الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وشروطه وآدابه إعداد
د. أحمد بن سيف الدين تركستاني
الأستاذ المشارك بقسم الإعلام
كلية الدعوة والإعلام - جامعة الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيمكن للمرء أن يسمي هذا العصر بعصر تقارب الثقافات وتعايشها وتحاورها. وما سبق أن توقعه البروفيسور (مارشال ماكلوهان) قبل نحو أربعين عاماً تحقق إلى حد كبير، إذ إن الدفع التقني مضى قدماً إلى الأمام بأسرع مما كان يدور في خلد ذلك المنظر الإعلامي الرائد. من كان يتصور قبل عقود قليلة أن شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) يمكن أن تربط العالم بهذا الشكل سواء بنقل المعلومات فورياً، أو بالسماح بالحوار عبر المعمورة بحرية كاملة وتكاليف قليلة هي رمزية في معظم الأحيان؟! هذا فضلاً عما حدث من تقدم في وسائل الاتصال الأخرى، وتيسر السفر والانتقال والتبادل التجاري وغير ذلك من الوسائل التي توفر فرصاً لا تحصى للقاء بين الشعوب والتعرف على مختلف الثقافات والحضارات.
وقد جاء انحسار الحرب الباردة وانتهاء الاستقطاب السياسي الدولي القديم ليتيح فرصاً ثقافية وفكرية يمكن أن تقلل من آفات التعصب والتربص بالآخر والإصرار على غزوه فكرياً. لقد أصبح ممكناً أكثر من ذي قبل نشر الأفكار على نحو طبيعي دون أن تقف من ورائه - في الغالب - الأحزاب والدول، وإنما جماعات غير منظمة ولا ممولة بشكل جيد تعمل جهدها لنشر أفكارها بهدوء دون العوائق المعروفة تاريخياً، وهذا وضع أقرب إلى تحقيق التعايش الثقافي السلمي والتبادل الحضاري الذي يفتح الفرص أمام جميع الأطراف.
هذا الأمر يدعونا إلى كيفية الاستفادة من هذه الفرص المتاحة في الحوار وطرح الآراء بعيداً عن الإكراه والقسر. كما أنه يقودنا إلى مكانة الحوار مع الآخر في ديننا الإسلامي وتراثنا الطويل.
إن حوار المسلمين مع أصحاب الأديان الأخرى لم ينقطع قط، لأنه مسجل في القرآن الكريم ويتلوه المسلمون صباح مساء في آيات كثيرة مثل قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران / 64) وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران / 71) وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (المائدة / 68) وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} (الأنعام / 91) وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (البقرة / 144) وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة / 145) ، وغير ذلك من آي الذكر الحكيم التي تذكر مشاهد الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب وهي آيات تعد بالعشرات وتتخلل كثيراً من سور القرآن الكريم.
وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مواقف عديدة للحديث مع أهل الكتاب والحوار معهم بدءاً من قصة بحيرا الراهب الذي رأى خاتم النبوة على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى بالنبي صلى الله عليه وسلم خيراً، وورقة بن نوفل النصراني الذي قال حينما عرف بحديث الوحي:" لقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ". ويروي ابن هشام مؤرخ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في حواره صلى الله عليه وسلم مع اليهود حول الروح: " قال ابن إسحاق: وحدثت عن ابن عباس أنه قال: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال أحبار يهود: يا محمد، أرأيت قولك:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} إيانا تريد، أم قومك؟ قال: كلاً، قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شئ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه. قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل» (ابن هشام، ج 2 / 308) .
كما يروي ابن هشام كذلك قصة وفد من نصارى الحبشة جاؤوا وحاوروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وآمنوا، ثم يروي قصة حوارهم بعد أن آمنوا مع من تصدى لردهم عن الإسلام. فيقول: " قال ابن إسحاق: ثم «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتها حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل ابن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلما تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال! ما نعلم ركباً أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل
أنفسنا خيراً» (ابن هشام، ج 2، ص 291 - 292) .
وهذه مجرد أمثلة من حشد من أخبار الحوار التي رواها ابن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب وغيرهم، ثم لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كسلمان الفارسي رضي الله عنه مع أهل الكتاب كما تذكر كتب الفرق والملل والنحل أمثلة عديدة لحواريات الشهرستاني وابن حزم وابن الوليد الباجي وابن تيمية وغيرهم مع الأحبار والرهبان وممثلي الفرق الدينية الأخرى.