المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقدمة الإمام محمد الخضر حسين - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ١٢/ ٣

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(25)«المُغْنِي عَنِ الحِفْظِ وَالكِتَابِ»

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌تنبيه على اصطلاح للمصنف

- ‌ باب في زيادة الإيمان ونقصانه، وأنه قول وعمل

- ‌ باب في أن كلام الله عز وجل قديم غير مخلوق

- ‌ باب في خلق الملائكة:

- ‌ باب في التسمية بمحمد أو أحمد

- ‌ باب في العقل

- ‌ باب في تعمير الخَضِر وإلياس:

- ‌ باب طلبُ العلم فريضة:

- ‌ باب من سُئل عن علم فكَتَم:

- ‌ باب ذكر فضائل القرآن:

- ‌ باب في فضائل أبي بكر الصديق:

- ‌ باب فضل علي بن أبي طالب

- ‌ باب فضل قبائل العرب:

- ‌ باب فضل معاوية بن أبي سفيان

- ‌ باب ما ورد في مدح أبي حنيفة والشافعي وذمهما

- ‌ باب إذا بلغ الماءُ قُلَّتين لم يحمِل خبثاً

- ‌ باب في الماء المشمَّس:

- ‌ باب في التسمية على الوضوء:

- ‌ باب كراهية الإسراف في الوضوء:

- ‌ باب في التنشيف من الوضوء

- ‌ باب في الوضوء بنبيذ التمر

- ‌ باب إن لمس النساء لا ينقض الوضوء:

- ‌ باب الأمر بالغسل لمن غسل ميتاً:

- ‌ باب النهي عن دخول الحمّام:

- ‌ باب أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية من كل سورة:

- ‌ باب في الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- ‌ باب الإمام ضامنٌ والمؤذن مؤتَمَن:

- ‌ باب لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد

- ‌ باب الصلاة خلف كل بَرٍّ وفاجر:

- ‌ باب لا صلاة لمن عليه صلاة:

- ‌ باب إثم إتمام الصلاة في السفر:

- ‌ باب القنوت في الفجر إلى أن فارق الدنيا:

- ‌ باب النهي عن الصلاة على الجنازة في المسجد

- ‌ باب رفع اليدين في تكبيرات الجنازة:

- ‌ باب أن الصلاة لا يقطعها شيء:

- ‌ باب صلاة التسابيح

- ‌ باب عدد التكبير في صلاة العيدين

- ‌ باب زكاة الحليّ

- ‌ باب زكاة العسل:

- ‌ باب لولا كَذِبُ السائلِ ما أفلحَ من رَدَّه:

- ‌ باب زكاة الخُضراوات:

- ‌ باب الطلب من الرُّحماء والحسان الوجوه:

- ‌ باب في التحذير من التبرُّم بحوائج الناس:

- ‌ باب فعل المعروف محل الضيعة:

- ‌ باب إن السخيَّ قريبٌ من الله، والبخيل بعيد من الله:

- ‌ باب في فضل عاشوراء:

- ‌ باب الاكتحال فيه:

- ‌ باب لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل:

- ‌ باب صيام رجب وفضله:

- ‌ باب أن الحجامة تفطر الصائم - وأفطر الحاجم والمحجوم

- ‌ باب حجوا قبل أن لا تحجوا، ومن أمكنه الحج، ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً، إلى غير ذلك:

- ‌ باب: قال أحمد: أربعة أحاديث تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسواق ليس لها أصل:

- ‌ باب كل قرض جرَّ منفعة فهو رِبا

- ‌ باب بيع الكالئ بالكالئ:

- ‌ باب اتخذوا السراري؛ فإنهن مباركات الأرحام:

- ‌ باب إياكم وأبناء الملوك؛ فإن لهم شهوةً كشهوة العذارى:

- ‌ باب مدح العزبة نحو: "عُزَّابها نُجّابها"، وأشباه ذلك:

- ‌ باب النهي عن قطع السِّدر:

- ‌ باب أفضل طعام الدنيا والآخرة اللحم:

- ‌ باب النهي عن قطع اللحم بالسكين، وأنه من صنع الأعاجم:

- ‌ باب في الهريسة:

- ‌ باب النهي عن أكل الطين:

- ‌ باب الأكل في السوق:

- ‌ باب في البطيخ وفضائله:

- ‌ باب في النرجس والورد والزرنجوش والبنفسج والبان:

