الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التكفير والفهم الخاطئ للنصوص الشرعية
لعل من أهم ما أوقع بعض المسلمين في فتنة التكفير الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية، والجهل بدلالاتها الصحيحة، إذ رأى هؤلاء أن النصوص الشرعية وصفت بعض أصحاب العاصي بالكفر، أو نفت عنهم اسم الإيمان، أو أخبرت باستحقاقهم الخلود في النار، ففهم هؤلاء أنها تشهد على أصحابها بالكفر، وأن هذا الكفر هو الكفر الأكبر المخرج من الملة، فكفَّروا بفهمهم المغلوط عموم المسلمين.
أولاً: النصوص التي صرحت بكفر العاصي
جاء في السنة النبوية وصف الكثير من المعاصي بالكفر، ففهم منه بعض أهل البدع وغيرهم من أهل الجهل تكفير أصحاب هذه الذنوب وتلك المعاصي، إذ لم يروا القرآن إلا متحدثاً عن الكفر الأكبر، فقاسوا ما في السنة عليه.
ومن هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت)). (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)). (2)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر، حتى يرجع إليهم)). (3)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه، إلا كفر)). (4)
ومثله ذم النبي صلى الله عليه وسلم اقتتال المسلمين: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)). (5)
قال الشوكاني وهو يعرض حجة من يفهم كفر أصحاب هذه الذنوب: "فإن قلت: قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام،
(1) رواه البخاري ح (3850)، ومسلم ح (67)، واللفظ له.
(2)
سبق تخريجه ص (9).
(3)
رواه مسلم ح (68).
(4)
رواه البخاري ح (3508)، ومسلم ح (61).
(5)
رواه البخاري ح (48)، ومسلم ح (64).
وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلماً، كما تقدم وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلاً يخالف الشرع
…
وكل ذلك يفيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر، وإن لم يرد قائله أو فاعله الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر". (1)
وقد بين أهل العلم أصولاً ينبغي أن يرجع إليها في فهم هذه النصوص:
أولاً: أن ما ورد في السنة من نصوص أطلقت الكفر على أصحاب بعض المعاصي لا يقاس على ما ورد في القرآن الكريم في مثل هذه الإطلاقات، إذ من عادة القرآن أن يطلق وصف الإيمان على أكمل المؤمنين صفات، وكذا أطلق الكفر على أقبح الكافرين فعالاً، فوصفه بالكفر لا يحتمل إلا الكفر الأكبر.
وعليه فقد تقرر عند العلماء التفريق بين إطلاقات الكفر في القرآن وتلك التي في السنة النبوية، يقول الشاطبي:" فكان القرآن آتياً بالغايات تنصيصاً عليها، من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك، ومنبهاً بها على ما هو دائر بين الطرفين .. فإنما أتى بهما في عبارات مطلقة تصدق على القليل يدل المساق على أن المراد أقصى المحمود أو المذموم في ذلك الإطلاق ". (2)
ثانياً: صحيح أن الأصل في النصوص إجراؤها على ظواهرها، لكن التأويل محتمل في حقها، ويصار إليه منعاً للتعارض، الذي هو قرينة على أن أحد المعنيين غير مراد من النص.
يقول الشاطبي: "والقاعدة في ذلك أن اللفظ يؤخذ على ظاهره ما لم تصرفه قرينة، فإن وجدت قرينة تدل على صرف لفظ الكفر في الحديث عن معناه الأصلي، وهو الكفر الأكبر، أمكن المصير إلى أنه كفر أصغر لثبوت إمكان ذلك في السّنّة الشريفة".
ثالثاً: والنصوص التي احتج بها المكفرون بالذنوب معارضة معانيها الظاهرة بجملة من الحقائق، منها:
- النصوص التي شهدت بالإيمان للموحدين وإن ارتكبوا المعاصي، فإن
(1) السيل الجرار (4/ 578 - 579).
(2)
الموافقات (3/ 140 - 141).
ذلك لا يخرجهم عن الإيمان، بل يضعهم تحت المشيئة الإلهية، ولو كفروا لاستحقوا النار، يقول الله:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48)، فكل المعاصي المذكورة في الأحاديث المشكلة هي دون الشرك بالله، وهي تحت المشيئة، ففاعلها إذاً ليس بكافر، وعليه فمعناها الظاهر غير مراد.
