المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون - جـ ٨

[السمين الحلبي]

الفصل: قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على

قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ بدلاً من اللفظِ بفعلِه إذ أَصْلُ «أُقْسِمُ باللهِ جَهْدَ اليمين» : أُقْسِمُ بجَهْدِ اليمينِ جَهْداً، فَحُذِفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ موضوعاً مَوْضِعَه مضافاً إلى المفعولِ ك {َضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] ، قاله الزمخشري. والثاني أنه حالٌ تقديرُه: مجتهدين في أَيْمانِهم كقولِهم: أفعَلْ ذلك جَهْدَك وطاقَتَك. وقد خلَطَ الزمخشري الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعدَ ما قَدَّمْتُه عنه: «وحكمُ هذا المنصوبِ حكمُ الحالِ كأنه قيل: جاهدين أَيْمانَهم» . وقد تقدَّم الكلامُ على {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الآية:‌

‌ 53]

في المائدة.

قوله: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: أمرُنا طاعةٌ أو المطلوبُ طاعةٌ. الثاني: أنها مبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ أي: أَمْثَلُ، أو أولى. وقد تقدَّمَ أنَّ الخبرَ متى كان في الأصلِ مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه وَجَبَ حَذْفُ مبتدئِه كقولِه:{صَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] ولا يَبْرز إلَاّ اضطراراً كقوله:

3464 -

فقالَتْ على اسمِ اللهِ أَمرُك طاعةٌ

وإنْ كُنْتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعَوَّدِ

على خلافٍ في ذلك. والثالث: أَنْ تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي: ولْتَكُنْ طاعةٌ ولْتُوْجَدْ طاعةٌ. واستُضْعِفَ ذلك: بأنَّ الفعلَ لا يُحْذَفُ إلَاّ إذا تَقَدَّم

ص: 432

مُشْعِرٌ به كقوله: {يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36] . / في قراءةِ مَنْ بناه للمفعولِ أي: يُسَبِّحه رجالٌ أو يُجاب به نَفْيٌ كقولِكَ: «بلى زيدٌ» لمَنْ قال: لم يقم أحدٌ، أو استفهامٌ كقوله:

3465 -

ألا هَلْ أتى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ

بلى خالد إنْ لم تُعِقْه العَوائقُ

والعامَّةُ على رفعِ «طاعةٌ» على ما تقدَّم. وزيد بن علي واليزيديُّ على نَصبِها بفعلٍ مضمرٍ، وهو الأصلُ. قال أبو البقاء «ولو قُرِىء بالنصبِ لكانَ جائزاً في العربية، وذلك على المصدرِ أي: أَطِيْعوا طاعةً وقولوا قولاً. وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى بعدَها {قُلْ أَطِيعُواْ الله} . قلت ما وَدَّ أن يُقرأَ به قد قُرِىء به كما تقدَّم نَقْلُه. وأمَّا قولُه: و {قُولُواْ قَوْلاً} فكأنه سَبَق لِسانُه إلى آية القتال وهي: {فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} [محمد: 21] ولكن النصبَ هناك ممتنعٌ أو بعيدٌ.

ص: 433

قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ ماضياً، وتكون الواوُ ضميرَ الغائبين. ويكونُ في الكلام التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة. وحَسَّن الالتفاتَ هنا كونُه لم يواجِهْهم بالتَّوَلِّي والإِعراضِ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَتْ إحدى تاءَيْه. والأصل: تَتَوَلَّوْا. ويُرَجَّحُ هذا قراءةُ البزيِّ بتشديدِ التاء: «فإنْ تَّوَلَّوْا» وإن كان بعضُهم يَسْتَضْعِفُها للجمعِ بينَ ساكنين على غيرِ حَدِّهما.

ص: 433

ويُرَجِّحه أيضاً الخطابُ في قولِه: {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} . ودعوى الالتفاتِ من الغيبةِ إلى الخطابِ ثانياً بعيدٌ.

ص: 434

قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} : فيه وجهان، أحدُهما: هو جوابُ قسمِ مضمرٍ أي: أُقْسِم لَيَسْتَخْلِفَنَّهم ويكونُ مفعولُ الوعدِ محذوفاً تقديرُه: وَعَدَهم الاستخلافَ لدلالةِ قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} عليه. والثاني: أَنْ يجريَ «وعد» مَجْرى القسمِ لتحقُّقِه، فلذلك أُجيب بما يُجاب به القَسَمُ.

قوله: {كَمَا استخلف} أي: استخلافاً كاستخلافهم. والعامَّةُ على بناء «اسْتَخْلَفَ» للفاعل. وأبو بكر بناه للمفعول. فالموصولُ منصوبٌ على الأول، ومرفوعٌ على الثاني.

قوله: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} قرأ ابن كثير وأبو بكرٍ «ولَيُبْدِلَنَّهم» بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدال مِنْ «أَبْدَلَ» . وقد تقدَّم توجيهُها في الكهف في قولِه: {أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} [الكهف: 81] .

