الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في أقوال أهل العلم
قال الشافعي في «الأم» (1/ 327): وليس على المسافر أن يمر ببلد جمعة إلا أن يجُمّع فيه مقام أربع، فتلزمه الجمعة إن كانت في مقامه. اهـ.
وقال ابن المنذر رحمه الله (4/ 2) في «الأوسط» : ومما يحتج به في إسقاط الجمعة عن المسافر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مر به في أسفاره جمع (1) لا محالة فلم يبلغنا أنه جمع (1)
وهو مسافر، بل أنه ثبت عنه أنه صلى الظهر بعرفة وكان يوم الجمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على المسافر؛ لأنه المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد بكتابه فسقطت الجمعة عن المسافر استدلالًا بفعل النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا كالإجماع من أهل العلم؛ لأن الزهري مختلف عنه في هذا الباب؛ حكى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أنه قال: لا جمعة على المسافر وإن سمع المسافر أذان الجمعة
(1) قلت: ذكر ابن الهمام «فتح القدير» (2/ 33) ما نصه: (وفي «الكافي» صح أنه صلى الله عليه وسلم أقام الجمعة بمكة مسافرًا) اهـ. وفي «بدائع الصنائع» (1/ 43) مثله. قلت: فإن كان انتزعه من إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة كما ثبت في «البخاري» عن ابن عباس فقد أطلق جماعة من أهل العلم عدم إقامته الجمعة في سفره ولو قدر أنه أقام الجمعة فغاية ما في الأمر أنه إمام فيها وإلا فهي قائمة مفروضة على أهل مكة وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم شاهدًا لها فمن الذي سيتقدم بين يديه في إقامتها وكذلك هو عليه الصلاة والسلام إمام المسلمين ولهذا قال الرخسي في «المبسوط» (2/ 13) ما نصه: (ولو أن أمير الموسم جمع بمكة وهو مسافر جاز لأنه فوض إليه أمر المسلمين. اهـ. ومراده في «الموسم» الحج والجهاد مثله ومعلوم أن شهود المسافر المستقر للجمعة أفضل وأعظم أجرًا حيث لا مشقة، لكن الكلام في «الوجوب» وقد عقد عبد الرزاق (3/ 36) باب الإمام يجمع حيث كان، وذكر آثارًا عن السلف، والصحيح في هذه المسألة أن الإمام له أن يتولى إقامة الجمعة في البلد الذي يمر به أو ينيب غيره لا أنه تلزمه الجمعة حيث كان إذا كان مسافرًا ..
وهو في بلد فليحضر معهم يحتمل أن يكون أراد استحبابًا ولو أراد غير ذلك كان قولًا شاذًا خلاف قول أهل العلم وخلاف ما دلت عليه السنة. اهـ.
قلت: وقول الزهري: علقه البخاري في صحيحه تحت باب (المشي إلى الجمعة وقول الله جل وعلا {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وعلق آثارًا ثم قال: وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد. قال الحافظ (2/ 391) ما نصه: لم أره من رواية إبراهيم وقد ذكره ابن المنذر عن الزهري، وقال: إنه اختلف عليه فقيل عنه مثل قول الجماعة إنه لا جمعة على المسافر كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري.
قال ابن المنذر: وهو كالإجماع من أهل العلم عن ذلك لأن الزهري اختلف عليه فيه. اهـ. ويمكن حمل كلام الزهري على حالتين: فحيث قال: (لا جمعة على المسافر) أراد على طريق الوجوب وحيث قال: (فعليه أن يشهد) أراد على طريق الاستحباب (1)
ويمكن أن تحمل رواية سعد بن إبراهيم هذه على صورة مخصوصة
(1) هذا الحمل من الحافظ ضعيف غريب وكلام الزهري واضح من نقله عن ابن المنذر؛ فالمسافر عند الزهري له حالتان:
أ - أن يكون حاضرًا فيسمع النداء فعليه الحضور (وهو محل البحث) ونقول الأئمة عن الزهري إنما في هذه الصورة.
ب - ألا يكون كذلك فليس على المسافر جمعة.
