المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مؤهلات المحاور المسلم - الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وشروطه وآدابه

[أحمد بن سيف الدين تركستاني]

الفصل: ‌مؤهلات المحاور المسلم

‌مؤهلات المحاور المسلم

إن المحاور المسلم يمكن أن يخوض حواره مع جبهات شتى، سواء مع مسلمين من أمثاله، أو مع مسلمين مبتدعين، أو مغالين، أو مفرطين، أو منهزمين فكرياً أمام الأطروحات الغربية ومائلين إلى تفسير الدين بما يساير تلك الأطروحات، أو قد يحاور المسلم بعضاً من أهل الكتاب أو من لا دين لهم. وتتباين دوافع من يقابلهم المسلم في الحوار، فمنهم من يستصحب نية حسنة في طلب الحق والاستعداد لقبوله متى ما اتضح، ومنهم من يتخذ الحوار سبيلاً لعرض آرائه ونشرها مع الإصرار على عدم قبول الحق إذا جاء من طرف آخر حتى ولو اتضح جلياً.

وعلى المحاور المسلم أن يتعرف على خلفيات من يحاورهم جيداً حتى يتمكن من تسخير معارفه ومواهبه على النحو الكفيل بالتعامل مع كل طائفة من هؤلاء بما يليق. وفيما يأتي عرض لبعض المؤهلات الضرورية للمحاور المسلم:

ص: 41

1-

العلم بالأدلة الشرعية من القرآن والسنة: فعلى من يجادل عن دين الله تعالى أن يلم بأدلته الشرعية من الكتاب والسنة وفهمهما كما ورد عن السلف رضوان الله عليهم، وهذا يقتضي العلم بالتفسير بأنواعه، والدراية بالحديث النبوي الشريف وعلوم الشريعة الأساس. وإذا كانت الإحاطة التامة بكل ذلك متعذرة، فالواجب ألا يحاور المرء ولا يجادل إلا فيما يعرف معرفة أكيدة من أمور الشرع وعلوم الدين. إن من تمام فقه الفقيه وعلم العالم أن يعرف قدر نفسه، فلا يتعداه، وأن يحقق مجاله العلمي فلا يخرج عنه، ولا يتصدى لما ليس له بأهل.

ص: 42

2-

العلم بالقواعد الأصولية ومقاصد الشريعة: وهذا جانب مهم من العلم لأن معرفة الأدلة تحتاج إلى المعرفة بتلك القواعد حتى يتم تخريج الأحكام على أساس أصولي صحيح، وإلا اختل الميزان وجرى التلاعب بالأحكام. ومقاصد الشريعة عليها أيضاً التعويل في استخراج كثير من الأحكام. لقد كان علماء السلف أشد الناس تحرياً لمقاصد الشرع. يقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور:" وفي هذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء، وترى جميعهم لم يستغنوا عن استقصاء تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدون الرحال إلى المدينة ليتبصروا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين، هنالك يتبين لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ، ويتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعاً لمعرفة الحكم والمقاصد ".

ص: 43

3-

العلم بموضوع الحوار: فعلى من يتصدى للحوار في موضوع معين أن يكون على علم شامل أو على الأقل كاف بأساسيات الموضوع وتفاصيله وذلك حتى لا يجادل عن موقف لا يدرك خلفياته جيداً فينهزم في الحوار. وعليه كذلك أن يحيط علماً بوجهة نظر الطرف الآخر حتى لا يسدد سهام حواره بعيداً عن مدارات الموضوع فتسجل عليه الهزيمة كذلك. وقد اشترط القرآن الكريم العلم فيمن يحاور عن دين الله القويم وعاب على قوم أنهم يجادلون بغير علم، يقول تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (الحج / 8) وأمر المسلم أن يحاور بعلم وهدى وبصيرة فقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) .

