المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: فيما شوهد من خير تطبيق القرآن الكريم في ماضي الأمة - التمسك بالقرآن الكريم وأثره في حياة المسلمين

[عبد الله بن عمر الشنقيطي]

الفصل: ‌المطلب الثاني: فيما شوهد من خير تطبيق القرآن الكريم في ماضي الأمة

وقد بين تعالى: - أن ذلك التعامل بالرفق لخصوص المسلمين دون الكافرين قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: 54) .

وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29)(1) .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (التحريم: 9) .

فالشدة في محل اللين حمق وخرق واللين في محل الشدة ضعف وخور

إذا قيل حلم قل فللحلم موضع

وحلم الفتى في غير موضعه جهل (2)

تلك بعض خيرات التمسك بالقرآن الكريم في حياة الفرد والجماعة والدولة بل والأمة من أرادها فليرجع إلى كتاب ربه الكريم ففي ذلك الخير العميم والهدي إلى الصراط المستقيم والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) الآية 54 من سورة المائدة. معنى مفردات.

{أذلة على المؤمنين} "عاطفين عليهم"{أعزة على الكافرين} .

أشداء عليهم وهذه من صفات قوم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كما أخبر بذلك رسول الله صلى عليه الله وسلم انظر نفس المصدر الجلالين.

(2)

انظر: الإسلام دين كامل للشيخ الأمين من ص 19-24، بتصرف بسيط.

ص: 32

‌المطلب الثاني: فيما شوهد من خير تطبيق القرآن الكريم في ماضي الأمة

لقد بنى القرآن الكريم صرح دولته الشامخ على تقوى من الله تعالى ورضوان يرفرف عليها ظل الإسلام والإيمان والإحسان يعبد أهلها الله تعالى

ص: 32

وحده لا يشركون به شيئاً فقوى أساسها وعلا بنيانها وعز بفضل الله تعالى، جانبها فعاش الناس فيها بخير، قضى العمل بالقرآن الكريم على الرذيلة، ونمت به كل فضيلة فتراحم المسلمون فيما بينهم، وكانوا يداً واحدة على عدو الله تعالى وعدوهم واستراح القضاء فلم تكد توجد قضية يترافع الناس فيها إليه إلا على وجه الندور لمعرفة كل فرد بما له وما عليه، ولعمل كل ما أوحى الله تعالى في القرآن الكريم إليه.

نعم كان إشعاع نور القرآن الكريم الأول قد انبثق، من جنبات مكة المكرمة وانتشر نوره متسارعاً إلى المدينة فاستنارت به ربوعها وسعدت بخيره أفرادها وجموعها. وواصل سيره الميمون حثيثاً، فجبلت قلوب عباد الله تعالى عليه ومن لم يصله، بعد سماعه به جاء هو راغباً إليه، فانشرحت به وله صدور العباد، فعم خيره ما إليه وصل نوره من البلاد، فلم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى أصبحت للدين في الجزيرة العربية، الكلمة بدون منازع يذكر، ولا مناوئ في مدر ولا وبر.

حتى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم "عن أن يجتمع في الجزيرة العربية دينان" الحديث (1)

فلو لم تكن للإسلام الجولة، ولو لم يكن قد دالت له الدولة لما تأتَّى أن يقبل مزاحمة دين آخر، في جزيرة غاب عنها نور الوحي، أزماناً متطاولة كما قال الله تعالى ربى في الدلالة على صدق رسالة سيد الخلق ورسول الحق محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَمَا كُنْتَ

(1) ورد بذلك المعنى حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري رحمني الله تعالى وإياه، في إخراج اليهود والمشركين من جزيرة العرب 4/65-66.

*المدر والوبر، كناية عن الحاضرة والبادية.

ص: 33

بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (44-46 القصص)(1) .