قوله: {يَعْبُدُونَنِي} فيه سبعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مستأنفٌ أي: جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأنه قيل: ما بالُهم يُسْتَخْلَفون ويُؤَمَّنون؟ فقيل: يَعْبُدونني. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم يعبدونني. والجملةُ أيضاً استئنافيةٌ تقتضي المدحَ. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ «وَعَدَ اللهُ» . الرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعولُ «

ص: 434

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» . الخامس: أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه. السادس: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعولِ «لَيُبَدِّلَنَّهُمْ» . السابع: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِه.

قوله: {لَا يُشْرِكُونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «يَعْبُدُونَنِي» أي: يَعْبُدونني مُوَحِّدين، وأن يكونَ بدلاً من الجملةِ التي قبلَه الواقعةِ حالاً وقد تَقَدَّم ما فيها.

ص: 435

قوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} : فيه وجهان. أحدُهما: أنه معطوفٌ على {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [الآية: 54] . وليس ببعيدٍ أن يقعَ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه فاصلٌ وإنْ طال؛ لأنَّ حَقَّ المعطوفِ أن يكونَ غيرَ المعطوفِ عليه. قاله الزمخشري. قلت: وقولُه: «لأنَّ حَقَّ المعطوفِ» إلى أخره لا يَظْهَرُ علةً للحكمِ الذي ادَّعاه. والثاني: أنَّ قولَه {وَأَقِيمُواْ} من بابِ الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ. وحَسَّنَهُ الخطابُ في قولِه قبل ذلك «منكم» .

ص: 435

قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ} : قرأ العامَّة «لا تَحْسَبنَّ» بتاءِ الخطابِ. والفاعلُ ضميرُ المخاطبِ أي: لا تَحْسَبَنَّ أيها المخاطبُ. ويمتنعُ أو يَبْعُدُ جَعْلُه للرسولِ عليه السلام؛ لأنَّ/ مِثْلَ هذا الحُسْبانِ لا يُتَصوَّر منه حتى ينهى عنه. وقرأ حمزةُ وابن عامرٍ «لا يَحْسَبَنَّ» بياء الغَيْبة وهي قراءةُ حسنةٌ واضحة. فإنَّ الفاعلَ فيها مضمرٌ يعودُ على ما دَلَّ السِّياقُ عليه أي: لا يَحْسَبَنَّ حاسِبٌ أو أحدٌ وإمَّا على الرسولِ لتقدُّم ذِكْرِه. ولكنه ضعيفٌ للمعنى المتقدِّم خلافاً لِمَنْ لَحَّن قارىءَ هذه القراءةِ كأبي حاتم وأبي جعفر

ص: 435

والفراء. قال النحاس: «ما عَلِمْتُ أحداً مِنْ أهلِ العربية بَصْرياً ولا كوفياً إلَاّ وهو يُلَحِّنُ قراءةَ حمزةَ، فمنهم مَنْ يقولُ: هي لحنٌ لأنه لم يأتِ إلَاّ بمفعولٍ واحدٍ ل» يَحْسَبَنَّ «.

وقال الفراء:» هو ضعيفٌ «وأجازه على حَذْفِ المفعولِ الثاني. التقديرُ:» لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجِزين «قلت: وسببُ تَلْحينِهم هذه القراءةَ أنهم اعتقدوا أنَّ» الذين «فاعلٌ، ولم يكُنْ في اللفظِ إلَاّ مفعولٌ واحدٌ وهو» معجزين «، فلذلك قالوا ما قالوا. والجوابُ عن ذلك مِنْ وجوهٍ أحدُها: أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعودُ على ما تقدَّم، أو على ما يُفْهَمُ من السياق، كما سَبَقَ تحريرُه. الثاني: أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ تقديرُه: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنفسَهم مُعْجزين. إلَاّ أنَّ حَذْفَ أحدِ المفعولَيْنِ ضعيفٌ عند البصريين. ومنه قولُ عنترةَ:

3466 -

ولَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه

مني بمَنزِلَة المُحَبِّ المُكْرَمِ

أي: لا تظني غيرَه واقعاً. ولمَّا نحا الزمخشريُّ إلى هذا الوجه قال:» وأن يكونَ الأصلُ: لا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا مُعْجِزين، ثم حُذِف الضميرُ الذي هو المفعولُ الأول. وكأنَّ الذي سَوَّغ ذلك أنَّ الفاعلَ والمفعولَيْن

ص: 436

لَمَّا كانَتْ لشيءٍ واحدٍ اقْتَنَعَ بذكرِ اثنين عن ذِكْر الثالث «فقَدَّرَ المفعولَ الأول ضميراً متصلاً. قال الشيخ:» وقد رَدَدْنا هذا التخريجَ في أواخرِ آلِ عمران في قولِه: {لَا يَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} في قراءةِ مَنْ قرأه بالغَيْبة، وجَعَل الفاعلَ «الذين يَفْرحون» . وملخَّصُه: أن هذا ليس من الضمائر التي يُفَسِّرها ما بعدَها فلا يتقدَّر «لا يَحْسَبَنَّهم» إذ لا يجوزُ: «ظَنَّه زيدٌ قائماً» على رَفْعِ «زيدٌ» ب «ظنَّه» قلت: وقد تقدَّم في الموضعِ المذكورِ رَدُّ هذا الردِّ فعليك بالالتفاتِ إليه.

