الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الردة (حروب)
بدأت حركة الردة بالقبائل التى منعت الزكاة كعبس و «ذبيان»
و «غطفان» وغيرها، حيث أرسلت وفدًا إلى «المدينة» ، يعرض
على «الصديق» مطالبهم، وأنهم لم يرفضوا الإسلام، ولكنهم
يرفضون دفع الزكاة لحكومة «المدينة» ؛ لأنها فى ظنهم معرَّة،
ويعدُّونها إتاوة تدفع لأبى بكر، ولم تدرك تلك القبائل أثر
الزكاة فى التكافل الاجتماعى بين المسلمين. كان رأى فريق
من الصحابة وعلى رأسهم «عمر بن الخطاب» أن يستجيب «أبو
بكر» لتلك القبائل، ولا يجبرها على دفع الزكاة، وخاصة أن
«المدينة» مكشوفة، وليس بها قوة تحميها وتدافع عنها؛ لأن
جيش «أسامة» لما يعد بعد من شمالى بلاد العرب، لكن
«الصديق» لم يقتنع بهذا الرأى، ورد على «عمر بن الخطاب» ردا
جازمًا قائلا له: «والله لو منعونى عقالا -الحبل الذى يجرُّ به
الحمل - لجاهدتهم عليه». ولم يكن «الصديق» صاحب قرارات
صائبة فحسب، بل كان يقرنها بالعمل على تنفيذها، فلما رأى
الغدر فى عيون مانعى الزكاة أدرك أنهم سيهاجمون «المدينة»
على الفور؛ لأنهم عرفوا غياب معظم الرجال مع جيش «أسامة» ،
وأعلن حالة الاستعداد للدفاع عن «المدينة» عقب عودة المانعين
إلى ديارهم، واتخذ مسجد رسول الله، مقرا لغرفة عمليات
عسكرية، وبات ليلته يُعد للمعركة ويستعد لها، وأمر عددًا من
كبار الصحابة بحراسة مداخل «المدينة» ، على رأسهم «على بن
أبى طالب»، و «طلحة بن عبيدالله» ، و «الزبير بن العوام» ،
و «عبدالله بن مسعود» رضى الله عنهم. وحدث ما توقعه
«الصديق» فبعد ثلاثة أيام فقط هاجم مانعو الزكاة «المدينة» ،
فوجدوا المسلمين فى انتظارهم، فهزمهم المسلمون وردوهم
على أعقابهم إلى «ذى القصة» - شرقى «المدينة» . ثم تعقبهم
«الصديق» وألحق بهم هزيمة منكرة، وفرت فلولهم، وغنم
المسلمون منهم غنائم كثيرة، واتخذ «الصديق» من «ذى القصة»
مكانًا لإدارة المعركة ضد حركة الردة كلها، وفى هذه الأثناء
جاءت الأخبار بوصول جيش «أسامة» سالمًا غانمًا، فأسرع
«الصديق» بنفسه لاستقبال قائد الجيش الشاب، الذى قام بهذه
المهمة الخطيرة خير قيام، وبعد أن احتفى به وهنأه على عمله،
أنابه عنه فى حكم «المدينة» ، وعاد هو إلى «ذى القصة» ليدير
المعركة مع المرتدين بعزيمة لا تلين. أراد «أبو بكر الصديق» أن
يبصِّر المرتدين بخطورة ما أقدموا عليه، فواجههم مواجهة سلمية
بأن دعاهم إلى العودة بدون قتال إلى الإسلام، الذى أكرمهم
الله به، وأرسل إليهم كتابًا يقرأ على القبائل كلها؛ لعلهم
يعقلون، جاء فى أخره: «وإنى بعثت إليكم فلانًا فى جيش من
المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا
ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقرَّ
وكف وعمل صالحًا، قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن
يقاتله على ذلك، ثم لا يبقى على أحدٍ منهم قدر عليه، .. ولا يقبل
من أحدٍ إلا الإسلام فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز
الله، وقد أمرت رسولى أن يقرأ كتابى فى كل مجمع لكم،
والداعية الأذان، فإذا أذن المسلمون فأذَّنوا كفوا عنهم، وإن لم
يؤذنوا عاجلوهم
…
». وفى الوقت الذى كان يأمل فيه أن
يستجيب المرتدون، ويعودوا إلى دين الله دون قتال؛ كان يعد
أحد عشر جيشًا فى وقت واحد، تغطى المناطق التى ارتد أهلها
فى شبه جزيرة العرب، جاهزة للانطلاق إلى كل منطقة؛ ليشغل
كل قبيلة بالدفاع عن نفسها فى ديارها، ولا تأخذ فرصة للتجمع
والتكتل ضده، وكان هذا تصرفًا بارعًا وحكيمًا من «الصديق» .
واختار «الصديق» لهذه الجيوش أمهر القادة وأكثرهم خبرة
بالقتال، وهم:«خالد بن الوليد» ، سيف الله وعبقرى الحرب،
وأمره بقتال المرتدين من «بنى أسد» و «غطفان» وحلفائهم
بقيادة «طليحة بن خويلد» فى «بذاخة» ، فإذا انتهى من مهمته
توجه لقتال المرتدين من «بنى تميم» فى «البطاح» ، إلى الشرق
من ديار «بنى أسد» . - و «عكرمة بن أبى جهل» وأردفه
بشرحبيل بن حسنة، وأمرهما بالتوجه إلى «مسيلمة الكذاب»
ومن معه فى «اليمامة» ، وأمرهما ألا يقاتلاه حتى يأمرهما
بذلك، لمعرفة «أبى بكر» بقوة جيش «مسيلمة» ، وأنهما لن
يقدرا على هزيمته بسهولة، بل يشغلاه حتى يحين الوقت
المناسب لإرسال قوات أكبر؛ لمواجهة «بنى حنيفة» فى
جموعهم الكبيرة. - و «العلاء بن الحضرمى» ، وأمره بقتال
المرتدين فى «البحرين» وما والاها. - و «حذيفة بن محصن» ،
وأمره بقتال المرتدين فى «دبا» فى جنوبى شرقى شبه
الجزيرة. و «عرفجة بن هرثمة» ، وأمره بقتال المرتدين فى
«مهرة» فى جنوبى شبه الجزيرة. و «المهاجر بن أبى أمية
المخزومى»، وأمره بقتال المرتدين فى جنوبى «اليمن» .