وقد فطن ابن المنذر وحمل قول الزهري فليحضر معهم يعني إذا كان في بلد على الاستحباب حتى لا يخالف قول أهل العلم في إسقاط الجمعة عن المسافر فافهم.
وهو إذا اتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة فسمع النداء (1) لها، لا أنها تلزم المسافر مطلقًا حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخلها مجتازًا مثلًا، وكأن ذلك رجح عند البخاري، ويتأكد عنده بعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فلم يخص مقيمًا من مسافر وأما ما احتج به ابن المنذر على سقوط الجمعة على المسافر بكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جمعًا بعرفة وكان يوم الجمعة فدل ذلك من فعله على أنه لا جمعة على المسافر فهو حمل صحيح إلا أنه لا يدفع الصورة التي ذكرتها. اهـ.
وقال الموفق (3/ 216): وأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه، كذلك قاله مالك في أهل المدينة والثوري في العراق والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وروي ذلك عن عطاء وعمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي، وحكي عن الزهري والنخعي أنها تجب عليه لأن الجماعة تجب عليه فالجمعة أولى، ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسافر ولا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع بعرفة يوم الجمعة فصلى الظهر وجمع بينها ولم يصل جمعة، والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كانوا يسافرون للحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم. وقد قال إبراهيم: كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وبسجستان السنين
(1) قلت: هذا صريح فتوى الزهري لمعمر عند عبد الرزاق، والحافظ لم ينسبه له وتقدم.
لا يجمعون ولا يشرقون (ثم ذكر أثر أنس وعبد الرحمن بن سمرة وتقدما) ثم قال: وهذا إجماع مع السنة الثابتة فيه فلا يسوغ مخالفته .... إلى أن قال (3/ 22) والأفضل للمسافر حضور الجمعة لأنها أفضل.
ونقل ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/ 76) الإجماع على أنه ليس على المسافر جمعة.
وقال ابن حزم في «المحلى» (5/ 49): وسواء فيما ذكرنا في وجوب الجمعة للمسافر في سفره والعبد والحر والمقيم إلى قوله (ص51) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] قال علي: فهذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر ولا عبد بغير نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم.اهـ.
وقال البغوي في «شرح السنة» (4/ 226): ولا تجب على المسافر، وذهب النخعي والزهري إلى أن المسافر إذا سمع النداء (1) فعليه حضور الجمعة.
(1) سماع النداء محله:
أ. إذا كان المؤذن صيتًا.
ب - والأصوات هادئة.
ج - والرياح ساكنة.
د. والموانع منتفية. اهـ. من «الإنصاف» (5/ 66) زاد في «المغني» . (3/ 244 - 245).
هـ. والمستمع غير ساه ولا غافل.
و. وفي موضع عال، ولم يذكر الموفق الموانع فحاصل ما ذكر ستة، وحدوده بفرسخ. قلت: الفرسخ خمسة كيلو مترات.
وقال النووي في «المجموع» (4/ 351): لا تجب الجمعة على المسافر، هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا وحكاه ابن المنذر وغيره عن أكثر العلماء وقال الزهري والنخعي: إذا سمع النداء لزمه قال أصحابنا: ويستحب له الجمعة للخروج من الخلاف ولأنها أكمل هذا إذا أمكنه ..... اهـ.
وقال العمراني في «البيان» (2/ 543): ولا تجب الجمعة على المسافر، وبه قال عامة الفقهاء، وقال الزهري والنخعي: إذا سمع النداء وجبت عليه، دليلنا حديث جابر؛ ولأنه مشغول بالسفر ويستحب له إذا كان في بلد في وقت الجمعة أن يحضرها.
وقال ابن هبيرة في «الإفصاح» (2/ 93): (واتفقوا على أن الجمعة لا تجب على صبي ولا عبد ولا مسافر ولا امرأة إلا رواية عن أحمد رواها في «العبد» خاصة. اهـ. ونقل الاتفاق صديق حسن خان عن صاحب المسوي .... انظر «الروضة الندية» (1/ 341).
