المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاعتراضات الواردة على القياس - الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع - جـ ٣

[أحمد بن إسماعيل الكوراني]

الفصل: ‌الاعتراضات الواردة على القياس

‌الاعتراضات الواردة على القياس

قوله: "القوادح".

أقول: المستدل كالمحارب لا بد له من قوة، وآلة يستعين بها على الخصم، ثم قوته هى فطرته، وقابليته، وسلاحه مقدمات دليله، وكلما كان دليله أقوى كان غالبًا لا يغالب، لكن كما أن السلاح إنما يؤثر عند عدم معاوق، كذلك الدليل إنما يستلزم المطلوب إذا لم يعاوقه عائق.

فالخصم له مقامات، مع المستدل (1):

إما أن يقدح في مقدمة من مقدمات دليله إجمالًا، أو تفصيلًا، وإما أن يسلم صحتها، ولكن يعارضه بمثل دليله، فقد علم أن مرجع جميع الاعتراضات إلى المنع، والمعارضة.

(1) لما فرغ من الكلام على الطرق الدالة على العلية شرع في ذكر ما يحتمل أنه من مبطلاتها، أو مبطلات غيرها من الأدلة، ويعبر عنها تارة بالاعتراضات، وتارة بالقوادح.

والذاكرون لها يقولون: إنها من مكملات القياس الذي هو من أصول الفقه، ومكمل الشيء من ذلك الشيء.

أما الإمام الغزالي لم يذكر في المستصفى: شيئًا من القوادح بالتفصيل وقال: إن موضع ذكرها علم الجدل، ولكنه تناولها، وعقد لها بابًا مستقلًا في كتابه المنخول، وفصل القول فيها.

راجع: المستصفى: 2/ 349، والمنخول: ص/ 401 وما بعدها.

ص: 315

قوله: "منها تخلف الحكم".

أقول: من شرط العلة الاطراد، وهو وجدان الحكم حيث وجد الوصف المدعى عليته، وعدمه يسمى نقضًا إجماليًا لعدم تعين المقدمة الممنوعة (1).

وغايته: أن يقول: لو كان وصفك علة ما تخلف عنه الحكم (2).

والنقض معتبر (3) مطلقًا عند الجمهور، وعزاه المصنف إلى الشافعي وقيل: لا يعتبر مطلقًا، بل يجعل من قبيل تخصيص العلة، وعزاه إلى الحنفية، وهو قول بعضهم (4).

(1) راجع كلام الأصوليين على النقض: أصول السرخسي: 2/ 233، واللمع: ص/ 64، والبرهان: 2/ 977، والحدود للباجي: ص/ 76، والمعتمد: 2/ 451، وأصول الشاشي: ص/ 352، والجدل لابن عقيل: ص/ 56، والمستصفى 2/ 336، وشفاء الغليل: ص/ 458، والمنخول: ص/ 404، والمغني للخبازي: ص/ 318، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 323، وروضة الناظر: ص/ 342، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 399، وشرح العضد: 2/ 268، ومختصر الطوفي: ص/ 167، ومختصر البعلي: ص/ 154.

(2)

كأن يقول الشافعي في تعليل، وجوب تبييت النية في الصوم الواجب: صوم عري أوله عن النية، فلا يصح كالصلاة، فيقول الحنفي: هذا ينتقض بصوم التطوع، فإنه يصح بدون التبييت، فقد وجدت العلة، وهي العري في أوله بدون الحكم.

راجع: المحلي مع البناني: 2/ 295، وهمع الهوامع: ص/ 360، وشرح الكوكب المنير: 4/ 56.

(3)

يعني أنه يقدح، وهو مذهب أكثر أصحاب الشافعي، وكثير من المتكلمين واختاره من الحنفية الماتريدي، وفخر الإسلام، وشمس الأئمة، وأبو الحسين المعتزلي.

راجع: كشف الأسرار: 3/ 365، وأصول السرخسي: 2/ 208، والمسودة: ص/ 412، والتبصرة: ص/ 460، 466، والمحلي مع البناني: 2/ 294، وإرشاد الفحول: ص/ 207.

(4)

راجع: فتح الغفار: 3/ 38، وفواتح الرحموت: 2/ 276 - 278، وتيسير التحرير: 4/ 9.

ص: 316

قال فخر الإسلام البزدوي: "من أصحابنا من أجاز تخصيص العلل (1)، والتخصيص غير المناقضة، لأن النقض إبطال يقتضي سبق الفعل، كنقض البناء.

والتخصيص بيان أن المخصوص لم يدخل، فلا يكون نقضًا".

والصحيح عندهم قبوله، وأن نسبة عدم الحكم إلى عدم العلة لا إلى المانع ليكون مخصصًا.

وقيل: لا يقدح في المستنبطة، لأن دليل المستنبطة اقتران الحكم فإذا انتفى بطل عليته، لعدم ثبوت الشيء بدون الدليل، بخلاف المنصوصة، فإن دليلها النص، وهو قائم في صورة التخلف.