ولو كان الظاهر لازماً على كل حال للزم رجم أو جلد المتعطرة المستشرفة على الناس لوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بأنها زانية (1)، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:((المستبّان شيطانان، يتهاتران، ويتكاذبان)). (2)، إذ لا يصح أن يعتبر المتسابان من ذرية إبليس، كما يفهم من ظاهر اللفظ.
- ومثله أحاديث كثيرة شهدت بالإسلام لمن قال لا إله إلا الله مخلصاً بها قلبه، منها قوله صلى الله عليه وسلم:((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق. قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق. قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر)). (3)
إن الله ونبيه صلى الله عليه وسلم شهدا لأصحاب هذه المعاصي بالإسلام، فالقاتل لأخيه المسلم سماه القرآن أخاً للمقتول، في قوله:{فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسانٍ} (البقرة: 178)، وكذا اعتبر الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين فقال:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات: 9).
وعليه فقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) (4)، وقوله ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)). (5) على غير ظاهره، وينصرف فيه لفظ الكفر إلى الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
ومثله في قوله صلى الله عليه وسلم عن آتي الكاهن او العراف غير المصدق له: ((من أتى
(1) انظره في النسائي ح (5126)، وأبي داود ح (4173)، وصححه الألباني في صحيح النسائي ح (4737).
(2)
رواه أحمد في المسند ح (17029)، والبخاري في الأدب المفرد ح (439)، وابن حبان في صحيحه ح (5819) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ح (330).
(3)
رواه البخاري ح (5827)، ومسلم ح (94).
(4)
رواه البخاري ح (48)، ومسلم ح (64).
(5)
رواه البخاري ح (6166)، ومسلم ح (65).
عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) (1)، فهو يفيد إسلام من أتى العراف - غير المصدق له -، بدليل قبول صلواته بعد الأربعين يوماً، ويحمل حديث تكفير آتي الكاهن على الكفر الأصغر جمعاً بين الحديثين.
قال المناوي في شرح هذا الحديث: "تمسك به الخوارج على أصولهم الفاسدة في التكفير بالذنوب، ومذهب أهل السنة أنه لا يكفر، فمعناه قد كفر النعمة أي سترها، فإن اعتقد صدقه [أي الكاهن أو العرّاف] في دعواه الاطلاع على الغيب كفر حقيقة". (2)
كما أمر الله بإقامة الحدود على القاتل وغيره من أصحاب الذنوب، كل بقدره، وهو شهادة لأهلها بالإسلام، ولو كان الزاني قد خرج من الإسلام بزناه لقتل حداً على كل حال.
رابعاً: كما صرف العلماء هذه النصوص إلى أن المراد فيها التغليظ أي أنها من جنس أفعال الكفار أو أريد منها أن استحلال هذه الذنوب هو من الكفر الأكبر، لا أن مجرد ارتكابها منه.
قال أبو عبيد بن سلام: "وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه، وإنما وجوهها: أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون". (3)
قال المباركفوري: "قوله: ((من أتى حائضاً أو امرأةً في دبرها أو كاهنًا فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ)). الظّاهر أنّه محمول على التّغليظ والتّشديد كما قاله التّرمذيّ، وقيل: إن كان المراد الإتيان باستحلالٍ وتصديقٍ فالكفر محمول على ظاهره، وإن كان بدونهما فهو على كفران النّعمة". (4)
قال ابن القيم: "والقصد: أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر، فإنها
(1) رواه مسلم ح (2230).
(2)
فيض القدير (6/ 23).
(3)
الإيمان (43).
(4)
تحفة الأحوذي (1/ 355).
ضد الشكر، الذي هو العمل بالطاعة، فالسعي إما شكر وإما كفر، وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا". (1)
وعن كفر من ادعى لغير أبيه قال النووي: " فيه تأويلان: أحدهما أنّه في حقّ المستحلّ. والثّاني: أنّه كفر النّعمة والإحسان وحقّ الله تعالى ، وحقّ أبيه ، وليس المراد الكفر الّذي يخرجه من ملّة الإسلام. وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم ((يكفرن)) (2) ، ثمّ فسّره صلى الله عليه وسلم بكفرانهنّ الإحسان وكفران العشير". (3)
قال الحافظ ابن حجر: "وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم، وترك شكر المنعم، والقيام بحقه". (4)
إذاً الجهل بدلالة لفظ الكفر في الشرع أوقع الغلاة في تكفير المسلمين لإتيانهم بعض المعاصي التي وسم الله فاعلها بالكفر، أي الكفر الأصغر، وجمع النصوص إلى بعضها كفيل برفع شبهة المكفِّرين لكل من أطلق عليه الشرع كلمة الكفر، إذ المفهوم الخاطئ لهذا الإطلاق يجعل نصوص الشرع متعارضة متناقضة، والحق أن النصوص الشرعية يصدق بعضها بعضاً، والواجب جمع النصوص بعضها إلى بعض، وإعمالها جميعاً بمزيد من التبصر في دلالات ألفاظها ومآلات عباراتها.
