المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌صدام الحضارات عقد بعض المنظرين الغربيين نظريات حول عقم حوار - الحوار مع أصحاب الأديان مشروعيته وشروطه وآدابه

[أحمد بن سيف الدين تركستاني]

الفصل: ‌ ‌صدام الحضارات عقد بعض المنظرين الغربيين نظريات حول عقم حوار

‌صدام الحضارات

عقد بعض المنظرين الغربيين نظريات حول عقم حوار الحضارات والثقافات وانتهوا إلى أن الحوار الإيجابي بين الحضارات قد انتهى بتطورها إلى شكل الحضارة الغربية الليبرالية الحاضرة ولم يبق أي أمل أو فائدة لحوار، وهذا ما أورده (فرانسيس فوكو ياما) صاحب نظرية (نهاية التاريخ) في صورتها الحالية. وإذا كان (فوكو ياما) قد انتهى إلى أن التطور في خط التاريخ البشري قد تكلل بانتصار الليبرالية واندحار الاشتراكية، فإن (صموئيل هنتنجتون) صاحب نظرية (صراع الحضارات) يزعم أن أعنف معارك التاريخ هي التي لم تقع بعد. وأنها لن تكون على صعيد الدول القومية ولا على صعيد المحاور الفكرية، وإنما ستتطور إلى مستوى أعلى هو مستوى الحضارات البشرية التي هي أوسع كيان ثقافي ينتمي إليه الإنسان.

إن وحدة التحليل عنده هي الحضارة. ومع أنه يعترف بأن العامل الحضاري عامل شديد التعقيد، إلا أنه يزعم مع ذلك أنه قد سيطر عليه - ولكن مجرد الاطلاع العابر على تعريفه للحضارة يؤكد أنه لم يصل إلى تعريف دقيق الحد لذلك المفهوم.

ص: 26

الحضارة عند هنتنجتون " هوية ثقافية ". هذا هو تعريفه لها، وعندما يدرك أنه تعريف هلامي، وبعيد جداً عن أن يكون تعريفاً جامعاً مانعاً - كما يقول " المناطقة " فإنه ينعطف نحو مزيد من الشرح والإيضاح. فيحدثنا عن أن الهوية الثقافية تترادف وتندرج في الانتماءات الأكبر:" إن ثقافة قرية من قرى الجنوب الإيطالي، قد تختلف عن ثقافة قرية في الشمال الإيطالي، ولكن كلتا القريتين تشتركان لا محالة في خصائص الثقافة القومية الإيطالية الجامعة، وهذه الثقافة الجامعة هي التي تميز كل القرى الإيطالية عن القرى الألمانية مثلا. ولكن ذلك لا يمنع أن كل القرى الأوربية تجتمع تحت ظل ثقافة أوسع هي ما يسمى بالثقافة الأوربية وهي الثقافة التي تميز كل القرى الأوربية عن القرى العربية أو الآسيوية". هذا المستوى الثقافي الأخير هو ما يعنيه هنتنجتون بالحضارة، وهو تعريف غير محكم، لأن صاحبه سرعان ما يدخل في التخبط وينقض ما سبق أن أبرمه.

ص: 27

إن (هنتنجتون) ليس مؤرخاً راسخاً (كتوينبي) مثلاً، ولا عالم اجتماع ضليع كماكس فيبر، ولذلك فهو ينزلق في الأخطاء المتوالية. إنه يقول مثلا في تأكيده لتعريفه ذاك للحضارة:" إن العرب والصينيين والغربيين ليسوا جزءاً من أي كيان حضاري أوسع ". وهذا خطأ محض، لأن العرب جزء من الحضارة الإسلامية التي هي الوحدة الكبرى، ولا يوجد شيء يسمى بالحضارة العربية بمعزل عن الحضارة الإسلامية، ولا شيء يسمى بالحضارة الإسلامية بمعزل عن الثقافة العربية. إن خطأ هنتنجتون هنا هو في مرادفته ما بين العرب والإسلام، وعدم إدراكه أن العرب لا يمثلون أكثر من خمس مسلمي العالم الذين تمتد رقعتهم الجغرافية حتى أوربا والصين، وهو الأمر الذي يلغي مقولة هنتنجتون الثانية بأن الغربيين أو الصينيين لا يمكن أن يكونوا جزءاً من أي كيان حضاري أوسع.

