الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العذر بالتأويل
أولاً: أدلة العذر بالتأويل
وقد يقع الواحد من المسلمين في الكفر لتأول خاطئ أو فهم مغلوط للنصوص، فيقع في الخطأ، وهو لا يقصده، وهذا في الحقيقة فرع عن العذر بالخطأ، لكنه لفرط أهميته وتميز بعض صوره عن الخطأ استحق أن يفرد بالذكر.
والمخطئ في فهم النصوص المتأول لبعضها على معان خاطئة مجتهد أخطأ في فهم مراد الشارع، فإن كان تأوله مع بذله الجهد، واستفراغ الوسع، فهذا مجتهد أخطأ في اجتهاده، وهو موعود بالأجر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)). (1)
قال ابن حجر: " ولا يؤاخذ بإعطاء الحقّ لغير مستحقه لأنّه لم يتعمّد ذلك، بل وزر المحكوم له قاصر عليه ، ولا يخفى أنّ محلّ ذلك أن يبذل وسعه في الاجتهاد وهو من أهله، وإلا فقد يلحق به الوزر إن أخلّ بذلك". (2)
وكل مجتهد يبغي الحق، وقد يصيبه، وقد يخطئه، يقول ابن حزم:"لم يأمر الله قط بإصابة الحق، لأنه تكليف ما ليس بوسعه". (3)
قال الخطيب البغدادي: "فإن قيل: كيف يجوز أن يكون للمخطئ فيما أخطأ فيه أجر، وهو إلى أن يكون عليه في ذلك إثم لتوانيه وتفريطه في الاجتهاد حتى أخطأ؟ فالجواب: إن هذا غلط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للمخطئ أجراً على خطئه، وإنما جعل له أجراً على اجتهاده، وعفا عن خطئه، لأنه لم يقصده ". (4)
وقال أبو حامد الغزالي: "ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير، فلا بد من دليل عليه، وثبت أن العصمة مستفادة من قول: لا إله إلا
(1) رواه البخاري ح (7353)، ومسلم ح (1716).
(2)
فتح الباري (13/ 320).
(3)
الإحكام (2/ 652).
(4)
الفقيه والمتفقه (1/ 191).
الله قطعاً، فلا يدفع ذلك إلا بقاطع. وهذا القدر كاف في التنبيه على أن إسراف من بالغ في التكفير ليس عن برهان". (1)
ولسبب الخطأ في التأويل مع قصد الحق عذر المسلمون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين شاركوا في الفتنة، وترضوا عن سائرهم، ولم يوقعوا فيهم النصوص الذي ذمت قاتل النفس المؤمنة كقوله:((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)). (2)
ولعل أهم أدلة عذر السلف لمن أخطأ في التأويل عذرهم قدامة بن مظعون وأصحابه حين شربوا الخمر مستحلين شربها، لغلطهم في فهم معنى قوله تعالى:{ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} (المائدة: 93)، واعتقاد جواز شرب الخمر كفر، لكن بسبب التأول لم يكفرهم عمر رضي الله عنه ولا الصحابة، بل بينوا لهم معنى الآية، واستتابوهم من ستحلالها، وعاقبوهم على شربها.
يقول الطحاوي: "اتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن عبد الله شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى:{ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} (المائدة: 93).
فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لقدامة:(أخطأت إستك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر) ".
وبعد أن نقل الطحاوي اتفاق الصحابة على عذر هؤلاء المتأولين قال: "وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام".
كما أزال الطحاوي اللبس حين بيّن أن هذه الآية "نزلت بسبب أن الله
(1) الاقتصاد في الاعتقاد (223 - 224).
(2)
سبق تخريجه ص (29).
سبحانه لما حرم الخمر، وكان تحريمها بعد وقعة أحد، قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية، بيّن فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها، فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين .. ". (1)
وإطلاق قول التكفير على المخطأ قبل بيان الحجة وقيام المحجة ليس بشيء، يقول شيخ الإسلام:" وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون، وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل". (2)
ومثل هذا التأول الخاطئ وقع فيه ابن عباس وأصحابه، فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع، إذا كان يداً بيد، وتأولوا في ذلك، وبيانه في الخبر أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فقال له: أرأيت قولك في الصرف، أشيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيئاً وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال ابن عباس: كلا، لا أقول، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه، ولكن حدثني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ألا إنما الربا في النسيئة)). (3)
يقول ابن تيمية عن الأكابر من الصحابة والتابعين الذين قالوا بهذا القول الخاطئ: "هم من صفوة الأمة علماً وعملاً، لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه، أو من قلده بحيث يجوز تقليده، تبلغهم لعنة آكل الربا، لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة". (4)
ثم ذكر رحمه الله مثالاً آخر لتأول بعض السلف من أهل المدينة، الذين أباحوا إتيان محاش النساء، مع ورود الوعيد الشديد في ذلك:((من أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد)). (5)
(1) شرح العقيدة الطحاوية (324).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 110).
