الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو العباس المبرد وغيره: أمَّا المبردُ فإنه قال: «جاز البدلُ لأنَّ ما بعد» لو «غيرُ موجَبٍ في المعنى. والبدلُ في غير الواجبِ أحسنُ من الوصفِ. وفي هذه نظرٌ من جهة ما ذكره أبو البقاء من فسادِ المعنى.
وقال ابنُ الضائعِ تابعاً للمبرد: لا يَصِحُّ المعنى عندي إلَاّ أن تكون» إلَاّ «في معنى» غير «التي يُراد بها البدلُ أي: لو كان فيهما آلهةٌ عِوَضَ واحدٍ أي بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا. وهذا المعنى أرادَ سيبويه في المسألةِ التي جاء بها توطئةً.
وقال الشَّلَوْبين في مسألةِ سيبويه» لو كان معنا رجلٌ إلَاّ زيدٌ لَغُلِبْنا «: إنَّ المعنى: لو كانَ معنا رجلٌ مكانَ زيد لَغُلبنا، ف» إلَاّ «بمعنى» غير «التي بمعنى مكان. وهذا أيضاً جنوحٌ من أبي عليّ إلى البدلِ. وما ذكره ابنُ الضائع من المعنى المتقدمِ مُسَوِّغٌ للبدل. وهو جوابٌ عَمَّا أَفْسَد به أبو البقاء وجهَ البدل، إذ معناه واضحٌ، ولكنه قريبٌ من تفسير المعنى لا من تفسيرِ الإِعراب.
قوله: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} : العامَّةُ على إضافة «ذِكْر» إلى «مَنْ» إضافةَ المصدرِ إلى مفعولِه، كقولِه تعالى:{بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص:
24]
. وقُرِىء «ذِكْرٌ» بالتنوين فيهما، و «مَنْ» مفتوحة الميم، نُوِّنَ
المصدرُ ونُصِبَ به المفعولُ كقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14-15] .
وقرأ يحيى بن يعمر «ذِكْرٌ» بتنوينه و «مِنْ» بكسرِ الميم، وفيه تأويلان، أحدُهما: أنَّ ثَمَّ موصوفاً محذوفاً قامَتْ صفتُه وهي الظرف مَقامَه. والتقدير: هذا ذِكْرٌ مِنْ كتاب معي، ومِنْ كتابٍ قبلي. والثاني: أنَّ «معي» بمعنى عندي. ودخولُ «مِنْ» على «مع» في الجملة نادرٌ؛ لأنها ظرفٌ لا يَتَصَرَّف. وقد ضَعَّف أبو حاتم هذه القراءةَ، ولم يَرَ لدخول «مِنْ» على «مع» وجهاً.
وقرأ طلحةُ «ذِكْرٌ معي وذكرٌ قبلي» بتنوينهما دونَ «مِنْ» فيهما. وقرأَتْ طائفةٌ «ذكرُ مَنْ» بالإِضافة ل «مَنْ» كالعامَّة، «وذكرٌ مِنْ قبلُ» بتنوينِه وكسرِ ميم «مِنْ» . ووجهها واضحٌ ممَّا تتقدم.
قوله: {لَا يَعْلَمُونَ الحق} العامَّةُ على نصب «الحق» . وفيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه مفعولٌ به بالفعلِ قبلَه. والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّد. قال الزمخشريُّ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ المنصوبُ أيضاً على التوكيدِ لمضمونِ الجملةِ السابقة، كما تقول:» هذا عبدُ الله الحقَّ لا الباطل «فأكَّدَ انتفاءَ العِلْم» .
وقرأ الحسن وابن محيصن وحميد برفع «الحق» . وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مبتدأٌ والخبرُ مضمرٌ. والثاني: أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ. قال الزمخشري: «وقُرِىء» الحقُّ «بالرفعِ على توسيطِ التوكيد بين السببِ والمُسَبَّب. والمعنى: أن إعراضَهم بسببِ الجهلِ هو الحقُّ لا الباطلُ» .
قوله: {بَلْ عِبَادٌ} : «عبادٌ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم عبادٌ. و «مُكْرَمون» في العامَّة مخففٌ، وقراءة عكرمة مشدداً.
