المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحكم بالظاهر والإعراض عن السرائر - التكفير وضوابطه - السقار

[منقذ السقار]

الفصل: ‌الحكم بالظاهر والإعراض عن السرائر

‌الحكم بالظاهر والإعراض عن السرائر

الحكم بالظاهر والإعراض عن السرائر قاعدة شرعية متينة يلوذ بها الورع في دينه، والذي يؤثر السلامة فيه، فالأصل في سائر معاملات الشريعة ظاهر حال الإنسان، أما باطنه فمرجعه إلى عالم السر والنجوى.

أما من أظهر الكفر فهذا ما نغفل الحديث عنه في هذا المبحث، وله أحكام مفصلة معروفة في أبواب أحكام الكفار والمرتدين.

وأما المسلم الذي يظهر الإسلام ويدعيه، فإذا ما اشتبه علينا أمره، ودارت بنا الظنون في حقيقة ما يبطنه لما نرى من مريب أحواله وأفعاله، فإن شرعة الله تلزمنا معاملته على ما أعلن في ظاهر أمره، فيما الله يختص بحسابه في دار جزائه وعدله.

فإذا أظهر لنا المسلم إسلاماً قبل منه في الدنيا علانيته، وأقيمت عليه أحكام الشريعة فيها:((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته)). (1)

قال الطحاوي: "ونسمى أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ماداموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين".

وقال شارح الطحاوية: "والمراد بقوله: (أهل قبلتنا) من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة، وإن كان من أهل الأهواء أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول". (2)

وليس كل من نشهد له بالإسلام هو كذلك، بل قد نقرأ من بعض فعاله وأقواله مكنون قلبه وما انطوى عليه من الكفر، ولكن تبقى معاملته بحسب الظاهر.

يقول الله تعالى وهو يقرر هذه القاعدة في صدور المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا} (النساء: 94).

قال الشوكاني: " والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا: إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية ". (3)

(1) رواه البخاري ح (391)، ومسلم ح (1961).

(2)

شرح الطحاوية (1/ 313).

(3)

فتح القدير (1/ 501).

ص: 53

فظاهره الإسلام، وهو يقين في حقه، لا يرفعه ظنوننا وشكوكنا في دوافعه.

ويقول صلى الله عليه وسلم في تقرير هذه القاعدة العظيمة: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)). (1)

فقوله صلى الله عليه وسلم: ((عصموا مني

وحسابهم على الله))، شهد لهم في الدنيا بعصمة الدماء والأموال وغيرها من أحكام الإسلام بما أظهروا من الإسلام، والله يتولى حسابهم على ما في قلوبهم في الآخرة.

قال ابن رجب: "وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، فإن كان صادقاً أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذباً فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار". (2)

وقال القاضي عياض: "فالعصمة مقطوع بها مع الشهادة، ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع، ولا قاطع [إلا] من شرع، ولا قياس عليه". (3)

وقال ابن حجر: "أي في أمر سرائرهم .. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر .. ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد". (4)

وقال البغوي: "وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضاً إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأن من أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره". (5)

وفي الصدر الأول من المجتمع الإسلامي وجد المنافقون الذين أظهروا الإيمان تقية وطمعاً، وأبطنوا الكفر الصراح، فسماهم الله إخوان المشركين {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا} (الحشر: 11)، وتوعدهم

(1) رواه البخاري ح (25)، ومسلم ح (21).

(2)

جامع العلوم والحكم (88).

(3)

الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 278).

(4)

فتح الباري (1/ 77).

(5)

شرح السنة (1/ 70).

ص: 54

الله بعذاب ما توعد به الكافرين {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً} (النساء: 145).

وأطلع الله نبيه على أسماء كثير من المنافقين، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل أحداً منهم بسبب ردته، ولا منع توارثهم مع أوليائهم، لا بل لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على ميتهم والاستغفار لهم حتى نهي عن ذلك.

وكل ذلك إنما هو إجراء لأحكام أهل الإسلام عليهم بما أظهروا منه، فيما يتوعدهم الله في الآخرة بأليم عذابه {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّةً فلن يغفر الله لهم ذلك بأنّهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين} (التوبة: 80).

قال الإمام الشافعي في بيان شأن المنافقين: " الله عز وجل أخبر عن المنافقين بأنهم اتخذوا أيمانهم جُنة، يعني - والله أعلم -: من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جُنة فقال:{ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} فأخبر عنهم بأنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان كفراً إذا سئلوا عنه أنكروه، وأظهروا الإيمان وأقروا به، وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله على الكفر، قال الله جل ثناؤه:{يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} (التوبة: 74).