والجواب: أن اجتهاد المجتهد بمنزلة النص، والوصف لا بد له من مناسبة، مع الحكم، فلو كان صالحًا للعلية لما تخلف عنه.

وقيل: لا يقدح في المنصوصة؛ لأن للشارع تاخير البيان إلى وقت الحاجة، بخلاف المجتهد حيث عين العلة (2).

(1) راجع: أصول البزدوي، مع كشف الأسرار: 4/ 32 - 33.

(2)

مثال عدم القدح في المنصوصة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك عرق"، مع القول بعدم النقض بالخارج النجس من غير السبيلين.

ومثال القدح في المستنبطة: تعليل القصاص بالقتل العمد العدوان مع انتفائه في قتل الأب.

راجع: المحلي مع البناني: 2/ 296 - 297، وتشنيف المسامع: ق (118/ ب)، والغيث الهامع: ق (127/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 261.

ص: 317

فإذا تخلف الحكم ليس له أن يقول: أردت غير تلك الصورة وإلا ينسد باب المنع.

والجواب: تخلف الحكم في صورة دليل عدم صلوح الوصف للعلية سواء كان طريق الثبوت النص، أو الاستنباط.

وقيل: يقدح فيهما إلا إذا كان ذلك التخلف لمانع، أو فقد شرط للحكم، وعليه أكثر الفقهاء (1) لأن عدم الحكم إذا لم يكن لمانع، أو فقد شرط لا بد وأن يكون لعدم المقتضي، فلو كان الوصف علة لما تخلف عنه الحكم.

وقيل: يقدح إلا أن يرد على جميع المذاهب كالعرايا، فإن جواز بيع العرايا، وارد على جميع الأقوال في ربا المطعوم، لأنها إما الطعم، أو القوت، أو الكيل، أو كونه مالًا، ومثله في الحقيقة كالمستثنى، والمعدول عن سنن القياس، وبه صرح في المحصول (2).

وقيل: يقدح في العلة المحرِّمة دون المبيحة، لأن التحريم خلاف الأصل بخلاف الإباحة.

(1) راجع: المحصول: 2/ ق/ 2/ 324، والإبهاج: 3/ 85، ونهاية السول: 4/ 146، وهو اختيار الصفي الهندي، والبيضاوي.

(2)

راجع: المحصول: 2/ ق/ 2/ 352، واختاره، ونقل الإجماع على أن حرمة الربا لا تعلل إلا بأحد هذه الأربعة، وجزم به في المنهاج، ومقتضى كلامه أنه ليس من محل الخلاف.

راجع: الإبهاج: 3/ 85.

ص: 318

وقيل: يجوز في النص الظني إذا كان عامًا، بخلاف ما إذا كان قطعيًا، فإنه لا يمكن تخلف الحكم عنه.

وكذا إذا لم يكن عامًا، بل خاصًا بمحل الحكم، لأنه لا يتصور التخلف، مع اختصاص الوصف بمحل الحكم.

وقيل: يقدح في المستنبط إلا لمانع، أو فقد شرط، واختاره ابن الحاجب (1)، والدليل له ما تقدم من انتفاء الحكم إن لم يكن لمانع، أو فقد شرط، فلا بد وأن يكون لعدم المقتضي. والجواب هو الجواب.

وقيل: إن كانت منصوصة بما لا يقبل التأويل، أو كان التخلف لمانع، أو فقد شرط، أو في معرض الاستثناء لم يقدح، وإلا قدح، وهو المختار عند الآمدي (2).

وعلى هذا، فالمنصوصة من غير احتمال التأويل، أو كان التخلف في المستنبطة والمنصوصة لمانع (3)، أو فقد شرط، أو كان التخلف في معرض الاستثناء لا نقض.

(1) راجع: المختصر مع شرح العضد: 2/ 218.

(2)

راجع: الإحكام: 3/ 31.

(3)

كتعليل إيجاب القصاص بالقتل العمد العدوان تخلف عنه الحكم في الأب، والسيد لمانع الأبوة، والسيادة.

ومثال التخلف لفقد الشرط تعليل وجوب الرجم بالزنى تخلف الحكم عنه في البكر لانتفاء شرطه، وهو الإحصان. =

ص: 319

والمراد بالنص دليل الكتاب، والسنة مطلقًا، لا النص المصطلح، فلا يرد أن النص لا يقبل التأويل، ثم الخلاف في المسألة معنوي لا لفظي كما توهم (1).

ويتفرع على ذلك بعض الأحكام:

منها: التعليل بعلتين، ومنها: انقطاع المستدل، وانخرام المناسبة بالتخلف.