قوله: {لَا يَسْبِقُونَهُ} : جملةٌ في محلِّ رفعٍ صفةً ل «عبادٌ» . والعامَّةُ على كسرِ الباء في «يَسْبِقونه» وقُرىء بضمِّها. وخُرِّجَتْ على أنه مضارعٌ سَبَقه أي غلبه في السبق يُقال: سابقه فَسَبقه يَسْبُقه أي: غلبه في السَّبْق. ومضارع فَعَلَ في المغالبة مضمومُ العينِ مطلقاً إلَاّ في ياءَيْ العينِ أو اللام، والمرادُ: لا يَسْبقونه بقوله، فَعَوَّض الألفَ واللامَ عن الضمة عند الكوفيين، والضميرُ محذوفٌ عند البصريين أي بالقول منه.
قوله: {فذلك نَجْزِيهِ} : يجوزُ في ذلك وجهان أحدُهما: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ. وهذا وجهٌ حسنٌ. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ. والمسألةُ من بابِ الاشتغال. وفي هذا الوجهِ إضمارُ عاملٍ مع الاستغناءِ عنه، فهو مرجوحٌ والفاءُ وما في حَيِّزها في موضعِ جزمٍ جواباً للشرط و «كذلك» نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضمير المصدر أي: جزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ، أو نجزي الجزاءَ حالَ كونِه مثلَ ذلك.
وقرأ العامَّةُ «نجزي» بفتحِ النونِ. وأبو عبد الرحمن المقرىء بضمِها.
وجهُها أنه مِنْ أجزأ بالهمز، مِنْ أجزأني كذا أي: كفاني، ثم خَفَّفَ الهمزةَ فانقلبت إلى الياء.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَ} : قرأ ابن كثير «ألم يرَ» من غير واو. والباقونَ/ بالواوِ بين همزةِ الاستفهام و «لم» . ونظيرُ حذفِ الواوِ وإثباتِها هنا ما تقدَّم في البقرة وآل عمران في قولِه {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116]{سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ} [البقرة: 133] وقد تقدَّم حكمُ ذلك. والرؤيةُ هنا يجوز أن تكونَ قلبيةً، وأن تكونَ بَصَريةً. ف «أنَّ» وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْنِ عند الجمهور على الأول، ومَسَدَّ واحدٍ والثاني محذوف، عند الأخفش، وسادَّةٌ مسدَّ واحدٍ فقط على الثاني.
قوله: {كَانَتَا} الضميرُ يعودُ على السماوات والأرض بلفظِ التثنيةِ، والمتقدِّم جمعٌ. وفي ذلك أوجه أحدُها: ما ذكره الزمخشري فقال: «وإنما قيل» كانتا «دونَ» كُنَّ «لأنَّ المرادَ جماعةُ السماواتِ وجماعةُ الأرَضين. ومنه قولُهم:» لِقاحان سَوْداوان «أي: جماعتان. فَعَلَ في المضمر نحوَ ما فَعَل في المظهر. الثاني: قال أبو البقاء:» الضميرُ يعودُ على الجنسين «. الثالث: قال الحوفي:» قال: كانتا رَتْقاً والسماوات جمعٌ لأنه أراد الصِّنْفَيْنِ. قال الأسودُ ابنُ
يَعْفَر:
3336 -
إن المنيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهما
…
يُوفي المخارم يَرْقُبان سوادي
لأنه أراد النوعين، وتبعه ابن عطية في هذا فقال:«وقال:» وكانتا «من حيث هما نوعان. ونحوُه قولُ عمرِو بن شييم:
3337 -
ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قيسٍ
…
وتَغْلِبَ قد تباينتا انقطاعا
ورَتْقاً: خبرٌ. ولم يُثَنَّ لأنَّه في الأصلِ مصدرٌ. ثم لك أن تجعلَه قائماً مقامَ المفعولِ كالخَلْقِ بمعنى المَخْلوق، أو تجعلَه على حَذْفِ مضافٍ أي: ذواتَيْ رَتْقٍ. وهذه قراءةُ الجمهور.