(3)
رواه مسلم ح (1596).
(4)
مجموع الفتاوى (20/ 263).
(5)
رواه الترمذي بلفظ مقارب ح (135)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي ح (116).
ويعقب رحمه الله فيقول: " أفيستحل مسلم أن يقول: إن فلاناً وفلاناً كانا كافرين بما أنزل على محمد؟! ". (1)
كما ذكر رحمه الله أمثلة كثيرة للخطأ بالتأويل وعذر السلف في ذلك، نكتفي منها بخبر استلحاق معاوية لزياد بن أبيه المولود على فراش الحارث بن كلدة، فقد ألحقه بأبي سفيان، لأنه كان يقول: إنه من نطفته.
ورسول الله قضى أن الولد للفراش، وتوعد من ادعى إلى غير أبيه باللعن والحرمان من الجنة، فقال:((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم، فالجنة عليه حرام)). (2)
قال ابن تيمية: "نعلم أن من انتسب إلى غير الأب الذي هو صاحب الفراش فهو داخل في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه لا يجوز أن يعين أحد دون الصحابة، فضلاً عن الصحابة، فيقال: إن هذا الوعيد لاحق به، لإمكان أنه لم يبلغهم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش
…
وهذا باب واسع، فإنه يدخل فيه جميع الأمور المحرمة بكتاب أو سنة إذا كان بعض الأمة لم يبلغهم أدلة التحريم، فاستحلوها، أو عارض تلك الأدلة عندهم أدلة أخرى". (3)
ومن أمثلة توقف السلف وامتناعهم عن تكفير المتأول توقف الصحابة في تكفير الخوارج "وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفّروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه طوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه". (4)
(1) مجموع الفتاوى (20/ 264).
(2)
سبق تخريجه ص (31).
(3)
مجموع الفتاوى (20/ 268).
(4)
مجموع الفتاوى (3/ 282 - 283).
يقول ابن الوزير: "فإذا تورع الجمهور من تكفير من اقتضت النصوص كفره، فكيف لا يكون الورع أشد من تكفير من لم يرد في كفره نص واحد، فاعتبر تورع الجمهور هنا، وتعلم الورع منهم في ذلك". (1)
ويستشهد ابن القيم بقصة الرجل الذي أمر بإحراق نفسه على عذر الله للمتأول، فيقول:"وأما من جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً". (2)
يقول ابن الوزير عن هذا الدليل: " وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل". (3)
وهكذا فإن الخطأ الذي يسببه التأويل مما لا يكفَّر به المسلم، لأن الحكم بكفره مبني على الجزم بتعمده جحد ما جحد من الدين، وعدم خطئه، و "قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ، والظاهر أن أهل التأويل أخطؤوا، ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم، لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله تعالى". (4)
ثانياً: أقوال العلماء في العذر بالتأويل
ولما سبق فإن أهل العلم والبصيرة ما فتئوا يعذرون من وقع في بعض المكفرات وهو متأول، وأطبق على ذلك جمهورهم، ومنه:
قول الشافعي: "ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث أو من ذهب منهم إلى أمور اختلفوا فيها، فتباينوا فيها تبايناً شديداً، واستحل فيها بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك منهم متقادماً، منه ما كان في عهد السلف وبعدهم إلى اليوم، فلم نعلم أحداً من سلف هذه الأمة يقتدى به
(1) إيثار الحق على الخلق (388).
(2)
مدارج السالكين (1/ 338 - 339).
(3)
إيثار الحق على الخلق (394).
(4)
المصدر السابق (393).
ولا من التابعين بعدهم رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله، ورآه استحل فيه ما حرم عليه، ولا رد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول". (1)
ويقول شيخ الإسلام: " فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله، فهذا مغفور له خطأُه". (2)
ومثل هذا المجتهد لا يحكم عليه بالكفر إلا بعد قيام الحجة الرسالية، فإن أصر بعد بيانها فهو معاند كافر، وأما قبل ذلك فلا، يقول ابن تيمية: " وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق، فأخطأ: لم يكفر، بل يغفر له خطؤه.
ومن تبين له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين: فهو كافر.
ومن اتبع هواه، وقصر في طلب الحق، وتكلم بلا علم: فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته، فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص". (3)
ولما عدّد شيخ الإسلام الأعذار التي تمنع إطلاق الكفر على من وقع في المكفرات، فذكر بينها الشبهة، وهي صورة قريبة من التأويل، إذ بسبب الشبهة التي تنقدح في ذهنه يصرف المسلم النصوص عن معانيها الصحيحة إلى معانٍ غير مرادة شرعاً: " الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطؤه كائناً ما
(1) الأم (6/ 205).