أما كون التعليل بعلتين من فروع المسألة، فلأن التخلف نقض مطلقًا عند المصنف سواء كان لمانع، أو لا، فإذا حصل الحكم بعلة تمنع حصوله بعلة أخرى، فيكون نقضًا لتخلف الحكم عن العلة، هذا كلام المصنف في شرح مختصر ابن الحاجب (2)

= ومثال التخلف للاستثناء تخلف إيجاب المثل في لبن المصراة عن العلة الموجبة له، وهي تماثل الأجزاء بالعدول إلى إيجاب الصاع من التمر، وتخلف وجوب العزم عمن صدر منه الجناية في ضرب الدية على العاقلة، وتخلف حكم الربا مع وجود الطعم في العرايا.

راجع: همع الهوامع: ص/ 362 - 363، والمحلي مع البناني: 2/ 297، وتشنيف المسامع: ق (118/ ب)، والغيث الهامع: ق (127/ ب).

(1)

والخلاف مبني على تفسير العلة، فإن فسرت بما يستلزم وجوده وجود الحكم، وهو معنى المؤثر، فالتخلف قادح، وإن فسرت بالباعث، أو بالمعرف فلا، وقد اعتبر إمام الحرمين، وابن الحاجب الخلاف فيها لفظيًا.

راجع: البرهان: 2/ 1000 وما بعدها، ومختصر ابن الحاجب: 2/ 219، مع شرحه للعضد، وتشنيف المسامع: ق (118/ ب)، والمحلي مع البناني: 2/ 298، وهمع الهوامع: ص/ 363، ورفع الحاجب: 2/ ق/ 149/ ب.

(2)

راجع: رفع الحاجب: 2/ ق/ 149/ ب.

ص: 320

وبعضهم (1) لما لم يفهم كلام المصنف هنا، ولا وقف على ما في شرح المختصر قال: تفريع هذه المسألة سهو؛ لأن الكلام في تخلف الحكم عن علته، وهذا من تخلف العلة عن الحكم (2).

ومع قطع النظر عن كلام المصنف، ما قاله هذا القائل غير معقول، لأن تخلف الشيء عن آخر يستلزم سبقه، ولا يتصور تقدم الحكم على العلة حتى تتخلف عنه.

قوله: "وجوابه".

أقول: على تقدير أن يكون التخلف قادحًا جوابه بوجوه:

الأول: منع وجود العلة في صورة التخلف لفوات قيد مناسب بحسب اعتباره (3).

الثاني: منع انتفاء الحكم إذا لم يكن الانتفاء مذهبًا للمستدل، أو له، وللخصم (4).

(1) جاء في هامش (أ، ب): "المحلي".

(2)

راجع: المحلي مع البناني: 2/ 298، وهمع الهوامع: ص/ 363.

(3)

كقولهم: النباش آخذ لنصاب من حرز مثله عدوانًا خفية، فهو سارق فيقطع، فإن نقض بما إذا أخذ من قبر بمفازة حيث لا يقطع في الأصح، فيجاب بأنه ليس من حرز مثله، فلم توجد العلة.

(4)

كقولهم: السَّلَم عقد معاوضة، فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع، فإن نقض بالإجارة، فإنها عقد معاوضة، والتأجيل شرط فيها.

فيجاب بأن اشتراط الأجل في الإجارة ليس لصحة العقد، بل ليستقر المعقود عليها وهو المنفعة، فإن استقرار المنفعة في الحال وهي معدومة محال.

ص: 321

الثالث: أن يبين مانعًا من ثبوت الحكم في صورة النقض (1)، وهذا إنما يستقيم عند من يجعل تخلف الحكم لمانع غير قادح.

وإذا أجاب المستدل على الوجه المذكور، فليس للمعترض الاستدلال على وجود العلة في الصورة المذكورة، لأن الاستدلال ليس بمنصب له، فيلزم الانتقال، والانتشار (2).

وقيل: له ذلك، لأنه وإن كان في الصور مستدلًا، ففي المعنى مانع لعلية الوصف، ومبطل لها، فلو لم يمكن ذلك لم يتم مطلوبه.

وهذا إنما يتمشى إذا كان جواب المستدل يمنع وجود العلة في صورة التخلف لا بانتفاء الحكم، أو بيان المانع (3).

(1) كقولهم: يجب القتل بمثقل كالمحدد، فإن نقض بقتل الأب ابنه بمثقل، فإن الوصف موجود فيه، مع تخلف الحكم.

فيجاب بأن ذلك لمانع، وهو كون الأب كان سببًا لإيجاده، فلا يكون هو سببًا لإعدامه.

راجع: المحلي مع البناني: 2/ 299، وهمع الهوامع: ص/ 363، وتشنيف المسامع: ق (119/ أ)، والغيث الهامع: ق (127/ ب - 128/ أ)، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 343 - 346.

(2)

وبه قال الأكثر، وجزم الفخر الرازي، والبيضاوي بذلك.

راجع: المحصول: 2/ ق/ 2/ 343 - 344، والإبهاج: 3/ 104، ونهاية السول: 4/ 167، وروضة الناظر: ص/ 342، ومختصر الطوفي: ص/ 167، ومختصر البعلي: ص/ 154.