وقال المجد في «المحرر» (1/ 142): (ولا تجب على مسافر له القصر).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «المجموع» (24/ 184):
(وكذلك يحتمل أن يقال بوجوب الجمعة على من في المصر من المسافرين، وإن لم يجب عليهم الإتمام كما لو صلوا خلف من يتم فإن عليهم الإتمام تبعًا للإمام، كذلك تجب عليهم الجمعة تبعًا للمقيمين .... لأن قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9] ونحوها يتناولهم وليس لهم عذر ولا ينبغي أن يكون في مصر المسلمين من لا يصلي الجمعة إلا من هو عاجز عنها كالمريض والمحبوس، وهؤلاء قادرون عليها. لكن المسافرين لا يعقدون جمعة؛ لكن إذا عقدها أهل مصر صلوا معهم، وهذا أولى من إتمام الصلاة خلف الإمام المقيم). اهـ. ونقله عنه في «الاختيارات» ملخصًا (ص 119).
وقال في «الفروع» (2/ 74): (ويحتمل أن يلزمه تبعًا للمقيمين خلافًا لهم)، قاله شيخنا: وهو متجه. اهـ. يعني بشيخنا شيخ الإسلام ونقله ابن قاسم عن الشيخ وصاحب «الفروع» ، قال: وهو من المفردات.
وقال الحافظ ابن حجر في شرحه على البخاري المسمى «فتح الباري» (1/ 3، 4): على قول البخاري (باب من أين تؤتى الجمعة وعلى من تجب؟ لقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وقال
عطاء: إذا كنت في قرية جامعة، فنودي بالصلاة من يوم الجمعة، فحق عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لم تسمعه.
وكان أنس بن مالك في قصره، أحيانًا يجمع، وأحيانًا لا يجمع، وهو بالزاوية على فرسخين.
قال: تضمَّن الذي ذكره مسألتين:
المسألة الأولى: أن من هو في قرية تقام فيها الجمعة، فإنه إذا نودي فيها بالصلاة للجمعة وجب عليه السعي إلى الجمعة، وشهودها سواء سمع النداء أو لم يسمعه، وقد حكاه عن عطاء.
وهذا الذي في القرية، إن كان من أهلها المستوطنين بها، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له، وسواء سمع النداء أو لم يسمع، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد، ونقل بعضهم الاتفاق عليه. وإن كان من غير أهلها، فإن كان مسافرًا يباح له القصر، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المسافر لا جمعة عليه. وحكي عن الزهري والنخعي، أنه يلزمه تبعًا لأهل القرية. وروي عن عطاء- أيضًا- أنه يلزمه.
وكذا قال الأوزاعي: إن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب
…
إلخ.
وقال الصنعاني في «سبل الإسلام» (2/ 157):
في شرح حديث ابن عمر: (ليس على المسافر جمعة) ما نصه: (والمسافر لا يجب عليه حضورها) وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر وأما النازل فتجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة وإلى هذا جماعة من الآل وغيرهم، وقيل: لا تجب عليه لأنه داخل في لفظ المسافر وإليه ذهب جماعة من الآل أيضًا وغيرهم وهو الأقرب، لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه، ولذا لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعرفات في حجة الوداع لأنه كان مسافرًا، وكذلك العيد تسقط صلاته على المسافر، ولذا لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد في حجته، وقد وهم ابن حزم رحمه الله فقال: إنه صلاها في حجته، وغلَّطه العلماء. اهـ.
وقال في «مطالب النهى» في «شرح غاية المنتهى» (1/ 758): (ولا تجب على مسافر أبيح له القصر)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة فيه مع اجتماع الخلق الكثير، وكما لا تجب عليه لا تلزمه بغيره، نص عليه، فلو أقام المسافر ما يمنع القصر لشغل أو علم أو نحوه. ولم ينو استيطانًا لزمه بغيره لعموم الآية والأخبار. اهـ.