ص: 28

ويرى هنتنجتون أن عالمنا المعاصر يتشكل من سبع حضارات أو ثمان هي الحضارة الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية الأرثوذكسية والأمريكية اللاتينية، ويمكن إضافة الحضارة الإفريقية إذا ما تساهلنا في التصنيف. هذه الحضارات بالتعريف السابق لها هي أشد تجذراً في الأرض وفي الحياة الإنسانية من المعتقدات الطارئة التي تظهر وتعمر حيناً من الدهر ثم تختفي. أما هذه الحضارات المذكورة فهي ذات ثوابت عميقة، عمادها اللغة والثقافة والتراث والدين، وتمتلك نظريات متباينة نحو علاقات البشر بالله وعلاقات البشر ببعضهم الآخر وعلاقات الحاكم بالمحكوم وعلاقات الأسرة فيما بين أفرادها إلى آخر هذه العلاقات.

ص: 29

وبناءً على مفهوم هنتنجتون فإن هذا التباين في الأفكار والآراء ليس مآله إلى الاضمحلال أو الزوال بحال مهما تكثفت وسائل الالتقاء والاتصال بين البشر، فهذه اللقاءات والاتصالات ستؤدي إلى عكس ذلك تماماً، إذ إنها ستؤدي إلى تنامي إحساس كل حضارة بصفاتها المتميزة التي تمنع ذوبان أهلها في الحضارات الأخرى. وأبلغ مثال على ذلك هو ما تثيره هجرة الجزائريين المسلمين إلى فرنسا من تيقظ للحس الحضاري الفرنسي واشتعال عدائه للمسلمين. إن مثالاً كهذا - وهو ليس مثالاً فريداً في بابه - يحدونا لأن نقرر " أن التواصل والتفاعل بين الشعوب ذات الحضارات المتباينة يؤدي إلى اشتعال الوعي الحضاري لدى شعب ما ويزيد حدة الخلافات والعداوات الممتدة في عمق التاريخ ". وهكذا يستخدم هنتنجتون الحجة التي كان يخشى أن تستخدم ضد نظريته، يستخدمها لصالح نظريته المزعومة، فهو لا يوافق على أن التواصل والتحاور الحضاري سيكون إيجابي العائد، وإنما سيؤدي إلى التناحر والتناوش والتصارع وحسب.

ص: 30

وإضافة إلى التواصل والتفاعل يأتي عامل التحديث الاقتصادي الذي يعتقد هنتنجتون بأنه سيزيد من حدة التمايز الحضاري بين الشعوب. إن التحديث في نظر هنتنجتون سيدمر المجالات الثقافية الأصغر، كالثقافة المحلية، والقومية، ويحرر الشعوب من أسرها، وحينها لن تجد تلك الشعوب سوى البوتقة الحضارية الأكبر التي تعد الدين أعظم عناصرها التكوينية. ولعل هذا هو سر انتشار الأديان الآن، وسر تصاعد الحركات الدينية الأصولية التي " يمكن العثور عليها في النصرانية واليهودية والبوذية بقدر ما يمكن العثور عليها في الإسلام "! وفي معظم هذه الحركات لا يخفى أن أكثر المنجذبين إليها هم الشباب بسبب عمليات التحديث ومن خريجي الجامعات، وبالذات في مساقات العلوم البحتة والتقنية. وهؤلاء هم الذين غدوا يكافحون مظاهر العلمانية في مجتمعاتهم، وقد صدق عليهم قول جورج ويجل:" إن نزع العلمانية عن العالم يمثل إحدى الحقائق الاجتماعية المسيطرة على الهزيع الأخير من القرن العشرين "!