(3)

راجع: تشنيف المسامع: ق (119/ أ)، والغيث الهامع: ق (128/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 300، وهمع الهوامع: ص/ 364.

ص: 322

وقال الآمدي: ليس له ذلك إن وجد له دليل آخر للقدح أولى من النقض، وإن لم يوجد يمكن (1) منه لإتمام مطلوبه (2).

وحكى ابن الحاجب مذهبًا آخر، وهو أنه يمكن ما لم تكن العلة حكمًا شرعيًا (3)، بل أمر حقيقيًا، لأن الاشتغال بإثبات حكم شرعي آخر انتقال ظاهر، بخلاف غيره، فإن الانتقال فيه غير ظاهر.

هذا في العلة نفسها أما لو استدل المستدل على وجود العلة في محل التعليل، بدليل موجود في محل النقض، فمنع المعترض وجود العلة في صورة النقض، فهل له أن يقول: دليلك على العلة منتقض؟

فالحق: أنه لا يسمع منه ذلك، لأنه انتقال من نقض العلة إلى دليلها.

قوله: "والصواب"، تعريض بابن الحاجب حيث زعم أن القدح في دليل العلة قدح فيها (4)، فلا يكون انتقالًا وهذا إنما يكون عند عدم الترديد.

أما لو قال: أحد الأمرين لازم إما انتقاض العلة، أو دليلها كان مسموعا اتفاقًا إذ لا انتقال، غايته الاستظهار بزيادة الدليل.

هذا الذي ذكرنا إذا كان جواب المستدل منع وجود العلة في صورة النقض.

(1) آخر الورقة (114/ ب من أ).

(2)

راجع: الإحكام للآمدي: 3/ 154.

(3)

راجع: مختصر ابن الحاجب مع شرحه للعضد: 2/ 268.

(4)

راجع: مختصر ابن الحاجب مع شرحه للعضد: 2/ 268.

ص: 323

أما لو منع انتفاء الحكم الذي ادعاه الخصم (1) فإن كان انتفاء الحكم مجمع عليه، أو عند المستدل، فلا يسمع منه.

وعندي في هذا نظر، لأن الباحث لا يلتزم مذهبًا، فيجب على الخصم إثبات ما منعه.

وإذا لم يكن مجمعًا عليه، ولا مذهبه، فهل للمعترض الاستدلال على تخلف الحكم ثلاثة أقوال:

له ذلك إتمامًا لمطلوبه (2).

الأصح ليس له ذلك إذ الاستدلال ليس منصبه (3).

الثالث: له ذلك ما لم يكن له طريق في القدح أولى من ذلك (4).

قوله: "ويجب الاحتراز".

أقول: إذا قلنا: إن النقض قادح على ما هو المختار، فهل يجب الاحتراز عنه ابتداء أم لا يجب (5)؟ .

(1) آخر الورقة (109/ ب من ب).

(2)

وهو نقض العلة.

(3)

لأنه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال وهذا مذهب أكثر النظار.

(4)

راجع: المحلي مع البناني: 2/ 300، والمسودة: ص/ 431، وهمع الهوامع: ص/ 365، وشرح الكوكب المنير: 4/ 286.

(5)

كما لو قال: في الذرة مطعوم فيجب فيه التساوي كالبر، فلا حاجة إلى أن يقول: ولا حاجة تدعو إلى التفاضل فيه لتخرج العرايا فإنه وارد على كل تقدير سواء علل بالطعم، أو القوت، أو الكيل، أو المال، فلا تعلق له بإبطال مذهب، وتصحيح آخر. =

ص: 324

الأكثرون على عدم الوجوب، لأن ما يوجب الحكم هو الوصف، وقد أثبته بأحد مسالك العلية، فلا ضرورة له بغيره.

ومختار المصنف التفصيل، وهو أن المستدل إما مناظر، أو ناظر، فيجب على الأول مطلقًا سواء كان من الصور المشهورة المستثناة أم لا، لأنه بصدد إلزام الخصم، ولا يمكن حصوله إلا بالمقتضي، وارتفاع المانع.

وأما إذا كان ناظرًا، فلا يخلو إما أن يكون النقض بالمستثنيات المشهورة كالعرايا، فلا يجب الاحتراز عنه لأنه في حكم المذكور، لشهرته.

وقيل: يجب عليه مطلقًا إذ ليس غير المذكور كالمذكور فتحسم مادة الشبهة.

وقيل: لا يجب عليه في المستثنيات مطلقًا لأنها ليست محل النزاع.

قوله: "ودعوى صورة معينة، أو مبهمة".

لما كان النقض تخلف الحكم عن العلة، أورد بحث التناقض بين القضايا (1).

= راجع: روضة الناظر: ص/ 342، والمسودة: ص/ 430، ومختصر الطوفي: ص/ 167، ومختصر البعلي: ص/ 154، وتشنيف المسامع: ق (119/ ب)، والغيث الهامع: ق (128/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 365.

