المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير آيات من سورة الحج - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - جـ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌تفسير آيات من سورة الحج

‌تَفْسِيرُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الحَجِّ

ص: 413

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27 - 28].

تضمنت الآية الكريمة السابقة نهي إبراهيم عليه السلام عن الشرك، وأمره بتطهير البيت للطائفين والعاكفين، والركع السجود، وجاءت هذه الآية عطفاً على ما تقدم في أمره بدعوة الناس إلى الحج، فقال تعالى:

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} :

الخطاب لإبراهيم عليه السلام. والتأذين: الإعلام. والمعنى: أعلم الناس بأن الله أمر بالحج. هذا ما يدل عليه لفظ الآية. أما كيفية هذا الإعلام، فمن أهل العلم من ذهب إلى أنه دعا الناس إلى الحج في جملة ما دعا إليه من شرائع الدين؛ كالصلاة، والزكاة، والصيام، وذهب آخرون -تعلقاً ببعض الآثار- إلى أنه "صعد جبل أبي قبيس، فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج، فحجوا، فلم تبق نفس إلا أبلغها الله نداء إبراهيم، فمن لبى حينئذ، حج، ومن سكت، لم يكن له فيه نصيب".

(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الرابع من السنة الأولى.

ص: 415

وهذا الأثر من قبيل الإخبار بغيب: فنقول كما قال الحافظ أبو بكر ابن العربي في كتاب "أحكام القرآن": "وربنا على ذلك مقتدر، فإن صح به الأثر، استمر عقيدة واستقر، وإلا، فالتفسير الأول يكفي في بيان معنى الآية" - يعني: تفسير التأذين بالحج بالإعلام به في جملة الشرائع-.

{يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} :

قال: {يَأْتُوكَ} ، وإنما يأتون البيت الذي بناه، وهي الكعبة؛ أخذاً بطريقة الإيجاز من حذف بعض الألفاظ المفهومة من مساق الكلام. والمعنى: يأتوا بيتك؛ أي: البيت الذي توليت بناءه بأمر من الله. والرجال: جمع راجل، وهو الماشي على قدميه. والضامر من الإبل والخيل: ما انضم جنباه هزالاً من طول السير، ويطلق على المذكر والمؤنث.

ولفظ {كُلِّ} في قوله: {كُلِّ ضَامِرٍ} مستعملة في معنى التكثير؛ أي: يأتوك مشاة، وركوباً على ضُمَّر كثيرة، والعرب قد يستعملون كلمة (كل) للدلالة على كثرة ما تضاف إليه.

والآية ذكرت أغلب الأحوال التي يأتي عليها الحجّاج إلى البيت الحرام، وهي أن يجيئوا مشاة، أو ركوباً على الإبل والخيل، وهذا لا ينافي أن يجيء عهد يكثر فيه السير إلى مكة على السيارات أو الطائرات.

واستدل بعض الفقهاء على أن المشي على الأقدام أفضل من الركوب بتقديم الرجال في الآية على راكبي الضمَّر. ويروى عن ابن عباس أنه قال: ما ندمت على شيء فاتني في شيبتي إلا أني لم أحج راجلاً. ويروى: أن الحسن بن علي حج ماشياً من المدينة إلى مكة، وإن النجائب لتقاد معه.

ص: 416

وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الركوب أفضل، واستندوا في هذه الأفضلية إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم حجّ راكباً.

{يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} :

الفج: الطريق، والعميق: البعيد، والجملة وصف لكل ضامر. وجاء الضمير العائد على {كُلِّ} ضمير الجمع المؤنث إذ قيل:{يَأْتِينَ} ؛ مراعاة للمعنى؛ لأن كل ضامر في معنى جماعة، أو جماعات من الضمر، ومراعاة لفظ (كل) يقتضي إفراد الضمير بأن يقال: كل ضامر يأتي من كل فج عميق، وكل من الطريقتين: مراعاة المعنى، ومراعاة اللفظ، يرد في الكلام البليغ، وتعدد الطرق في أداء المعنى الواحد من سماحة اللغة، واتساع مجالها أمام أرباب الفصاحة والبلاغة.

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} :

هذا تلبية للغرض المقصود من إتيانه البيت الحرام رجالاً وركباناً، فقوله تعالى:{لِيَشْهَدُوا} يتعلق بقوله: {يَأْتُوكَ} ، ويشهد: من الشهود بمعنى: الحضور، والمنافع: جمع منفعة، وهي ما يحصل للإنسان من خير. ودل على أن هذه المنافع عائدة إلى الحجاج خاصة بقوله:{لَهُمْ} ، والمعنى: يأتوك ليحضروا؛: يدركوا منافع مختصة بهم. ووردت المنافع في الآية مطلقة، فتشمل المنافع الدينية والدنيوية.

