المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] وقد تقدَّم. - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون - جـ ٨

[السمين الحلبي]

الفصل: وقوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] وقد تقدَّم.

وقوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] وقد تقدَّم.

ص: 392

قوله: {أَن تَعُودُواْ} : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجلهِ أي: يَعِظُكم كراهةَ أَنْ تعودوا. الثاني: أنه على حَذْفِ «في» أي: في أَنْ تعودوا نحو: وَعَظْتُ فلاناً في كذا فتركه. الثالث: أنَّه ضُمِّن معنى فِعْلٍ يتعدى ب عَنْ، ثم حُذِفَتْ أي: يَزْجُرُكم بالوَعْظِ عن العَوْدِ. وعلى هذين القولين يجْيءُ القولان في محلِّ «أنْ» بعد نَزْعِ الخافضِ.

ص: 393

قوله: {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ} : في هذه الهاءِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنها ضميرُ الشَّأْن. وبه بدأ أبو البقاء. والثاني: أنها ضميرُ الشيطان. وهذان الوجهان إنما يجوزان على رَأْيِ مَنْ لا يَشْترط عَوْدَ ضميرٍ على اسمِ الشرط مِنْ جملة الجزاء. والثالث: أنه عائدٌ على «مَنْ» الشرطيَةِ.

قوله: {مَا زَكَا} العامَّةُ على تخفيفِ الكاف يقال: زكا يَزْكُو. وفي ألفه الإِمالةُ وعدمُها. وقرأ الأعمش وأبو جعفر بتشديدها. وكُتبت ألفُه ياءً وهو شاذٌّ لأنه من ذواتِ الواو كغزا. وإنما حُمِل على لغةِ مَنْ أمال أو على كتابةِ المُشَدَّدِ. فعلى قراءة التخفيفِ يكون «مِنْ أحد» فاعلاً. وعلى قراءةِ التشديدِ يكونُ مفعولاً. و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن. والفاعلُ هو اللهُ تعالى.

ص: 393

قوله: {وَلَا يَأْتَلِ} : يجوزُ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِن الأَلِيَّة وهي الحَلْف كقوله:

3437 -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . .

ص: 393

وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ

ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يَتَأَلَّ» من الأَلِيَّة كقوله: «مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه» . ويجوزَ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] قال:

3438 -

وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْسِه

بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ

وقال أبو البقاء: وقُرِىء «ولا يَتَأَلَّ» على يَتَفَعَّل وهو من الأَلِيَّة أيضاً «.

قلت: ومنه:

3439 -

تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني

إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ مَفائِدُ

قوله: {أَن يؤتوا} هو على إسقاطِ الجارِّ، وتقديرُه على القول الأولِ، ولا يَأْتَلِ أُولوو الفَضْلِ على أَنْ لا يُحِسنوا. وعلى الثاني: ولا يُقَصِّر أُولو

ص: 394

الفَضْل في أَنْ يُحِسنوا. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن قطيب» تُؤْتُوا «بتاء الخطاب. وهو التفاتُ موافِقٌ لقولِه:» ألا تُحِبون «. وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين: وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا، بالخطاب، وهو موافِقٌ لِما بعده.

ص: 395

قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ} : ناصبُه الاستقرارُ الذي تَعَلَّق به «لهم» . وقيل: بل ناصبُه «عذابُ» . ورُدَّ بأنه مصدرٌ موصوفٌ وأجيب: بأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه/ ما لا يُتَّسَعُ في غيرِه. وقرأ الأخَوان «يَشْهَدُ» بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ، وقد وقعَ الفَصْلُ. والباقون بالتاءِ مراعاةً للَّفظِ.

ص: 395

والتنوينُ في «إذ» عوضٌ من الجملة، تقديرُه: يوم إذ تشهد. وقد تقدَّمَ خلافُ الأخفش فيه، وقرأ زيد بن علي «يُوْفِيْهِمْ» مخففاً مِنْ أوفى. وقرأ العامَّةُ بنصب «الحق» نعتاً ل «دينَهم» ، وأبو حيوة وأبو رَوْق ومجاهدٌ وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ برفعِه نعتاً لله تعالى.

ص: 395

قوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً، وأن تكونَ في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً، ويجوزُ أَنْ يكونَ «لهم» خبرَ «أولئك» و «مغفرةٌ» فاعلُه.

ص: 395

قوله: {تَسْتَأْنِسُواْ} : يجوزُ أن يكونَ من الاستئناس؛ لأنَّ الطارِقَ يَسْتَوْحِشُ من أنه: هل يُؤْذن له أو لا؟ فيُزالُ استيحاشُه، وهو رَدِيْفُ الاستئذانِ فَوُضِع موضعَه. وقيل: من الإِيناس وهو الإِبْصار أي: حتى تَسْتَكْشفوا الحالَ. وفسَّره ابن عباس «حتى تَسْتَأْذِنُوا» وليست قراءةً. وما يُنقل عنه أنه قال: «تستأنسوا خطأٌ من الكاتب، إنما هون تستأذنوا» . . . . . منحولٌ عليه. وهو نظيرُ ما تقدَّم في الرعد {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} [الرعد: 31] وقد تقدَّم القول فيه.

والاستِئْناسُ: الاسْتِعْلام، قال:

3440 -

كأنَّ رَحْلِيْ وقد زال النهارُ بنا

يومَ الجليلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَِدِ

وقيل: هو من الإِنْس بكسرِ الهمزةِ أي: يتعرَّفُ: هل فيها إنسِيُّ أم لا؟ وحكى الطبريُّ أنه بمعنى: وتُؤْنِسُوا أنفسَكم «.

قال ابنُ عطية:» وتصريفُ الفعل يَأْبى أَنْ يكونَ مِنْ آنسَ «.

ص: 396

قوله: {أَن تَدْخُلُواْ} : أي: في أن تدخلوا. والجارُّ متعلِّقٌ بجُناح.

ص: 396

قوله: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} : في «مِنْ» أوجهٌ، أحدُها: أنها للتبعيضِ لأنَّه يعفى عن الناظِر أولُ نظرةٍ تقعُ مِنْ غيرِ قَصْدٍ. والثاني: لبيانٍ الجنسِ. قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّه لم يتقدَّمْ مُبْهَمٌ يكونُ مفسَّراً ب «مِنْ» . والثالث: أنها لابتداءِ الغاية. وقاله ابنُ عطية. والرابعُ: أنها مزيدةٌ. وهو قولُ الأخفشِ.

ص: 397

قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ} : ضَمَّن «يَضْرِبْنَ» معنى يُلْقِيْنَ فلذلك عدَّاه ب «على» . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بكسرِ لامِ الأمرِ.

وقرأ طلحة «بخُمْرِهنَّ» بسكونِ الميمِ، وتسكين فُعُل في الجمع أَوْلَى مِنْ تسكينِ المفردِ. وكَسَر الجيمَ مِنْ «جُيُوْبِهِنَّ» ابنُ كثير والأخَوان وابن ذَكْوان.

والغَضُّ: إطباقُ الجَفْنِ بحيث يمنعُ الرؤية. قال:

3441 -

فَغُضِّ الطَرْفَ إنَّك مِنْ نُمَيْرٍ

فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا

والخُمُر: جمع خِمار. وفي القلَّة يُجْمَعُ على «أَخْمِرَة» ، قال امرؤُ القيس:

ص: 397

3442 -

وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ

كَرُؤوسِ قُطِعَتْ فيها الخُمُرْ

والجَيْبُ: ما في طَوْقِ القميصِ، يبدو منه بعضُ الجَسَدِ.

قوله: {غَيْرِ أُوْلِي} قرأ ابن عامر وأبو بكر «غيرَ» نصباً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه استثناءٌ، والثاني: أنَّه حالٌ، والباقون «غيرِ» بالجرِّ نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً، والإِرْبَةُ: الحاجةُ. وتقدَّم اشتقاقُها في طه.