ص: 44

4-

الجهر بالحق: إن الحوار ينبغي ألا يؤدي إلى المداهنة والدبلوماسية التي تغطي على الحقائق وعلى الخلافات وتعمل على ترميمها ظاهرياً وتلفيق موقف اتفاق زائف. وقد ذم الله تعالى من يعمل على كتمان حقائق الدين قائلاً: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة / 159) وذم من أهل الكتاب أولئك الذين يزورون حقائق الأمور فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران / 71) . إن في تزوير الحقائق إجهاضا لجميع مقاصد الحوار والتبادل الثقافي، فما قام الحوار أساساً إلا لتبادل المعلومات والآراء، فإن جاءت مغشوشة فلن يكون القصد من الحوار إلا الغش والتستر بمواقف هي غير المواقف الأصلية للحوار.

ص: 45

5-

التجرد لطلب الحق: فالحوار ليس معركة حربية غرضها الانتصار وكسر الخصم. فعلى المحاور أن يفترض - ولو نظرياً - احتمال ثبوت الحق على لسان الخصم، وذلك أدب جم من آداب الحوار، قال تعالى إرشاداً لمسار الحوار:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ / 24) . وهذا هو مقام التنزل الذي يعطيه المحاور - افتراضاً - للآخرين حتى يجلبهم إلى مائدة الحوار.

6-

الحوار بالحسنى: فلا مجال للعنف والغلظة في أي حوار بناء ولا يلجأ للقسوة على الخصم إلا عند ظلمه وتجاوزه، فيردع بالقوة إيقافاً له عند ظلمه، وهذا هو الاستثناء لا الأصل في الحوار. إن الحوار بالحسنى يتضمن استخدام أطراف الحوار لبعضها بعضاً، والرغبة المخلصة في تحقيق النفع المشترك، وبغض النظر عمن يكسب جولات الحوار.

ص: 46

وفي تحديد الإطار المهذب للحوار جاء قول الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . وذكر بعض المفسرين أن المقصود بالذين ظلموا أولئك الذين نصبوا القتال للمسلمين بدل الجدال. وجاء قول الله تعالى مؤكداً استخدام القول اللين في مخاطبة الآخرين في وصية موسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} . وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم دوماً بالرفق في القول مع الآخرين والصبر على تطاولهم وإيذائهم.

ص: 47

7-

التثبت واتقاء الزلل: وعلى من يحاور أن يجهد نفسه لضبط أعصابه ليثبت الأمور ولا يجازف بالقول ولا يتمحل الحجج ولا يتسرع فيزل ويجنح إلى خطأ لمجرد أنه يريد أن ينافس محاوره وينتصر عليه. وكثيراً ما يزل المتحاورون بسبب الانتصار لأنفسهم، وهذا ما يوحيه الشيطان ليغلَِب حق النفس على الحق المحض. وكما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم. وقال تميم الداري رضي الله عنه:"اتقوا زلة العالم "، فسأله عمر:" ما زلة العالم "؟ قال: " يزل بالناس فيؤخذ به، فعسى أن يتوب العالم، والناس يأخذون بقوله ".

ص: 48

8-

منهجة الأفكار: إن التعلم يحتاج إلى الذكاء والمثابرة والدأب والبصيرة، أما منهجة الأفكار فتحتاج إلى مهارة خاصة تصقل بالمران والدربة. إن كثيراً من العلماء مهما زاد محصولهم من العلم المستند إلى الأدلة، فإنهم قد لا يحسنون ترتيب مسائله ترتيباً منطقياً، فتبدو معارفهم مشتتة ومختلطاً بعضها ببعض، وكلما زادت حصيلتهم من العلم ازدادت أذهانهم اختلاطاً وتشوشاً ونقلوا ذلك الاختلاط والتشوش إلى السامع، وهذا آخر ما يحتاج إليه السامع وأول ما يفسد على العالم رسالته ويسبب فشله في الحوار.