- ‌ باب الديك الأبيض صديقي…الحديث:

- ‌ باب النهي عن نتف الشيب

- ‌ باب النهي عن تغيير الشيب:

- ‌ باب التختم بالعقيق:

- ‌ باب التختم في اليمين:

- ‌ باب النهي عن أن نقص الرؤيا على النساء:

- ‌ باب كلام النبي صلى الله عليه وسلم الفارسية:

- ‌ باب كراهية الكلام بالفارسية، وأنها لغة أهل النار:

- ‌ باب إن ولد الزنا لا يدخل الجنة:

- ‌ باب ليس لفاسق غيبة

- ‌ باب النهي عن سَبِّ البراغيث:

- ‌ باب ذم السماع:

- ‌ باب تحريم اللعب بالشطرنج:

- ‌ باب لا تقتل المرأة إذا ارتدت:

- ‌ باب إذا وُجد القتيل بين قريتين، ضَمِن أقربُهما:

- ‌ باب فيمن أهديت إليه هدية وعنده جماعة، فهم شركاؤه

- ‌ باب ذم الكسب وفتنة المال:

- ‌ باب ترك الأكل والشرب من المباحات:

- ‌ باب في الحجامة:

- ‌ باب الاحتكار:

- ‌ باب مسح الوجه باليدين بعد الدعاء:

- ‌ باب موت الفجأة:

- ‌ باب المَلاحِم والفِتَن:

- ‌ باب في ظهور الآيات في الشهور:

- ‌ باب ذم المولودين بعد المائة:

- ‌ باب وصف ما يكون بعد الثلاثين ومئة، والستين ومئة:

- ‌ باب ظهور الآيات بعد المئتين:

- ‌ باب لأنْ يُرَبِّيَ أحدكم جَرْواً خيرٌ له مِن أن يربي وَلداً. وفي حديث آخر: يكون المطرُ قَيْظاً، والولدُ غيظاً:

- ‌ باب تحريم قراءة القرآن بالألحان:

- ‌ باب تحليل النبيذ:

الفصل: ‌مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدّمَة الإمام محمّد الخضر حسين

إن في القرآن لآية كبرى، ومعجزة خالدة. وهو المَطْلَعُ الذي تتجلّى فيه روح الشريعة بأكمل معنى، وتستقر فيه حقائقها بأبدع نظام. وهذه المزايا السامية تقتضي من حكمة الذي أوحى به أن حفّه بعنايته، وضرب عليه بسور من حفظه، حتى لا يجد الزنادقة وأصحاب الأهواء والمتخبطون في ليل الجهالة منفذاً لأن يسوموا أصول الشريعة بتحريف، أو يمسوها بما يثير شبهة، أو يجر إلى ريبة، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

ولم يجد السفهاء من الناس طريقاً يمكنهم من طعن الإسلام في لبه، فمدوا أيديهم إلى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يختلقون مزاعم سخيفة، ويلفقون صوراً من الباطل، ووضعوها بجانب حقائق الدين؛ فكانت هذه الأحاديث الموضوعة كالأقذاء، تتهافت حول الزجاجة الغراء.

تسرب الوضع في الأحاديث النبوية من وجوه شتى، وصدر عن أغراض مختلفة. ومن هذه الوجوه: أن في أعداء الإسلام من أدركوا أنه شريعة محكمة، ودين قيم، ولم يجدوا في مبادئه وتعاليمه ما تتجافى عنه الفطرة السليمة، أو ينبو عنه النظر الصحيح. وكانوا قد خرجوا في زي المسلمين، واندمجوا في جماعتهم، فصنعوا أحاديث يناقضها المحسوس، أو يصادمها المعقول، أو تشهد أذواق الحكماء بسخافتها، وإنما ينصبون بذلك المكيدة لضعفاء الأحلام

ص: 6

حتى يقعوا في ريبة، وتتزلزل من نفوسهم عقيدة أن الإسلام تنزيل من حكيم حميد. ومن هؤلاء الزنادقة: المغيرة بن سعيد الكوفي، ومحمد بن سعيد الشامي، ومن موضوعاته حديث:"أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا إن يشاء الله".

وقد يضع بعض الزنادقة أحاديث؛ ليأخذوا بها الناس إلى العمل على شاكلتهم؛ كحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر، لنفعه". فقد قال ابن القيّم: هو من كلام عبّاد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالأحجار. وقال ملّا علي قاري في آخر "الموضوعات": إنه من وضع المشركين عبّاد الأوثان.

