الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفْسِيرُ أَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ يُونسَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
افتتحت الآية بحرف {أَلَا} ؛ لتنبيه السامع، وإحضار ذهنه؛ حتى يجيئه الكلام بعدها، وهو متهيئ لتلقيه، فيقع في نفسه أمكنَ وقع. والأولياء جمع وليّ، والوليُّ وصفٌ مأخوذ من الوَلْي، وهو القرب، وإطلاقه على المؤمن الصادق؛ لأنه قريب من الله قرباً روحانياً، وهو القرب الذي ينال بطهارة القلب، وخلوص النية، واستقامة الأعمال.
الخوف: غمٌّ يلحق النفس لتوقع مكروه. والمراد من نفي الخوف: نفي ما يوجب الخوف؛ أي: إن أولياء الله يكونون في نجاة وسلامة من المكاره، ومن خاف على وليّ من الوقوع في مكروه، فخوفه آتٍ من غير طريق، وواقع في غير موضع.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الخامس من المجلد الحادي عشر.
وإذا حصل لبعض المتقين خوف من عقاب الله، فإنما هو الخوف من أن يقعوا فيما يسلبهم الولاية، وما عدا هذا، فهو خشوع القلب أمام جلال الله وعظمته.
وقد يبدو لك أن الآية نفت الخوف على أولياء الله، ومن أولياء الله من تلحقه المكاره في الدنيا، فقد يصاب في بدنه أو ماله، وقد يناله بعض المجرمين بأذى؛ من نحو: السب، أو السجن، أو الضرب، أو القتل.
وجواب هذا: أن الآية نفت الخوف على أولياء الله من مكاره يوم القيامة، تلك المكاره التي تنتفض قلوب الموقنين عند توقعها فزعاً، وأما مكاره الدنيا، فإنهم يسألون الله تعالى أن يكفيهم شرها، وإذا مسهم شيء منها، تلقوه بصبر جميل، ومتى نظروا إلى ما يترتب على صبرهم عليها من رضا الخالق، خف أمرها، وحمدوا عاقبتها.
فأولياء الله لا تلحقهم مكاره الآخرة لإطلاق، وقد تلحقهم في الدنيا مكاره يعقبها ما هو خير منها، ومن لا يناله مكروه إلا أن يعقب ذلك المكروه خير أكبر منه، صح أن ينظر إلى ذلك المكروه الذي يصيبه بعين الاستصغار. ويقال: إن أولياء الله هم تحت رعاية الله في كل حال، فلا يدركهم في الدنيا ما يوجب الخوف عليهم.
الحزن: غمٌّ يلحق النفس من فوات نافع، أو حصول ضار. والمراد من نفي الحزن ما يوجب الحزن؛ أي: إن أولياء الله لا يمسهم ضرر، ولا يفوتهم خير، فلا يدركهم حزن في الحياة الآخرة البتَّة، وأما في الدنيا، فقد يلحقهم ما يثير شيئاً من الحزن؛ كحزن يثيره الإحساس بشدة وجع، أو تثيره عاطفة رحمة أو محبة؛ كأن يرى ولده يعالج سكرات الموت، أو يرى أخاً أو صديقاً
قد أزمع على رحلة طويلة، وحزنه في كل حال يصاحبه الرضا بقضاء الله، والحزن المصاحب للرضا بالقضاء في الدنيا يكسب صاحبه خيراً، ويعود عليه بأجر، فلا يراد نفيه عن أولياء الله.
فأولياء الله لا يغتمون لفوات نافع، أو حصول ضرر في الآخرة بإطلاق، وإذا ضاقت صدورهم في الدنيا للوقوع في أذى، أو عدم الظفر ببغية، فإنما هو حزن تثيره طبيعة من نحو المحبة، والشفقة، ولا يلبث أو يزول.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} :
هذه جملة مستأنفة لبيان المزية التي رفعتهم إلى منزلة الولاية، وهي جمعهم بين الإيمان وحسن الطاعة؛ فإن الاتقاء يصدق بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والجملة واقعة موقع جواب يتشوف إليه السامع عندما يسمع أن أولياء الله في نجاة من كل مكروه، فكأنه قيل: من هم الأولياء؟ وبماذا أدركوا ذلك الفضل العظيم؟ فقيل: هم الذين آمنوا، وكانوا يتقون.
وذكر الإيمان الذي هو التصديق بصيغة الماضي؛ لأنه يقع عقب الحجة دفعة، ثم يستقر في النفس، وذكر الاتقاء بصيغة المضارع؛ لأن فعل المأمور به، وترك المنهي عنه يتجدد، ويقع مرة بعد أخرى.