(2)
مجموع الفتاوى (3/ 317).
(3)
المصدر السابق (12/ 180).
كان، سواء كان في المسائل النظرية [العقدية] أو العملية [الفقهية]، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام". (1)
قال مرعي الكرمي المقدسي: "ولا نكفر أحداً من أهل الفرق بما ذهب إليه واعتقده، خصوصاً مع قيام الشبهة والدليل عنده". (2)
ويقول ابن تيمية: "التكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده، حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً". (3)
وقال ابن العربي: "الجاهل والمخطئ من هذه الأمة، ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً، فإنّه يعذر بالجهل والخطأ حتى تتبيّن له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، مما أجمعوا عليه إجماعاً قطعيّاً يعرفه كلّ المسلمين من غير نظرٍ وتأمّلٍ .. ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع ". (4)
ومثَّل بعض أهل العلم بأمثال للمكفرات التي يعذر صاحبها بالتأويل، ومنه قول ابن حزم: "وكذلك من قال: إن ربه جسم من الأجسام، فإنه إن كان جاهلاً أو متأولاً فهو معذور لا شيء عليه، ويجب تعليمه، فإذا قامت عليه الحجة من القرآن والسنن، فخالف ما فيهما عناداً، فهو كافر، يحكم عليه بحكم المرتد.
وأما من قال: إن الله عز وجل هو فلان، لإنسان بعينه، أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه أو أن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير عيسى ابن مريم، فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد، ولو أمكن أن يوجد أحد يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه لما وجب تكفيره حتى تقوم عليه الحجة ". (5)
(1) مجموع الفتاوى (23/ 346).
(2)
أقاويل الثقات (1/ 69).
(3)
مجموع الفتاوى (3/ 231).
(4)
محاسن التأويل (5/ 219 - 220).
(5)
الفصل (3/ 293).
والحجة التي يتحدث عنها العلماء ليست دعوى يدعي إقامتها كل أحد، بل هي منوطة بالعلماء، كما قال الحافظ العراقي تعليقاً على تكفير من غلط في حديث، فبُين له فلم يرجع، فقال:"قيد ذلك بعض المتأخرين بأن يكون الذي بيَّن له غلطه عالماً عند المبيَن له، أما إذا لم يكن عنده بهذه المثابة فلا حرج إذاً".
وأضاف أحمد شاكر: "وهذا القيد صحيح، لأن الراوي لا يُلزم بالرجوع عن روايته إن لم يثق بأن من زعم أنه أخطأ فيها أعرف منه بهذه الرواية التي يخطِّئه فيها، وهذا واضح". (1)
وقال ابن سحمان: "الذي يظهر لي - والله أعلم - أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها، وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ولا ما ذكره العلماء في ذلك، فإنه لا تقوم به الحجة". (2)
كما يجدر التنبيه هنا إلى أن قيام الحجة أمر نسبي، يختلف باختلاف فهوم الناس، قال ابن القيم:" إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له". (3)
وقد عذر العلماء أتباع الفرق المنحرفة بسبب التأويل الخاطئ، فلم يكفروهم، وإن ضللوهم وخطؤوهم، لكن لا سبيل إلى تكفير المتأول المخطئ، الذي قصد الحق فأخطأه لشبهة أو دليل معارض، وهذا هو مذهب أئمة الإسلام وفحول العلم، يقول شيخ الإسلام في سياق عرضه لما حكاه البعض عن الإمام أحمد من تكفيره أهل البدع: " وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله: أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون:
(1) انظر: تحقيق أحمد شاكر للباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (103).
(2)
منهاج الحق والاتباع (68).
(3)
طريق الهجرتين (414).
الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل علياً على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة، ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم، وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة.
لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك، يمتحنونهم، ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم .. ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم ". (1)
وإذا تبين براءة السلف من تكفير المخالفين، فيحسن العلم أن هذا المذهب في تكفير المخالف من أقوال أهل البدع ومنهجهم، وتابعهم فيه من أخطأ من أهل السنة والحق، يقول ابن تيمية:" فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقاً، ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع، وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية، وهذا القول أيضاً يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك". (2)
يقول محمد صديق خان متحسراً على تكفير بعض الفقهاء للمتأولين: "وأما قول بعض أهل العلم: إن المتأول كالمرتد، فههنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب
(1) مجموع الفتاوى (23/ 348 - 349).
(2)
منهاج السنة (5/ 240).