ص: 31

إن النخب المتعلمة تعليماً جيداً في العالم غير الغربي غدت أكثر انخلاعاً عن الثقافة الغربية من سائر تلك الشعوب التي أنجبتها: " ففيما مضى كانت نخب المجتمعات غير الغربية - تلك النخب التي تخرجت في أكسفورد والسوربون وسانت هيرست (ببريطانيا) - تجنح نحو صياغة مجتمعاتها وفق المعطيات والمعايير الفكرية والثقافية الغربية، وكانت تلك النخب تتمتع بالسلطة الكاملة في مجتمعاتها، وتمتلك القوة والموارد التي تساعدها في تحقيق رغباتها في تغريب مجتمعاتها في وقت كانت غالبية السكان في تلك المجتمعات غارقة في ثقافاتها التقليدية المحلية. الآن انعكس الوضع، فإن النخب أصبحت أكثر إحساساً بالهوية الثقافية لمجتمعاتها، بينما أصبح المواطنون العاديون في تلك المجتمعات أكثر تعلقاً بالقيم وأنماط السلوك الغربية "، ولا شك أن دور النخب في صياغة المجتمعات أكبر من دور العامة في هذا العصر، وبالتالي فستتأكد الهوية الحضارية للمجتمعات غير الغربية بصورة أكبر، وسيزداد تمايزها، بل صراعها مع الحضارة الغربية.

ص: 32

إن صراع الحضارات هو ضربة لازب في تقدير هنتنجتون لهذا الشأن الخطير. إنه يضع الأمر بهذه السهولة المثيرة: " أما بالنسبة لصراع الحضارات فإن السؤال هو: من أنت؟ وهذا سؤال لا بد من أن تجيب عليه. وكما تدرك بداهة فإن إعطاءك إجابة خاطئة عن هذا السؤال في البوسنة أو القوقاز أو السودان يعني أن يسدد الرصاص إلى رأسك فوراً. وهكذا تصاغ النظرية بلغة الروايات. وواضح ما في اللغة التي صيغت بها هذه الأمثلة من التحيز والكراهية العارمة للعالم الإسلامي. والمعنى السالف واضح جداً، فإن اعتراف الإنسان الغربي بأصول هويته في أي أرض إسلامية قد يقود إلى ممارسة العنف ضده، والغريب أن هنتنجتون لا يختار الأمثلة إلا من هذه الأوطان الإسلامية التي تضطهد أغلبياتها بوساطة الأقليات المدعومة من الحضارة الغربية. إن هنتنجتون يسير في ذلك مع تحريض وسائل الإعلام الغربية العشوائي للإنسان الغربي غير المثقف ضد ما يسمى بالخطر الإسلامي، وهو مجرد " وهم " تريد هذه الوسائل بإلحاحها عليه أن تلصقه في ذاكرة الإنسان الغربي الذي يمكن أن يبقي مفزوعاً بذلك الخطر " الوهمي "!

ص: 33

إن هذا الصدام التلقائي " الحتمي " بين السائل والمجيب، يتطور على مستويين آخرين " فعلى المستوى الأول ستتصادم مصالح المجموعات التي تحتشد على خطوط التوتر الفاصلة بين الحضارات من أجل الاستحواذ على الأرض وإخضاع المنافسين، وعلى المستوى الثاني ستتصادم الدول ذات الحضارات المختلفة من أجل تحقيق سيطرتها الاقتصادية والعسكرية، والتحكم في المؤسسات الدولية ونشر قيمها السياسية والدينية على مستوى النظام العالمي ". وهنا تنال مسألة الحدود الفاصلة بين الحضارات جل عناية هنتنجتون، وهو يسميها " حدود التوتر " حيث يبرز معالم الحدود الفاصلة في أوربا بين النصرانية الغربية من جهة والنصرانية الأرثوذكسية من جهة أخرى، ثم يعود ليركز على التهاب حدود التوتر بين الحضارتين الغربية والإسلامية، ويستعرض تاريخ الحروب الصليبية بحملاتها المتتالية وفصول الصراع الأوربي مع الدولة العثمانية وموجة الاستعمار الغربي التي توجهت إلى العالم الإسلامي، ثم الحروب العربية الإسرائيلية " حدثت لأن إسرائيل ممثلة لروح ومضامين الحضارة الغربية كما يقول "، ثم قيام من سماهم ب " الإرهابيين العرب والمسلمين " باستخدام سلاح الضعفاء حينما قاموا