بعد أن أخبر تعالى بسلامة أوليائه من المكاره التي توجب الخوف أو الحزن،، أشار إلى ما ينالونه بعد هذه السلامة من خير وكرامة، فقال تعالى:
{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} :
و {الْبُشْرَى} : الخبر السار، والمعنى: أنهم يبشرون في الدنيا وفي الآخرة بما يسرهم، ولم يذكر المبشر به؛ لتعم البشارة كل ما يوعدون به من فضل ونعيم، أما البشرى في الدنيا، فقد رويت أحاديث تنبئ بأنها الرؤيا الصالحة
يراها المؤمن، أو تُرى له، ومن لم يروا أن هذه الأحاديث بالغة مبلغ الصحة ذهبوا في تفسيرها مذاهب، أظهرها: أن البشرى في الدنيا: ما جاء في الكتاب أو السنَّة من وعد الله المتقين بالفضل، ورفعة المنزلة؛ مثل قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 47]، وقوله تعالى:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21]. والرؤيا الصالحة من قبيل الإلهام الصادق، فهي داخلة في البشارة في الدنيا.
وأما البشرى في الآخرة، فنحو تلقي الملائكة بالسلام، وإخبارهم إياهم بما أعد الله لهم في دار الكرامة، وإلى هذا يشير قوله تعالى:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].
وتطلق البشرى على ما يبشر به الإنسان من خير، ويصح حمل الآية على هذا الوجه، والمعنى: أن لأولياء الله خيرات في الدنيا والآخرة يستبشرون بها، أما خيرات الآخرة، فكل ما تشتهيه الأنفس، وتلذه الأعين، ومن خيرات الدنيا التي تعد من عواقب الإيمان والتقوى: النصر على الأعداء؛ ذلك أن من الواجبات التي لا تتحقق التقوى إلا بها: الدعوة إلى سبيل الله، والذود عن الحق بما يستطاع من يد أو لسان، ومن قام بهذا الواجب، كف الله عنه أيدي أعدائه، وأظهره عليهم، ولو كانوا أكثر منه مالاً، أو أوسع جاهاً، أو أنفذ كلمة. هذا ما يشاهد من سنة الله في الأفراد، وذلك ما يدعو المؤمن أن يمضي في سبيل دعوته إلى الحق، ولا يثبطه عنها أن يكون لخصم الحق سطوة؛ فإنهم إن استطاعوا أن يلحقوا به أذى، قد يجعل الله في ذلك الأذى خيراً كثيراً.
وكذلك الجماعة تستضيء بنور الإيمان، وتسير على الصراط السويّ؛ فإن أيسر شيء عليها أن تنجو من سيادة عدو لا يرحمها، بل تملأ عينه بمهابتها، وتظهر عليه متى تصدى لمناوأتها.
{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} :
كلمات الله: أقواله، ومن جملتها: مواعيده، فتتناول الآية ما وعد به المؤمنين الصادقين من خير في الدنيا أو الآخرة، ويدخل في هذا: الرؤيا الصالحة؛ فإنها من قبيل الوعد، وعدم تبديلها في تحقق ما تدل عليه من حصول خير لمن رؤيت له.
{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :
{الْفَوْزُ} : النجاة والظفر بالخير، والمشار إليه: ما ذكر قبل من أن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأي فوز أعظم من أن يظفر الإنسان بسعادة الدارين؟!.
{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} :
هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان المشركون يؤذونه به من أقوال جافية، ولم يبين في هذه الآية ماذا قالوا، لعله مما قصه الله عنهم قبل هذه الآيات بقوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [يونس: 38]، أو أطلق القول ليتناول كل ما يتفوهون به في حقه من المقالات الخاطئة. وموضع العبرة من هذا: أن يقف الداعي إلى الحق موقف العزم والثبات، فلا يقيم لما يقوله الذامون أو المتهكمون به وزناً، ويضرب به وراء أذنه، ونرى ضعيف الإيمان بما يدعو إليه هو الذي يحزن لأقوال المبطلين حزناً يثبطه عن الدعوة، أو يصرفه عنها، متكئاً على أن ما يلاقيه من الأذى عذر يبيح له أن يسكت مع الساكتين.
{إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} :
هذا استئناف واقع موقع التعليل لنهيه عليه الصلاة والسلام عن الحزن، والعزة: الغلبة والقهر، فكأنه قيل: لا تحزن لما يقوله المشركون، فإن الغلبة والقهر في ملكة الله وحده، ولا يملك سواه شيئاً منها، وإذا كانت العزة لله وحده، فإنه سيعصمك منهم، وينصرك عليهم.
وموضع العبرة من هذا: أن سنة الله قد جرت بأن يجعل العزة في جانب الذين آمنوا وكانوا يتقون، فإذا ابتلي المؤمنون المتقون بعدو ينالهم بأذى، وتلقوا ذلك الأذى بصبر، وجاهدوا في دفاعه عن أنفسهم بكل وسيلة ممكنة، فإن عاقبتهم الخلاص من تلك اليد الباغية، ولا يلبثون أن يدركوا عزتهم، وتكون يدهم فوق يد عدوهم.
{هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :
لا يغرب عن سمعه ما يقولونه في حقك من سوء، ولا يغيب عن علمه ما يتعرضون لك من أذى، فهو الذي يجازيهم بما يقولون، وما يفعلون.