وفي «الدرر السنية» (5/ 6): سئل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عن المسافر إذا أدركته الجمعة؟ فأجاب: المسافر إذا قدم ولم ينو إقامة تمنع القصر والفطر في رمضان فهذا لا جمعة عليه بحال إذا صلى الجمعة مع أهل البلد أجزأته والأفضل في حقه
حضورها إذا لم يمنع مانع، فإن كان المسافر قد نوى إقامة مدة تمنع القصر والفطر فهذا تلزمه بغيره فإذا كان في بلد تقام فيها الجمعة وجب عليه حضورها. اهـ.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في «الشرح الممتع» (5/ 15) بعد ما قرر عدم وجوب الجمعة على المسافر، بل بعدم صحتها من المسافرين قال ما نصه:(أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة كما لو مر إنسان في السفر ببلد ودخل فيه ليقيل ويستمر في سيره بعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة لعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وهذا عام ولم نعلم أن الصحابة الذين يفدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويبقون إلى الجمعة يتركون صلاة الجمعة، بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. وقرر في فتاويه مثله (16/ 74).
وحاصل ما قيل في هذه المسألة:
1 -
وجوب حضور الجمعة وأدائها، وقال به النخعي والزهري وعطاء والأوزاعي والبخاري وابن حزم وشيخ الإسلام وابن حجر وصاحب الفروع وابن عثيمين وغيرهم.
2 -
عدم وجوب حضور الجمعة وقال به جماهير الأمة، كما نقله ابن المنذر وابن رجب وغيرهم.
3 -
استحباب حضور الجمعة؛ لأنه أولى وأكمل وخروجًا من الخلاف ومما قال به الموفق (3/ 22)؛ ونقله النووي عن بعض أصحابه من الشافعية وقال في «الإنصاف» (5/ 175): فائدة: كل من لم تجب عليه الجمعة لمرض أو سفر أو اختلف في وجوبها عليه كالعبد ونحوه فصلاة الجمعة أفضل في حقه، وذكره ابن عقيل، وهذا القول لا ينافي ما قبله.
وخلاصة حجج الموجبين:
عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
…
} [الجمعة: 9].
وهذا في البلد الذي يسمع فيه النداء، فهذا العموم يتناوله وليس له عذر في التخلف.
أن الصحابة في المدينة كانوا يفدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويشهدون الجمعة ولا يتخلفون عنها .... وبينوا ذلك فقالوا: لما كان مسافرًا جادًا به السير كان له الترخص بكامل رخص السفر من القصر والجمع والفطر والتنفل على الدابة، وإذا نزل في مكان فإن جماعة من أهل العلم يقولون: يقصر مع التوقيت إما وجوبًا وإما استحبابًا، ويمنعونه من التنفل على الدابة ومع الترخيص له بالفطر والقصر، ويقولون: إن الفطر والقصر مشروع له في الإقامات التي تتخلل في السفر بخلاف الصلاة على الراحلة فإنه لا يشرع إلا في حالة السير، ولأن الله علق الفطر والقصر
بمسمى السفر بخلاف الصلاة على الراحلة، فليس فيه لفظ عام بل فيه الفعل الذي لا عموم له، فهو من جنس الجمع بين الصلاتين الذي يباح للعذر مطلقًا.
وقالوا أيضًا: إن نزول المسافر في مصر ومكثه مدة لا تمنع القصر، فما الذي يخرجه من عموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وهو من الذين آمنوا وهو شاهد يسمع النداء معافى، فما الذي يحجزه عن شهود هذا الخير وامتناعه من السعي إلى ذكر الله؟
قالوا: وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد بخروج العواتق وذوات الخدور والحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، وأيضًا والجمعة عيد المسلمين في الأسبوع، وهي عيد بالنص والإجماع، فلابد أن يخرج لها من كان بالمصر من الذكور البالغين غير المعذورين، والمسافر المستقر غير معذور، وكيف يأمر النساء بالخروج من خدورهن والحيض ليشهدن العيد ويدع المسافرين فلا يأمرهم بشهود الجمعة؟ بل أمرهم بشهود الجمعة أولى.
وأيضًا لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يفدون على النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتخلفون عن الجمعة معه، وقد أخرج مسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: قال أبو رفاعة: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل عليّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إليّ فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديدًا قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها، ومسلم أخرجه في «أبواب الجمعة» (1) وهذا هدي محمد صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه.
وقالوا: إن من القواعد المقررة عند علماء الملة (أنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا)، وهذه قاعدة صحيحة عند جماهير علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم وقد اختلفت تعبيراتهم عنها، فعند الحنابلة: ما قدمناه من لفظ القاعدة، وعند الشافعية: يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها.