ص: 34

بقصف الطائرات والمنشآت الغربية وخطف الرهائن. وهنا نسي هنتنجتون أن يقول ولو كلمة عابرة عن الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي الذي ما زال ينصب على الفلسطينيين منذ أكثر من نصف قرن!

ص: 35

لقد ساق هنتنجتون نظريته في صراع الحضارات على أنه صراع يحدث بين كل الحضارات، ولكن طاب له فقط أن يركز على صراع الحضارتين الإسلامية والغربية، وبالطبع فإنه لم ينس أن يضع المسلمين في مقام المعتدي المبادر بالصدام، بل لم ينس أن يتوسل لتأكيد ذلك بشهادة مزورة من أحد الكتاب المسلمين، وهو الكاتب الهندي م. ج. أكبر حيث يقول:" إن الحرب ستبدأ من جانب العالم الإسلامي، لأنه سيصارع من أجل تشييد نظام عالمي جديد، وإن كل دول العالم الإسلامي من المغرب إلى باكستان، ستشارك في ذلك الصراع "، ثم أردف ذلك بشهادة أخرى من أستاذه القديم في هارفارد المؤرخ اليهودي البروفيسور برنارد لويس:" الذي جعل همه قبل أوانه أن يثبت أن هنالك تزويراً طرأ على المصاحف القرآنية التي يعتمد عليها المسلمون الآن، وأن هناك مخطوطات مصاحف تثبت وجود هذا التزوير! ". وقد استشهد بكلام لويس في شهاداته عن صراع الحضارات بقوله: " إن العالم سيشهد مزاجاً فائراً سيزيد هيجان الحكومات ويؤدي إلى تضارب خططها وسياساتها، وسيؤدي ذلك كله إلى نتيجة واحدة مؤكدة، هي صراع الحضارات ليس غير. وسيقوم المسلمون وهم خصومنا القدامى برد فعل غير عقلاني

ص: 36

ضد تراثنا اليهودي - النصراني المشترك وثقافتنا العلمانية، وعلى انتشار تراثنا وثقافتنا عبر العالم ".

هذه الآراء العدوانية الشاطحة الرافضة لحوار الحضارات حري بها أن تجد الدراسة والعناية من قبل المفكرين والدعاة المسلمين، فالحوار حتى مع عدم تحقق جميع شروطه وآدابه من قبل الطرف الآخر أفضل من الانقطاع عنه والانصراف إلى موقف الصدام، وكما يقول خالد بن عبد الله القاسم في كتابه " الحوار مع أهل الكتاب: أسسه ومناهجه في الكتاب والسنة: " أما الامتناع عن الحوار مع الظالمين واتخاذه منهجاً مطرداً فهذا يخالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حاور عليه الصلاة والسلام اليهود في المدينة وكانوا يكتمون ما أنزل الله، ويلبسون الحق بالباطل. كما حاور نصارى نجران ودعاهم إلى المباهلة فرفضوا " وهكذا يتضح حرص الإسلام على الحوار لكونه أداةً من أدوات بيان الحق، وواجب المسلمين هو أن يأخذوا به سبيلاً للبيان، وأن يعملوا على تفعيل تلك الأداة إبلاغاً للدين وتخفيفاً لحدة الصراع بين البشر ما دام هناك سبيل لإبلاغ الدعوة وإيصالها بطريق الحوار وتبادل الأفكار والآراء.

ص: 37