الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فروا من القول بالظن الراجح في العقيدة فوقعوا فيما هو أسوأ منه وهو قولهم بالظن المرجوح فيها {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وما ذلك إلا بسبب البعد عن التفقه بالكتاب والسنة والاهتداء بنورهما مباشرة والانشغال عنه بآراء الرجال.
الأدلة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة:
إن هناك أدلة أخرى أخص في الدلالة مما سبق على وجوب الأخذ بخبر الواحد في العقيدة أرى أنه لا بد من التعرض لذكر بعضها وبيان وجه دلالتها
الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] .
فقد حض الله تبارك وتعالى المؤمنين على أن ينفر طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه دينهم ويتفقهوا فيه. ولا شك أن ذلك ليس خاصا بما يسمى بالفروع والأحكام بل هو أعم. بل المقطوع به أن يبدأ المعلم بما هو الأهم فالأهم تعليما وتعلما ومما لا ريب فيه أن العقائد أهم من الأحكام ومن أجل ذلك زعم الزاعمون أن العقائد لا تثبت بحديث الآحاد فيبطل ذلك عليهم هذه الآية الكريمة فإن الله تعالى كم حض فيها الطائفة على التعلم والتفقه عقيدة وأحكاما حضهم على أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما تعلموه من العقائد والأحكام
و "الطائفة" في لغة العرب تقع على الواحد فما فوق. فلولا أن الحجة تقوم بحديث الآحاد عقيدة وحكما لما حض الله تعالى الطائفة على التبليغ حضا عاما معللا ذلك بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الصريح في أن العلم يحصل بإنذار الطائفة فإنه كقوله تعالى في آياته الشرعية والكونية: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} {لعلهم يعقلون} {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فالآية نص في أن خبر الآحاد حجة في التبليغ عقيدة وأحكاما.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء: من الآية36] أي لا تتبعه ولا تعمل به ومن المعلوم أن المسلمين لم يزالوا من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون بها الأمور الغيبية والحقائق الإعتقادية مثل بدء الخلق وأشراط الساعة بل ويثبتون بها لله تعالى الصفات فلو كانت لا تفيد علما ولا تثبت عقيدة لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "مختصر الصواعق - 2/396" وهذا مما لا يقوله مسلم
الدليل الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وفي القراءة الأخرى {فتثبتوا} فإنها تدل على أن العدل إذا جاء بخبر ما فالحجة قائمة به وأنه لا يجب التثبت بل يؤخذ به حالا ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في "الإعلام""2/394":
وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد وأنه لا يحتاج إلى التثبت ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم. ومما يدل عليه أيضا أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة وفي صحيح البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من صحابي غيره وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نسب إليه من قول أو فعل فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم
الدليل الرابع: سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على الأخذ بخبر الآحاد:
إن السنة العملية التي جرى عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حياته وبعد وفاته تدل أيضا دلالة قاطعة على عدم التفريق بين حديث الآحاد في العقيدة والأحكام وأنه حجة قائمة في كل ذلك وأنا ذاكر الآن بإذن الله بعض ما وقفت عليه من الأحاديث الصحيحة قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" - 8/132":
باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام وقول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: من الآية122] ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: من الآية9] فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية وقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: من الآية6] وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحدا بعد واحد فإن سها أحد منهم رد إلى السنة
ثم ساق الإمام البخاري أحاديث مستدلا بها على ما ذكر من إجازة خبر الواحد والمراد بها جواز العمل والقول بأنه حجة فأسوق بعضا منها:
الأول: عن مالك بن الحويرث قال:
أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة1 متقاربون فأقمنا عنده نحوا من عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي".
فقد أمر صلى الله عليه وسلم كل واحد من هؤلاء الشببة أن يعلم كل واحد منهم أهله والتعليم يعم العقيدة بل هي أول ما يدخل في العموم فلو لم يكن خبر الآحاد تقوم به الحجة لم يكن لهذا الأمر معنى
1 جمع شاب.
الثاني: عن أنس بن مالك: أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام. قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: "هذا أمين هذه الأمة" أخرجه مسلم "7/29" ورواه البخاري مختصرا
قلت: فلو لم تقم الحجة بخبر الواحد لم يبعث إليهم أبا عبيدة وحده وكذلك يقال في بعثه صلى الله عليه وسلم إليهم في نوبات مختلفة أو إلى بلاد منها متفرقة غيره من الصحابة رضي الله عنهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وأحاديثهم في "الصحيحين" وغيرهما ومما لا ريب فيه أن هؤلاء كانوا يعلمون الذين أرسلوا إليهم العقائد في جملة ما يعلمونهم فلو لم تكن الحجة قائمة بهم عليهم لم يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أفردا لأنه عبث يتنزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في "الرسالة""ص 412":
وهو صلى الله عليه وسلم لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قادرا على أن يبعث إليهم فيشافههم أو يبعث إليهم عددا فبعث واحدا يعرفونه بالصدق
الثالث: عن عبد الله بن عمر قال:
بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل
الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة رواه البخاري ومسلم.