فأخبر بكفرهم وجحدهم وكذب سرائرهم، وذكر كفرهم في غير آية .. وحكم فيهم - جل ثناؤه - في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان، وإن كانوا به كاذبين، لهم جُنة من القتل، وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان

وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حقن (1) الله تعالى دماء من أظهر الإيمان بعد الكفر، أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين، فكان بيناً في حكم الله عز وجل في المنافقين ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم، أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر، لأن أحداً منهم لا يعلم ما غاب

(1) هكذا في الأصل، ولعلها:(إذ حقن).

ص: 55

إلا ما علمه الله عز وجل، فوجب على من عقل عن الله أن يجعل الظنون كلها في الأحكام معطلة، فلا يحكم على أحد بظن، وهكذا دلالة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت لا تختلف". (1)

وقال شيخ الإسلام: "وبيان هذا الموضع مما يزيل الشبهة، فإن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل: هو كافر. فإنه يجب أن تجرى عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث، ولا يورث ولا يناكح، حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع.

وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون في نفاقه، كابن أُبي وأمثاله، ومع هذا فلما مات هؤلاء ورِثهم ورَثَتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تُعصم دماؤهم حتى تقوم السُّنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته". (2)

ويقول أيضاً: " وبالجملة فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان: كفر ظاهر، وكفر نفاق، فإذا تُكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين". (3)

ويقول: "وهكذا كان حكمه صلى الله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل منها شيئاً إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم". (4)

ويقول الشاطبي: "إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي، يُجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه". (5)

(1) الأم (6/ 157).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 617).

(3)

المصدر السابق (7/ 620 - 621).

(4)

المصدر السابق (7/ 617).

(5)

الموافقات (2/ 205).

ص: 56

ثم أجاب الشاطبي عن قول بعضهم بأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على المنافقين كان بسبب خشيته من قول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه. فقال: " فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عُدم ما علل به فلا حرج. لأنا نقول: هذا من أدل الدليل على ما تقرر، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر، بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر، وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر". (1)

وهذه القاعدة في تطبيق أحكام الشريعة عامة في كل أحد، حتى عمّت نبينا صلى الله عليه وسلم، نعم "لم يُستثن من ذلك أحد، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج في ذلك إلى البينة، فقال: من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت، فجعلها الله شهادتين، فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكبر (2) الناس على أصلح الناس، لكانت البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك، والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية". (3)

لذا فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)). (4) كما يقول الحافظ ابن حجر: " هو عام، يُخَص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر، فإنه تجرى عليه أحكام الظاهر

وإظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر". (5)

وشاهد آخر على إجراء الأحكام في الدنيا على الظاهر في حديث أسامة لما خرج في سرية، فأدرك رجلاً فقال: لا إله إلا الله، يقول أسامة:

(1) رواه البخاري معلقاً في باب ما جاء في البينة على المدعي، ورواه الترمذي ح (1341)، وصححه الألباني في أرواء الغليل ح (1938).

(2)

هكذا في الأصل، والأصوب:[ادعى أكذب].

(3)

الموافقات (2/ 206).

(4)

رواه البخاري ح (3017).

(5)

فتح الباري (12/ 273 - 274).

ص: 57

فطعنتُه، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:((أقال: لا إله إلا الله وقتلتَه؟! قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟)) فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ. (1)

قال النووي: "وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟)) الفاعل في قوله: ((أقالها)) هو القلب، ومعناه: أنك إنما كُلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال: ((أفلا شققت عن قلبه)) لتنظر، هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه، أم لم تكن فيه؟ بل جرت على اللسان فحسب، يعني: وأنت لست بقادر على هذا، فاقتصر على اللسان فحسب، يعني: ولا تطلب غيره". (2)

وقال: " وفيه دليل على القاعدة المعروفة في الفقه والأصول: أن الأحكام فيها بالظاهر، والله يتولى السرائر". (3)

وعليه فإن أهل السنة والجماعة يقبلون دعوى الناس الإسلام عملاً بالظاهر، ويدعون الحكم على السرائر إلى عالم السر وأخفى، فلا يقال بتكفير مسلم بزعم فساد سريرته وخبث طويته، بل يقبل منه ما ادعى، ونوله ما تولى، والله يتولى حسابه في الآخرة.

(1) رواه مسلم ح (96).

(2)

شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 104).

(3)

المصدر السابق (2/ 107).

ص: 58