وقرأ الحسنُ وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى» رَتَقاً «بفتحِ التاءِ وفيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ أيضاً، ففيه الوجهان المتقدِّمان في الساكنِ التاءِ. والثاني: أنه فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبَض والنَّقَض بمعنى المَقْبوض والمَنْقوض، وعلى هذا فكان ينبغي أَنْ يطابقَ بخبرِه في التثنية. وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال:» هو على تقديرِ موصوفٍ أي: كانتا شيئاً رَتَقاً «. ورَجَّح بعضُهم
المصدريةَ بعدمِ المطابقَةِ في التثنية، وقد عرفت جوابه. وله أن يقولَ: الأصلُ عدمُ حذفِ الموصوف فلا يُصارُ إليه دونَ ضرورةٍ.
والرَّتْقُ: الانضمامُ. ارْتَتَقَ حَلْقُه: أي: انضمَّ. وامرأةٌ رَتْقاءُ أي: مُنْسَدَّة الفَرْجِ، فلم يُمْكِنْ جماعُها من ذلك. والفَتْقُ: فَصْل ذلك المُرْتَتِقِ، وهو من أحسن البديع هنا؛ حيث قابل الرَّتْقَ بالفَتْق. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: متى رَأَوْهما رَتْقاً حتى جاء تقريرُهم بذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارِدٌ في القرآن الذي هو معجِزٌ في نفسِه، فقام مقامَ المَرْئيِّ المشاهَدِ. والثاني: أنَّ تَلاصُقَ السماءِ والأرضِ وتبايَنهما كلاهما جائزٌ في العقلِ فلا بُدَّ للتباين دون التلاصُقِ من مخصِّصٍ وهو القديمُ سبحانه «.
قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} يجوز في «جَعَل» هذه أَنْ تكونَ بمعنى «خلق» فتتعدى لواحدٍ وهو كلُّ شيءٍ، و {مِنَ المآء} متعلقٌ بالفعلِ قبلَه. ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «كل شيء» لأنه في الأصلِ يجوز أن يكونَ وَصْفاً له، فلما قُدِّم عليه نُصِبَ على الحال. ومعنى خَلْقِه من الماء أحدُ شيئين: إمَّا شدةُ احتياجِ كلِّ حيوانٍ للماء فلا يعيشُ بدونِه، وإمَّا لأنه مخلوقٌ من النُّطْفَة التي تسمى ماءً. ويجوز أن تكونَ «جَعَلَ» بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لاثنين، ثانيهما الجارُّ بمعنى: أنَّا صَيَّرْنا كلَّ شيء حيّ بسبب من الماء لا بُدَّ له منه.
والعامَّةُ على خفض «حيّ» صفةً لشَيْء. وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعولٌ ثانٍ ل جَعَلْنا. والظرفُ لغوٌ. ويَبْعُد على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ «جعل» بمعنى «خَلَقَ» ، وأنْ ينتصبَ «حَيَّاً» على الحال.
قوله: {أَن تَمِيدَ} مفعولٌ من أجله أي: أن لا تميدَ فَحُذِفَتْ «لا» لفَهْمِ المعنى، أو كراهةَ أَنْ تميد. وقَدَّره أبو البقاء فقال:«مخافَةَ أن تميدَ» . وفيه نظرٌ لأنَّا إنْ جَعَلْنا المخافةَ مسندةً إلى المخاطبين أخْتَلَّ شرطٌ من شروطِ النصبِ في المفعولِ له وهو الفاعل. وإنْ جَعَلْناها مسندةً لفاعل الجَعْل استحال ذلك، لأنَّه تبارك وتعالى لا يُسْنَدُ إليه الخوف. وقد يقال: يُختارُ أن تُسْنَدَ المخافةُ إلى المخاطبين. قولكم: يختلُّ شرطٌ من شروطِ النصب. جوابُه: أنه ليس بمنصوبٍ، بل مجرورٌ بحرف العلةِ المقدرِ. / وحَذْفُ حرفِ الجر مُطَّردٌ مع أنْ وأنَّ بشرطه.