أما الدينية، فمغفرة الله ورحمته ورضوانه التي يظفر الحاج بها عند أداء مناسك الحج؛ من نحو: الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ولا يريد بذلك إلا إجابة دعوة الحق.

وأما المنافع الدنيوية، فالتجارة، والقصد إليها - بعد القصد إلى أداء

ص: 417

فريضة الحج - لا يخل بالإخلاص الكافي لاستحقاق المثوبة من الله. وضابط ذلك: أن يعزم على أداء فرض الحج، ويشعر في نفسه أن التجارة إنما جاءت عرضاً؛ بحيث لو عرض له مانع من تعاطي التجارة، لم ينثن عزمه عن الحج، أو يصبه وهن، واستمر على قصد الحج، والإقبال عليه بصدر منشرح وقلب سليم.

وللحج فوائد كثيرة العدد، عظيمة الخطر، من أهمها: التعارف، ثم التوادد، ثم الاتحاد، ثم التعاون على إقامة المصالح العامة، ودفع الأخطار الفادحة. ولو اتجهت أنظار الشعوب الإسلامية إلى هذه الغاية الخطيرة بعناية، وعملوا لها بحكمة وحزم، لوجدوا كبر مساعد على أن تتوافق اَراؤهم، وتتقارب مشاريهم، وتتماثل مراميهم، فيستعيدوا سيادتهم، ويعيشوا في عزة وطمأنينة.

{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} :

ذكر اسم الله: حمده وتقديسه. والأيام المعلومات: أيام العشر عند جماعة من الصحابة والتابعين، منهم: ابن عباس، والحسن البصري، وبه قال أبو حنيفة.

وذهب جماعة، منهم: مالك بن أنس وأصحابه إلى أن الأيام المعلومات: يوم النحر، ويومان بعده. والبهيمة: كل ذات أريع في البر أو البحر. والأنعام: جمع نَعَم، وهي: البقر والإبل والمعز والضأن. والمعنى: ويقدسوا الله ويحمدوه شكراً على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.

وذهب بعض أهل التفسير إلى أن ذكر الله في الآية كناية عن النحر

ص: 418

والذبح؛ لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر الله إذا ذبحوا أو نحروا. وفي التعبير بذكر اسم الله عن الذبح والنحر تلبية على أن الذبح أو النحر لا يكون قرباناً إلا إذا ذكر عليه اسم الله. فالمعنى على هذا الوجه من التفسير: ليشهدوا منافع لهم، ويذبحوا أو ينحروا ما رزقوا من بهيمة الأنعام ذاكرين الله عليهما.

{فَكُلُوا مِنْهَا} :

هذا إذن لأصحاب الهدايا والأضاحي في الأكل منها، والأمر محمول على الندب؛ لما في كلهم منها من المخالفة لأهل الجاهلية؛ إذ كانوا لا يأكلون من هداياهم، ولما فيه من مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل أخذاً بفضيلة التواضع.

وإنما يندب الأكل من الهدي الذي يتطوع به الإنسان من نفسه، أما الهدي الواجب؛ كنذر المساكين، وما يجبر به نقص يقع في بعض واجبات الحج، فلا يجوز الأكل منه؛ قياساً على سائر الكفارات. والمسألة مبينة في كتب الأحكام.

وإذا جاز لصاحب الهدي أن يأكل منه، جاز له أن يطعم منه بعض الأغنياء منى شاء.

{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} :

{الْبَائِسَ} : من أصابه بؤس؛ أي: شدة. والفقير: الذي لا شيء له، أو الذي له بُلغة من العيش، كقوت اليوم ونحوه، والجمع بين وصفي البؤس والفقر للتذكير بأنه في شدة؛ أي: ضر، وبأنه في حاجة إلى الإطعام.

والآية أذنت لصاحب الهدي في الأكل منها، وأمرته بأن يطعم منها البائس والفقير، فيبقى انتفاعه منها بالبيع على حكم المنع؛ نظراً إلى أنه

ص: 419

إنما قصد بها القربة إلى الله، وهذا بالنسبة لصاحب الهدي، ويجوز لمن يتصدق عليه بجلدها أن ينتفع به من طريق البيع، كما تفعل جمعيات الإسعاف. وقد كان القاضي أبو بكر بن العربي عندما تهدم سور إشبيلية جبر الناس على تسليم لجود ضحاياهم؛ ليستعان بأثمانها على إصلاح السور.

ص: 420