ثانياً: النصوص التي صرحت باستحقاق العاصي للنار أو حرمت عليه الجنة
ويحتج أهل التكفير بالمعاصي بآيات القرآن في مواضع متعددة من كتاب الله، شهد فيها أن معصية الله ورسوله تُدخل النار وتكتب للعاصي الخلود فيها كقوله تعالى:{ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين النساء} (النساء: 14)، وقوله تعالى:{ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} (الجن: 23). وقوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: 81)، ونحوه قوله تعالى
(1) مدارج السالكين (1/ 337).
(2)
رواه البخاري ح (29).
(3)
شرح النووي على مسلم (2/ 50).
(4)
فتح الباري (10/ 466).
عن القاتل: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} (النساء: 93).
وكذا جاء في السنة مثل ذلك، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم الجنة أو الحكم بالنار لبعض أصحاب المعاصي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم، فالجنة عليه حرام)) (1)، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)). (2)
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)). (3)
وأمثال هذا كثير في السنة، ففهم منه من أخطأ الفهم أن أصحاب المعاصي سيدخلون النار ويخلدون فيها، لأن الجنة عليهم حرام.
لكن منهج أهل السنة والجماعة في فهم النصوص يقوم على جمعها والنظر فيها للخروج منها بفهم يوفق بينها، ويُعملها جميعاً ولا يهملها، إذ هذه النصوص يصدق بعضها بعضاً، بينما يكثر في مناهج أهل البدع ضرب النصوص بعضها ببعض، فتتعطل دلالاتها، ويأخذون منها ويذرون حسب أهوائهم.
فالنصوص السابقة لا يمكن حملها على إطلاقها، لورود نصوص أخرى تفيد بتحريم النار والحكم بالجنة لكل من شهد شهادة التوحيد، منها قوله صلى الله عليه وسلم:((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)). (4) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله
(1) رواه البخاري ح (4327)، ومسلم ح (63).
(2)
رواه مسلم ح (46).
(3)
رواه مسلم ح (106).
(4)
رواه مسلم ح (29).
الجنة على ما كان من عمل)). (1) وأمثالهما.
قال أبو سليمان الخطابي مبيناً منهج أهل السنة في فهم النصوص والجمع بينها: "القرآن كله بمنزلة الكلمة الواحدة، وما تقدم نزوله وما تأخر في وجوب العمل به سواء، ما لم يقع بين الأول والآخر منافاة، ولو جمع بين قوله:{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48)، وبين قوله:{ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} (النساء: 93) وألحق به قوله: {لمن يشاء} لم يكن متناقضاً، فشرط المشيئة قائم في الذنوب كلها ما عدا الشرك.
وأيضاً فإن قوله: {فجزاؤه جهنم} يحتمل أن يكون معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه الله ولم يعف عنه، فالآية الأولى خبر لا يقع فيه الخُلْف، والآية الأخرى وعد يرجى فيه العفو". (2)
ويقول الطبري في سياق حديثه عن قاتل النفس المتوعد بالخلود في النار: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمناً متعمداً، فجزاؤه - إن جزاه - جهنم خالداً فيها، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه - عز ذكره - إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها، ثم يخرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً} (الزمر: 53) ". (3)
وأيضاً منعاً للتعارض تأول العلماء نصوص تحريم الجنة على العصاة بتأويلات، يقول النووي في سياق شرحه لحديث تحريم الجنة على مؤذ جيرانه: " ففيه جوابان: أحدهما: أنه محمول على من يستحل الإيذاء مع علمه بتحريمه، فهذا كافر لا يدخلها أصلاً، والثاني: معناه: جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم، بل يؤخر، ثم قد يجازى،
(1) رواه البخاري ح (3435)، ومسلم ح (28)، واللفظ للبخاري.
(2)
شعب الإيمان (1/ 278).
(3)
جامع البيان (5/ 221).
وقد يعفى عنه، فيدخلها أولاً". (1)
إذاً يمكننا أن نقول: إن العاصي المتوعد بحرمانه الجنة لا يدخل الجنة ابتداء، والجنة عليه حرام ابتداء، لكنه غير محجوب عنها بالكلية، ونحو ذلك.