(1)

وهو جمع قضية، وهي: قول يحتمل الصدق والكذب لذاته، فالقول: يشمل جميع الأقوال المركبة.

وقولهم: لذاته يخرج به الإنشاء لأنه يحتمل الصدق والكذب باعتبار لازمة لا باعتبار ذاته، ويدخل فيه الأخبار المقطوع بصدقها بداهة، وعقلًا، أو المقطوع بكذبها بداهة، وعقلًا. =

ص: 325

وحاصله: أن الموجبة (1) الجزئية -سواء كان الحكم فيها على معين مثل زيد كاتب (2)، أو على مبهم مثل إنسان ما كاتب (3) - نقيضها السالبة (4) الكلية مثل: لا شيء من الإنسان بكاتب، والعكس (5) كذلك مثل: بعض الإنسان ليس بكاتب، أو زيد ليس بكاتب، يناقضها كل إنسان كاتب (6).

= فتسمى من حيث اشتمالها على الحكم قضية، ومن حيث احتمال الصدق، والكذب خبرًا، ومن حيث إفادة الحكم إخبارًا، ومن حيث كونه جزءًا من الدليل مقدمة، ومن حيث يطلب بالدليل مطلوبًا، ومن حيث يحصل من الدليل نتيجة ومن حيث يقع في العلم ويسأل عنه مسألة.

فالذات واحدة، واختلافات العبارات باختلافات الاعتبارات.

راجع: التعريفات: ص/ 176، وأدب البحث والمناظرة: ص/ 41، ونزهة الخاطر: 1/ 162، وشرح السلم للجندي: ص/ 41، وتجديد علم المنطق للصعيدي: ص/ 58، والمنطق المنظم له: ص/ 58.

(1)

هي التي يكون المحكوم عليه فيها جزئيًا غير معين، أو معين كما مثل.

(2)

وهذا مثال للحملية الموجبة الشخصية، لأن المحكوم عليه فيها جزئي معين.

(3)

وهذا مثال للحملية الموجبة الجزئية لأن المحكوم عليه فيها جزئي غير معين.

راجع: إيضاح المبهم من معاني السلم: ص/ 10، وشرح الأخضري على سلمه: ص/ 30، ورسالة في علم المنطق لمحمد ياسين: ص/ 24، والمنطق الواضح: 2/ 3.

(4)

هي التي يكون الحكم فيها بنفي شيء عن شيء كما مثل.

(5)

يعني السالبة الجزئية، وهي التي يكون المحكوم عليه بالنفي فيها جزئيًا معينًا، أو مبهمًا كما مثل.

(6)

وهذه هي الكلية الموجبة إذ هي التي يكون الحكم فيها بثبوت شيء لشيء كما مثل.

راجع: حاشية عليش على إيساغوجي: ص/ 71، وأدب البحث والمناظرة: ص/ 41 وما بعدها. مع المراجع التي سبقت.

ص: 326

قوله: "ومنها الكسر".

أقول: من القوادح الكسر، وعبر عنه الآمدي، وابن الحاجب بالنقض المكسور، وهو عبارة عن إسقاط بعض الأوصاف عن العلة إما مع إبداله بآخر، أم لا (1).

فالأول: وهو إبداله بوصف، ثم نقضه كصلاة الخوف مثلًا.

فنقول: صلاة يجب قضاؤها، فيجب أداؤها كما في حالة الأمن.

فيقول المعترض: كونها صلاة لا أثر له في العلية، لوجوب قضاء الحج، والصوم أيضًا.

فيبدل المستدل وصف الصلاة بالعبادة.

فيقول: عبادة وجب قضاؤها، فيجب أداؤها فينقضه المعترض بصوم الحائض فإنها عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها، أو بعد الإلغاء لا يبدل بوصف آخر، فيقول المعترض: لم يبق معك إلا قضاؤها، وليس كل ما وجب قضاؤه واجبًا أداؤه كصوم الحائض، فإن الأداء محرم عليها، مع وجوب القضاء، هذا شرح كلامه على ما قصده.

(1) راجع كلام الأصوليين على الكسر: اللمع: ص/ 64، والمنخول: ص/ 410، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 353، وروضة الناظر: ص/ 343، والإحكام للآمدي: 3/ 156، ومختصر ابن الحاجب: 2/ 269، والمسودة: ص/ 429، وتيسير التحرير: 4/ 146، والمحلي مع البناني: 2/ 303، ومناهج العقول: 3/ 91، وإرشاد الفحول: ص/ 226.

ص: 327

والحق ما ذهب إليه الشيخ ابن الحاجب (1).

فإن من يقول بأن الكسر قادح إنما يقوله، لأنه نقض في المعنى. توضيح ذلك: أن الحكمة المعتبرة وجدت في بعض الأوصاف في محل، وتخلف الحكم، فالتخلف هنا نظرًا إلى الحكمة، وفي النقض بالنظر إلى العلة.