الثالث: أنَّ المفعولَيْنِ هما قولُه: {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} قاله الكوفيون. ولمَّا نحا إليه الزمخشريُّ قال: «والمعنى: لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أحداً يُعْجِزُ اللهَ في الأرض حتى يَطْمَعوا هم في مثلِ ذلك. وهذا معنىً قويٌّ جيد» .

قلت: قيل: هو خطأٌ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ في «الأرض» ب «مُعْجِزين» فجعله مفعولاً ثانياً كالتهيئةِ للعملِ والقطعِ عنه، وهو نظيرُ:«ظَنَنْتُ قائماً في الدار» .

قوله: {وَمَأْوَاهُمُ النار} فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّ هذه الجملةَ عطفٌ على جملةِ النهيِ قبلَها مِنْ غيرِ تأويلٍ ولا إضمارٍ، وهو مذهبُ سيبويهِ أعني عَطْفَ الجملِ بعضِها على بعض، وإن اختلفَتْ أنواعُها خبراً وطَلَباً وإنشاءً. وقد تقدَّم تحقيقُه في أولِ هذا الموضوعِ والدليلُ عليه. الثاني: أنَّها معطوفةٌ عليها، ولكن بتأويلِ جملةِ النهي بجملةٍ خبريةٍ. والتقدير: الذين كفروا لَا يُفوتون اللهَ ومَأْواهم النار. قاله الزمخشري. كأنه يرى تناسُبَ الجملِ شرطاً في العطفِ. هذا ظاهرُ حالِه. الثالث: أنها معطوفةٌ على جملةٍ مقدرةٍ.

ص: 437

قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني أي: ثلاثةَ أوقاتٍ، ثم فَسَّر تلك الأوقاتَ بقوله:{مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ} {وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء} . والثاني: أنه منصوبٌ على المصدريةِ أي ثلاثةَ استئذاناتٍ. ورجَّحَ الشيخُ هذا فقال/: «والظاهرُ مِنْ قوله» ثلاثَ مرات «. ثلاثةَ استئذاناتٍ لأنَّك إذا قلتَ: ضربْتُ ثلاثَ مراتٍ لا تفْهَمُ منه إلَاّ ثلاثَ ضَرَبات. ويؤيِّده قولُه عليه السلام:» الاستئذانُ ثلاث «قلت: مُسَلَّمٌ أنَّ الظاهرَ كذا، ولكنَّ الظاهرَ هذا متروكٌ للقرينةِ المذكورةِ وهي التفسيرُ بثلاثةِ الأوقاتِ المذكورةِ. وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية» الحُلْمَ «بسكونِ العينِ وهي تميميةٌ.

قوله: {مِّن قَبْلِ صلاوة} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ قوله» ثلاث «فتكونُ في محلِّ نصبٍ. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ» عورات «فيكونُ في محلِّ جر. الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي من قبلِ أي: تلك المراتُ فيكونُ في محلِّ رفعٍ.

قوله: {مِّنَ الظهيرة} فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُهما: أنَّ» مِنْ «لبيانِ الجنس أي:

ص: 438

حين ذلك الذي هو الظهيرةُ. الثاني: أنها بمعنى» في «أي تَضَعُونها في الظهيرةِ. الثالث: أنَّها بمعنى اللام أي مِنْ أَجْلِ حَرِّ الظهيرةِ. وأمَّا قولُه: {وَحِينَ تَضَعُونَ} فعطفٌ على محلِّ {مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر} ، وقوله:{وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء} عطفٌ على ما قبلَه، والظَّهيرةُ: شِدَّةُ الحَرِّ، وهو انتصافُ النهارِ.

قوله: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} قرأ الأخَوان وأبو بكر» ثلاثَ «نصباً. والباقون رفعاً. فالأولى تَحْتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: وهو الظاهر أنَّها بدلٌ مِنْ قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} . قال ابن عطية:» إنما يَصِحُّ البدلُ بتقديرِ: أوقات ثلاثِ عَوْراتٍ، فَحُذِف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه «، وكذا قَدَّره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء. ويحتمل أَنَّه جَعَل نفسَ ثلاثِ المراتِ نفسَ ثلاثِ العوراتِ مبالغةً، فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضافٍ. وعلى هذا الوجهِ أعني وجهَ البدل لا يجوزُ الوقفُ على ما قبل {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} لأنه بدلٌ منه وتابعٌ له، ولا يُوْقَفُ على المتبوعِ دونَ تابعِه.

الثاني: أنَّ {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} بدلٌ مِنَ الأوقاتِ المذكورةِِ قاله أبو البقاء. يعني قولَه: {مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر} وما عُطِفَ عليه، ويكونُ بدلاً على المحلِّ؛ فلذلك نُصِبَ.