فهذا نص على أن الصحابة رضي الله عنهم قبلوا خبر الواحد في نسخ ما كان مقطوعا عندهم من وجوب استقبال بيت المقدس فتركوا ذلك واستقبلوا الكعبة لخبره فلولا أنه حجة عندهم ما خالفوا به المقطوع عندهم من القبلة الأولى. قال ابن القيم:
ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شكروا على ذلك.
الرابع: عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى نبي إسرائيل فقال ابن عباس: كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى عليه السلام صاحب الخضر. أخرجه الشيخان مطولا والشافعي هكذا مختصرا وقال "442/1219":
الشافعي يثبت العقيدة بخبر الواحد:
فابن عباس مع فقهه وورعه يثبت خبر أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكذب به امرءا من المسلمين إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه دلالة على أن موسى نبي إسرائيل صاحب الخضر
قلت: وهذا القول من الإمام الشافعي رحمه الله دليل على أنه لا يرى التفريق بين العقيدة والعمل في الاحتجاج بخبر الآحاد لأن كون موسى عليه السلام هو صاحب الخضر عليه السلام هي مسألة علمية وليست حكما عمليا كما هو مبين ويؤيد ذلك أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عقد فصلا هاما في "الرسالة" تحت عنوان "الحجة في تثبيت خبر الواحد" وساق تحته أدلة كثيرة من الكتاب والسنة "ص 401 - 453" وهي أدلة مطلقة أو عامة تشمل بإطلاقها وعمومها أن خبر الواحد حجة في العقيدة أيضا وكذلك كلامه عليها عام أيضا وختم هذا البحث بقوله:
وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه1 السبيل. وكذلك حكي لنا عمن حكى لنا عنه أن أهل العلم بالبلدان
وهذا عام أيضا. وكذلك قوله "ص 457":
"ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد"
1 خبر لم يزل.
عدم الإحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة بدعة محدثة:
وبالجملة فأدلة الكتاب والسنة وعمل الصحابة وأقوال العلماء تدل دلالة قاطعة - على ما شرحنا - من وجوب الأخذ بحديث الآحاد في كل أبواب الشريعة سواء كان في الإعتقاديات أو العمليات وأن التفريق بينهما بدعة لا يعرفها السلف ولذلك قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى "3/412":
وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات "يعني العقيدة" كما تحتج بها في الطلبيات العمليات ولا سيّما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينا فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته فأين سلف المفرقين بين البابين؟ نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ويحيلون على آراء المتكلمين وقواعد المتكلفين فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين
…
وادعوا الإجماع على هذا التفريق ولا يحفظ ما جعلوه إجماعا عن إمام من أئمة المسلمين ولا عن أحد من الصحابة
والتابعين
…
فنطالبهم بفرق صحيح بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد من الدين وما لا يجوز ولا يجدون إلى الفرق سبيلا إلا بدعاوى باطلة
…
كقول بعضهم: الأصوليات هي المسائل العلميات والفروعيات هي المسائل العملية "وهذا تفريق باطل أيضا.
فإن المطلوب من العمليات1 أمران: العلم والعمل والمطلوب من العلميات العلم والعمل أيضا وهو حب القلب وبغضه وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته وبغضه للباطل الذي يخالفها فليس العمل مقصورا على عمل الجوارح بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح وأعمال الجوارح تبع فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه بل هو أصل العمل وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال.
وهذا من أقبح الغلط وأعظمه فإن كثيرا من الكفار كانوا جازمين.
بصدق النبي صلى الله عليه وسلم غير شاكين فيه غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب من حب ما جاء به والرضا به وإرادته والموالاة والمعاداة عليه فلا تهمل هذا الموضع فإنه مهم جدا به تعرف حقيقة الإيمان
فالمسائل العلمية عملية والمسائل العملية علمية فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في العمليات بمجرد العمل دون العلم ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل
1 الأصل: "والمطلوب منها أمران"ولعل ما أثبتناه أقرب إلى الصواب.