وفي المقابل فإن من شهد بالشهادتين ولم ينقضهما كتب الله له الأمان من الخلود في النار، لكن دخولها ابتداء ممكن لأهل الكبائر، وهو متعلق بمشيئة الله، إن شاء أدخله النار بعدله قبل أن يدخله الجنة، وإن شاء تجاوز عنه وعفا برحمته.
وهذا المنهج الوسط لأهل السنة وسط بين إفراط الوعيدية من الخوارج الذين يحكمون بحرمان أصحاب المعاصي من الجنة، ويرون المعصية تخرج من الدين وتُوجب لصاحبها النار، وبين تفريط المرجئة الذين يرون أن الإيمان لا تضره المعصية، ولا تقدح فيه ولا تؤثر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان معنى حديث تحريم الجنة على من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر: "قوله: ((لا يدخل الجنة)) متضمن لكونه ليس من أهلها ولا مستحقاً لها، لكن إن تاب أو كانت له حسنات ماحية لذنبه، أو ابتلاه الله بمصائب كفَّر بها خطاياه ونحو ذلك، زال ثمرة هذا الكبر المانع له من الجنة، فيدخلها، أو غفر الله له بفضل رحمته من ذلك الكبر من نفسه، فلا يدخلها ومعه شيء من الكبر.
ولهذا قال من قال في هذا الحديث وغيره: إن المنفي هو الدخول المطلق الذي لا يكون معه عذاب، لا الدخول المقيد الذي يحصل لمن دخل النار ثم دخل الجنة
…
فإذا تبين هذا كان معناه: أن من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ليس هو من أهل الجنة ولا يدخلها بلا عذاب، بل هو مستحق للعذاب لكبره، كما يستحقها غيره من أهل الكبائر، ولكن قد يعذب في النار ما شاء الله، فإنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد، وهذا كقوله:((لا يدخل الجنة قاطع رحم)). (2) وأمثال هذا من أحاديث الوعيد ..
فالرجل الذي معه شيء من الإيمان وله كبائر قد يدخل النار، ثم يخرج
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 17).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 678 - 679).
منها إما بشفاعة النبي وإما بغير ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)). (1) وكما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) ". (2)
وهكذا الوعيد في قاتل النفس والزاني وشارب الخمر وآكل مال اليتيم وشاهد الزور وغير هؤلاء من أهل الكبائر، فإن هؤلاء وإن لم يكونوا كفاراً، لكنهم ليسوا من المستحقين للجنة الموعودين بها بلا عقاب، ومذهب أهل السنة والجماعة أن فساق أهل الملة ليسوا مخلدين في النار كما قالت الخوارج والمعتزلة، وليسوا كاملين في الدين والإيمان والطاعة، بل لهم حسنات وسيئات، يستحقون بهذا العقاب، وبهذا الثواب". (3)
ومرة أخرى نرى أن جمع النصوص إلى بعضها يبين حقائق معانيها ويزيل الشبهة عما يلتبس من معانيها، فإن الذي حكم بالنار لبعض أصحاب المعاصي - هو نفسه تبارك وتعالى فتح لهم باب الرجاء في رحمته، ووعد التائبين منهم بالحسنى وزيادة، بل قد تسبق رحمته إلى ذلك العبد، فيكون في رحمته من غير توبة منه، بل بشفاعة الشافعين وجُودِ أرحم الراحمين.
ثالثاً: النصوص التي أسقطت عن العاصي اسم الإيمان
ومما تعلق به المسارعون إلى التكفير أن النصوص الشرعية رفعت عن بعض أصحاب المعاصي اسم الإيمان، فاستلزم ذلك وصفهم بالكفر، لأن الكفر والإيمان نقيضان، حيث رفع الأول ثبت الآخر.
من هذه النصوص قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)). (4) وفي رواية: ((إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، وكان عليه
(1) رواه الترمذي ح (2435)، وأبو داود ح (4739)، وأحمد في المسند ح (12810)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ح (3965).
(2)
هو عند البخاري بلفظ مقارب ح (7440).
(3)
مجموع الفتاوى (7/ 678 - 679).
(4)
رواه البخاري ح (6810)، ومسلم ح (57).
كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)). (1)
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). (2)
فالزنا وعدم محبة الخير للمؤمن يناقضان الإيمان، حسب ظاهر النص، وعليه قاسوا غيرها من المعاصي، فصار مرتكب المعصية عندهم كافراً، لأنه ليس مؤمناً بنص وظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن المحققين من أهل السنة والجماعة ردوا هذا الفهم الظاهري الضعيف للنصوص بدلالة نصوص أخرى جمعوها إليها، وخلصوا منها إلى فهم يُعمِل جميع النصوص ولا يهملها، ولا يضرب بعضها ببعض.