ص: 439

الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ. فقَدَّره أبو البقاء أعني. وأَحْسَنُ من هذا التقديرِ» اتَّقوا «أو» احْذروا «ثلاثَ.

وأمَّا الثانية ف» ثلاثُ «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ. وقدَّره أبو البقاء مع حَذْفِ مضافٍ فقال:» أي: هي أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، فحُذِف المبتدأُ والمضافُ «. قلت: وقد لا يُحتاج إليه على جَعْلِ العوراتِ نفسَ الأوقاتِ مبالغةً وهو المفهومُ من كلامِ الزمخشريِّ، وإن كان قد قَدَّره مضافاً كما قدَّمْتُه عنه.

قال الزمخشري: «وسمى كلَّ واحدٍ من هذه الأحوالِ عورةً؛ لأنَّ الناسَ يَخْتَلُّ تَسَتُّرُهم وتَحَفُّظُهم فيها. والعَوْرَةُ: الخَلَلُ ومنه أَعْوَرَ الفارِسُ، وأَعْوَرَ المكانُ. والأَعْوَرُ: المختلُّ العينِ» فهذا منه يُؤْذِنُ بعدمِ تقديرِ أوقاتِ، مضافةً ل «عَوْراتٍ» بخلافِ كلامِه أولاً. فيُؤْخَذُ من مجموعِ كلامِه وجهان، وعلى قراءةِ الرفع وعلى الوجهين قبلها في تخريجِ قراءةِ النصبِ يُوقف على ما قبلَ {ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ} لأنَّها ليسَتْ تابعةً لما قبلها.

وقرأ الأعمش «عَوَرات» وهي لغةُ هُذَيْلٍ وبني تميم: يفتحون عينَ فَعَلات واواً أو ياءً وأُنشِدَ:

3467 -

أخو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبٌ

رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبينِ سَبُوْحُ

ص: 440

قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ وهو الرفعُ نعتاً لثلاث عَوْرات في قراءةِ مَنْ رفعها كأنه قيل: هُنَّ ثلاثُ عَوْراتٍ مخصوصةً بعدمِ الاستئذانِ، وأنْ لا يكونَ لها محلٌّ، بل هي كلامٌ مقرِّر للأمرِ بالاستئذانِ في تلك الأحوالِ خاصةً، وذلك في قراءةِ مَنْ نصب «ثلاثَ عَوْراتٍ» .

قوله: {بَعْدَهُنَّ} قال أبو البقاء: «التقديرُ: بعد استئذانِهم فيهنَّ، ثم حَذَفَ حرفَ الجرِّ والفاعلَ، فبقي: بعد استئذانِهم، ثم حَذَفَ المصدرَ» يعني بالفاعل الضميرَ المضافَ إليه الاستئذانُ فإنه فاعلٌ معنويٌّ بالمصدر. وهذا غيرُ ظاهرٍ، بل الذي/ يَظْهَرُ أنَّ المعنى: ليس عليكم جناحٌ. ولا عليهم أي: العبيدِ والإِماءِ والصبيانِ، في عَدَمِ الاستئذانِ بعد هذه الأوقاتِ المذكورةِ، ولا حاجةَ إلى التقديرِ الذي ذكره.

قوله: {طوافون} خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هم طَوَّافون، و «عليكم» متعلِّقٌ به.

قوله: {بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ} في «بعضُكم» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، و «على بعض» الخبرُ، فقدَّره أبو البقاء «يَطُوْفُ على بعض» . وتكونُ هذه الجملةُ بدلاً مِمَّا قبلها. ويجوز أن تكونَ مؤكدةً مُبَيِّنة. يعني: أنها أفادَتْ إفادَةَ الجملةِ التي قبلها فكانَتْ بدلاً، أو مؤكِّدةَ. ورَدَّ الشيخ هذا: بأنه كونٌ مخصوصٌ فلا يجوزُ حَذْفُه. والجوابُ عنه: أن الممتنعَ الحذفِ إذا لم يَدُلَّ عليه دليلٌ وقُصِد إقامةُ الجارِّ والمجرورِ مُقامَه، وهنا عليه دليلٌ ولم يُقْصَدْ إقامةُ

ص: 441

الجارِّ مُقامَه، ولذلك قال الزمخشري:«خبرُه» على بعض «، على معنى: طائف على بعض، وحُذِفَ لدلالةِ» طَوَّافون «عليه» .

الثاني: أن يَرْتَفِعَ بدلاً مِنْ «طوَّافون» قاله ابن عطية. قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ إنْ قُدِّر الضميرُ ضميرَ غَيْبةٍ لتقدير المبتدأ» هم «لأنَّه يصيرُ التقديرُ: هم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، وهو لا يَصِحُّ. فإنْ جَعَلْتَ التقدير: أنتم يَطُوف بعضُكم على بعضٍ، فيدفَعُه أنَّ قولَه» عليكم «يَدُلُّ على أنهم هم المَطُوفُ عليهم، و» أنتم طَوَّافون «يَدُلُّ على أنَّهم طائِفون فتعارضا» .