قوله: {مِنَ الرجال} حالٌ من «أُولي» وأمَّا قولُه: «أو الطفلِ الذين» فقد تقدَّم في الحج أن «الطفلَ» يُطْلَقُ عل المثنى والمجموعِ فلذلك وُصِفَ بالجمع. وقيل: لَمَّا قُصِد به الجنسُ رُوْعي فيه الجمعُ فهو كقولِهم: «أهلكَ الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ» .

و «عَوْرات» جمعُ عَوْرَة وهو: ما يريدُ الإِنسانُ سَتْره من بَدَنِه، وغَلَبَ في السَّوْءَتين. والعامَّةُ على «عَوْرات» بسكون الواوِ، وهي لغةُ عامَّةِ العربِ، سَكَّنوها تخفيفاً، لحرفِ العلة. وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ «عَوَرات» بفتح العين. ونقل ابن خالويه أنها قراءةُ ابن أبي إسحاق والأعمش. وهي لغةُ هُذَيْلِ بن مُدْرِكَة. قال الفراء: «وأنشدَني بعضُهم:

ص: 398

3443 -

أخُو بَيَضاتٍ رائِحٌ متأوِّبُ

رفيقٌ بمَسحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ

وجعلها ابن مجاهد لحناً وخطأ، يعني من طريق الرواية، وإلَاّ فهي لغة ثابتة.

قوله: {أَيُّهَا المؤمنون} العامَّةُ على فتح الهاء وإثباتِ ألفٍ بعد الهاء، وهي» ها «التي للتنبيه. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف {ياأيها الساحر} [الآية: 49] ، في الرحمن {أَيُّهَا الثقلان} [الآية: 31] بضم الهاء وصلاً، فإذا وَقَفَ سَكَّن. ووجْهُها: أنه لَمَّا حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنين اسْتُخِفَّتْ الفتحةُ على حرفٍ خَفِيّ فَضُمَّتْ الهاءُ إتباعاً. وقد رُسِمَتْ هذه المواضعُ الثلاثةُ دونَ ألفٍ. فوقَفَ أبو عمروٍ والكسائيُّ بألفٍ، والباقون بدونِها، إتْباعاً للرَّسْمِ ولموافقةِ الخَطِّ للفظِ، وثَبَتَتْ في غير هذه المواضعِ حَمْلاً لها على الأصل، نحو:{يَاأَيُّهَا الناس} [البقرة: 21]، {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [البقرة: 153] وبالجملةِ فالرسمُ سُنَّةُ مُتَّبَعَةٌ.

ص: 399

قوله: {الأيامى} : هو جمعُ «أيِّم» بزنةِ فَيْعِل. يُقال منه: آمَ يَئِيْم كباع يبيع قال الشاعر:

ص: 399

3444 -

كلُّ امرىءٍ سَتَئِيْمُ مِنْهُ

العِرْسُ أو منها يَئِيْمُ

وقياسُ جمعِه «أيائم» كسَيِّد وسِيائِد. و «أيامى» فيه وجهان، أظهرُهما: من كلام سيبويه أنه جمعٌ على فعالى غيرَ مقلوبٍ وكذلك «يتامى» ، وقيل: إن الأصل أيايِم ويتايِم في: أيِّم ويتيم فقُلبا. والأَيِّم: مَنْ لا زوجَ له ذكراً كان أو أنثى. وخَصَّه أبو بكر الخَفَّافُ بمَنْ فَقَدَتْ زوجَها فإطلاقُه على البِكْر مجازٌ. و «منكم» حالٌ، وكذا «مِنْ عبادِكم» .

ص: 400

قوله: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء. والخبرُ الجملةُ المقترنةُ بالفاء، لِما تضمَّنَه المبتدأ من معنى الشرط. ويجوز نصبه بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال. وهذا أرجحُ لمكان الأمر.

وقال الزمخشري: «وقد آم وآمَتْ وتَأَيَّما: إذا لم يتزوَّجا، بِكْرين كانا

ص: 400

أو ثِّيَبْن. قال:

3445 -

فإن تنكِحي أنكِحْ وإن تتأيَّمي

وإن كنتُ أفتى منكمُ أتَأَيَّمُ

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:» اللهم إنَّا نعوذ بك من العَيْمة والغيمة والأيمة والكَزَم والقَرَم «قلت: أما العَيْمَة بالمهملة فشدةُ شهوةِ اللبن، وبالمعجمةِ شدةُ العطشِ. والأَيْمة: طول العُزْبَة، والكَزَم: شدةُ شهوةِ الأكل. والقَرَمُ: شدةُ شهوةِ اللحم.

قوله: {عَلَى البغآء} » البغاء «مصدرُ بَغَت المرأةُ تَبْغي بِغاءً، أي: زَنَتْ. وهو مختصٌّ بزِنى النساء. ولا مفهومَ لهذا الشرطِ؛ لأن الإِكراهَ لا يكونُ مع الإِرداة.

قوله: {فِإِنَّ الله} جملةٌ وقعَتْ جواباً للشرط. والعائدُ على اسمِ الشرط محذوفٌ تقديرُه: غفور لهم. وقدَّره الزمخشري في أحدِ تقديراتِه، وابن عطية، وأبو البقاء: فإنَّ اللهَ غفورٌ لهنَّ أي: للمُكْرَهات، فَعَرِيَتْ جملةُ الجزاءِ عن رابطٍ يَرْبِطُها باسمِ الشرطِ. لا يُقال: إن الرابطَ هو الضميرُ المقدَّرُ الذي هو فاعلُ المصدرِ؛ إذ التقديرُ: مِنْ بعد إكراهِهم لهنَّ فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابطِ المقدَّرِ؛ لأنهم لم يَعُدُّوا ذلك من الروابطِ، تقول:» هندٌ عجبْتُ مِنْ

ص: 401

ضَرْبِها زيداً «فهذا جائزٌ، ولو قلت: هندٌ عجبتُ مِنْ ضَرْبِ زيدٍ أي: من ضَرْبِها، لخلوِّها من الرابطِ وإنْ كان مقدَّراً.

وقد ضَعَّفَ الإِمامُ الرازي تقديرَ» بهم «ورَجِّح تقديرَ» بهنَّ «فقال:» فيه وجهان، أحدُهما: غفورٌ لهنَّ؛ لأن الإِكراهَ يُزيل الإِثمَ والعقوبةَ عن المُكْرَهِ فيما فَعَلَ. والثاني: فإنَّ اللهَ غفورٌ للمكرِه بشرطِ التوبةِ. وهذا ضعيفٌ لأنه على التفسيرِ الأولِ لا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ «. وفيه نظرٌ لِما عَرَفْتَ من أنَّه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ عند الجمهورِ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرةِ. ولَمَّا قَدَّر الزمخشريُّ» لهنَّ «أورد سؤالاً فقال:» فإن قلتَ: لا حاجةَ إلى تعليقِ المغفرةِ بِهنَّ، لأنَّ المُكْرَهَةَ على الزنى بخلاف المكرِه [عليه في أنها] غيرُ آثمةٍ. قلت: لعل الإِكراهَ غيرُ ما اعتبَرَتْه الشريعةُ من إكراهٍ بقَتْلٍ أو ممَّا يُخافُ منه التَّلَفُ أو فواتُ عضوٍ حتى تَسْلَمَ من الإِثمِ. وربما قَصَّرَتْ عن الحدِّ الذي تُعْذَرُ فيه فتكونُ آثمةً «.

ص: 402

وتقدَّمَ الخلافُ في «مُبَيّنات» كسراً وفتحاً.

قوله: {وَمَثَلاً} عطفٌ على «آيات» أي: وأَنْزَلْنا مثلاً مِنْ أمثال الذين قبلكم.