وفي المسلمين من خفَّ وزنهم، وكانوا قد اتخذوا رأياً في العقائد، أو قرروا مذهباً في الأحكام، فطاشت بهم الأهواء، وفرطُ التعصب إلى أن يشدوا أزر دعاويهم بأحاديث يسندونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليدمغوا حجج خصومهم، ويكثروا سواد أشياعهم. ومن هؤلاء من شرح الله صدره للتوبة، وأقر على نفسه بارتكاب جريمة الوضع، كما قال أحد شيوخ الخوارج إذ أخذه الندم على ما فرط في جانب الأمانة في العلم:"إن هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم؛ فإنَّا كنا إذا هَوِينا أمراً، صيرناه حديثاً".

ومن أسباب وضع الحديث: الحرص على التقرب من ذوي الرياسة؛ مثلما صنع غياث بن إبراهيم حين رأى المهدي معجباً بالحَمام، فروى له حديث:"لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل"، وزاد فيه:"أو جناح"، فأدرك المهدي كذبه، وسقطت منزلته من عينه، وأمر بذبح الحَمام.

ومنها: الغلو في حب؛ كالأحاديث الموضوعة في فضل الإمام علي، أو معاوية، أو أبي حنيفة، أو الشافعي. ومن هذا القبيل: الأحاديث الموضوعة

ص: 7

في فضل بعض البلاد؛ كالأحاديث الموضوعة في فضل مصر، أو فاس، أو عسقلان.

وربما كان الباعث عليها: ثائرة حسد أو بغض؛ كالأحاديث المصطنعة في ذم الترك والحبشة، والإمامين أبي حنيفة والشافعي، ومن هذا: الحديث الذي رواه مأمون بن أحمد المروزي في ذم الإمام الشافعي حين قيل له: ألا ترى إلى الشافعي وإلى من تبعه بخراسان؟!. ووضع سعد بن طريف حديث: "معلمو صبيانكم شراركم" حين رأى ابنه يبكي، وقال له: ضربني المعلم.

وقد تجرأ على وضع الأحاديث أناس يبتغون شهرة، أو يلتمسون دنيا، فيتبوؤون في المساجد أو الأسواق مقاعد الوعاظ، ويملؤون آذان العامة بأحاديث يفترونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت أدمغتهم من الأحاديث الثابتة فارغة.

ومن أسخف الدواعي إلى الوضع: أن يقصد الواضع للحديث ترويج ما يتعاطاه من بعض المصنوعات؛ كحديث: "أتيت بهريسة فأكلتها، فزادت في قوتي أربعين

إلخ "؛ فقد وضعه محمد بن الحجام اللخمي، وكان صاحب هريسة، وغالب طرق الحديث يدور عليه، ثم سرقه منه كذابون آخرون.

وقد يضع الحديث بعض الأغبياء؛ للحث على خير، أو الردع عن شر، بزعم أن هذا النوع من الوضع لا يدخل في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو كذب له، لا عليه؛ كما وضع أبو عصمة المروزي أحاديث في فضائل السُّورَ، وقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق عن القرآن، فوضعت هذه الأحاديث حسبة. وقال عبد الله النهاوندي:

ص: 8

قلت لغلام خليل: "هذه الأحاديث التي تحدث بها من الرقائق"، فقال:"وضعناها لنرقق بها قلوب العامة". قال ابن الجوزي: غلام خليل كان يتزهد، ويهجر شهوات الدنيا، ويتقوت الباقلاء صرفاً، وغلقت أسواق بغداد يوم موته. وقد حسَّنَ له الشيطان هذا الفعل القبيح. وليس قصد هؤلاء لحمل الناس على عمل الخير بعذر يزحزحهم عن وعيد الكذب على صاحب الشريعة؛ فإن معنى "من كذب عليَّ متعمداً

إلخ ": من نسب إليّ ما لم أقله، كان منزله يوم القيامة في النار.

وقد استجاز قوم وضع الأسانيد لكل كلام حسن، ورفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام. وكان محمد بن سعيد يقول: لا بأس إذا كان كلام حسن أن تضع له إسناداً. وفي الكتاب العزيز والسنة الصحيحة ما يكفي لتذكير الغافلين، وإرشاد الضالين، ولاسيما إذا تولى بيانه ذو فهم منتج، وأسلوب حكيم.