ولم يمض سوى وقت قليل بالنسبة لما أنجز فيه أهل القرآن الكريم من أعمال الخير حتى أنفقت كنوز قيصر وكسرى (2) كنوز أعظم إمبراطوريتين في ذلك العصر في سبيل الله تعالى كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم (3) وذلك بعد فتح بلادهم وحلول الإسلام فيها محل الضلال ولم يمض سوى زمن يسير - بالنسبة لما حقق فيه أهل القرآن الكريم من فتوحات باهرة، توالت فيها عليهم من الله تعالى انتصارات باطنة وظاهرة - لم يمض سوى وقت قليل، حتى رفرفت راية التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أجزاء من هذا العالم واسعة، من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي ووسط أوربا غرباً.

ومن وسط آسيا الصغرى شمالاً إلى السودان والصحراء الكبرى بأفريقيا جنوباً (4) .

(1) معاني بعض الألفاظ.

(وما كنت) يا محمد صلى الله عليه وسلم (بجانب الغربي) الواد أو المكان القريب من موسى عليه الصلاة والسلام (إذ قضينا) أي أوحينا (إلى موسى الأمر) بالرسالة إلى فرعون (وما كنت من الشاهدين) لذلك فتعلمه. (فتطاول عليهم العمر) طالت أعمارهم فنسوا العلم وانقطع الوحي.

ونسو العهد فجئنا بك يا محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وأوحينا إليك خبر موسى عليه السلام (ثاوياً) مقيماً، (كنا مرسلين) لك وإليك بأخبار المتقدمين (وما كنت بجانب الطور) .

الطور: الجبل (إذ نادينا) حين نادينا موسى عليه السلام، أن خذ الكتاب بقوة، ولكن (أرسلناك {رحمة من ربك} لأهل مكة {لعلهم يتذكرون} انظر المصدر السابق الجلالين بتصرف بسيط.

(2)

قيصر وكسرى، قيصر هو من ملك الروم وكسرى هو من ملك فارساً، وهذه اصطلاحات قديمة، ومثلها فرعون لمن ملك مصر، والنجاشي لمن ملك الحبشة والله تعالى رب العالمين أعلم سبحانه وتعالى وبحمده.

(3)

ورد بذلك المعنى حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم رحمني الله وإياه. برقم 1998.

(4)

انظر جوانب من تاريخ المسلمين. د. عبد الله محمد صالح العثيمين /6.

ص: 34

ورغم سعة هذه الدولة وترامى أطرافها، واختلاف أجناس وعادات وأعراف سكانها، فقد عم فيها خير العمل بالقرآن الكريم فعاش الناس في أمن واطمئنان وعز ورخاء فازدهرت الحركة العلمية فاستنارت عقول الناس وانتعش الاقتصاد فارتاحت من ضنك العيش حتى قال قائلهم وقد أظلته سحابه، اذهبي فحيثما أمطرت فخراجك لنا (1) فذابت فوارق العادات وانصهر اختلاف الرغبات في بوتقة العمل بالقرآن الكريم، حتى أصبح سلوك العربي والعجمي واحداً، يعبدون رباً واحداً، ويستسلمون لأمره ويبتعدون عن نهيه، فعاش الناس في ظل العمل بالقرآن الكريم في أرغد عيش في معاشهم، مع ما ينتظرون من سعادة عند الله تعالى في ميعادهم.

ولم يكن الله تعالى ليغير ما بقوم حتى يكونوا هم الذين يغيرون على أنفسهم سنة الله تعالى التي لا تتبدل ونظامه الذي لا يتحول كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الأنفال: 53)

وقال تعالى: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً} (الفتح: 23) .

وقد بدأ الإسلام - دينُ القرآن الكريم - رحلة اغتراب عن المسلمين، منذ أن بدؤوا هم في الاغتراب عنه واستمر البون بينهما يتسع والشق بين الإسلام والمسلمين يزيد فلا يرتقع، بقدر بعدهم عن القرآن الكريم، شيئاً فشيئاً حتى آل أمرهم إلى ما ترى، بان فيه صبح الحقيقة لذى عينين، فأصبحت دولة الإسلام دويلات، حين حلت الأنانية حباً للمناصب محل إنكار

(1) تروى عن الخليفة هارون الرشيد وهي مشتهرة على ألسنة المؤرخين.

ص: 35