إن المحاور الناجح هو ذلك الذي يدرب نفسه على منهجة الأفكار وترتيب النصوص والأدلة، واستخراج مقدمات تخضع للتحليل بغرض استخراج النتائج منها. فإعطاء النتائج بدون ذلك الترتيب المنطقي قد لا يكون محل اقتناع أو تسليم من الطرف الآخر في الحوار ولا من جمهور السامعين.

ص: 49

وعلى المحاور أن يتعهد موضوعه بالمذاكرة الوافية والترتيب المنطقي وأن يعد نفسه للحوار إعداداً جيداً، فحتى العالم فإنه معرض للنسيان ولأن تخذله ذاكرته ويتشتت ذهنه وتنفرط براهينه إن لم يقم ببذل الجهد الكافي لواجب الحوار وهنا قد ينتصر صاحب الرأي الخاطئ والحجة الباطلة فقط لأنه كان مرتب الذهن ولأنه استخدم المنطق جيداً ولأنه واجه محاوراً صاحب حق ولكنه ممثل سيئ لحقه بسبب ما هو عليه من بلبلة وتضعضع وتعثر في المنطق.

9-

منطق البداهة: إن الإيغال في تركيب البراهين قد يغري المحاور بأن يبتعد كثيراً عن منطق البداهة، وعن استخدام المسلمات الأولى التي يتفق عليها الناس جميعاً، ويعمل بالتالي على الإغراب في توليد الصيغ وسلاسل الاعتماد. وذلك مهما بدا مهماً مما يكل الأذهان ويبعد عن التباس حرارة الحق الشاخص. المحاور الناجح هو من يتمكن من التقاط المشاهدات والمسلمات والبدهيات العالية في الحياة والبناء عليها، لأن البناء على أمثال هذه الفرضيات يكون بمثابة البناء على مقدمات صلبة لا ينازع عليها الطرف الآخر، بل تثير إعجاب السامع وتدفع إلى اعترافه بالحق وإذعانه له.

ص: 50

10-

تجويد لغة الحوار: لا بد للمحاور أن يسيطر على اللغة التي يحاور بها حتى يتمكن من الإفصاح عن جوهر ما يريد قوله وأن يختار الألفاظ والتعابير الأقوى في إيصال تلك المعاني. أما إذا كانت لغة المحاور ضعيفة، فإن أفكاره مهما كانت صحيحة أو عميقة فإنها تبدو ضعيفة وسطحية وشديدة الاهتزاز، وكثيراً ما يحكم الناس على المتحدث بمستوى تمكنه من اللغة والإفصاح بها لا بمستوى تمكنه من العلم والتعمق والتحقيق فيه، وهكذا كثيراً ما انهزم محاورون كانوا على حق، ولكن خانتهم ملكاتهم اللغوية الخائرة.

11-

التسليم بالحق من أي مصدر جاء: فالوصول إلى الحق هو غاية الحوار. وليس غايته إفحام الخصم وجرجرته إلى التسليم بالرأي الذي يطرحه من يحاوره. وعلى كل من يحاور أن يعد نفسه لقبول نتيجة الحوار إن ظهر ضعف رأيه وحجته إزاء قوة رأي الخصم وحجته. وكثير من العناد الذي يعقب الحوار يرجع أصله إلى عدم تحلي المحاور نفسه بالتواضع لإلزامها بقبول الحق. فليس ثمة منهزم ولا منتصر، ولكن التزام بالحق وانصراف إليه.

ص: 51

إن على المحاور ألا يشعر خصمه بالدونية وبأنه على الخطأ الذي لا صواب معه ولا إمكان صدور أي صواب عنه. فحتى الكفار يمكن أن يصدر عنهم بعض الرأي الصائب على ما هم فيه من ضلال ويمكن أن يستدرجوا لينطقوا بالصواب. إن القاعدة العامة هي أن على المحاور أن يهيئ ذهنه لتلقي الصواب من أي جهة عملاً بقول الإمام الشافعي رحمه الله: " قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب "، وما روي عنه أنه ما حاور إنساناً قط إلا وتمنى أن يأتي الحق على لسانه.

ص: 52