قلت: نختار أنَّ التقديرَ: أنتم، ولا يلزَمُ محذورٌ. قوله:«فيدفعه إلى آخره» لا تعارُضَ فيه لأنَّ المعنى: كلٌّ منكم ومِنْ عبيدِكم طائفٌ على صاحبِه، وإن كان طوافُ أحدِ النوعين غيرَ طوافِ الآخَرِ؛ لأنَّ المرادَ الظهورُ على أحوالِ الشخصِ، ويكونُ «بعضُكم» بدلاً من «طَوَّافون» وقيل:«بعضُ» بدلٌ مِنْ «عليكم» بإعادة العاملِ فَأَبْدَلْتَ مرفوعاً مِنْ مرفوعٍ، ومجروراً من مجرور. ونظيرُه قولُ الشاعرِ:

3468 -

فلمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ بعضَه

ببعضٍ أبَتْ عِيدانُه أَنْ تكَسَّرا

ص: 442

ف «بعضُه» بدلُ من «النبعَ» المنصوب، و «ببعض» بدلٌ من المجرورِ بالباء.

الثالث: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّر أي: يطوفُ بعضُكم على بعضٍ، حُذِفَ لدلالةِ «طَوَّافون» عليه. قاله الزمخشري.

وقرأ ابن أبي عبلة «طوَّافين» بالنصبِ على الحال من ضميرِ «عليهم» .

ص: 443

قوله: {والقواعد} : جمع «قاعِد» من غيرِ تاءِ تأنيثٍ. ومعناه: القواعدُ عن النكاحِ، أو عن الحيضِ، أو عن الاستمتاعِ، أو عن الحَبَل، أو عن الجميع. ولولا تَخَصُّصُهُنَّ بذلك لوَجَبَتِ التاءُ نَحو: ضارِبة وقاعِدة من القعود المعروف. وقوله: {مِنَ النسآء} وما بعدَه بيانٌ لهن و «القواعدُ» مبتدأٌ. و «من النساء» حالٌ و «اللاتي» صفةٌ للقواعد لا للنساء. وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ} الجملةُ خبرُ المبتدأ، وإنما دَخَلَتْ لأَنْ المبتدأَ موصوفٌ بموصول، لو كان ذلك الموصولُ مبتدأً لجاز دخولُها في خبرِه، ولذلك مَنَعْتُ أَنْ تكونَ «اللاتي» صفةً للنساء؛ إذ لا يبقى مسوِّغٌ لدخولِ الفاءِ في خبر المبتدأ. وقال أبو البقاء:«ودَخَلَتْ الفاءُ لِما في المبتدأ من معنى الشرطِ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ بمعنى الذي» . وهذا مذهب الأخفش، وتقدم تحقيقُه في المائدة. ولكن هنا ما يُغْني عن ذلك: وهو ما ذَكَرْتُه من وصفِ المبتدأ بالموصولِ المذكورِ.

و {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ} حالٌ مِنْ «عليهنَّ» . والتبرُّجُ: الظهورُ، مِن البُرْج: وهو البناءُ الظاهرُ. و «بزينةٍ» متعلقٌ به.

ص: 443

قوله: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} مبتدأٌ بتأويل: استعفافُهن، و «خيرٌ» خبرُه.

ص: 444

قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} : العامةُ على فتح/ الميمِ، واللامُ مخففةٌ. وابن جبير «مُلِّكْتُم» بضمِ الميمِ وكسرِ اللامِ مشددةً أي: مَلَّككم غيرُكم. والعامَّةُ علكى «مفاتحَه» دونَ ياءٍ جمع مِفْتَح. وجَوَّز أبو البقاء أن يكون جمع «مِفْتَح» بالكسرِ وهو الآلةُ، وأن يكون جمعَ «مَفْتح» بالفتح وهو المصدر. بمعنى الفتح. وابن جبير «مفاتيحَه» بالياء بعد التاء جمع مِفْتاح. والأولُ أقيسُ. وقرأ أبو عمرو في روايةِ هارونَ عنه «مِفتْاحَه» بالإِفراد وهي قراءةُ قتادة.

قوله: {أوْ صَدِيقِكُمْ} العامَّةُ على فتحِ الصادِ. وحميد الخزاز روى كسرَها إتْباعاً لكسرةِ الدال. والصَّدِيْق يقع للواحِد والجمع كالخَليط والقَطِين وشِبْهِهما.

قوله: {جَمِيعاً} حالٌ من «تَأْكُلوا» ، و «أَشْتاتاً» عطفٌ عليه وهو جمعُ شَتّ.

قوله: {تَحِيَّةً} منصوبٌ على المصدرِ مِنْ معنى «فسَلِّموا» فهو من بابِ قَعَدْتُ جُلوساً. وقد تقدَّم وزن التحيَّة. و {مِّنْ عِندِ الله} يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «تحيةً» ، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ «تحيِّة» أي: التحية صادرةً من

ص: 444

جهةِ الله. و «مِنْ» لابتداء الغايةِ مجازاً، إلَاّ أنه يُعَكِّر على الوصفِ تأخُّرُ الصفةِ الصريحةِ عن المُؤَولةِ. وقد تقدَّم ما فيه.

