المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير آيات من سورة البقرة - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - جـ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌تفسير آيات من سورة البقرة

‌تَفْسِيرُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ

ص: 359

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} :

ذكر الله تعالى في صدر هذه السورة فِرَقَ من بلغتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: المؤمنون المخلصون، المشار إليهم بقوله تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 2 - 3]، والكافرون المجاهرون بالكفر، المشار إليهم بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، والمنافقون، وهم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، المشار إليهم بقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].

وبعد أن وصف الله تعالى هذه الفرق، ودل على عاقبة كل فريق منهم،

(1) ملخص درس من دروس التفسير التي كان يلقيها الإمام في دار جمعية الهداية الإسلامية بالقاهرة. وقد نشر في مجلة "الهداية الإسلامية" -الجزء الثاني عشر من المجلد الثالث عشر.

ص: 361

أقبل عليهم مخاطباً لهم بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، فخطاب الأمر بالعبادة متوجه إلى الفرق الثلاث، أما الكافرون والمنافقون، فعلى معنى أمرهم بأداء العبادة، والمنافقون -وإن أدوا بعض العبادات- فإنهم يؤدونها خالية من شرط صحتها الذي هو قصد امتثال أمر الله تعالى، وأما المؤمنون، فأمرهم بالعبادة على معنى طلب ازديادهم منها، ومداومتهم عليها.

والخطاب يتناول الموجودين في هذه الفرق وقت نزول الآية، ومن سيوجد منهم إلى قيام الساعة، وخطاب الشارع -على هذا الوجه من العموم- معلوم من الدين بالضرورة.

ويصح جعل الخطاب في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} موجهاً إلى الكافرين خاصة، ويؤيده أن قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ، وقولى تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} إنما يليق بالمنكرين، ولكن إيراد الخطاب شاملاً لأقوام، ثم الانتقال بعد إلى خطاب فريق منهم، أسلوب مألوف في أساليب بلاغة اللغة العربية.

والعبادة الصحيحة ما تحقق فيها شرطان: قصد امتثال أمر الله تعالى، وموافقتها للهيئة المأخوذة عن الشارع، فالعبادة التي لا يقصد بها امتثال أمر الله، أو تفعل على وجه مبتدع، عبادة مردودة على وجه صاحبها.

وأورد الأمر بالعبادة في صيغة الخطاب المقرون بالنداء؛ اهتماماً بأمر العبادة، وتفخيماً لشأنها؛ ذلك أن صيغة الخطاب المصدر بالنداء، يهز داعية المخاطبين إلى استماع الكلام أكثر مما يهزها صيغة الغيبة، أو صيغة الخطاب من غير نداء.

ص: 362

والعبادة جديرة بالاهتمام وتفخيم الشأن؛ إذ للعبادة خلق الجن والإنس، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وفي قوله تعالى: {رَبَّكُمُ} تقوية لداعية امتثال الأمر، وتنبيه على أظهر شيء يدعوهم إلى أن يتوجهوا إليه بالعبادة، ويخصوه بها، وهو نعمة الربوبية. {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}:

أمر الله تعال بعبادته، وأتبع الأمر بما يدل على وجوده، وهو خَلق المخاطَبين، وخلق من قبلهم، والخلق: إيجاد الجواهر، وهو بهذا المعنى لا يوصف به إلا الله تعالى، ولا يصح إطلاقه على غيره بحال، ويقال بمعنى: التقدير والتسوية، وهذا المعنى يجوز نسبته إلى غير الله تعالى؛ كما وصف عيسى عليه السلام في قوله تعالى:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110].

وقدم وصفه بخلق المخاطبين على وصفه بخلق من قبلهم، وكان مقتضى الترتيب الزمني أن يقال:"الذين من قبلكم، وخلقكم" ذلك أن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهرُ من علمه بأحوال غيره.

وللقرآن المجيد في الاستدلال على وجود الخالق تعالى طريقان: طريق الاختراع، وهو الاستدلال بما أبدعه - جل شأنه - من المخلوقات؛ مثل: إيجاد الحياة في الجماد، وطريق العناية بالإنسان، ويرجع هذا الطريق إلى موافقة وجود المخلوقات لوجود الإنسان؛ أي: إن خلقها كان لمنفعته؛ كما قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} :

ترد (لعل) في كلام العرب لرجاء المتكلم، وهو ارتقابه الشيء المحبوب،

ص: 363

أو إشفاقه؛ وهو ارتقابه الأمر المكروه، وكلا المعنيين مستحيل في حق علام الغيوب؛ فإن كلاً من الرجاء والإشفاق يكون عند تردد الشيء بين الوقوع وعدم الوقوع، إلا أن وقوعه هو الراجح في رأي المتكلم، ومن هنا قال بعض المفسرين: إن (لعل) في كلام الله تعالى لتحقيق ما يجيء بعدها، وهذا المعنى لا يجري في قوله تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]؛ فإن فرعون لم يتذكر، ولم يخش من دعوة موسى عليه السلام ، والأقرب أن يقال: إن الترجي في الآية التي نحن بصدد تفسيرها مصروف إلى المخاطبين؛ كآية: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} ، والمعنى: اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا أتقياء، والتقوى: بلوغ أقصى درجات العبادة.