و «سويد بن مقرن» ، وأمره بقتال المرتدين فى «تهامة اليمن»
على ساحل «البحر الأحمر» . - و «عمرو بن العاص» ، وأمره بقتال
قبائل «قضاعة» فى الشمال. - و «معن بن حاجز» وأمره بقتال
المرتدين فى «هوازن» و «بنى سليم» . و «خالد بن سعيد بن
العاص»، وأمره أن يعسكر فى «تيماء» ، ولا يقاتل أحدًا إلا إذا
قوتل. لم يستجب المرتدون لدعوة «أبى بكر» السلمية، فبدأ
قادته ينفذون ما عهد إليهم من مهام، وخاض «خالدبن الوليد»
أول معارك الردة فى «بذاخة» ضد المرتدين من «غطفان» و «بنى
أسد» وحلفائهم ممن التفوا حول «طليحة بن خويلد الأسدى»
مدعى النبوة، وكان النصر حليف «خالد» ، بعد أن ألحق بهم
هزيمة منكرة وغنم كثيرًا، وأرسل عددًا من زعمائهم أسرى إلى
الخليفة، وفر «طليحة» ، وظهر كذبه، ويجدر بالذكرى أن
«طليحة» قد أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه فى عهد «أبى بكر
الصديق»، واشترك فى الفتوحات الإسلامية فى «فارس» ، فى
عهد «عمر بن الخطاب» ، وكان له دور بارز فيها. وبعد ذلك توجه
«خالد بن الوليد» إلى «البطاح» فى «نجد» لقتال المرتدين من
«بنى تميم» بزعامة «مالك بن نويرة» ، ونجح فى إلحاق الهزيمة
بهم، والقضاء على الردة فى بلادهم. وكان «أبو بكر» قد أرسل
«عكرمة بن أبى جهل» و «شرحبيل بن حسنة» للوقوف فى وجه
«مسيلمة» ، ولم يأمرهما بقتال؛ لكنهما تعجلا مخالفين أوامر
الخليفة، واشتبكا مع «مسيلمة» فى حرب لم يصمدا فيها، وعادا
منهزمين، ولعلهما أرادا أن يتشبها بخالد بن الوليد حتى يحوزا
أكاليل النصر، كما حازها هو. وما إن وصلت أنباء هزيمتهما
إلى «أبى بكر» حتى غضب غضبًا شديدًا، وطلب منهما ألا يعودا
إلى «المدينة» ، وقرر فى الوقت نفسه أن يرسل «خالد بن
الوليد» إلى «اليمامة» للقضاء على فتنة «مسيلمة» ، فهو أصلح
الناس لهذه المهمة. وكان «خالد» قد فرغ من القضاء على فتنة
المرتدين من «بنى أسد» و «غطفان» و «تميم» ، فجاءته أوامر من
«أبى بكر» بالتوجه إلى «اليمامة» للقضاء على فتنة «مسيلمة
الكذاب». امتثل «خالد بن الوليد» لأوامر الخليفة، وسار فى
صحراء وعرة نحو ألف كيلو متر، حتى التقى بجيوش «مسيلمة» -
وكانت نحو أربعين ألفًا - فى مكان يسمى «عقرباء» فى حين
كانت قوات «خالد» تبلغ نحو ثلاثة عشر ألفًا، فيهم عدد كبير من
المهاجرين والأنصار، ودارت الحرب بين الفريقين، وكانت حربًا
شرسة، اشتدت وطأتها على المسلمين فى البداية، وكادوا
ينهزمون، لولا أن زأر «خالد» كالأسد الهصور، ونادى بأعلى
صوته «وامحمداه» ، وكان شعار المسلمين فى المعركة،
فاشتعلت جذوة الإيمان فى القلوب، وهانت الحياة على النفوس،
وأقبل المسلمون على القتال دون خوف أو وجل، طمعًا فى
النصر أو الشهادة، وصبروا لأعداء الله حتى هزموهم هزيمة
منكرة، وقتلوا «مسيلمة» الكذاب مع نحو عشرين ألفًا من رجاله،
واستسلم من بقى من قواته أسرى للمسلمين، واستشهد من
المسلمين أكثر من ألف ومائتى رجل، منهم عدد كبير من القراء
وحفظة القرآن الكريم. وحين ترامت إلى المرتدين أخبار انتصارات
«خالد» وما فعله فى «بنى حنيفة» ، وقر فى أذهانهم أن
المسلمين لا ينهزمون؛ ولذا كانت مهمة بقية القادة فى المناطق
التى توجهوا إليها أقل صعوبة مما واجهه «خالد بن الوليد» فى
«اليمامة» . وقبل أن يمضى عام على بدء حركة الردة كان «أبو
بكر الصديق» قد نجح فى القضاء عليها فى كل مكان، وعادت
شبه الجزيرة العربية موحدة دينيًا وسياسيًا تحت لواء المسلمين
وحكومتهم فى «المدينة» ما كانت فى آخر حياة الرسول - صلى
الله عليه وسلم -.