وعند الأحناف: الأصل أنه قد يثبت الشيء تبعًا وحكمًا وإن كان قد يبطل قصدًا. وقد ضرب العلماء لهذه القاعدة أمثلة كثيرة في العبادات والمعاملات وقد دلت عليها الأدلة الشرعية وجاءت بتقريرها، ومسألتنا فرد من أفراد تلك القاعدة: فلما كان المسافر قارًا في البلد، كان حكمه في إجابة نداء الجمعة حكم المقيمين، كما لو صلى المسافر خلف من يتم كان عليه أن يتم تبعًا للإمام، كذلك يجب عليهم الجمعة تبعًا للمقيمين، بل شهودهم الجمعة أولى من إتمامهم الصلاة خلف الإمام المقيم (2).
(1) برقم (876).
(2)
انظر كلام شيخ الإسلام المتقدم.
قال المسقطون: مهلًا مهلًا فقد أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم وقد قلتم فأكثرتم وأحسنتم فأنصفونا، فإنا نقول: إن الله قد علق أحكامًا كثيرة بمسمى السفر من القصر والفطر والمسح ثلاثًا على الخفين، والعفو عن الجمعة والاستعاضة عنها بالظهر مقصورة رحمة من الله وتخفيفًا، وكل ذلك صدقة من الله على عباده فاقبلوا صدقته واكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا .... وهذه المسامحة والعفو والتخفيف لا يحل رفعها عن عباد الله والإشفاق عليهم إلا بحجة بينة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو إجماع متيقن أو قياس صحيح يجب المصير إليه، وأين هذا في مسألتنا؟
فأما قولكم: عموم الآية وشمولها للمسافر القار فنحن نمنع ذلك. فكما لم يجب عليه الصوم ولم يدخل في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] كذلك لم يدخل في عموم آية الجمعة، وسبب سقوط الصوم عنه السفر بنص الآية قال تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، فكذا في مسألتنا ونحن معنا فهم السلف وجمهورهم فهذا ابن عمر يقول:(لا جمعة على مسافر) فهذا عذرهم الذي عذرهم به السلف، وأنتم أبيتم ذلك!! ..
وأما قولكم: إن المسافر إن مكث بمكان لا يقطع حكم السفر فإنه لا يتنفل على الدابة ما دام نازلًا وتتوصلون بهذا إلى أحكام المسافر القار تتبعض! فنعم
فلا حاجة له إلى ركوب دابته والتنفل عليها ما دام نازلًا، وإنما رخص له في حال السير وهكذا ثبتت به السنة. فكان ماذا؟!!
وأما قولكم: فكيف يأمر الحيض وذوات الخدور بالخروج للعيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، فكيف لا يشهد المسافر القار الخير في الجمعة ودعوة المسلمين وذكر الله؟ فالجواب أننا نحاكمكم إلى أنفسكم فالعيد إنما هو مرتان في السنة ومجمعه أكبر مجامع المسلمين بعد مشهد عرفة فشرع لعامة المسلمين شهوده ومنهم المذكورات لقلة دورانه في الحول، أما الجمعة فإنها تتكرر في السنة نحوًا من خمسين مرة، وأيضًا العيد لو لم تشهده المرأة فإنه لابد له، والجمعة لها بدل مفروض فلم يستويا.
وأما قولكم: لم نعلم أن الصحابة الذين كانوا يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم ويفدون إليه أنهم كانوا يتخلفون عن التجميع معه، فنعم فلعمرو الله لقد كانوا يشهدونها ويحرصون عليها، فلقد كان نظرهم إليه وسماع كلامه أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم والناس أجمعين، ونحن نشهد الله على ذلك؛ فإنه أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا وأولادنا والناس أجمعين ولو خيرنا بين لقياه عليه الصلاة والسلام وبقاء الأهل والأولاد والأموال وأهل الأرض كلهم لاخترنا لقياه عليه الصلاة والسلام على ذلك بأبي هو وأمي، على أن الصحابة رضي الله عنهم كان لزامًا عليهم إذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، قال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62] وقد فر الأمر الجامع بشهود الجمعة أو كانوا في زحف، صح التفسير بذلك عن الزهري وابن جريج، كما رواه ابن جرير، عنهما واختاره.