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} :

الفراش في الأصل: مصدر فرش؛ أي: بسط، واستعمل هنا بمعنى اسم المفعول؛ أي: المفروش. والمعنى: بسط لكم الأرض، وذللها لكم حتى صارت صالحة للاستقرار عليها، والتقلب في مناكبها، والتصرف فيها بنحو الزراعة التي هي أصل المعاش. وهذا من قبيل الاستدلال بطريق العناية؛ فقد دل على أنه خلق الأرض على حال توافق مصلحة الإنسان، يشير إلى هذا قوله:{جَعَلَ لَكُمُ} .

وكون الأرض فراشاً؛ أي: مبسوطة، لا ينافي كونها على شكل كرة؛ لأن الكرة التي يعظم حجمها، تكون كل قطعة منها كالسطح، يتيسر الاستقرار عليه، والارتفاق به.

{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} :

البناء في الأصل: مصدر بنى، ويستعمل بمعنى: المبني؛ كما ورد

ص: 364

في هذه الآية، والمعنى: جعل السماء مبنية كالقبة المضروبة فوقكم، وفي هذا تنبيه لما يرونه عند النظر إلى السماء من بديع الكواكب السيارة والثابتة، ثم ينتقلون منها إلى ما يتصل بهذه الأجرام من منافع أنوارها، والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، وفوائد اختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك. وهذا وجه إلحاقها بطريق الاستدلال بالعناية.

وقدَّم الأرض على السماء؛ لأنها أقرب إلى الإنسان من السماء، ولأن الإنسان بحال الأرض أعرف منه بحال السماء؛ لأن أول ما يحتاج إليه بعد الخلق المستقرُّ، وهو الأرض.

{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} :

يصح حمل السماء في الآية على معنى: السحاب؛ فقد قال علماء اللغة: كل ما علاك فهو سماء، فليست الآية منافية لما عرف من أن المطر يتولد من السحاب على الوجه المشار إليه بقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: 43].

{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} :

{الثَّمَرَاتِ} : جمع ثمرة، وهي ما يتطعم من أحمال الشجر والنجم، وهو ما لا ساق له من النبات، والباء في قوله:{بِهِ} للسببية. و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} للتبعيض، والمعنى: فأخرج بالماء بعض الثمرات رزقاً لكم.

وقد أودع الله سبحانه في الماء خاصية كان بها سبباً لتغذية النبات ونموه، ومتى شاء -جل شأنه- نزَعْ هذه الخاصية من الماء، انتفت عنه سببية التغذية والتنمية.

ص: 365

وهذا أيضاً من قبيل الاستدلال بالعناية؛ إذ دل على أنه أنزل من السماء ماء؛ ليخرج به ثمرات تكون رزقاً للإنسان.

{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} :

الأنداد: جمع ند، والند: المماثل المكافئ، وفسر في الآية بمعنى: الشريك، فكل من عظَّم مخلوقاً التعظيمَ الذي لا يليق إلا بالله تعالى، فقد اتخذ ذلك المخلوق نِدّاً لله، وتتناول الآية مشركي العرب؛ لعبادتهم الأصنام، والصابئين؛ لعبادتهم الكواكب، والمجوس؛ لعبادتهم النار، والنصارى؛ لتعظيمهم المسيح عليه السلام تعظيماً لا يحق إلا لله.

وممن يجعلون لله أنداداً: أولئك الفرق الضالة الذين يعتقدون إلهية زعمائهم؛ كطائفة البهائية الذين يعتقدون إلهية زعيم مذهبهم.

ومن واجب دعاة الإصلاح: أن يراقبوا أحوال من يزورون قبور الصالحين، حتى إذا أحسوا من زائرٍ المبالغةَ في تعظيم صاحب القبر؛ كالانحناء أمامه في هيئة الراكع أو الساجد، نبهوه برفق، وأنقذوه من الوقوع في اعتقاد أن الولي يملك لنفسه أو لغيره نفعاً أو ضراً، وأعادوه إلى ما يوافق التوحيد الخالص؛ من أن النفع والضر من طريق غيبي إنما هو بيد الله الذي بيده ملكوت كل شيء.

والواو في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} للحال، والمعنى: فلا تجعلوا لله شركاء في حال أنكم من أهل العلم، ونسب العلم إلى أولئك المشركين؛ لأنهم كانوا يعرفون جانباً من دقائق أمور الدنيا، وغوامض أحوالها.

وفطنة العرب ودهاؤهم مما تشهد به أشعارهم وخطبهم وبعض محاوراتهم.

ص: 366

ويصح أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون أنه لا ند له؛ فإن من المشركين مَنْ كانوا يعتقدون بوجود الإله الحق، ويعبدون مع ذلك الأصنام بزعم أنها تقربهم إليه زلفى، وهم المشار إليهم بقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9].

وعلى كلا الوجهين يكون قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تأكيداً للتوبيخ على اتخاذ الأنداد لله؛ فإن من يأتي الباطل، ومعه من العلم ما شأنه أن يمنعه من إتيانه، أو يأتي الباطل وهو يعلم بطلانه، يكون أسخف عقلاً، وأحط منزلة ممن يأتيه وهو معدود فيمن شأنهم الجهل بدقائق الأمور، أو الجهل بأن ما أتاه باطل، ومن هنا كانت زلة العالم أقبح من زلة الجاهل، وتناول الألسنة له بالإنكار على مخالفة أمر الله أشدّ من إنكارها على من يخالف أمر الله، وشأنه الجهل بالمخالفة، أو بالعواقب التي يصير إليها المخالفون عن أمر الله.

ص: 367