قوله: {فِجَاجاً سُبُلاً} في «فجاجاً» وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به و «سُبُلا» بدلٌ منه. والثاني: أنه منصوب على الحال مِنْ «سبلاً» لأنه في الأصلِ صفةٌ له فلمَّا قُدِّم انتصبَ حالاً كقولِه:
3338 -
لميَّةَ موحشاً طَلَلُ
…
يلوحُ كأنَّه خِلَلُ
ويدلُّ على ذلك مجِيْئُه صفةً في الآية الأخرى، وهي قولُه تعالى:{لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 20] . قال الزمخشري: «فإن قلت: في الفجاجِ معنى الوصفِ، فما لها قُدِّمَتْ على السُّبُل ولم تُؤَخَّرْ، كقولِه تعالى: {لِّتَسْلُكُواْ
مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} ؟ قلت: لم تُقَدَّم وهي صفةٌ ولكنْ جُعِلَتْ حالاً كقولِه:
3339 -
لِعَزَّةَ مُوْحِشاً طَلَلٌ قديمُ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بينهما من جهةِ المعنى؟ قلتُ: أحدُهما أعلامٌ بأنه جَعَلَ فيها طرقاً واسعة. والثاني: أنه حينَ خَلَقها خَلَقها على تلك الصفةِ، فهو بيانٌ لما أُبْهِم ثمةَ» .
والفَجُّ: الطريقُ الواسعُ. والجمعُ: الفِجاجُ.
والضميرُ في «فيها» يجوزُ أن يعودَ على الأرض، وهو الظاهرُ كقولِه:{والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 19-20] وأَنْ يعودَ على الرَّواسي، يعني أنه جعل في الجبال طُرُقاً واسعة.
قوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا} : جملةٌ استئنافيةٌ، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً مقدرةً. وقرأ مجاهد وحميد «عن آيتِها» بلفظِ الإِفراد. جَعَلَ الخلقَ آيةً، وهي مشتملةٌ على آياتٍ، أو أطلق الواحدَ وأراد به الجنسَ.
قوله: {كُلٌّ} : أي: كلُّ منهما أي: من الشمس والقمر، أو مِنها أي: من الليل والنهار والشمس والقمر. و «يَسْبَحون» يجوز أن يكونَ خبرَ «كلٌ» على المعنى. و «في فلك» متعلقٌ به، ويجوزُ أن يكونَ حالاً. والخبرُ الجارُّ وهو «في فَلك» . وهذا الذي: ذَكَرْتُه من كونِ المضافِ إليه يجوزُ أَنْ يُقَدَّرَ بالأربعةِ الأشياءِ المذكورةِ. ذكره أبو البقاء. وأمَّا غيرُه فلم يذكرْ إلَاّ أنَّ المضافَ إليه الشمسُ والقمرُ. وهو الظاهر؛ لأنَّ السباحةَ من صفتِهما دونَ الليلِ والنهار، وعلى هذا فيُعْتَذَر عن الإِتيانِ بضميرِ الجمعِ، وعن كونِه جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ.
أمَّا الأولُ فقيل: إنما جُمِع لأنَّ ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه: والنجومُ، كما دَلَّتْ عليه آياتٌ أُخَرُ. وقال الزمخشري:«الضميرُ للشمسِ والقمرِ، والمرادُ بهما جنسُ الطوالِع كلَّ يومٍ وليلةٍ، جعلوها متكاثرةً لتكاثُرِ مَطالِعِها، وهو السببُ في جمعهما بالشموسِ والأقمارِ» . انتهى. والذي حَسَّن ذلك كونُه رأسَ آيةً.
وقال أبو البقاء: «يَسْبَحُون» خبر «كلٌ» على المعنى؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ إذا سَبَح فكلُّها تَسْبَحُ. وقيل: يَسْبَحُون على هذا الوجهِ حالٌ. والخبر «في فَلَكٍ» .
وقيل: التقدير: كلُّها، والخبر «يَسْبَحُون» ، أتى بضميرِ الجمعِ على معنى «كل» . وفي هذا الكلامِ نظرٌ: من حيث إنه لمَّا جَوَّز أن يكونَ المضافُ إليه شيئين جَعَل الخبرَ الجارَّ، و «يَسْبَحون» حالاً، فِراراً من عدم مطابقةِ الخبر للمبتدأ، فَوَقَعَ في تخالُفِ الحالِ وصاحبِها.