وهذا يعم أصحابه المقيمين والوافدين إليه وقد التزم نظير ذلك بعض أهل العلم في مسألتنا فقالوا: إذا حضر المسافر المسجد الجامع لزمته صلاة الجمعة وقد لام النبي عليه الصلاة والسلام من دخل المسجد ولم يصل وقال: «ما منعكما أن تصليا معنا» . مع أنهما قد صليا في رحالهما
…
وهذه المسألة أخص من المسألة المتنازع فيها.
وأما قولكم: إنه يثبت تبعًا ما يثبت استقلالًا وأن المسافر يأخذ حكم المقيم إن كان ماكثًا نازلًا في وجوب إجابة النداء؛ فنحن نسلم بصحة هذه القاعدة، ولكننا نقول إن محلها ما لم يكن استقل التبع بحكم آخر يمنع إلحاقه بالمتبوع واعتبر هذا بالبهيمة المذكاة إن وجد جنين في بطنها أنه إذا خرج ميتًا فهو كجزء من أجزائها وإن خرج حيًا فلابد من تذكيته ولا يتبع أمه، وفي مسألتنا فإن
المسافر مستقل بأحكام خاصة تناسب حاله فلا يخرج عنها إلا بدليل، وإنما يثبت تبعًا هنا أهل مصر ممن لا يسمع النداء ومن كان حوله وحده كثير منهم بفرسخ.
فهذا نهاية إقدام الفريقين وغاية سجال الطائفتين، وأنا على مذهب جماهير الأمة (1) من عدم الوجوب والإلزام، نعم يستحب شهودها من غير حرج وانحتام.
قال الشاطبي في «الموافقات» (1/ 443): وأما الرابع فكأسباب الرخص هي موانع من الانحتام بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلًا إلى جهة الرخصة كقصر المسافر وفطره وتركه الجمعة وما أشبه ذلك. اه. والله يهدينا إلى صراطه المستقيم.
وهنا مسائل مهمة أنبه عليها على الإيجاز في ختام هذا البحث.
مسائل هامة:
1 -
السفر يوم الجمعة: الصحيح جواز السفر يوم الجمعة ما لم يؤذن لها وهذا قول جمهور أهل العلم فإذا أذن لها الأذان الذي تليه الخطبة فلابد من شهودها، ما لم يتضرر بترك السفر بانقطاعه عن رفقة أو فوات مركوب كما في
(1) قال القرافي في «الفروق» (2/ 557): - والحق لا يفوت الجمهور غالبًا.
عصرنا في فوات السفر بالطائرة ونحوها، وكذلك يجوز له السفر إذا كان سيصلي الجمعة في بلد قريب. انظر:«المغني» (3/ 247) و «زاد المعاد» (1/ 382) وغيرهما وابن المنذر (4/ 21) و «الإنصاف» (5/ 185).
2 -
يجوز للمسافر أن يؤم في صلاة الجمعة: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ومذهب الجمهور خلافًا للمشهور من مذهب الحنابلة، واختاره شيخنا ابن باز رحمه الله، ونص عليه في «شرح الموطأ» عند باب (ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة في السفر)(1/ 107)، ونقل أبو حامد الغزالي الإجماع على صحتها خلف المسافر
…
حاشية الروضة (2/ 427).
3 -
من فاتته الجمعة هل يصلي الظهر في جماعة؟ الصحيح جواز ذلك، بل شرعيته لعموم فضل الجماعة، وفعله بعض الصحابة.
لكن هل يصليها جماعة في الجامع؟ قال في «المغني» (3/ 224): (ويكره في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة لأنه يفضى إلى النسبة إلى الرغبة عن الجمعة أو أنه لا يرى الصلاة خلف الإمام، أو يعيد الصلاة معه، وفيه افتيات على الإمام وربما أفضى إلى فتنة أو ضرر به وبغيره، وإنما يصليها في منزله، أو موضع لا تحصل هذه المفسدة بصلاتها فيه). اهـ.
قلت: وهو كلام محرر متين.