ص: 402

قوله: {الله نُورُ السماوات} : مبتدأٌ وخبرٌ: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذو نورٍ السماوات. والمرادُ بالنور عَدْلُه. ويؤْيِّد هذا قولُه {

ص: 402

مَثَلُ نُورِهِ} . وأضاف النورَ لهذين الظرفين: إمَّا دَلالةً على سَعَةِ إشراقِه وفُشُوِّ إضاءته، حتى تضيءَ له السماواتُ والأرضُ، وإمَّا لإِرادةِ أهلِ السماوات والأرضِ، وأنَّهم يَسْتضيئون به. ويجوز أَنْ يبالَغَ في العبارةِ على سبيلِ المَدْحِ كقولهم: فلانٌ شمسُ البلاد وقمرُها، قال النابغة:

3446 -

فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ

إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ

وقال:

3447 -

قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ واقِعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: مُنَّوِّرُ السماواتِ. ويؤيِّد هذا الوجهَ قراءةُ أميرِ المؤمنين وزيدِ بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي «نَوَّرَ» فعلاً ماضياً. وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، و «السماواتِ» مفعولُه فكَسْرُه نصبٌ. و «الأرضَ» بالنصبِ نَسَقٌ عليه. وفَسَّره الحسنُ فقال: الله مُنَوِّرُ السماوات.

قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً. وهذه الجملةُ إيضاحٌ لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: كَمَثَلِ نورِ مشْكاة. قال

ص: 403

الزمخشري: «أي: صفةُ نورِه العجيبِ الشأنِ في الإِضاءةِ كَمِشْكاةٍ أي: كصفةِ مِشْكاة» .

واختلفوا في الضمير في «نُوره» فقيل: هو للهِ تعالى، وهو الأولى، والمرادُ بالنورِ على هذا: الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ، أو الإِيمان، وقيل: إنه عائدٌ على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به. وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها. وأعاد الضميرَ على ما قرأ به. وقيل: يعودُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ. وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ أُبَيّ، ففيه إشكالٌ من حيث الإِفراد. / قال مكي:«يُوْقَفَ على» الأرض «في هذه الأقوالِ الثلاثةِ» .

واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ: أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي: قُصِدَ فيه تشبيهُ جملةٍ بجملةٍ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزءٍ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه. وهو أبلغُ صفاتِ النورِ عندكم؟ أو تشبيهٌ غيرُ مركبٍ أي: قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في «نوره» .

والمِشْكاةُ: الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ. وهل هي عربية أم حبشية مُعَرَّبة؟ خلافٌ. وقيل: هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل، وتكون في جَوْفُ الزجاجة، وقيل: هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه

ص: 404

المصباحُ، وقيل: ما يُعَلَّقُ فيه القنديلُ من الحديدِ، وأمال «المِشْكاة» الدُّوري عن الكسائي لتقدُّمِ الكسرِ، وإنْ وُجِدَ فاصلٌ. ورُسِمَتْ بالواو كالزكاة والصلاة.

والمِصْباح: السِّراجُ الضخمُ. والزجاجةُ: واحدةٌ الزجاج، وهو جوهرٌ معروفٌ. وفيه ثلاثُ لغاتٍ: فالضم لغةُ الحجاز، وهو قراءةُ العامَّة، والكسرُ والفتحُ لغةُ قيس.

وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد. وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في روايةٍ عنه، وأبو رجاء. وكذلك الخلافُ في قوله «الزجاجةُ» .

والجملةُ مِنْ قوله: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} صفةُ ل «مِشْكاة» . ويجوزُ أن يكونَ الجارُّ وحدَه هو الوصفَ، و «مصباحٌ» مرتفعٌ به فاعلاً.

قوله: {دُرِّيٌّ} ، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ، وهذه الثلاثةُ في السبع، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء. وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً «دَرِّيْء» بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ.

فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو «سِكِّين» وفي الصفاتِ نحوِ «سِكِّير» .

ص: 405

وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي: يدفع بعضُها بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءَها، قيل: ولم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلَاّ مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا: إنها من السرور، وإنه أُبْدل مِن إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل، ومُرِّيخاً للذي في داخلِ القَرْنِ اليابس، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه القراءة، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ. وقال بعضهم: «وزن دُرِّيْء في هذه القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة.

وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ، إلَاّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً، وأَدْغم، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها.

وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر. والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ.

ص: 406

وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ. قال أبو الفتح:» وهو بناءٌ عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلَاّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين «. قلت: وقد حكى الأخفشُ:» فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار «و» كوكَبٌ دَرِّيْءٌ «مِنْ» دَرَاْتُه «.

قولِه: {يُوقَدُ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو» تَوَقَّدَ «بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح، ولا يعودُ على» كوكب «لفسادِ المعنى. والأخوان وأبو بكر» تُوْقَدُ «بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ، مضارعَ أَوْقَدَ. وهو مبنيٌّ للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على» زجاجة «فاسْتَتَرَ في الفعل. وباقي السبعةِ كذلك إلَاّ أنَّه بالياءِ من تحتُ.

والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح.

وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك، إلَاّ أنَّه ضَمَّ الدال، جعله مضارع «تَوَقَّدَ» ، والأصلُ: تَتَوَقَّد بتاءَيْن، فحُذِفَ إحداهما ك «تَذَكَّرُ» . والضميرُ أيضاً للزُّجاجة.

وقرأ عبد الله «وَقَّدَ» فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً، أي: المصباح. وقرأ الحسنُ وسَلَاّم أيضاً «يَوَقَّدُ» بالياء مِنْ تحتُ، وضَمِّ الدال، مضارعَ تَوَقَّدَ. والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ، وتاءٍ مِنْ فوقُ، فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ. هذا شاذٌ

ص: 407

إذ لم يتوالَ مِثْلان، ولم يَبْقَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على المحذوف، بخلافِ «تَنَزَّلُ» و «تَذَكَّرُ» وبابِه؛ فإنَّ فيه تاءَيْن، والباقي يَدُلُّ على ما فُقِد. / وقد يُتَمَحَّلُ لصحتِه وجهٌ من القياس وهو: أنهم قد حَمَلوا أَعِدُ وتَعِدُ ونَعِدُ على يَعِدُ في حَذْفٍ الواوِ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ فكذلك حَمَلوا يَتَوَقَّد بالياء والتاء على تَتَوَقَّد بتاءين، وإنْ لم يكنْ الاستثقالُ موجوداً في الياء والتاء.

قوله: {مِن شَجَرَةٍ} «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: مِنْ زيتِ شجرةٍ. وزَيْتونة فيها قولان أشهرُهما: أنَّها بدلٌ مِنْ «شجرةٍ» . الثاني: أنها عطفٌ بيان، وهذا مذهبُ الكوفيين وتَبِعهم أبو عليّ. وقد تقدَّم هذا في قوله {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] .

قوله: {لَاّ شَرْقِيَّةٍ} صفةٌ ل «شَجَرة» ودَخَلَتْ لتفيدَ النفيَ. وقرأ الضحَّاك بالرفعِ على إضمارِ مبتدأ أي: لا هي شرقيةٌ. والجملةُ أيضاً في محل جَرٍّ نعتاً ل «شَجَرة» .

قوله: {يَكَادُ} هذه الجملةُ أيضاً نعتُ ل «شجرةٍ» .

قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} جوابُها محذوفٌ أي: لأضاءَتْ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه، والجملةُ حاليةٌ. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في قولِه «رُدُّوا السَّائلَ ولو جاءَ على فَرَس» وأنها لاستقصاءِ الأحوالِ: حتى في هذه الحال. وقرأ

ص: 408

ابن عباس والحسن «يَمْسَسْه» بالياءِ لأنَّ المؤنَّثَ مجازيٌّ، ولأنه قد فُصِلَ بالمفعولِ أيضاً.

قوله: {نُّورٌ على نُورٍ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: ذلك نورٌ. و «على نورٍ» صفةٌ ل «نور» .