ص: 445

قوله: {على أَمْرٍ جَامِعٍ} : «جامع» مِن الإِسنادِ المجازيِّ؛ لأنَّه لَمَّا كان سبباً في جَمْعِهم نُسِبَ الفعلُ إليه مجازاً. وقرأ اليمانيُّ «على أَمْرٍ جميعٍ» فيُحتمل أَنْ تكونَ صيغةَ مبالغةٍ بمعنى مُجَمِّع، وأَنْ لا تكونَ. والجملةُ الشرطيةُ مِنْ قولِه:{وَإِذَا كَانُواْ} وجوابِها عطفٌ على الصلةِ مِنْ قوله: «آمَنوا» .

قوله: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} تعليلٌ أي: لأجلِ بعضِ حاجتِهم. وأظهر العامَّةُ الضادَ عند الشينِ، وأدغَمها أبو عمرٍو فيها لِما بينهما من التقارُبِ؛ لأنَّ الضادَ من أقصى حافةِ اللسانِ، والشينَ مِنْ وسَطِه. وقد اسْتَضْعَفَ جماعةٌ من النَّحَويين هذه الروايةَ واسْتَبْعدوها عن أبي عمرٍو رأسِ الصناعةِ من حيث إن الضادَ أقوى من الشين، ولا يُدْغم الأقوى في الأضعف. وأساء الزمخشري على راويها السوسي.

وقد أجاب الناس فقال: «وجهُ الإِدغامِ أن الشينَ أشدُّ استطالةً من الضادِ، وفيها نَفَسٌ ليس في الضادِ، فقد صارَتِ الضادُ أنقصَ منها، وإدغامُ الأنقصِ في الأَزْيد جائزٌ» . قال: «ويؤيِّد هذا أن سيبويه حكى عن بعضِ

ص: 445

العرب» اطَّجَعَ «في» اضْطجع «، وإذا جاز إدغامُها في الطاءِ فإدغامُها في الشين أَوْلى» . والخَصْمُ لا يُسَلِّمُ جميعَ ما ذُكِرَ، وسَنَدُ المَنْعِ واضحٌ.

ص: 446

قوله: {دُعَآءَ الرسول} : يجوزُ أَنْ يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لمفعولِه أي: دعاءَكم الرسولَ بمعنى: أنَّكم لا تنادُوه باسمِه فتقولون: يا محمدُ، ولابكُنيته فتقولون: يا أبا القاسمِ، بل نادُوه وخاطِبوه بالتوقير: يا رسولَ الله يا نبيَّ الله. وعلى هذا جماعةٌ كثيرةٌ، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل. واختلفت عباراتُ الناسِ في هذا المعنى فقيل: لا تَجْعَلوا دعاءَه إيَّاكم كدعاءِ بعضٍ لبعضٍ فتتباطَؤُون عنه، كما يتباطَأُ بعضُكم عن بعضٍ إذا دعاه لأمرٍ، بل يجبُ عليكم المبادرةُ لأمرِه. واختاره أبو العباس، ويؤيِّدُه قوله:{فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} . وقيل: معناه لا تَجْعَلوا دعاءَ الرسولِ ربَّه مثلَ ما يَدْعو صغيرُكم كبيرَكم، وفقيرُكم غنيَّكم يَسْأله حاجةً، فرُبمَّا تُجابُ دعوتُه، ورُبَّما لا تُجاب. وإنْ دَعَواتِ الرسولِ عليه السلام مسموعةٌ مستجابةٌ. . . في التخريجةِ الأخرى.

وقرأ الحسنُ «نَبِيِّكم» بتقديم النونِ على الباء المكسورةِ [بعدَها] ياءٌ مشدَّدةٌ مخفوضةٌ مكانَ «بينَكم» الظرفِ في قراءة العامَّة. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه بدلٌ من الرسول. الثاني: أنه عطفُ بيانٍ له لأنَّ النبيَّ [رسولٌ]، بإضافتِه إلى المخاطبين صار أشهرَ من الرسول. الثالث: أنَّه نعتٌ. لا يُقال: إنَّه

ص: 446

لا يجوزُ لأنَّ هذا كما قَرَّرْتُمْ أعرفُ، والنعتُ لا يكونُ أعرفَ مِنَ المنعوتِ. بل إمَّا أقلُّ أو مساوٍ؛ لأنَّ الرسولَ صار عَلَماً بالغَلَبةِ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقد تَسَاويا تعريفاً.

قوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله} قد تَدُلُّ على التقليلِ مع المضارع إلَاّ في أفعالِ اللهِ تعالى، فتدُلُّ على التحقيقِ كهذه الآيةِ. وقد رَدَّها بعضُهم إلى التقليلِ لكنْ إلى متعلِّقٍ العلمِ، يعني أنَّ الفاعِلين لذلك قليلٌ، فالتقليلُ ليس في العِلْمِ بل في متعلَّقِه.