4 -
روى مسلم في صحيحه (883) من حديث عمر بن عطاء بن أبي الخوار أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة فقال: (نعم. صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك وأن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) وأخرجه أحمد وأبو داود.
وروى أبو داود من طريق ليث عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أيعجزكم أحد أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو شماله يعني السبحة). وهذا الحديث ضعفه البخاري في صحيحه فقد قال في صحيحه: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: (لا يتطوع الإمام في مكانه) ولم يصح، وقد ذكره البخاري بالمعنى، والحديث ضعيف فيه ليث بن أبي سليم، وإبراهيم مجهول، وصحح البخاري أن اسمه إسماعيل بن إبراهيم (كما نقله عنه البيهقي) مع الاختلاف في سند الحديث كما قال ابن رجب في «فتح الباري» (5/ 262) ط. طارق.
ولفظ الحديث عند البيهقي (2/ 19): إذا أراد أحدكم أن يتطوع بعد الفريضة. وروى أبو داود [616] والبيهقي (2/ 19) من طريق عطاء الخراساني عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله رضي الله عنه: «لا يصل أحدكم في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول» . قال أبو داود: عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة. وروى أبو داود [113] من طريق الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر
عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء عن ابن عمر قال: (كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد فقيل له فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. وأخرجه مسلم من طريق ليث عن نافع عن عبد الله بشطره الأخير دون صلاته بمكة وسند أبي داود لا بأس به. وروى ابن أبي شيبة (2/ 24) من طريق شريك عن ميسرة (وهو ابن حبيب) عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله عن علي قال: إذا سلم الإمام لم يتطوع حتى يتحول من مكانه أو يفصل بينهما بكلام. ورواه البيهقي (2/ 191) من طريق الأعمش عن المنهال به بلفظ من السنة إذا سلم الإمام أن لا يقوم من موضعه الذي صلى فيه يصلي تطوعًا حتى ينحرف أو يتحول أو يفصل بكلام. ثم قال البيهقي: ورواه الثوري عن ميسرة عن حبيب عن المنهال بن عمرو إلا أنه قال: (لا يصلح للإمام) وفي رواية: (لا ينبغي للإمام ..). اهـ. قال الحافظ في «الفتح» : إسناده حسن، كذا قال مع أن في إسناده عباد بن عبد الله وهو الأسدي الكوفي. قال البخاري: فيه نظر. وقال ابن المديني: ضعيف، ونقل ابن الجوزي عن أحمد الضرب على بعض حديثه. ومعنى قول البخاري (فيه نظر) أنه له مناكير. وقال الحافظ في «بذل الماعون» ص [117] وهذه عبارة البخاري فيمن يكون وسطًا.
وروى البيهقي (2/ 19) من طريق يعلى بن عبيد ثنا عبد الملك عن عطاء: قال رأيت ابن عمر رضي الله عنه دفع رجلًا من مقامه الذي صلى فيه المكتوبة وقال: إنما دفعتك لتقدم أو تأخر. وروى عنه بمعناه في الجمعة.
وروى البيهقي أيضًا من طريق الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن حفص بن غياث عن ابن عمر كان إذا صلى تحول من مقامه الذي صلى فيه. وقد روي عن ابن عمر خلافه؛ فقد روى البيهقي من طريق ابن وهب عن عبد الله بن عمر عن نافع أن عبد الله ابن عمر كان يصلي سبحته في مقامه الذي صلى فيه. وكذلك رواه شعبة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال البيهقي: وكأن يفصل بينهما بكلام أو انحراف أو فعل ما يجوز فعله. وطريق شعبة ذكره البخاري في صحيحه تحت باب: مكث الإمام في مصلاه بعد السلام قال لنا آدم حدثنا شعبة فذكره.
قال حرب (1): حدثنا محمد بن آدم ثنا أبو المليح الرقي عن حبيب قال: كان ابن عمر يكره أن يصلي النافلة في المكان الذي صلى فيه المكتوبة، حتى يتقدم أو يتأخر أو يتكلم. وروى الشافعي عن ابن عتيبة عن عمرو بن عطاء عن ابن عباس أنه كان يأمر إذا صلى المكتوبة فأراد أن يتنفل بعدها أن لا يتنفل حتى يتكلم أو يتقدم.