ص: 409

قوله: {فِي بُيُوتٍ} : فيها ستةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها صفةٌ ل «مِشْكاةٍ» أي: كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي: في بيتٍ من بيوتِ الله. الثاني: أنه صفةٌ لمصباح. الثالث: أنه صفةٌ ل «زجاجة» . الرابع: أنه متعلقٌّ ب «تُوْقَدُ» . وعلى هذه الأقوالِ لا يُوقف على «عليم» . الخامس: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] أي: يُسَبِّحونه في بيوت. السادس: أَنْ يتعلَّقَ ب «يُسَبِّحُ» أي: يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت. وفيها تكريرٌ للتوكيدِ كقولِه: {فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] . وعلى هذه القولَيْن فيُوْقَفُ على «عليم» . وقال الشيخ: «وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ» ولم يُذْكر سوى قولين.

قوله: {أَذِنَ الله} في محلِّ جرٍّ صفةً ل «بيوتٍ» ، و «أن تُرفع» على حَذْفِ الجارِّ أي: في أَنْ تُرْفَعَ. ولا يجوزُ تَعَلُّقُ «في بيوت» بقوله: «ويُذْكَرُ» لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز «أَنْ» ، وما بعد «أَنْ» لا يتقدَّم عليها.

قوله: {يُسَبِّحُ} قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ.

ص: 409

والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة. والأولى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه، والذي يليه أولى. و «رجالٌ» على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين: إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه، وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل: يُسَبِّحُه رجالٌ. وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر:

3448 -

لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ

ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ

كأنه قيل: مَنْ يبكيه؟ فقيل: يَبْكيه ضارعٌ. إلَاّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً، منهم مَنْ جَوَّزَه، ومنهم مَنْ مَنعه. والوجهُ الثاني في البيت: أنَّ «يَزيدُ» منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي: يا يزيد، وهو ضعيف جداً.

والثاني: أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: المُسَبِّحه رجالٌ. وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال.

وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل. والفاعلُ «رجال» فلا يُوْقَفُ على الآصال.

وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة «تُسَبِّح» بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلَاّ أنَّه فَتَح الباءَ. وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء، كقولهم:«صِيْد عليه يومان» أي: وَحْشُها.

ص: 410

وخَرَّّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي: تُسَبَّح التسبيحةُ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً {ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] أي: ليجزى الجزاءُ قوماً، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح.

ص: 411

قوله: {لَاّ تُلْهِيهِمْ} : في محلِّ رفعٍ صفةً ل «رجالٌ» .

قوله: {يَخَافُونَ} يجوزُ أَنْ تكونَ نعتاً ثانياً لرجال، وأَنْ تكونَ حالاً مِنْ مفعول «تُلْهِيْهم» ، و «يوماً» مفعولٌ به لا ظرفٌ على الأظهر. و «يتقلَّبُ» صفةٌ ل يوماً.

ص: 411

قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ} : يجوز تعلُّقُه ب «يُسَبِّح» أي: يُسَبِّحون لأجل الجزاء. ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ أي: فعلوا ذلك ليَجْزيهم. وظاهرُ كلامِ الزمخشري أنه من بابِ الإِعمال فإنه قال: «والمعنى: يُسَبِّحونَ، ويَخافون ليجزِيَهم، ويكونُ على إعمالِ الثاني للحذف من الأول.

قوله: {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي ثوابَ أحسنِ، أو أحسنَ جزاءِ ما عملوا. و» ما «مصدريةٌ أو بمعنى الذي أنكرة.

ص: 411

قوله: {بِقِيعَةٍ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لسراب. والثاني: أنَّه ظرفٌ. والعاملُ فيه الاستقرارُ العاملُ في كاف التشبيه. والسَّرابُ: ما يتراءى للإِنسانِ في القَفْرِ في شِدةِ الحرِّ مِمَّا يُشْبِه الماءَ. وقيل: ما يتكاثَفُ في قُعُوْر القِيْعان. قال الشاعر:

ص: 411

3449 -

فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ

كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ

يُضرب به المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيَخْلُفُ. / وقيل: هو الشُّعاع الذي يَرْمي به نصفُ النهار في شدَّةِ الحَرِّ، يُخَيَّل للناظرِ أنه الماءُ السارِبُ أي الجاري. والقِيْعَةُ: بمعنى القاعِ. وهو المُنبَسِطُ من الأرضِ. وقد تقدَّم في طه. وقيل: بل هي جمعُه كجارٍ وجِيْزَة.

وَقرأ مسلمة بن محارب بتاء ممطوطة. وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء، ويَقف عليها بالهاء. وفيها أوجهٌ، أحدها: أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ، وإنما أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه:«مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ» قاله صاحب «اللوامح» . والثاني: أنه جمع قِيْعَة، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهاباً به مَذْهَبَ لغةِ طيِّىء في قولهم:«الإِخْوةُ والأخواهْ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ المَكْرُماهُ» أي: والأخوات، والبنات، والمَكْرُمات. وهذه القراءةُ تؤيِّدُ أنَّ قِيْعَة جمع قاع. الثالث قال الزمخشري:«وقولُ بعضِهم: بقيعاة بتاء مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة» فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلاً ليس جمعاً ولا اتِّساعاً.

ص: 412

وقوله: {يَحْسَبُهُ الظمآن} جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضاً. وحَسُن ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجملةِ. هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً. والضمائرُ المرفوعةُ في «جاءَه» وفي «لم يَجِدْه» وفي «وَجَد» ، والضمائرُ في «عنده» وفي «وَفَّاه» وفي «حسابه» كلُّها تَرْجِع إلى الظمآن؛ لأنَّ المرادَ به الكافرُ المذكورُ أولاً. وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ. وقيل: بل الضميران في «جاءه» و «وجد» عائدان على الظمآن، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر، وإنما أُفْرِدَ الضميرُ على هذا وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه:{والذين كفروا} حَمْلاً على المعنى، إذِ المعنى: كلُّ واحدٍ من الكفار. والأولُ أَوْلى لاتساقِ الضمائرِ.

وقرأ أَبو جعفر ورُوِيَتْ عن نافع «الظَّمان» بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ.

ص: 413

قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} : فيه: أوجهٌ، أحدها: أنه نَسَقٌ على «كسَراب» ، على حَذْفِ مضافٍ واحدٍ تقديرُه: أو كذي ظُلُمات. ودَلَّ على هذا المضافِ قولُه: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فالكنايةُ تعودُ إلى المضافِ المحذوفِ وهو قولُ أبي عليّ. الثاني: أنه على حَذْفِ مضافين تقديرُهما: أو كأعمال ذي ظلمات، فتُقَدِّر «ذي» ليصِحَّ عَوْدُ الضميرِ إليه في قوله:{إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ} ، وتُقَدِّر «أعمال» ليَصِحَّ تشبيهُ أعمالِ الكفارِ بأعمالِ صاحبِ الظُلْمَةِ، إذ لا معنى لتشبيهِ العملِ بصاحبِ الظُّلْمةِ. الثالث: أنه لا حاجةَ

ص: 413

إلى حَذْفٍ البتة. والمعنى: أنه شَبَّه أعمالَ الكفارَ في حَيْلولَتِها بين القلبِ وما يَهْتدي به بالظُّلْمة. وأمَّا الضميران في «أَخْرج يَده» فيعودان على محذوفٍ دَلَّ عليه المعنى أي: إذا أخرج يَدَه مَنْ فيها.

و «أو» هنا للتنويعِ لا للشَّكِّ. وقيل: بل هي للتخييرِ أي: شَبَّهوا أعمالَهم بهذا أو بهذا.

وقرأ سفيان بن حسين «أوَ كظٌلُمات» بفتح الواو، جَعَلها عاطفةً دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهام الذي معناه التقريرُ. وقد تَقدَّم ذلك في قولِه:{أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} [الأعراف: 98] .

قوله: {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} : «في بحرٍ» صفةٌ لظلمات فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. واللُّجِّيُّ منسوبٌ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ البحرِ. كذا قال الزمخشري. وقال غيرُه: منسوبٌ إلى اللُجَّة بالتاء وهي أيضاً مُعْظمه، فاللجِّيُّ هو العميقُ الكثيرُ الماءِ.

قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} صفةٌ أخرى ل «بَحْرٍ» هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في «يَغْشاه» على «بحرٍ» وهو الظاهر. وإنْ قدَّرنا مضافاً محذوفاً أي: أو كذي ظُلُمات كما فَعَل بعضُهم كان الضمير في «يَغْشاه» عائداً عليه، وكانت الجملةُ حالاً منه لتخصُّصِه بالإِضافة، أو صفةً له.

قوله: {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مِنْ مبتدأ وخبر، صفةً ل «موجٌ» الأول. ويجوزُ أن يُجْعَلَ الوصفُ الجارَّ والمجرورَ فقط و «مَوْجٌ» فاعلٌ به لاعتمادهِ على الموصوفِ.

ص: 414

قوله: {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} فيه الوجهان المذكوران قبلَه: من كونِ الجملةِ صفةً ل «موج» الثاني، أو الجارِّ فقط.

قوله: {ظُلُمَاتٌ} قرأ العامَّةُ بالرفع وفيه وجهان، أجودُهما: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هذه، أو تلك ظلمات. الثاني: أَنْ يكونَ «ظُلُمات» مبتدأً. والجملةُ من قولِه «بعضُها فوقَ بعض» خبرُه. ذكره الحوفي. وفيه نظرٌ لأنَّه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرةِ، اللَّهم إلَاّ أَنْ يُقالَ: إنها موصوفةً تقديراً، أي: ظلماتٌ كثيرةٌ متكاثفةٌ كقولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بدرهم» .

وقرأ ابن كثير «ظلماتٍ» بالجرِّ إلَاّ أنَّ البزيَّ روى عنه حينئذٍ حَذْفَ التنوينِ من «سَحاب» ، فقرأ البزي عنه «سحابُ ظلماتٍ» بإضافة «سَحابُ» ل «ظلمات» .

وروى قنبل عنه التنوينَ في «سَحابٌ» كالجماعة مع جرِّه ل «ظُلُماتٍ» . فأمَّا روايةُ البزي فقال أبو البقاء: / «جَعَلَ الموجَ المتراكمَ بمنزلةِ السحابِ» ، وأمَّا روايةُ قنبل فإنه جَعَلَ «ظلماتٍ» بدلاً مِنْ «ظلماتٍ» الأولى.

قوله: {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ في موضعِ رفعٍ أو خبرٍ على حَسَبِ القراءتين في «ظلمات» قبلَها لأنها صفةٌ لها. وجَوَّز الحوفيُّ على قراءةِ رفع «ظلماتٌ» في «بعضُها» أن يكونَ بدلاً من «ظلمات» . ورُدَّ عليه من حيث المعنى؛ إذ المعنى على الإِخبارِ بأنها ظلماتٌ، وأنَّ بعضَ تلك الظلماتِ

ص: 415

فوق بعضٍ وصفاً لها بالتراكم، لا أنَّ المعنى: أن بعضَ تلك الظلماتِ فوقَ بعضٍ، من غيرِ إخبارٍ بأن تلك الظلماتِ السابقةَ ظلماتٌ متراكمةٌ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا فرقَ بين قولِك «بعضُ الظلماتِ فوقَ بعض» ، وبين قولك «الظلماتُ بعضُها فوقَ بعضٍ» وإنْ تُخُيِّل ذلك في بادِىءِ الرَّأْيِ.

وقد تقدَّم الكلامُ في «كاد» ، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ. وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري هنا: «لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي: لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ يَراها. ومنه قولُ ذي الرمة:

3450 -

إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ

رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

أي: لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ» . وقال أبوة البقاء: «أختلف الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ. ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه: أنَّ موضوعَ» كاد «إذا نُفِيَتْ: وقوعُ الفعلِ. وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى: أنَّه لا يرى يدَه، فعلى هذا: في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ التقديرَ: لم يَرَها ولم يَكَدْ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين. وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قولَه» لم يَرَها «جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله:» لم يَكَدْ «إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ: ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية. فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه لم يَكَدْ يراها، وأنه رآها بعد جُهْدٍ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها، وإنْ كان معنى» لم يكَدْ يَراها «: لم يَرَها البتةَ

ص: 416

على خلافِ الأكثرِ في هذا الباب، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها. والوجه الثاني: أنَّ» كاد «زائدةٌ وهو بعيدٌ. والثالث: أنَّ» كاد «أُخْرِجَتْ ههنا على معنى» قارب «والمعنى: لم يقارِبْ رؤيتَها، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها.

وعليه جاء قولُ ذي الرمة:

إذا غَيَّر النَّأْيُ. . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيت. أي: لم يقارِبِ البَراحَ. ومِنْ هنا حُكي عن ذي الرمة أنه لَمَّا رُوْجِع في هذا البيت قال: لم أجِدْ بدل «لم يَكَدْ» . والمعنى الثاني: أنَّه رآها بعد جُهْدٍ. والتشبيهُ على هذا صحيحٌ لأنَّه مع شدَّة الظُّلْمة إذا أَحَدَّ نظرَه إلى يدِه وقرَّبها مِنْ عَيْنِه رآها «انتهى.

أمَّا الوجهُ الأولُ وهو ما ذكره أنه قولُ الأكثرِ: مِنْ أنَّه يكونَ إثباتاً، فقد تقدَّم أنه غيرُ صحيحٍ وليس هو قولَ الأكثرِ، وإنما غَرَّهم في ذلك آيةُ البقرة. وما أَنْشَدْناه عن بعضِهم لُغْزاً وهو:

3451 -

أَنْحْوِيَّ هذا العصرِ ماهي لفظَةٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيتين. وأمَّا [ما] ذكره مِنْ زيادةِ» كاد «فهو قولُ أبي بكرٍ وغيرِه، ولكنه مردودٌ عندَهم. وأمَّا ما ذكره من المعنى الثاني: وهو أنه رآها بعد جُهْدٍ فهو

ص: 417

مذهبُ الفراء والمبرد. والعجبُ كيف يَعْدِلُ عن المعنى الذي أشار إليه الزمخشريُّ وهو المبالغةُ في نفي الرؤية؟

وقال ابنُ عطية ما معناه:» إذا كان الفعلُ بعد «كاد» منفياً دَلَّ على ثبوتِه نحو: كاد زيدٌ لا يقوم، أو مُثْبَتاً دَلَّ على نفيه نحو:«كاد زيد يقوم» وإذا تقدَّم النفيُ على «كاد» احتمل أن يكونَ مُوْجَباً، وأَنْ يكونَ منفياً. تقول:«المفلوج لا يَكاد يَسْكُن» فهذا يتضمَّن نَفْيَ السكونِ. وتقول: رجل منصرف لا يكاد يَسْكُن، فهذا تضمَّن إيجابَ السكونِ بعد جُهْد «.

ص: 418

قوله: {والطير} : قرأ العامَّةُ «والطيرُ» رفعاً. «صافاتٍ» نصباً: فالرفعُ عطفٌ على «مَنْ» والنصبُ على الحال. وقرأ الأعرج «والطيرَ» نصباً على المفعولِ معه و «صافَّاتٍ» حالٌ أيضاً. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع «والطيرُ صافَّاتٌ» برفعِهما على الابتداءِ والخبر. ومفعولُ «صافَّاتٌ» محذوفٌ أي: أجنحَتَها.

قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ} في هذه الضمائرِ أقوالٌ، أحدُها: أنَّها كلَّها

ص: 418

عائدةٌ على «كل» أي: كلٌّ قد عَلِمَ هو صلاةَ نفسِه وتسبيحَها. وهذا/ أولى لتوافُقِ الضمائر. والثاني: أنَّ الضميرَ في «عَلِمَ» عائدٌ على اللهِ تعالى، وفي «صلاتَه وتسبيحَه» عائدٌ على «كل» . الثالث: بالعكس أي: عَلِمَ كلٌ صلاةَ الله وتسبيحَه أي: أَمَرَ بهما، وبأن يُفْعَلا كإضافةِ الخَلْقِ إلى الخالق.