المسلمين من الترامي بالكفر، لا بسنة ولا قرآن، ولا ببيان من الله ولا برهان". (1)
فالتأويل - كما رأيتَ - عذر ما زال العلماء يلوذون به من رمي مخالفيهم بالكفر والضلال، فلا كفر قبل قيام الحجة وزوال الشبهة، فهذا مذهب أهل السنة والحق في الاعتذار لمخالفيهم، بينما يهدر هذا العذر الأغرار ممن فاتهم لبوس العلم ومعارف العلماء، ومثله حال المبتدعة الذين مازال ديدنهم تكفير مخالفيهم مع غير إعذار ولا روية.
ثالثاً: التأويل الذي لا عذر فيه
وإذا كان التأويل عذراً يمنع من تكفير المتأول، فإنه لا يصلح جُنة وملاذاً يلوذ به كل متلاعب بالدين يبطن الكفر ويتقي بالتأويل.
وقد بين العلماء نماذج من التأويل الذي لا عذر لمن ادعاه، لأنه لا وجه له ولا احتمال، فتعلق أهل البدع فيه، لكنه في حقيقته تكذيب، إذ ليس مرده شبهة عارضة أو سوء فهم، بل هو من باب المغالطة والجحود.
يقول ابن تيمية: " ولا بد من التنبيه لقاعدة أخرى، وهي أن المخالف قد يخالف نصاً متواتراً ويزعم أنه مؤول، ولكن ذكر تأويله لا انقداح له أصلاً عن اللسان، لا على قرب، ولا على بعد، فذلك كفر، وصاحبه مكذب وإن كان يزعم أنه مؤول.
مثاله ما رأيته في كلام بعض الباطنية، أن الله تعالى واحد، بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطي العلم ويخلقه لغيره، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، فأما أن يكون في نفسه واحداً أو موجوداً وعالماً بمعنى اتصافه به فلا.
وهذا كفر صراح، لأن حمل الوحدة على إيجاد الوحدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلاً، ولو كان خالق الوحدة يسمى واحداً لخلقِه الوحدة لسمي ثلاثاً أو أربعاً، لأنه خلق الأعداد أيضاً، فأمثلة هذه
(1) الروضة الندية شرح الدرر البهية (2/ 623).
المقالات تكذيبات، وإن عبر عنها بالتأويلات". (1)
قال ابن الوزير عن متعمدي تكذيب الأنبياء: "لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار ". (2)
ومثله فإن أصول الإسلام التي لا تخفى، والتي يعرفها المسلم بداهة، فإن جحدها كفر، لا يدفعه ادعاء التأول، قال الشافعي رحمه الله: " العلم علمان: علم عامة لا يسع العاجز مغلوب على عقله جهله
…
مثل أن الصلوات خمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يفعلوه ويعلموه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه مما حرم عليهم منه، وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله عز وجل وموجود عاماً عند أهل الإسلام ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم، هذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع". (3)
ويبين ابن حجر ضابطاً آخر للتأويل غير السائغ، وهو خروجه عن طريقة العرب وأساليبها في الكلام، يقول رحمه الله عن التأويل السائغ:" قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم". (4)
ومن التأويل المردود مخالفة قطعي الدلالة الذي لا يختلف المسلمون في تأويله، يقول ابن حزم: "وأما من خالف الإسلام إلى دين آخر، وأقر بنبوة
(1) بغية المرتاد (1/ 346).
(2)
إيثار الحق على الخلق (376).
(3)
الرسالة (356 - 357).
(4)
فتح الباري (12/ 304).
أحد بعد رسول الله، فإن كان بعد رسول الله ممن بلغته النذارة فهو كافر، لا يعذر بتأويل أصلاً، لأن النص ورد بأن من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وبأنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ". (1)
قال القرني: "إذا ظهر أن التأويل عذر في المسألة التكفير، فإن هذا لا يعني أن كل من ادعى التأول فهو معذور بإطلاق، بل يشترط في ذلك التأويل أن لا يكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وقبول شريعته، لأن هذا الأصل الشهادتين لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه، ولهذا أجمع العلماء على كفر الباطنية - مثلاً - وأنهم لا يعذرون بالتأويل، لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى، وعدم عبادة الله وحده، وإسقاط شرائع الإسلام". (2)
وهكذا فالتأويل عذر مادام القول فيه منضبطاً بقواعد الشريعة ملازماً لفهوم العرب في دلالات الألفاظ والتراكيب، وهو بذلك ليس جُنة للمتلاعبين لألفاظ النصوص، المعطلين لها، والجاحدين لما شرعه الله فيها، المستترين من إعمالها والإذعان لها بالتأويل الفاسد، الذي هو في حقيقته الجحود والتعطيل.
(1) الدرة فما يجب اعتقاده (414 - 415).
(2)
ضوابط التكفير (369).