وقد يجيء وضع الحديث من قلة تَثَبُّتِ الراوي؛ كما وقع لثابت ابن موسى الزاهد، إذ دخل على شريك بن عبد الله القاضي، والمستملي بين يديه، وشريك يقول: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر متن الحديث -، فلما نظر إلى ثابت، قال: من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار، وإنما أراد بذلك ثابت بن موسى؛ لزهده وورعه، فظن ثابت بن موسى أنه روى الحديث مرفوعاً بهذا الإسناد، فكان ثابت يحدِّث به عن شريك عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر. قال صاحب "جامع الأصول" وليس لهذا الحديث أصل إلا من هذا الوجه.

وقد يقع في وضع الحديث من لا يقصد إلى الكذب، وإنما تضيع كتبه،

ص: 9

أو تحترق، فيرجع إلى حفظه، فيخونه، ويحدّث عن غلط في الرواية. ومن هؤلاء: عبد الله بن لهيعة الحضرمي؛ فقد تلفت كتبه بمصر، ورجع إلى حفظه، فتخبط في خلط، وحدّث بالمناكير.

رأى عليه الصلاة والسلام ما في جناية الكذب عليه من سوء الأثر، وعظم الخطر، فقال:"من كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار". وقد بلغ هذا الحديث من حيث المعنى مبلغ التواتر، وكادت استفاضته على ألسنة الموثوق بروايتهم تنتهي به إلى درجة المتواتر بلفظه. أخرجه الشيخان، والترمذي، والنسائي، والحاكم، وغيرهم. وقال السيوطي: روى هذا الحديث أكثر من مئة من الصحابة. ونقل ابن الجوزي عن أبي بكر محمد بن عبد الوهاب الإسفرائيني: أنه ليس في الدنيا حديث اجتمع عليه العشرة المشهود لهم بالجنة غير حديث: "من كذب عليَّ

إلخ".

ولهذا الحديث، وما فيه من الوعيد البالغ والإنذار الرائع، كان بعض الصحابة رضي الله عنه يقلل من رواية الحديث عن النبي - عليه الصلاة السلام -؛ ففي الصحيح عن أنس: أنه قال: ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد عليَّ كذباً، فليتبوأ مقعده من النار". وفي "البخاري"، وغيره عن عبد الله بن الزبير، قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدِّث عن رسول الله كما يحدِّث فلان وفلان. قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعته يقول:"من كذب عليّ، فليتبوأ مقعده من النار"، زاد الدارقطني: والله! ما قال: "متعمداً"، وإنكم تقولون: متعمداً.

ولخطر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وضرره الذي يمس حكمة الدين، أو يقلب بعض حقائقه، كان بعض الخلفاء الراشدين يتحرزون في الأخذ بالحديث،

ص: 10

فلا يقبلون رواية الواحد، ويطالبون من يروي لهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة بينة. فقد جاء في "الصحيحين ": أن عمر بن الخطاب قال لأبي موسى الأشعري حين روى له حديث الاستئذان: لتأتيني على هذا بالبينة، فقام أبو سعيد الخدري، فشهد معه، فقال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الحاكم: أن أبا بكر الصديق زكاته قال للمغيرة حين روى حديث إعطاء الجدة السدس: ومن سمع ذلك معك؟ فشهد محمد بن سلمة.

والعبرة في هاتين القصتين: أن أبا بكر، وعمر طلبا البينة من رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفاهما بكمال التقوى والأمانة، حتى إذا عرف الناس أن خبر الواحد لا يقبل بغير بينة، لم يتجاسر المنافقون وأصحاب الأهواء الذين يستعيرون سمات المتقين على أن يحدّثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقيموا على ذلك بينة عادلة.