ورَجَّحَ أبو البقاء أن يكونَ الفاعلُ ضميرَ «كل» قال: «لأنَّ القراءة برفع» كلٌّ «على الابتداء، فَيَرْجِعُ ضميرُ الفاعلِ إليه، ولو كان فيه ضميرُ اسمِ اللهِ لكان الأوْلى نَصْبَ» كل «لأنَّ الفعلَ الذي بعدها قد نَصَبَ ما هو مِنْ سببِها، فيَصيرُ كقولك:» زيداً ضربَ عمروٌ غلامَه «فتنصِبُ» زيداً «بفعلٍ دَلَّ عليه ما بعده، وهو أقوى من الرفع، والآخر جائز» . قلت: وليس كما ذكر مِنْ ترجيحِ النصب على الرفعِ في هذه الصورةِ، ولا في هذه السورة، بل نصَّ النحويون على أن مثلَ هذه الصورةِ يُرَجَّحُ رفعُها بالابتداء على نصبها على الاشتغال؛ لأنه لم يكُنْ ثَمَّ قَرينةٌ من القرائنِ التي جعلوها مُرَجِّحةً للنصب، والنصب يُحْوِجُ إلى إضمارٍ، والرفعُ لا يُحْوج إليه، فكانَ أرجحَ.

ص: 419

قوله: {بَيْنَهُ} : إنما دخلَتْ «بينَ» على مفردٍ وهي إنما تَدْخُلُ على المثَّنى فما فوقَه لأنه: إمَّا أَنْ يُرادَ بالسحاب الجنسُ فعاد الضميرُ عليه على حكمِه، وإمَّا أَنْ يُرادَ حَذْفُ مضافٍ أي: بين قِطَعِه، فإنَّ كلَّ قطعةٍ سَحابةٌ.

قوله: {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} تقدَّم الخلافُ في «خِلال» هل هو مفرد

ص: 419

كحِجاب أم جمعٌ كجِبال جمع جَبَل؟ ويؤيِّد الأولَ قراءةُ ابنِ مسعودٍ والضحاكِ، ويروى عن أبي عمروٍ أيضاً «مِنْ خَلَلِه» بالإِفرادِ.

والوَدْقُ قيلأ: هو المطرُ ضعيفاً كان أوشديداً. قال:

3452 -

فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها

ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها

وقيل: هو البَرْقُ. وأَنْشد:

3453 -

أَثَرْنَ عَجاجةً وخَرَجْنَ منها

خُروج الوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحابِ

والوَدْقُ في الأصل: مصدرٌ يقال: وَدَقَ السحابُ يَدِقُ وَدْقاً و «يَخْرجُ» حالٌ لأنها بَصَرية.

قوله: {مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} «مِن» الأولى لابتداء الغايةِ اتفاقاً. وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لابتداءِ الغايةِ أيضاً فهي ومجرورُها بدلٌ من الأولى بإعادة العامِل. والتقدير: ويُنَزِّلُ من جبالِ السماءِ أي: من جبالٍ فيها، فهو بدل اشتمالٍ. الثاني: أنها للتبعيض، قاله الزمخشري وابنُ عطية. فعلى هذا هي ومجرُورها في موضعِ مفعولِ

ص: 420

الإِنزالِ كأنه قال: ويُنَزِّل بعضَ جبالٍ. الثالثَ: أنها زائدة أي: يُنَزِّل من السماءِ جبالاً. وقال الحوفيُّ: «مِنْ جبال بدلٌ مِن الأُولى» . ثم قال: «وهي للتبعيضِ» .

ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا تَسْتَقيم البدليَّةُ إلا بترافقهما معنىً. لو قلت: «خَرَجْتُ من بغدادَ من الكَرْخِ» لم تكنِ الأولى والثانية إلَاّ لابتداءِ الغاية.

وأمَّا الثالثة ففيها أربعةُ أوجهٍ: الثلاثةُ المتقدمةُ. والرابع: أنها لبيانِ الجنسِ. قاله الحوفي والزمخشري، فيكون التقديرُ على قولِهما: ويُنَزِّل من السماء بعضَ جبالٍ التي هي البَرَدُ، فالمُنَزَّل بَرَدٌ لأنَّ بعضَ البَرَدِ بَرَدٌ. ومفعولُ «يُنَزِّلُ» هو «مِنْ جبال» كما تقدَّمَ تقريرُه. وقال الزمخشري:«أو الأَوْلَيان للابتداء، والثالثةُ للتبعيض» قلت: يعني أن الثانيةَ بدلٌ من الأولى كما تقدَّم تقريرُه، وحنيئذ يكون مفعول «يُنَزِّل» هو الثالثةَ مع مجرورها تقديرُه: ويُنَزِّلُ بعضَ بردٍ من السماء مِنْ جبالِها. وإذا قيل: بأنَّ الثانيةَ والثالثةَ زائدتان فهل مجرورُهما في محلِّ نصبٍ، والثاني بدلٌ من الأول، والتقدير: ويُنَزِّلُ من السماء جبالاً بَرَداً، وهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، أو بعضٍ مِنْ كلٍ، أو الثاني في محلِّ نصبٍ مفعولاً ل «يُنَزِّل» ، والثالثُ في محل رفعٍ على الابتداء، وخبرُه

ص: 421

الجارُّ قبلَه؟ خلافٌ. الأولُ قولُ الأخفشِ، والثاني قولُ الفراءِ. وتكون الجملةُ على قولِ الفراءِ صفةً ل «جبال» ، فيُحْكَمُ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً باللفظِ، أو بالنصبِ اعتباراً بالمَحَلِّ.

ويجوزُ أن يكونَ «فيها» وحدَه هو الوصفَ، ويكون «مِنْ بَرَدٍ» فاعلاً به؛ لاعتمادِه أي: استقرَّ فيها.

وقال الزَّجاج: «معناه: ويُنَزِّلُ مِن السماءِ مِنْ جبالِ بَرَدٍ فيها كما تقولُ:» هذا خاتمٌ في يدي من حديدٍ «أي: خاتم حديدٍ في يدي. وإنما جِئْتَ في هذا وفي الآية ب» مِنْ «لمَّا فرَّقْتَ، ولأنَّك إذا قلت: هذا خاتمٌ مِنْ حديدٍ وخاتمٌ حديدٍ كان المعنى واحداً» انتهى. فيكونُ «مِنْ بَرَدٍ» في موضعِ جَرٍّ صفةً/ ل «جبال» ، كما كان «من حديد» صفةً ل «خاتم» ، ويكونُ مفعولُ «يُنَزِّل» «من جبال» . ويَلْزَمُ مِنْ كونِ الجبال برداً أَنْ يكونَ المُنَزَّلُ بَرَداً.

وقال أبو البقاء: «والوجه الثاني: أنَّ التقدير: شيئاً من جبالٍ، فحُذِفَ الموصوفُ واكتُفِي بالصفةِ. وهذا الوجهُ هو الصحيحُ؛ لأنَّ قولَه {فِيهَا مِن بَرَدٍ} يُحْوِجُك إلى مفعولٍ يعودُ الضميرُ إليه، فيكونُ تقديرُه: ويُنَزِّلُ مِنْ جبالِ السماء جبالاً فيها بَرَدٌ. وفي ذلك زيادَةُ حَذْفٍ، وتقديرٌ مُسْتغنى عنه» . وفي كلامه نظرٌ؛ لأنَّ الضميرَ له شيءٌ يعودُ عليه وهو السماء، فلا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ؛ لأنَّه مُسْتغنى عنه، وليسَ ثَمَّ مانعٌ يمنعُ مِنْ عَوْدِه على السماء. وقوله آخراً: «

ص: 422

وتَقْديرٌ مستغنى عنه» ، وينافي قولَه:«وهذا الوجه هو الصحيح» . والضميرُ في «به» يجوزُ أن يعودَ على البَرد وهو الظاهرُ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الوَدْق والبَرَد معاً، جرياً بالضمير مَجْرى اسمِ الإِشارةِ. كأنه قيل: فَيُصيب بذلك، وقد تقدَّم نظيرُه في مواضعَ.