قال ابن رجب: وقد اختلف العلماء في تطوع الإمام في مكان صلاته بعد الصلاة، فأما قبلها فيجوز بالاتفاق، قاله بعض أصحابنا فكرهت طائفة تطوعه في مكانه بعد صلاته، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق، وروى عن علي أنه كرهه، وقال النخعي: كانوا يكرهونه، ورخص فيه ابن عقيل من أصحابنا، كما رجَّحه البخاري ونقله عن ابن عمر والقاسم بن محمد، فأما المروي عن ابن عمر فإنه لم يفعله وهو إمام بل كان مأمومًا، كذلك قال
(1) بواسطة «فتح الباري» لابن رجب (5/ 264).
الإمام أحمد. وأكثر العلماء لا يكرهون للمأموم ذلك وهو قول مالك وأحمد، وانظر:«المغني» (3/ 25 ..)
قلت: خلاصة ما تقدم من أحاديث وآثار وما نقله الحافظ ابن رجب ما يأتي:
كراهة تنفل الإمام في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة، بل ينبغي التحول المكاني، وأيضًا ينبغي الاشتغال بالذكر بعد المكتوبة، خلافًا للمشهور عند الأحناف من البداءة بالتطوع؛ ولأن هذا التحول هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم الراتب، وهذه الكراهة محكية عن أكثر أهل العلم.
أما الإمام فإن تحول عن مكانه بعد الفريضة، أو أتى بالذكر المشروع بعد الفريضة ولم يتحول، أو فصل بينهما بكلام مباح فكل ذلك كاف، ودل على هذا حديث معاوية عند مسلم، نعم، الجمع بين التحول والفصل بالذكر أبلغ وهو ظاهر المروي عن ابن عمر، وصلاة العبد في مكانه بعد الفصل بذكر أو كلام بعد الفريضة لا كراهة فيها عند أكثر العلماء وجميع ما ذكر إنما هو بين الفريضة والنافلة، وأما فعل ابن عمر بمكة في تحوله من موضع إلى موضع في النافلة فمن اجتهاده وهو مباح، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد صلاة الليل في موضع واحد.
وهنا مسألة أختم بها وهي مسألة تحويل الغير عن مكانه لأجل فعل السنة الراتبة بعد الصلاة سواء كانت الجمعة أو غيرها، ففي هذا نظر، فلا يجوز أن يقيم المسلم أخاه ويقعد أو يصلي مكانه، وهذا إن كان روي عن بعض السلف، كما ذكر ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه في آخر أبواب الجمعة إلا أن عبد الرزاق - رحمه
الله - في مصنفه فطن لهذا، فقد عقد في مصنفه (3/ 268) باب إقامة الرجل أخاه ثم يختلف في مجلسه، وذلك في آخر أبواب الجمعة. وذكر حديث جابر، وابن عمر.
والحديثان وما جاء في معناهما وإن كانا جاءا في الجلوس إلا أن النهي أعم فيشمل إقامة الرجل من مكانه لأجل الصلاة أو القراءة أو غير ذلك، العلة جلية وهي العدوان على الغير بإقامته من مكان سبق إليه فلا يحل ذلك إلا بطيب نفس، وما دام الشخص يريد هذا الفعل لتحقيق الفصل (1) بين الفريضة والنافلة فالأذكار كافية أو البحث عن مكان ليس فيه أحد أحرى من تحويل مسلم وإزعاجه وقطع ما هو فيه من ذكر أو فكر.
وهنا أضع القلم، وأسأل الله أن يضع عنا الأوزار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قاله وكتبه
أبو محمد عبد الله بن مانع
(1) وهذا هو التعليل الصحيح لأصل المسألة، وهو الفصل بين الفرض والنافلة حتى لا يزاد في الفرض ما ليس منه كما نص عليه جماعة من العلماء كابن القيم في «إعلام الموقعين» في الوجه الثلاثين والوجه الخمسين في «أمثلة سد الذرائع» ، وابن رجب في «اللطائف في وظائف شهر شعبان» وأما تعليل التحول لشهود البقاع فمنقوض بين النافلة، وبالفصل بالذكر بعد الفريضة.