وإذا كان التخلف المذكور بحسب الحكمة في بعض الأوصاف فله أن يقول: العلة هي المجموع، وتخلفه عن البعض ليس من التخلف عن العلة في شيء إلا أن يبين إلغاء الباقي من الأوصاف بطريق من الطرق، فحينئذ يبطل علية المجموع، ويمكن التوفيق بين كلام المصنف، وكلامه بأن المصنف اعتبر إلغاء بعض الأوصاف، والنقض في البعض الآخر، فيخرج المجموع عن صلاحية العلة، وبه يقول ابن الحاجب، وإنما لم يقل بإبطاله إذا لم يلغ بقية الأوصاف، بل يبين وجود الحكمة في بعض الأوصاف، مع تخلف الحكم.

مثاله: إذا قال: العاصي بسفره يقصر كغير العاصي بعلة المشقة، فينتقض بذي الحرفة الشاقة في الحضر لوجود الحكمة مع تخلف الحكم، وهو القصر.

قال بعضهم (2) -في شرح كلامه، وهو قوله:"الكسر إسقاط وصف من العلة، بأن يبين أنه ملغى بوجود الحكم عند انتفائه"-: ثم مثل

(1) راجع: المختصر مع شرح العضد: 2/ 269.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "المحلي". وراجع: شرحه على جمع الجوامع: 2/ 304.

ص: 328

لذلك بما مثلنا، ولم يدر أن المثال يناقض ما قاله، لأن في المثال المذكور الحكم منتف، مع وجود الحكمة التي هي المشقة في الحضر.

وقد تقدم منه أن الكسر بيان إلغاء وصف من الاعتبار، مع وجود الحكم عند انتفائه، وإنما سموه نقضًا مكسورًا، لأنه بين النقض، والكسر، لأن الكسر وجود الحكمة بدون العلة، والحكم.

فإن نظر إلى مجموع الأوصاف، وأن الحكمة وجدت في البعض بدون المجموع، والحكم فكسر للأوصاف.

وإن نظر إلى تخلف الحكم عن ذلك البعض المشتمل على الحكمة، فهو نقض معنى لتخلف الحكم عن الحكمة الباعثة، هذا تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه (1).

قوله: "ومنها العكس".

أقول: العكس انتفاء الحكم لانتفاء علته (2)، وقد اختلف فيه، فشرط قوم في العلة العكس، ولم يشترطه آخرون.

(1) راجع: مختصر الطوفي: ص/ 168، ومختصر البعلي: ص/ 155، والإبهاج: 3/ 125، ونهاية السول: 4/ 204، ونشر البنود: 2/ 210.

(2)

راجع: تعريف العكس: الحدود للباجي: ص/ 75، والكافية للجويني: ص/ 66، والمنهاج للباجي: ص/ 14، والإحكام للآمدي: 3/ 91، والمستصفى: 2/ 336، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 355، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 401، وشرح العضد: 2/ 223، وفتح الغفار: 3/ 47، وفواتح الرحموت: 2/ 282، وتيسير التحرير: 4/ 22، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 305.

ص: 329

والحق: أنه مبني على جواز تعليل الحكم بعلتين، فمن جوزه لا يلزم عنده انتفاء الحكم لانتفاء الوصف لقيام الوصف الآخر مقامه.

فإن ثبت وجود الحكم عند وجود الوصف، فيكون الوصف مطردًا أيضًا، كما كان منعكسًا، كان ذلك أبلغ في صلاحية الوصف علة لتلازمه، مع الحكم وجودًا وعدمًا.

وقيل (1): معنى قوله: "أبلغ" أي: في العكسية.

وقد بالغ في عكس المقصود، لأن الطرد ثبوت الحكم لثبوت الوصف، كما أن العكس (2) انتفاؤه لانتفاء الوصف، فكل منهما مباين للآخر، فكيف يكون مقويًا له؟

والمراد بانتفاء الحكم العلم، أو الظن بانتفائه، إذ لا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول في نفس الأمر، لأن العالم دليل الصانع، وحال عدمه كان الصانع موجودًا قطعًا، وهذا مبني على المذهب الحق، وهو أن بعض المجتهدين مصيب، وبعضهم مخطئ.

ومن قال: كل مجتهد مصيب، وحكم اللَّه تابع لظن المجتهد، فعند انتفاء ظنه ينتفى الحكم.

وقد مثل المصنف للعكس بقوله صلى الله عليه وسلم حين تعجبوا في إتيان الشخص زوجته، ويؤجر على ذلك فقال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان له وزر؟

(1) جاء في هامش (أ، ب): "المحلي". وراجع: شرحه على جمع الجوامع: 2/ 305.

(2)

آخر الورقة (115/ ب من أ).

ص: 330

قالوا: بلى قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال" (1).