اختلف أهل العلم في حكم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب الجمهور إلى أنه معصية كبرى. وقال أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين: إن من تعمد الكذب على رسول الله يكفر كفراً يخرجه عن الملة. وتبعه في هذه الفتوى طائفة، منهم: ناصر الدين بن المنير من أئمة المالكية. ومن أدلة هؤلاء: أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب على الله؛ فإنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وقال تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 144]، وقال:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] والمراد: افتراء الكذب على الله ورسوله، لا مطلق الكذب؛ فإن الكذب؛ على غيرهما لا يبلغ أن يخرج بصاحبه من دائرة الإيمان،

ص: 11

ولا يصح قصره على الذين لا يؤمنون بآيات الله. وممن نص على الخلاف في تكفير من كذب على الله: الإمام ابن عرفة في "تفسيره"؛ إذ قال عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]: إن من كذب على الله مستحلاً، فهو كافر بإجماع، وكذلك من كذب فيما هو معلوم من الدين ضرورة. وإن كان غير مستحل، فهو محل الخلاف.

وقد صدرت من علماء الشريعة مقالات في تشديد العقوبة على من يختلق الأحاديث، فقال ابن عيينة في معلى بن هلال لما روي له عنه حديث موضوع: إن كان معلى يحدث بهذا الحديث عن أبي نجيح، فما أحوجه أن يضرب عليه. وسئل الإمام البخاري عن حديث موضوع، فكتب على ظهر كتاب السائل: من حدّث بهذا، استوجب له الضرب الشديد، والحبس الطويل. وقال يحيى بن معين في سويد الأنباري الواضع لحديث:"من عشق وعف وكتم": هو حلال الدم. وقال: لو كان لي فرس ورمح، غزوت سويداً.

وقد بذل علماء الحديث مجهودهم في نقد الأحاديث، وتمييز طيبها من خبيثها، ففتحوا باب الجرح في الرواة على مصراعيه، ولم يخشوا أن يكون ذلك من باب الغيبة والطعن في الأعراض. قيل ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماء لك عند الله تعالى؟ فقال: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحبُّ إليَّ من أن يكون النبي عليه السلام خصمي، يقول: لِمَ لم تذبَّ الكذب عن حديثي.

وكان سفيان الثوري يقول: فلان ضعيف، وفلان لا تأخذوا عنه، وكان لا يرى ذلك غيبة. وسئل مالك، وسعد، وابن عيينة عن الرجل لا يكون بذاك

ص: 12

في الحديث، فقالوا جميعاً: بيّن أمره. وقيل لشعبة: هذا الذي تكلم في الناس، أليس هو غيبة؟ فقال: يا أحمق! هذا دين، وتركه محاباة. وقال محمد بن بندار الجرجاني لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد عليَّ أن أقول: فلان ضعيف، وفلان كذَّاب، فقال أحمد: إذا سَكتَّ أنت، فمتى يعرف الجاهلُ الصحيحَ من السقيم؟!.

قال ابن الجوزي: والوضّاعون كثيرون، ومن كبارهم: وهب بن وهب القاضي، ومحمد بن السائب الكلبي، ومحمد بن سعيد الشامي المصلوب، وأبو داود النخعي، وإسحاق بن نجيح الملطي، وعباس بن إبراهيم النخعي، والمغيرة بن شعبة الكوفي، وأحمد بن عبد الله الجويباري، ومأمون بن أبي أحمد الهروي، ومحمد بن عكاشة الكرماني، ومحمد بن القاسم الطايكاني، ومحمد بن زياد اليشكري.

وقال النسائي: الوضّاعون المعروفون بوضع الحديث أربعة: ابن يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام.

لم يقف العلماء عند نقد الحديث من حيث سنده، بل تعدوا إلى النظر في متنه، فقضوا على كثير من الأحاديث بالوضع، وإن كان سندها سالماً؛ إذ وجدوا في متونها عللاً تقضي بعدم قبولها.

ومن هذه العلل: مخالفة الحديث لصريح القرآن؛ كحديث مقدار الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة؛ فإنه لا يثبت أمام قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} [الأعراف: 187]. وحديث: ولد الزنا لا يدخل الجنة؛ فإنه باطل، ومن وجوه الحكم عليه بالبطلان:

ص: 13

معارضته بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 164]، ويدخل في هذا السبيل حديث:"لم يبعث الله نبيّاً إلا وهو غريب في قومه"؛ فإنه مخالف لقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1]، وقال صلى الله عليه وسلم:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]، وقوله:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73].

ومن الوجوه القاضية بوضع الحديث: مناقضته للسنّة الصريحة المسلَّمة؛ كالأحاديث التي تروى في فضل من اسمه أحمد، أو محمد، أو كل من يسمى بأحد هذين الاسمين لا يدخل النار. فوجه القضاء عليها بالوضع: أنها جاءت على خلاف ما هو معروف في الدين من أن النار إنما يجار منها بالأعمال الصالحة، لا بالأسماء والألقاب.

