته؛ حتى يكون أهل دينه الحق أعزاء، لا يسومهم أعداؤه ضيماً، وأحراراً في الدعوة إليه، وإقامة شرائعه العادلة في ظل سلطان مهيب.
{وَلَا تَعْتَدُوا} :
الاعتداء: مجاوزة الحد فيما أمر الله به، أو نهى عنه. والمعنى: وقاتلوا لإعلاء كلمة الله من يناصبكم القتال من المخالفين، ولا تتجاوزوا في قتالهم إلى من ليس شأنهم قتالكم؛ كنسائهم، وصبيانهم، ورهبانهم، وشيوخهم الطاعنين في السن إلى حد الهرم، ويلحق بهؤلاء: المريض، والمقعد، والأعمى، والمجنون. وقد وردت بالنهي عن قتل هؤلاء الأحاديث النبوية، ووصايا الخلفاء الراشدين لقواد جيوشهم، فهؤلاء يتجنب قتلهم، إلا من قامت الشواهد على أن له أثراً من رأي أو عمل في الحرب يؤازر به المحاربين لينتصروا على المجاهدين.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} :
هذا كالتعليل للنهي عن مجاوزة ما حده الله في قتال المخالفين. ومحبة الله لعباده: صفة من صفاته تعالى، من أثرها: الرعاية، والإنعام. وإذا نفى الله محبته لطائفة، فهو كناية عن بغضه لهم، واستحقاقهم لعقوبته.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} :
الضمير في قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ} عائد إلى قوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ، و {ثَقِفْتُمُوهُمْ}: أدركتموهم، وظفرتم بهم. والمعنى: واقتلوا الذين ينا صبونكم القتال في أي مكان لقيتموهم فيه من حِلّ أو حَرَم.
{وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} :
حيث: ظرف مكان. والمكان الذي أخرجوهم منه: مكة؛ فإن المشركين من قريش اشتدوا في أذية المسلمين حتى ألجؤوهم إلى الخروج منها بالهجرة إلى الحبشة أولاً، ثم إلى المدينة ثانياً. والمعنى: أخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها.
{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} :
الفتنة: الابتلاء والامتحان والعذاب، والصرف عن الشيء، وكثر استعمالها في التضليل والصد عن الدين، ثم على الكفر. وهي في هذه الجملة ظاهرة في معنى ما عرف به المشركون من الصد عن الدين، وإيذاء من يتقبله. والمعنى: لا تبالوا قتلهم حيث أدركتموهم؛ فإن فتنتهم للمؤمنين أشد ضرراً من قتلكم لهم.
أذن الله للمؤمنين في قتل الذين يناجزونهم القتال؛ دفعاً لشرهم أينما وجدوا. وجاءت هذه الجملة لاستئناء المسجد الحرام من المواطن التي يجدونهم فيها؛ مراعاة لحرمته، ما لم يفاتحوا المؤمنين فيه بالقتال، فإن فاتحوهم بالقتال فيه، كان دفع شرهم بالقتل أرجح من الكف عنهم، وذلك ما يدل عليه في صراحة قوله تعالى:{فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} . والمعنى: فإن بدؤوكم بالقتال عند المسجد الحرام، فلا حرج عليكم في قتلهم عنده؛ فإن المنتهك لحرمة المسجد إنما هو البادئ بالقتال فيه، لا المدافع له.
{كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} :
اسم الإشارة (ذلك) عائد إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا. والجزاء:
ما يقع في مقابلة إحسان أو إساءة، فيطلق على ما يثاب به المحسن، وعلى ما يعاقب به المسيء، وهو معنى الجزاء هنا. وفي هذا تنبيه على أن قتل المقاتلين غير خاص بمن فاتحوا المؤمنين بالقتال من كفار قريش، بل هو جزاء لكل من يفعل فعلهم من المخالفين.
{فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :
مساق حديث هذه الآية: الكافرون المقاتلون للمسلمين، فيكون معنى هذه الجملة المتفرعة عن حديثهم: فإن انتهوا عن الشرك، ومقاتلتكم، فكفوا عنهم، ولا تتعرضوا لهم؛ فإن الله غفور رحيم. وكل من تاب من كفر أو معصية، فشأن الله معه أن يغفر له ويرحمه.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} :
الضمير (هم) عائد على الذين يقاتلوننا. والفتنة: المحنة والعذاب والاضطهاد. والمعنى: قاتلوا أولئك المحاربين حتى تكسروا شوكتهم، ولا يستطيعوا أن يفتنوا طائفة من أهل الدين الحق، بصدهم عن دينهم، ومنعهم من الدعوة إليه، وإخراجهم من ديارهم، أو التغلب على حق من حقوقهم. والآية تحذر المؤمنين من أن يستسلموا لمن يحاربونهم، ويقعدوا عن قتالهم كراهة للموت، أو جهلاً بسوء المنقلب الذي ينقلب إليه الواقعون تحت سلطان أعدائهم المستبدين.
{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} :
الدين في اللغة: العادة والطاعة، ثم استعمل فيما يتعبَّد به الله، صحيحاً كان أم باطلاً. والدين الصحيح: ما شرع الله لعباده على لسان الأنبياء؛ ليتوصلوا به إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل. ومعنى كون الدين لله: أن
يكون الدين الظاهر هو دين الله. وقد تم هذا بقتال المسلمين للمشركين، فلم يلتحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى كان الدين الظاهر في جزيرة العرب ما كان طاعة وعبادة لئه.
{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} :
العدوان في أصل اللغة: الاعتداء والظلم الذي هو من الأفعال المحرمة، كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وهو بهذا المعنى لا يجوز ارتكابه مع أحد، ولو كان ظالماً، ولكن الآية قالت:{فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} ، فظاهرها إباحة الاعتداء على الظالمين.
وتزاح هذه الشبهة من طريق فهم الآية أنها جرت على ما يجري في كلام البلغاء من تسمية جزاء الظلم والاعتداء: ظلماً واعتداء؛ لاتحادهما، أو تشابههما في الصورة.
ومما ورد من أقوالهم في هذا المعنى قولهم: "ظلمني فلان، فظلمته". وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، فالاعتداء في قوله:{فَاعْتَدُوا} يراد منه: جزاء الاعتداء، فالعدوان في الآية يراد منه القتل حيث يرتكب جزاء للمقاتلين. والمعنى: فإن انتهوا عن قتالكم، فقد انتفى عنهم وصف الظلم، فكفوا عن قتلهم، فإن قتلتموهم بعد انتهائهم عن مقاتلتكم، فقد ارتكبتم معهم ما لا يرتكب إلا جزاء للظالمين.