وأمَّا الثاني فلأنَّه لَمَّا أَسْنَدَ إليها السباحةَ التي هي مِنْ أفعالِ العقلاء جَمَعَها جَمْعَ العقلاءِ كقولِه: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] و {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] .
وهذه الجملةُ يجوز أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافِها. ويجوزُ أَنْ يكونَ محلُّها النصبَ على الحال. فإنْ قُلْنا: إن السباحةَ تُنْسَبُ إلى الليل والنهار، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء في أحدِ الوجهين فتكونُ حالاً من الجميع. وإن كان لا يَصِحُّ نِسْبَتُها إليهما كانت حالاً من الشمسِ والقمرِ. وتأويلُ الجمعِ قد تقدَّم. قال الشيخ:«أو مَحَلُّها النصبُ على الحالِ من الشمس والقمر؛ لأنَّ الليلَ والنهارَ لا يَتَّصِفان بأنهما يَجْرِيان في فَلَكٍ، فهو كقولك: رأيتُ زيداً وهنداً متبرِّجةً» انتهى. وهذا قد سبقه إليه الزمخشري فَنَقَله عنه، يعني أنه قد دَلَّ دليلٌ على أنَّ الحالَ من بعضِ ما تقدَّم كما في المثالِ المذكور.
والسِّباحةُ: العَوْمُ في الماءِ. وقد يُعَبَّر به عن مطلقِ الذهابِ، وقد تقدَّم اشتقاقُه في «سُبْحانك» .
قوله: {أَفَإِيْن مِّتَّ} : قد تقدَّم نظيرُ ذلك في آل عمران عند قولِه: {أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم} [الآية: 144] . وفي هذه الآيةِ دليلٌ لمذهب سيبويه: وهو أنه إذا اجتمع شرطٌ واستفهام أُجيب الشرطُ. فتكونُ الآيةُ قد دَخَلَتْ فيها همزةُ الاستفهامِ على جملةِ الشرطِ. والجملةُ المقترنةُ بالفاءِ جوابُ الشرطِ، وليسَتْ مَصَبَّ الاستفهامِ، وزَعَمَ يونس أنَّ الاستفهامَ/ مُنْصَبٌّ على الجملةِ المقترنةِ بالفاء، وأنَّ الشرطَ معترضٌَ بين الاستفهامِ وبينَها، وجوابه محذوف. وليس بشيءٍ إذ لو كان كما قال لكان التركيبُ: أفإن مِتَّ هم الخالدون، بغير فاء. وكأنَّ ابنَ عطية نحا منحى يونسَ فإنه قال:«وألفُ الاستفهامِ داخلةٌ في المعنى على جوابِ الشرطِ» .
قوله: {فِتْنَةً} : في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ من أجله. الثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي: فاتِنين. الثالث: أنَّه مصدرٌ مِنْ معنى العاملِ لا من لفظِه؛ لأن الابتلاءَ فتنةٌ فكأنَّه قيل: نَفْتِنُكم فتنةً.
وقرأ العامَّة «تُرْجَعُوْن» بتاءِ الخطابِ مبنياً للمفعول. وغيرُهم بياءِ الغَيْبة على الالتفات.
قوله: {إِن يَتَّخِذُونَكَ} : «إنْ» هنا نافيةٌ، وهي وما في حَيِّزها جوابُ الشرط ب إذا، و «إذا» مخالفةٌ لأدواتِ الشرطِ في ذلك، فإنَّ أدواتِ الشرطِ متى أُجِيبت ب «إنْ» النافيةِ أو ب «ما» النافيةِ وَجَبَ الإِتيانُ بالفاءِ تقول: إن أَتَيْتَني فإنْ أَهَنْتُك وفما أَهَنْتُك. وتقول: إذا أَتَيْتَني ما أَهَنْتُك بغير فاءٍ يَدُلُّ له قولُه تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] .