ومنها: مخالفة للمحسوس؛ كحديث: "الباذنجان شفاء من كل داء"، فهو باطل بحجة أن المشاهدة تقضي بأن كثيراً من الأمراض يزيدها الباذنجان شدة.

ومنها: اشتماله على بعض المجازفات التي يرتفع عنها كلام النبوة؛ كحديث: "من قال: لا إله إلا الله، خلق الله من تلك الكلمة طائراً له سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يستغفرون الله له".

ومنها: سماجة الحديث، وكونه مما يسخر منه؛ كحديث:"لا تسبوا الديك؛ فإنه صديقي "، وحديث:"الديك الأبيض الأفرق حبيبي، وحبيب حبيبي جبريل،، وحديث: "لو كان الأرز رجلاً، لكان حليماً".

ومنها: تضمنه خبراً يشهد التاريخ الصحيح ببطلانه؛ كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر الذي قرنه واضعه بشهادة سعد بن معاذ. فمن وجوه تفنيد هذا الحديث: أن سعداً توفي في غزوة الخندق، وكانت قبل فتح خيبر،

ص: 14

ثم إن الجزية لم تشرع لعهد خيبر، ولم تكن معروفة للصحابة، ولا للعرب، وإنما نزلت بعد عام تبوك.

ومن أمثلة هذا: حديث: "اتقوا البردة فإنه قتل أخاكم أبا الدرداء"، فهذا حديث لا أصل له. ومن أدلة وضعه: أن أبا الدرداء عاش بعد النبي عليه الصلاة والسلام زمناً غير قريب.

ومنها: تضمنه أمراً شأنه أن تتوفر الدواعي إلى نقله، ويصرح الحديث نفسه بأنها وقعت في مشهد عظيم من الصحابة، ثم لا يشتهر، ولا يرويه إلا واحد. وقد ضرب المحدثون من أمثلة هذا النوع رواية بعض الطوائف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الخلافة علياً رضي الله عنه في غدير خم حين رجوعه من حجة الوداع بحضرة جم غفير أزيد من مئة ألف. وساق بعض المحدثين من أمثلة هذا أيضاً: حديث رد الشمس لعلي عليه السلام؛ فقد ذكر في روايته أن الواقعة كانت مشهودة للناس، مع أنه لم يشتهر حديثها، ولم تعز روايته إلا لأم سلمة.

ومنها: مجيئه على خلاف مقتضى الحكمة المتفق عليها بين ذوي العقول السليمة؛ كحديث: "جور الترك ولا عدل العرب"؛ فإن الجور مذموم على الإطلاق، كما أن العدل محمود في كل حال.

ومنها: ادعاء أحد رواته أنه أدرك من العمر فوق ما جرت به سنّة الله في الخليقة حتى لقي من تقدمه بزمن بعيد، وتلقى عنه؛ كالأحاديث التي رواها الرتن الهندي مدعياًا لصحبة، ولقاء النبي عليه الصلاة والسلام، وهو لم يظهر إلا بعد ست مئة سنة من الهجرة. ومن هذه الشاكلة ما يزعمه المتصوفة الملقبون بالقلندرية من صحبة عبد الله الملقب بعلم بردار، ويدعون

ص: 15

بقاءه إلى قريب من المئة السادسة بعد الهجرة، وإليه ينسبون خرقتهم، وصنعوا في ذلك إسناداً متصلاً.

ولا ينبغي الاستناد في العمل بالحديث -الذي لم يثبت علماً ورواية- إلى الرؤيا التي يفهم منها جواز العمل به؛ كما حكي عن نور الدين الخراساني: أنه كان عندما يسمع الأذان يقبَّل إبهامي يديه، ويمسح بظفريه أجفان عينيه عند كل تشهد، ولما سئل عن ذلك، قال: كنت أفعله من غير رواية حديث، ثم تركته، فرأيته صلى الله عليه وسلم مناماً، وأمرني بالعودِ إلى المسحِ.