قوله: {لِوَاذاً} فيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ من معنى الفعلِ الأولِ؛ إذ التقديرُ: يَتَسَلَّلُون منكم تَسَلُّلاً، أو يُلاوِذُون لِواذاً. والثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ أي مُلاوِذين. واللِّواذُ: مصدرُ لاوَذَ. وإنَّما صَحَّتِ الواوُ وإنْ انكسَرَ ما قبلها، ولم تُقْلَبْ ياءً كما قُلِبَتْ في قيام وصِيام؛ لأنها صَحَّتْ في الفعلِ نحو: لاوَذَ فلو أُعِلَّتْ في الفعلِ أُعِلَّتْ في المصدرِ نحو: القيام والصِّيام لقَلْبها ألفاً في قام وصام. فأمَّا مصدرُ لاذَ بكذا يَلُوْذُ بهِ/ فمعتلٌّ نحو: لاذَ لِياذاً، مثل: صام صِياماً وقام قِياماً. واللِّواذُ والمُلاوَذَةُ: التَّسَتُّرُ يُُقال: لَاوَذَ فلانٌ بكذا أي: اسْتَتَر به. واللَّوْذُ: ما يَطِيْفُ بالجبل. وقيل: اللِّواذُ: الرَّوَغانُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ في خُفْيَةٍ. وفي التفسير: أنَّ المنافقين كانوا يَخْرُجون مُتَسَترين بالناسِ من غيرِ استئذانٍ حتى لا يُرَوا. والمفاعَلَةُ: لأنَّ كلاً منهم يَلُوْذُ بصاحبهِ فالمشاركةُ موجودةٌ.

وقرأ يزيد بن قطيب «لَواذاً» بفتحِ اللامِ، وهي محتملةٌ لوجهين

ص: 447

أحدُهما: أَنْ تكونَ مصدرَ «لاذ» ثلاثياً فتكون مثلَ: طافَ طَوافاً.

وصَلَحَتْ أَنْ تكونَ مصدرَ لاوَذَ، إلَاّ أنَّه فُتِحَتْ الفاءُ إتباعاً لفتحةِ العينِ وهو تعليلٌ ضعيفٌ يَصْلُحُ لمثلِ هذه القراءةِ.

قوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين} فيه وجهان، أشهرُهما: وهو الذي لا يَعْرِف النحاةُ غيرَه أنَّ الموصولَ هو الفاعلُ و «أن تصيبَهم» مفعولُه أي: فَلْيَحْذَرِ المخالفون عن أمرِه إصابتَهم فتنةٌ. والثاني: أنَّ فاعل «فَلْيَحْذَرْ» ضميرٌ مستترٌ، والموصولُ مفعولٌ به. وقد رُدَّ على هذا بوجوهٍ منها: أنَّ الإِضمارَ على خلافِ الأصلِ. وفيه نظرٌ؛ لأن هذا الإِضمارَ في قوةِ المنطوقِ به، فلا يُقال: هو خلافُ الأصلِ. ألا ترى أنَّ نحوَ: قُمْ ولْتقم فاعلُه مضمرٌ، ولا يُقال في شيءٍ منه: هو خلافُ الأصلِ، وإنما الإِضمارُ خلافُ الأصلِ فيما كان حَذْفاً نحو:{وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] .

ومنها أنَّ هذا الضميرَ لا مَرْجعَ له أي: ليس له شيءٌ يعودُ عليه فَبَطَلَ أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً، وأُجيب: بأنَّ الذي يعودُ عليه الضميرُ هو الموصولُ الأولُ أي: فَلْيَحْذَرِ المُتَسَلِّلون المخالِفينَ عن أمرِه فيكونون قد أُمِرُوا بالحَذَرِ منهم أي: أُمِروا باجتنابهم كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ. وقد رَدُّوا هذا بوجهين، أحدُهما: أنَّ الضميرَ مفردٌ، والذي يعودُ عليه جمعٌ، فقاتَتِ المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسيرِ الضمائر. الثاني: أنَّ المُتَسَللين هم المخالِفُون، فلو أُمِروا بالحَذَرِ عن الذين يُخالِفُون لكانوا قد أُمِروا بالحَذَرِ من أنفسهم، وهو لا يجوز؛ لأنَّه لا يمكِنُ أَنْ يُؤْمَروا بالحَذَرِ من أنفسهم.