فقد أرشدهم في الحديث إلى أن الحكم ينتفى بانتفاء (2) علته.

وفيه نظر، لأن انتفاء الوزر لانتفاء الحرمة لا يستلزم ثبوت الأجر في الحلال، اللهم إلا أن يقال: مراده أن انتفاء الحكم، وهو الوزر، والأجر لانتفاء العلة، وهي الحرمة والحل، وشارحو كلامه لم يعترضوا عليه (3).

قوله: "ومنها عدم التأثير".

أقول: من القوادح عدم التأثير، وهو عبارة عن إبداء المعترض في قياس المستدل وصفًا لا أثر له في إثبات الحكم (4)، ومحله الوصف المناسب، فخرج قياس الشبه، لأن المناسبة غير معتبرة هناك، ولا يكون إلا في العلة المستنبطة غير مجمع عليها.

(1) أخرجه مسلم، وأبو داود، وأحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا.

راجع: صحيح مسلم: 3/ 82، وبذل المجهود: 20/ 285، ومسند أحمد: 5/ 154، 167، 168، 178.

(2)

فقاس، وضعها في حلال فيؤجر، على وضعها في حرام فيؤزر بنقيض العلة.

(3)

راجع: تشنيف المسامع: ق (120/ أ)، والغيث الهامع: ق (129/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 305 - 306، وهمع الهوامع: ص/ 368.

(4)

راجع كلام الأصوليين على هذا القادح: البرهان: 2/ 1007، والجدل لابن عقيل: ص/ 54، والمنهاج للباجي: ص/ 195، واللمع: ص/ 64، والمنخول: ص/ 411، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 355، وروضة الناظر: ص/ 349، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 401، والإحكام للآمدي: 3/ 151، والمسودة: ص/ 421، وشرح العضد: 2/ 265، وفواتح الرحموت: 2/ 338، ومختصر الطوفي: ص/ 171، وإرشاد الفحول: ص/ 227.

ص: 331

وقسمة الجدليون أربعة أقسام مرتبة، وأفردوا لكل اسمًا لتمايز الأقسام.

فأعلاها: إظهار عدم تأثير الوصف مطلقًا، بأن يكون وصفًا طرديًا، كما إذا علل عدم تقديم إذ إن الصبح بأنه لا يقصر كالمغرب.

فيقال: عدم القصر لا تأثير له في عدم التقديم، لأنه لا مناسبة فيه، بل هو وصف طردي، ولذلك استوى ما يقصر من الصلاة، وما لا يقصر في عدم التقديم.

وحاصله: مطالبة المستدل بإثبات علية ذلك الوصف، وهذا القسم يخص باسم عدم التأثير في الوصف.

الثاني: -وهو دون الأول- إظهار عدم تأثير الوصف في ذلك الأصل استغناء عنه بوصف آخر، ويسمى عدم تأثير الوصف في الأصل.

مثال ذلك: قول المستدل: بيع الغائب لا يصح، لكونه غير مرئي كالطير في الهواء.

فيقول المعترض: كون الطير غير مرئي غير معتبر، لأن العجز عن التسليم كاف في عدم الصحة ضرورة استواء المرئي وغيره فيها.

ومرجع هذا إلى المعارضة في العلة بإبداء علة أخرى للأصل، وهذا ليس مبنيًا على جواز التعليل بعلتين، كما توهمه بعضهم (1) إذ مع المعارضة لا علة أصلًا. وإذا رجحت علة المستدل، أو المعارض، فكانت هى العلة.

(1) جاء في هامش (أ، ب): "رد على المحلي".

راجع: شرحه على جمع الجوامع: 2/ 309، وروضة الناظر: ص/ 349.

ص: 332

الثالث: -وهو دون الأولين- عدم تأثير الوصف في الحكم وقسمه المصنف ثلاثة أقسام:

الأول: أن يظهر عدم فائدة قيد اعتبره المستدل في العلة.

مثاله: قول الحنفية -في المرتدين إذا أتلفوا ما لنا في دار الحرب-: هؤلاء مشركون أتلفوا المال في دار الحرب، فلا ضمان عليهم كالحربي، ودار الحرب وصف طردي عندهم، وعندنا، لأن من أوجب الضمان، أوجبه مطلقًا في دار الحرب وغيره.

ومن لم يوجبه مطلقًا فلا فائدة في ذكره وهذا كالأول: لأن حاصله المطالبة بالتأثير، فعلى المستدل أن يثبت تأثيره.

الثاني -من الأقسام الثلاثة-: أن لا يكون لذلك القيد تأثير، ولكن ضروري للمستدل اعتباره.

مثاله: قوله في الاستدلال على وجوب عدد الأحجار في الاستنجاء: عبادة لم يتقدمها معصية يجب فيها العدد، كرمي الجمار، فالتقييد بعدم تقدم المعصية، وإن كان غير مؤثر، لكن ذكره ضروري لئلا ينقض بالرجم وهذا -أيضًا- راجع إلى الأول.