ويلحق بهذا القبيل: الأحاديث التي يقضي عليها الحفاظ بالوضع، ويقول بعض المتصوفة: إنها ثبتت من طريق الكشف؛ إذ من المتفق عليه بين الراسخين في علم الشريعة: أن الرؤيا والكشف لا تتقرر بهما حقيقة شرعية، وإضافة شيء إلى الدين بالاستناد إلى واحد منهما، دون أن يقوم له شاهد من الكتاب أو السنّة الثابتة بالطرق العلمية المعروفة، لا يخرج عن أن يكون ابتداعاً في الدين، وفتحاً لباب من أبواب المزاعم الباطلة، والمظاهر المنكرة.

نشأ عن وضع الأحاديث آثار سيئة بين العامة، ومن هذه الآثار: دخول فساد في العقيدة، وقد وقع هذا الفساد على نوعين:

أحدهما: أحاديث جمد عليها بعض الأغبياء، فبعدت بهم عن التوحيد الخالص؛ كحديث:"لو أحسن أحدكم ظنه بحجر، لنفعه"؛ فإنه مما استدرج كثيراً من العامة إلى أن نفضوا قلوبهم من الثقة بالله وحده، وصرفوا وجوههم يرجون النفع أو دفع الضرر بطريق المدد الخفي من بعض المخلوقات، حتى علقوا رجاءهم ببعض الأشجار أو الأحجار أو الفجّار.

ثانيهما: الأحاديث المصنوعة في قالب السخافة، أو النافرة عن وجه

ص: 16

الحكمة، فقد حسبها بعض الجاهلين بالشريعة أنها من جملة أقوالها المأخوذة عنها، فتزلزلت عقائدهم، وضلوا عن سبيل هدايتهم، وكثيراً ما نسمع من بعض المبتلين بسوء العقيدة أحاديث موضوعة يتجشؤون بها في المجلس باعتقاد أنها من أقوال صاحب الشريعة، ويقصدون من ذلك التوسل إلى الطعن في الدين، أو إقامة العذر في انصرافهم عنه.

ومن تلك الآثار: تكثير سواد البدع والمحدثات؛ كحديث لبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية. وفي بعض الروايات الباطلة: أن أبا محذورة أنشد بين يدي النبي عليه السلام بيتين، فتواجد حتى وقعت البردة الشريفة عن كتفيه، فتقاسمها أصحاب الصفة، وجعلوها رقعاً في ثيابهم. وهذا كله كذب، لا خلاف فيه بين أهل العلم بالحديث.

ومما مهد به العاملون على إلصاق البدع بالدين، واتخذوه في وسائل إقبال الناس عليها: أن وضعوا حديث: "كل بدعة ضلالة، إلا بدعة في عبادة".

ومن تلك الآثار: التهاون بالأعمال الصالحة، وقلة المبالاة بارتكاب المآثم؛ كحديث:"سفهاء مكة حشو الجنة"، وحديث:"الكريم حبيب الله، وإن كان فاسقاً"؛ فإن أمثال هذين الحديثين مما يغتر به بعض العامة، ويجعلهم لا يبالون أن يرتكبوا الفواحش، أو يستخفوا بالفرائض متى كانوا من سكان البلد الحرام، أو كانت أيديهم تجود بشيء من مال الله الذي آتاهم.

ومن مفاسد الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام: تعطيل الناس عن العمل النافع؛ كحديث: "من أحب حبيبتيه أو كريمتيه، فلا يكتبن بعد العصر". وليس لهذا الحديث أصل في المرفوع، وإنما هو من كلام بعض من يدّعي الطب؛ كما نبه عليه ملّا علي قاري في "موضوعاته". ومن هذا

ص: 17

القبيل حديث: "من قضى صلاة من الفرائض في آخر جمعة من شهر رمضان، كان ذلك جابراً لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة". فأمثال هذا الحديث الباطل مما يجعل العامة تستخف بحق الصلوات المفروضة سائر أيام السنة باعتقاد أن صلاة واحدة في آخر جمعة من رمضان تغني غناءها، وتسقط العقوبة عن تاركها. وقد كان وضع حديث:"إن من قطع صلاة الضحى بتركها أحياناً يعمى" سبباً لترك كثير من الناس لصلاة الضحى، وبدا لهم أن يتركوها جملة؛ مخافة أن يتهانوا بها بعض الأوقات، فتعمى أبصارهم. قال ملّا علي قاري: ومن هنا ترك النساء صلاة الضحى ونحوها؛ لعلمهن بأنهن سيقطعنها بحدوث الحيض فيهن.

محمّد الخضر حسين

ص: 18