ويمكنُ أَنْ يُجابَ عن الأولِ: بأنَّ الضميرَ وإن كان مفرداً فإنما عاد على

ص: 448

جمعٍ باعتبارِ أنَّ المعنى: فليحذَرْ هو. أي: مِنْ ذِكْرِ مثلِ ذلك. وحكى سيبويه «ضرَبني وضربْتُ قومَك» أي: ضربني مَنْ ثَمَّ ومَنْ ذُكِر، وهي مسألةٌ معروفةٌ في النحوِ، أو يكونُ التقديرُ: فليحذَرْ كلُّ واحدٍ من المُتَسَلِّلين. وعن الثاني: بأنه يجوزُ أَنْ يُؤْمَرَ الإِنسانُ بالحَذَرِ عن نفسِه مجازاً. يعني أنَّه لا يطاوعُها على شهواتِها وما تُسَوِّلُه له من السوءِ. كأنه قيل: فَلْيحذرِ المخالفونَ أنفسَهم، فلا يُطِيْعوها في ما تَأْمُرُهُمْ به، ولهذا يُقال: أَمَر نفسَه ونهاها، وأَمَرَتْه نفسُه باعتبار المجازِ.

ومنها: أنَّه يَصيرُ قولُه: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُفْلَتاً ضائِعاً؛ لأنَّ «يَحْذَرُ» يتعدَّى لواحدٍ، قد أَخَذَه على زَعْمِكم وهو «الذين يُخالفون» ، ولا يتعدى إلى اثنين حتى يَقُولوا: إنَّ «أنْ تصيبَهم فتنةٌ» في محلِّ مفعولِه الثاني فبقي ضائعاً. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يُسَلَّم ضَياعُه؛ لأنه مفعولٌ من أجله. واعتُرِضَ على هذا: بأنه لم يَسْتكمل شروطَ النصبِ لاختلافِ الفاعلِ؛ لأنَّ فاعلَ الحَذَرِ غيرُ فاعلِ الإِصابةِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ يَطَّرِدُ مع أَنْ وأنَّ. فنقول: مُسَلَّمٌ شروطُ النصبِ غيرُ موجودة، وهو مجرورٌ باللامِ تقديراً، وإنما حُذِفَتْ مع «أَنْ» لطولِها بالصلة.

و «يُخالِفُون» يتعدى بنفسِه نحو: خالَفْتُ أَمْرَ زيدٍ، و «إلى» نحو: خالَفْتُ إلى كذا، فكيف تعدى هذا بحرفِ المجاوزِة؟ وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه ضُمِّن معنى صَدَّ وأَعْرَضَ أي: صدَّ عن أمرِه وأَعْرَضَ عنه مخالِفاً له. والثاني: قال ابن عطية: «معناه يَقَعُ خلافُهم بعدَ/ أَمْرِه، كما تقول: كان المطر عن ريحِ

ص: 449

كذا، وعَنْ لما عدا الشيءَ» . الثالث: أنها مزيدةٌ أي: يخالفون أمرَه، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة، والزيادةُ خلافُ الأصلِ.

وقُرِىء «يُخَلِّفون» بالتشديد، ومَفْعولُه محذوفٌ أي: يُخَلِّفون أنفسَهم.

ص: 450

قوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} : قال: الزمخشري: «أَدْخَلَ» قد «ليؤكِّد عِلْمَه بما هم عليه من المخالفةِ عن الدينِ والنفاق، ويرجع توكيدُ العلمِ إلى توكيدِ الوعيدِ: وذلك أنَّ» قد «إذا دَخَلَتْ على المضارعِ كانت بمعنى» رُبَّما «فوافَقَتْ» رُبَّما «في خروجِها إلى معنى التكثير في نحو قوله:

3469 -

فإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناءِ فرُبَّما

أقامَ به بعدَ الوُفودِ وُفودُ

ونحوٌ من ذلك قولُ زهير:

3470 -

أَخي ثقةٍ لا تُهْلِكُ الخمرُ مالَه

ولكنَّه قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ

قال الشيخ:» وكونُ «قد» إذا دَخَلَت على المضارعِ أفادَتِ التكثير قولٌ

ص: 450

لبعضِ النحاةِ. وليس بصحيحٍ، وإنما التكثيرُ مفهومٌ من السِّياق. والصحيحُ: أنَّ «رُبَّ» للتقليلِ للشيءِ، أو لتقليلِ نظيرِه. وإنْ فُهِم تكثيرٌ فمِنْ السِّياقِ لا منها «.

{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ} في» يوم «وجهان أحدُهما: أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ لعطفِه على قولِه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي: يعلمُ الذي أنتم عليه مِنْ جميعِ أحوالِكم، ويَعْلَمُ يومَ يُرْجَعُون كقولِه: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَاّ هُوَ} . والثاني: أنه ظرفٌ لشيءٍ محذوف. قال ابن عطية:» ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: والعلمُ الظاهرُ لكم أو نحو هذا يومَ، فيكونُ النصبُ على الظرفِ «انتهى.

وقرأ العامَّةُ» يُرْجَعون «مبنياً للمفعول. وأبو عمرو في آخرين مبنياً للفاعلِ. وعلى كلتا القراءتين فيجوزُ وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في الكلامِ التفاتٌ من الخطابِ في قولِه: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} إلى الغَيْبة في قوله:» يُرْجَعون «. والثاني: أنَّ» ما أنتم عليه «خطابٌ عامٌّ لكلِّ أحدٍ. والضميرُ في» يُرْجَعُون «للمنافقين خاصةً، فلا التفاتَ حينئذٍ.

ص: 451