فلئن وصف الزاني بعدم الإيمان فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع عنه أصل الإيمان، لأنه شهد بإمكانه دخول الجنة، ففي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما من عبد قال: لا إله إلا الله. ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر)). (3)
قال ابن حجر: "وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة، والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى حق الله تعالى وحق العباد، وكأن أبا ذر استحضر قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر.
لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة، بحمل هذا على الإيمان الكامل، وبحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار". (4)
قال النووي: "فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي
(1) رواه أبو داود ح (4690)، والترمذي ح (2625)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ح (3924).
(2)
رواه البخاري ح (13)، ومسلم ح (45).
(3)
سبق تخريجه ص (28).
(4)
فتح الباري (3/ 111).
الشيء، ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة". (1)
وقال ابن تيمية: " قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) فنفي عنه الإيمان الواجب الذي يستحق به الجنة، ولا يستلزم ذلك نفي أصل الإيمان وسائر أجزائه وشعبه، وهذا معنى قولهم: نفي كمال الإيمان لا حقيقته، أي الكمال الواجب، ليس هو الكمال المستحب .. ". (2)
قال أبو عبيد بن سلام: "إن الذي عندنا في هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً، ولا توجب كفراً، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله واشترطه عليهم". (3)
ومما يدلل صحة هذا الفهم أن الله شرع الرجم والجلد للزاني، ولو كان كافراً لكان حكمه الاستتابة ثم القتل، يقول ابن تيمية: "ويقال للخوارج: الذي نفى عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان، هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام، بل عاقب هذا بالجلد، وهذا بالقطع، ولم يقتل أحداً إلا الزاني المحصن، ولم يقتله قتل المرتد، فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة، وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة.
فدل ذلك على أنه وإن نفى عنهم الإيمان، فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم، وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر". (4)
وقال المروزي رحمه الله: " معنى ذلك كله أن من فعل تلك الأفعال لا يكون مؤمناً مستكمل الإيمان، لأنه قد ترك بعض الإيمان، نفى عنه الإيمان، يريد به الإيمان الكامل .. وإقامة الحدود عليه دليل على أن الإيمان لم يزل كله عنه، ولا اسمه، ولولا ذلك لوجب استتابته، وقتله، وسقطت عنه الحدود". (5)
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 41).
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 478).
(3)
الإيمان (40).
(4)
مجموع الفتاوى (7/ 298).
(5)
تعظيم قدر الصلاة (2/ 576).
واستدل ابن عبد البر لصحة هذا التأويل بإجماع العلماء على التوارث مع الزاني: "يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر - إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام - من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم، أوضح الدلائل على صحة قولنا: أن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان بفعله ذلك، وليس بكافر كما زعمت الخوارج". (1)
أما النووي، فإنه ينقل الإجماع على عدم كفر الزاني، وبه يستدل على صحة التأويل لألفاظ نفي الإيمان، فيقول: "وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره: ((من قال: لا إله إلا الله. دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق))، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يعصوا ....
فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قول الله عز وجل:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48)، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك، لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان .. وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة". (2)
وعن حكم هذا العاصي واسمه يقول: " ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم ". (3)
وأما الإمام أحمد ومن وافقه من المحدثين، فإنهم حكموا بإسلام الزاني وأضرابه، لكنهم توقفوا في إطلاق اسم الإيمان عليه، وقد رفعه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله السالف، وأثبتوا له اسم الإسلام وأحكامه، فقال أحمد: "من أتى هذه
(1) التمهيد (9/ 243 - 244).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 41).
(3)
مجموع الفتاوى (3/ 152).
الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمناً، ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمناً ناقص الإيمان.
فإن صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان نفيته عنه، كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفََّرة بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فما أتى بالإيمان الواجب، ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك". (1)
وهكذا فلئن رفعت النصوص اسم الإيمان عن بعض العصاة فإنها عاملتهم معاملة المؤمنين، وحين أقامت عليهم الحدود حكمت بإسلامهم، ولم تسقط عنهم حقاً من حقوق الإسلام، فدل ذلك على أن المنفي هو كمال الإيمان، لا أصله وحقيقته.
(1) المصدر السابق (7/ 352 - 353).