قوله: {سَنَا بَرْقِهِ} العامَّةُ على قَصْر «سَنا» وهو الضَّوْءُ، وهو مِنْ ذواتِ الواوِ، يُقال: سَنا يَسْنُو سَناً. أي: أضاءَ يُضيْءُ. قال امرؤُ القيس:

3454 -

يضيءُ سَناه، أو مصابيحُ راهِبٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والسَّنا بالمدِّ: الرِفْعَةُ. قال:

3455 -

وسِنٍّ كسُنَّيْقٍ سَناءً وسُنَّماً

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقرأ ابنُ وثَّاب «سَناءُ بُرَقِه» بالمدِّ، وبضمِّ الباء مِنْ «بُرَقِه» وفتح الراء. ورُوي عنه ضَمُّ الراءِ أيضاً. فأمَّا قراءةُ المدِّ فإنه شَبَّه المحسوسََ من البرقِ

ص: 423

لارتفاعِه في الهواءِ بغير المحسوسِ من الإنسانِ. وأمَّا «بُرَقِه» فجمعُ بُرْقَة، وهي المقدارُ من البرقِ كقُرَب. وأمَّا ضمُّ الراءِ فإتباعٌ كظُلُمات بضمِّ اللام إتباعاً لضم الظاء. وإنْ كان أصلُها السكونَ.

وقرأ العامَّة أيضاً «يَذْهَبُ» بفتح الياء والهاء. وأبو جعفر بضمِّ الياءِ وكسرِ الهاءِ مِنْ أَذْهَبَ. وقد خَطَّأ هذه القراءةَ الأخفشُ وأبو حاتم قالا: «لأنَّ الباءَ تُعاقِبُ الهمزة» .

وليس رَدُّهما بصوابٍ؛ لأنها تَتَخَرَّج على ما خُرِّج ما قُرِىء به في المتواتر {تُنْبِتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] من أنَّ الباء مزيدةٌ، أو أنَّ المفعولَ محذوفٌ، والباءُ بمعنى «مِنْ» تقديرُه: يُذْهِبُ النُّورَ من الأَبْصارِ كقولِه:

3456 -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

شُرْبَ النَّزِيف بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ

ص: 424

قوله: {مِّن مَّآءٍ} : فيها وجهان. أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ ب «خَلَق» أي: خَلَقَ مِنْ ماءٍ كلَّ دابة. و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. وعلى هذا فيُقال: وُجِدَ من الدوابِّ ما لم يُخْلَقْ مِنْ ماءٍ كآدمَ فإنه مِنْ تراب، وعيسى فإنَّه مِنْ رُوحٍ، والملائكةِ فإنَّهم مِنْ نُور، والجِنِّ فإنهم مِنْ نارٍ. وأُجيب بأنَّ الأمرَ الغالِبَ ذلك. وفيه نظرٌ فإنَّ الملائكةَ أَضعافُ الحيوان، والجنَّ أيضاً أضعافُهم. وقيل:

ص: 424

لأنَّ الحيوانَ لا يَعيش [إلَاّ] به، فجُعِل منه لذلك، وإن كان لنا من الحيوانِ ما لا يَحْتاج إلى الماءِ البتة، ومنه الضبُّ.

وقيل: جاء في التفسير: أنه كان خَلَق في الأولِ جوهرة فنظرَ إليها فذابَتْ ماء، فمنها خَلَق ذلك. والثاني: أنَّ «مِنْ» متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «دابَّة» والمعنى: الإِخبارُ بأنه خَلَق كلَّ دابةٍ كائنةٍ من الماء، أي: كلُّ دابة من ماءٍ هي مخلوقةٌ للهِ تعالى. قاله القفَّال.

ونكَّر «ماء» وعَرَّفه في قوله: {مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] لأنَّ المقصودَ هنا التنويعُ.

قوله: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي} إلى آخره. إنما أَطْلَقَ «مَنْ» على غيرِ العاقلِ لاختلاطِه بالعاقلِ في المفصَّل ب «مَنْ» وهو «كلَّ دابة» ، وكان التعبيرُ ب «مَنْ» أولى لِتَوافُقِ اللفظِ. وقيل: لمَّا وصفَهم بما يُوصف به العقلاء وهو المَشْيُ أَطْلق عليها «مَنْ» . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذه الصفةَ ليسَتْ خاصةً بالعقلاء، بخلافِ قولِه تعالى:{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] . [وقوله:]

3457 -

. . . . . . . . . . . . . . هل مَنْ يُعِيْرُ جناحَه

لَعَلِّي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 425

البيت. وقد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في {خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} في سورة إبراهيم. واستعير المَشْيُ للزَحْفِ على البطنِ، كما استُعير المِشْفَرُ للشَّّفَةِ وبالعكسِ.

ص: 426

قوله: {لِيَحْكُمَ} : أفردَ الضميرَ وقد تقدَّمه اسمان وهما: اللهُ ورسوله، فهو كقولِه تعالى:{والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62][لأنَّ] حكمَ رسولِه هو حكمُه. قال الزمخشري: «كقولك:» أعجبني زيدٌ وكَرَمَهُ «أي: كرمُ زيدٍ/ ومنه:

3458 -

ومَنْهَلٍ من الفَلا في أوسَطِهْ

غَلَسْتُه قبل القَطا وفُرَّطِهْ

أي: قبل فُرَّط القَطا، يعني قبل تقدُّمِ القطا.

وقرأ أبو جعفرٍ» ليُحْكَمَ بينَهم «هنا والتي بعدَها مبنياً للمفعولِ، والظرفُ قائمٌ مقامَ الفاعل.

قوله: {إِذَا فَرِيقٌ} » إذا «هي الفجائيةُ. وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها. وهي جوابُ» إذا «الشرطيةِ أولاً. وهذا أحدُ الأدلةِ على مَنْعِ أن يَعْمَلَ في» إذا «

ص: 426

الشرطيةِ جوابُها؛ فإنَّ ما بعدَ الفجائيةِ لا يَعْمَلُ فيما قبلها، كذا ذكره الشيخ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا، وجوابُ الجمهور عنه.

ص: 427

قوله: {إِلَيْهِ} : يجوزُ تعلُّقُه ب «يَأْتُوا» لأنَّ أتى وجاء قد جاءا مُعَدَّيَيْنِ ب «إلى» . ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ ب «مُذْعِنين» ؛ لأنه بمعنى مُسرِعين في الطاعة. وصَحَّحَه الزمخشري قال: «لِتقدُّم صلتِه ودلالتِه على الاختصاص» . و «مُذعِنين» حالٌ. والإِذْعان: الانقيادُ يُقال: أَذْعَنَ فلانٌ لفِلان أي: انقادَ له. وقال الزجاج: «الإِذعانُ الإِسْراعُ مع الطاعةِ» .

ص: 427

قوله: {أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ} : «أَمْ» فيهما منقطعٌ، تتقدَّرُ عند الجمهورِ بحرفِ الإِضراب وهمزةِ الاستفهامِ. تقديرُه: بل ارْتابوا، بل أيخافون. ومعنى الاستفهام هنام التقريرُ والتوقيفُ، ويُبالَغُ به تارةً في الذمِّ كقوله:

3459 -

ألَسْتَ من القومِ الذينَ تعاهَدُوْا

على اللُّؤْمِ والفَحْشاءِ في سالفِ الدهر

وتارةً في المدح كقولِ جرير:

3460 -

أَلَسْتُمْ خيرَ مَنْ ركبَ المَطايا

وأندى العالمينَ بُطونَ راحِ

ص: 427

و [قوله] : {أَن يَحِيفَ} مفعول الخوف. والحَيْفُ: المَيْلُ والجَوْرُ في القضاءِ.

يقال: حاف في قضائِه أي: مال.