و «اتَّخَذَ» هنا متعديةٌ لاثنين. و «هُزُوا» هو الثاني: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ، وإمَّا على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً، وإمَّا على وقوعِه مَوْقِعَ اسمِ المفعول.
وفي جواب «إذا» قولان، أحدهما: أنه «إنْ» النافيةُ، وقد تقدَّم ذلك. والثاني: أنه محذوفٌ، وهو القولُ الذي قد حكى به الجملةَ الاستفهاميةَ في قوله:{أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} إذ التقديرُ: وإذا رآك الذين كفروا يقولونَ: أهذا الذي. وتكونُ الجملةُ المنفيةُ معترضةً بين الشرطِ وبين جوابهِ المقدَّرِ.
قوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ} «هم» الأولى مبتدأٌ مخبرٌ عنه ب «كافرون» ، و «بِذكْر» متعلقٌ بالخبرِ. والتقديرُ: وهم كافرون بذِكْر. و «هم» الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً، فوقع الفصلُ بين العاملِ ومعمولِه بالمؤكِّد، وبين المؤكَّدِ والمؤكِّدِ بالمعمولِ.
وفي هذه الجملةِ قولان، أحدُهما: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ
فاعلِ القولِ المقدَّرِ أي: يقولون ذلك وهم على هذه الحالةِ. والثاني: أنها حالٌ مِنْ فاعلِ «يَتَّخِذونك» ، وإليه نحا الزمخشريُّ، فإنه قال:«والجملةُ في موضعِ الحالِ أي: يَتَّخِذُونك هُزُواً وهم على حالٍ هي أصلُ الهزْءِ والسخريةِ، وهي الكفرُ باللهِ» .
قوله: {مِنْ عَجَلٍ} : فيه قولان، أحدهما: أنه من بابِ القلبِ. والأصلُ: خُلِقَ العَجَلُ من الإِنسانِ لشدةِ صدورِه منه وملازَمتِه له. وإلى هذا ذهب أبو عمروِ. وقد يتأيَّد هذا بقراءةِ عبدِ الله «خُلِقَ العَجَلُ من الإِنسانِ» والقلبُ موجودٌ. قال الشاعر:
3340 -
حَسَرْتُ كَفِّيْ عن السِّربالِ آخُذُه
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد: حسرت السِّرْبالَ عن كفي. ومثلُه في الكلامِ: «إذا طَلَعَت الشِّعْرى استوى العُوْدُ على الحِرْباء» وقالوا: عَرَضْتُ الناقةَ على الحَوْضِ. وقد قَدَّمْتُ منه أمثلةً غيرَ هذه. إلَاّ أن بعضَهم يَخُصُّه بالضرورةِ، وقد قَدَّمْتُ فيه مذاهبَ ثلاثةً.
والثاني: أنه لا قلبَ فيه وفيه تأويلاتٌ، أحسنُها: أن ذلك على المبالغةِ، جَعَلَ ذاتَ الإِنسانِ كأنها خُلِقَتْ من نفسِ العَجَلة، دلالةً على شدةِ اتصاف الإِنسانِ بها، وأنها مادتُه التي أُخِذ منها. ومثلُه في المبالغة من جانب النفي قولُه عليه السلام:«لستُ من الدَّدِ، ولا الدَّدُ مني» والدَّدُ: اللِّعِبُ. وفيه لغاتٌ: «دَدٌ» محذوفُ اللامِ و «ددا» مَقْصوراً ك «عصا» و «دَدَن» بالنون. وألفه في إحدى لغاتِه مجهولةُ الأصل لا ندري: أهي عن ياءٍ أو واوٍ؟ .
وقيل: العَجَلُ: الطين بلغة حمير، أنشد أبو عبيدة على ذلك لشاعرٍ منهم:
3341 -
النَّبْعُ في الصَّخْرةِ الصَّمَّاء مَنْبِتُه
…
والنَّخْلُ مَنْبِتُه في الماءِ والعَجَلِ
قال الزمخشري بعد إنشادِه عَجُزَ هذا البيتِ: واللهُ أعلمُ بصحتِه «وهو معذورٌ.
وهذا الجارُّ يحتملُ تَعَلُّقُه ب» خُلِقَ «على المجاز أو الحقيقةِ المتقدِّمَيْن، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ كأنه قيل: خُلِق الإِنسانُ عَجِلاً. كذا قال أبو البقاء. والأولُ أولى.
وقرأ العامَّة» خُلِق «مبنياً للمفعول.» الإِنسانُ «مرفوعاً لقيامِه مقامَ الفاعلَ. وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم» خَلَقَ «مبنياً للفاعل.» الإِنسانَ «نصباً مفعولاً به.
قوله: {متى هذا} : «متى» خبرٌ مقدمٌ، فهي في محلِّ رفعٍ. وزعم بعضُ أهلِ الكوفةِ أنها في محلِّ نصبٍ على الظرفِ. والعاملُ فيها فعلٌ مقدرٌ رافعٌ لهذا. والتقديرُ: متى يجيءُ هذا الوعدُ، أو متى يأتي؟ ونحوُه. والأولُ هو المشهورُ.
قوله: {لَوْ يَعْلَمُ} : جوابُها مقدَّرٌ لأنه أبلغُ في الوعيدِ. فقدَّره الزمخشريُّ: «لَما كانوا بتلك الصفةِ/ من الكفرِ والاستهزاءِ والاستعجالِ، ولكنَّ جَهْلَهم به هو الذي هَوَّنه عندهم» . وقَدَّره ابنُ عطية: «لَما استعجلوا» . وقدَّره الحوفي «لَسارعوا» . وقَدَّره غيرُهم «لَعَلِموا صحةَ البعث» .
و «حينَ» مفعولٌ به ل «عَلِموا» وليس منصوباً على الظرفِ. أي: لو يَعْلمون وقتَ عدمِ كفِّ النار. وقال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ» يعلمُ «متروكاً بلا تَعْدِيةٍ بمعنى: لو كان معهم علمٌ ولم يكونوا جاهلين لَما كانوا
مستَعْجِلين. و» حينَ «منصوبٌ بمضمرٍ أي: حين لا يَكُفُّون عن وجوهِهم النارَ يعلمونَ أنهم كانوا على الباطلِ» ، وعلى هذا ف «حين» منصوبٌ على الظرفِ لأنه جَعَلَ مفعولَ العلمِ «أنَّهم كانوا» .
وقال الشيخ: «والظاهرُ أنَّ مفعولَ» يعلم «محذوفٌ لدلالة ما قبلَه أي: لو يعلم الذين كفروا مجيْءَ الموعودِ الذي سَألوا عنه واسْتَنْبطوه. و» حين «منصوبٌ بالمفعولِ الذي هو» مجيءَ «. ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ الإِعمالِ على حَذْفِ مضافٍ، وأعملَ الثاني. والمعنى: لو يعلمون مباشرةَ النارِ حين لا يَكُفُّونها عن وجوهِهم» .
قوله: {بَغْتَةً} : في موضعِ نصبٍ على الحالِ أي مباغتةً. والضميرُ في «تَأْتيهم» يعودُ على النار. وقيل: يعودُ على الحين لأنه في معنى الساعة. وقيل: على الساعةِ التي يُصَيِّرهم فيها إلى العذابِ. وقيل: على الوعد؛ لأنَّه في معنى النار التي وُعِدُوها، قاله الزمخشري وفيه تكلُّفٌ.
وقرأ الأعمش: «بل يَأْتيهم» بياء الغَيْبة. «بَغَتة» بفتح الغين. «فيَبْهَتُهُمْ» بالياء أيضاً. فأمَّا الياءُ فَأعاد الضميرَ على الحين أو على الوعد. وقال بعضُهم: «هو عائدٌ على النار، وإنما ذكَّر ضميرها لأنها في معنى العذاب، ثم راعى لفظ النار فأنَّثَ في قوله:» رَدَّها «.
وقوله: {بَلْ تَأْتِيهِم} إضرابُ انتقالٍ. وقال ابن عطية:» بل «استدراكٌ مقدرٌ قبلَه نفيٌ، تقديرُه:» إنَّ الآياتِ لا تأتي على حَسَب اقتراحهم «. وفيه نظرٌ؛