ص: 428

قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين} : العامَّةُ على نصبِه خبراً ل كان، والاسمُ «أنْ» المصدريةُ وما بعدَها. وقرأ أمير المؤمنين والحسنُ وابن أبي إسحاق برفعِه على أنه الاسمُ و «أَنْ» وما في حيِّزها الخبرُ. وهي عندهم مَرْجوحةٌ؛ لأنه متى اجتمع معرفتان فالأَوْلى جَعْلُ الأعرفِ الاسمَ، وإنْ كان سيبويه خَيَّر في ذلك بين كلِّ معرفتين، ولم يُفَرِّق هذه التفرقةَ. وقد تَقَدَّم تحقيقُ هذا في آل عمران.

ص: 428

قوله: {وَيَتَّقْهِ} : القُرَّاءُ فيه بالنسبةِ إلى القافِ على مرتبتين: الأُولى تسكينُ القافِ، ولم يَقْرأ بها إلَاّ حفصٌ، والباقون بكسرِها وأمَّا بالنسبةِ إلى هاءِ الكنايةِ فهي على خمسِ مراتبَ: الأولى تحريكُها مفصولة قولاً واحداً، وبها قرأ ورشٌ وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائي. الثانيةُ: تسكينُها قولاً واحداً. وبها قرأ أبو عمروٍ وأبو بكر عن عاصم. الثالثةُ: إسكانُ الهاءِ أو وَصْلُها بياءٍ وبها قرأ خَلَاّدُ. الرابعةُ: تحريكها من غير صلةٍ. وبها قرأ قالون وحفص. الخامسةُ: تحريكُها موصولةً أو مقصورةً. وبها قرأ هشامٌ.

فأمَّا إسكانُ الهاءِ وقَصْرُها وإشباعُها فقد مَرَّ تحقيقُها مستوفىً في مواضعَ

ص: 428

من هذا التصنيفِ. وأمَّا تسكينُ القافِ فإنهم حَمَلوا المنفصِلَ على المتصلِ: وذلك أنهم يُسَكِّنون عين فَعِل فيقولون: كَبْد وكَتْف وصَبْر في: كَبِد وكَتِف وصَبِر، لأنها كلمةٌ واحدة، ثم أُجْريَ ما أشبَه ذلك من المنفصل مجرى المتصل؛ فإنَّ «يَتَّقْهِ» صار منه «تَقِهِ» بمنزلة «كَتِف» فَسُكِّن كما تُسَكَّن. ومنه:

3461 -

قالَتْ سليمى اشْتَرْ لنا سَوِيقا

بسكونِ الراءِ، كما سَكَّن الآخرُ:

3462 -

فبات مُنْتَصْباً وما تَكَرْدَسا

والآخر:

3463 -

عَجِبْتَ لمَوْلُودٍ وليسَ له أَبُ

وذي وَلَدٍ لم يَلْدَهُ أبوان

يريد: مُنْتَصِباً، ولم يَلِدْه. وقد تَقَدَّم في أولِ البقرةِ تحريرُ هذا الضابطِ في قوله:{فَهِيَ كالحجارة} [الآية: 74] ، وهي وهو ونحوها.

ص: 429

وقال مكي: «كان يجبُ على مَنْ أسكن القاف أَنْ يَضُمَّ الهاءَ؛ لأنَّ هاءَ الكنايةِ إذا سَكَن ما قبلها، ولم يكنْ الساكنُ ياءً ضُمَّتْ نحو: مِنْهُ وعَنْهُ. ولكن لمَّا كان سكونُ القافِ عارضاً لم يُعْتَدَّ به، وأبقى الهاءَ على كسرتِها التي كانت عليها مع كسرِ القافِ، ولم يَصِلْها بياءٍ، لأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاءِ مقدرةٌ مَنْويَّةٌ، فبقي الحذفُ الذي في الياءِ قبل الهاءِ على أصلِه» . وقال الفارسي: «الكسرةُ في الهاءِ لالتقاءِ الساكنين، وليسَتْ/ الكسرةَ التي قبل الصلةِ؛ وذلك أنَّ هاءَ الكنايةِ ساكنةٌ في قراءتِه، ولمَّا أُجْرِيَ» تَقْهِ «مجرى» كَتْف «وسكَّن القافَ التقى ساكنان، ولَمَّا التَقَيا اضْطُرَّ إلى تحريكِ أحدِهما: فإمَّا أَنْ يُحَرِّكَ الأولَ أو الثاني. لا سبيلَ إلى تحريكِ الأولِ لأنه يعودُ إلى ما فَرَّ منه وهو ثِقَلُ فَعِل فحرَّك ثانيهما. وأصلُ التقاءِ الساكنين [الكسر] فلذلك كسرَ الهاءَ ويؤيِّدهُ قولُه:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . لم يَلْدَه أَبَوانِ

وذلك أنَّ أصلَه» لَمْ يلِده «بكسرِ اللام وسكونِ الدال للجزمِ، ثم لَمَّا سَكَّن اللامَ التقى ساكنان، فلو حَرَّك الأولَ لعادَ إلى ما فَرَّ منه، فحَرَّك ثانيهما وهو الدالُ وحَرَّكَها بالفتحِ، وإنْ كان على خلافِ أصلِ التقاءِ الساكنين مراعاةً لفتحةِ الياءِ.

وقد رَدَّ القاسم بن فيره قولَ الفارسي ويقول:» لا يَصِحُّ قولُه: إنه

ص: 430

كسر الهاءَ لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ حفصاً يُسَكِّن الهاءَ في قراءتِه قط «.

وقد رَدَّ أبو عبد الله شارحُ قصيدتِه هذا الردَّ وقال: «وعجبتُ مِنْ نَفْيِه الإِسكانَ عنه مع ثبوتِه عنه في» أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «وإذا قرأه في» أَرْجِهْ «و» فَأَلْقِهْ «احتمل أن يَكونَ» يَتَّقْهِ «عنده قبل سكون القاف كذلك، وربما تَرَجَّح ذلك بما ثَبَتَ عن عاصم مِنْ قراءته إياه بسكونِ الهاء مع كسرِ القاف» .

قلت: لم يَعْنِ الشاطبي بأنه لم يُسَكِّنِ الهاءَ قط، الهاء من حيث هي هي، وإنما عَنَى هاءَ «يَتَّقْهِ» بخصوصِها. وكان الشاطبيُّ أيضاً يعترض التوجيهَ الذي قدَّمْتُه عن مكيّ ويقولُ:«تعليلُه حَذْفَ الصلةِ: بأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاء مقدرةٌ مَنْوِيَّةٌ فبقي في حَذْفِ الصلةِ بعد الهاءِ على أصلِه، غيرُ مستقيم مِنْ قِبَلِ أنه قرأ» يُؤَدِّهي «وشبهِه بالصلة، ولو كان يَعْتَبِرُ ما قاله من تقدير الياءِ قبل الهاءِ لم يَصِلْها. قال أبو عبد الله:» وهو وإنْ قَرَأ «يؤدِّهي» وشِبْهَه بالصلةِ فإنه قرأ «يَرْضَهُ» بغيرِ صلةٍ فألحقَ مكي «يَتَّقْهِ» ب «يَرْضَهُ» وجعله ممَّا خَرَجَ فيه عن نظائرِه لاتِّباع الأثَرِ والجمعِ بين اللغتين. وترجَّح ذلك عنده لأنَّ اللفظَ عليه. وَلَمَّا كانت القافُ في حكمِ المكسورةِ بدليلِ كسرِ القافِ بعدَها صار كأنه «يَتَّقِهِ» بكسرِ القافِ والهاء من غيرِ صلةٍ كقراءةِ قالون وهشام في أحدِ وجهَيْه، فَعَلَّله بما يُعَلِّلُ به قراءتَهما. والشاطبيُّ ترجَّح عنده حَمْلُه على الأكثرِ ممَّا قَرَأَ به، لا على ما قَلَّ ونَدَر، فاقتضى تعليلَه بما ذكَرَ.

ص: 431