الثالث: أن يكون له فائدة لا يضطر إليها المستدل.

مثاله: الجمعة صلاة مفروضة، فلا تتوقف على إذن الإمام كسائر الفروض، فقيد الفرض حشو إذ لو حذف، -وقيل: كسائر العبادات- كان التعليل صحيحًا من غير انتقاض بشيء، لكن ذكر لقرب الشبه بين الفرضين.

ص: 333

وفي كون ما ذكر مثل هذا الوصف قادحًا خلاف مبني على كون الضروري قادحًا، فإن اغتفر للمستدل ذكر الضروري، فهذا بالطريق الأولى إذ لا انتقاض هنا (1)، وإن لم يغتفر له ذلك، فهذا مثله.

وقيل: يغتفر مطلقًا إذ لا انتقاض، غايته اشتمال كلامه على لغو.

الرابع -من أقسام عدم التأثير-: عدم اطراده في الفرع الذي هو محل النزاع.

مثاله -في ولاية المرأة على نفسها-: زوجت نفسها من غير كفو، فلا يصح، كما لو زوجت بغير كفو (2).

فالتزويج بغير كفو، وإن ناسب البطلان إلا أنه غير مطرد في الفرع لأن النزاع إنما هو فيمن زوجت نفسها مطلقًا بكفو، وبغيره، وهذا كالثاني، أي: كعدم التأثير في الأصل، فهي معارضة في علة الفرع، لأنه عارض كونه من غير كفو بمجرد التزويج من غير اعتبار الكفاءة.

وهل يكون هذا قادحًا في العلية؟ بناه المصنف على جواز الفرض في الدليل مَن جوز ذلك قَبِله، ومن منع رده.

والفرض: عبارة عن تخصيص بعض صور النزاع بالدليل كالمثال المذكور، فإن المدعي منع تزويج المرأة نفسها مطلقًا، والدليل على منعها من غير كفو.

(1) آخر الورقة (110/ ب من ب).

(2)

راجع: مختصر ابن الحاجب: 2/ 265، والمحلي مع البناني: 2/ 310.

ص: 334

وفي التخصيص المذكور مذاهب:

يجوز ذلك مطلقًا، واختاره المصنف: لأن السائل عن الكل سائل عن البعض، فإذا ثبت الحكم في البعض بعلة موجودة مناسبة، فقد أتى بدليل صحيح، غايته غير شامل لجميع الصور.

وقيل: لا يجوز لأن الجواب لم يطابق السؤال.

والثالث: يجوز إذا صح بناء غير محل الفرض عليه بجامع (1) بينهما.

واعلم أن هذا الفرض إنما يصح إذا كان الوصف غير طردي عند المستدل كالكفاءة، وأما إذا اعترف بأنه طردي، فلا يجوز الفرض أصلًا، لأنه قائل ببطلانه، فلا يمكنه بناء الحكم عليه في شيء من الصور.

قوله: "ومنها القلب".

أقول: من القوادح القلب، وعرفه بأنه عبارة عن دعوى المعترض أن الذي استدل به المستدل عليه لا له على الوجه الذي أراده إن سلم أن ذلك الدليل صحيح تنزلًا.

ولما قلنا: من جواز التنزل أمكن القلب مع تسليم صحة ما استدل به.

(1) راجع: البرهان: 2/ 1008، والوصول لابن برهان: 2/ 266، والإحكام للآمدي: 3/ 152، وروضة الناظر: ص/ 349، والمسودة: ص/ 435، وشرح العضد على المختصر: 2/ 265.

ص: 335

وقيل: القلب (1) تسليم للدليل مطلقًا، لأن الأصل، والجامع متفق عليه بينهما إنما النزاع في ثبوت حكم الفرع به.

وقيل: هو إفساد للعلة مطلقًا لأن الشيء الواحد لا يكون جامعًا بين الضدين، وهما حكم المستدل، والقالب (2).

وعلى المختار (3) من جوز إمكان تسليم صحته، فهو معارضة مقبولة على تقدير التسليم قادح في العلية على تقدير عدمه.

وقيل (4): هو شاهد زور، كما يشهد لك يشهد عليك، فلا تكون معارضة لعدم كونه دليلًا من الطرفين.

(1) راجع كلام الأصوليين على القلب: أصول الشاشي: ص/ 346، وأصول السرخسي: 2/ 238، والتبصرة: ص/ 475، واللمع: ص/ 65، والمعتمد: 2/ 282، 459، والمغني للخبازي: ص/ 322، والكافية للجويني: ص/ 217، والجدل لابن عقيل: ص/ 62، والمنخول: ص/ 414، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 357، وروضة الناظر: ص/ 344، والإحكام للآمدي: 3/ 166، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 401، والإبهاج: 3/ 127، ونهاية السول: 4/ 208، وفواتح الرحموت: 2/ 351، والمحلي: 2/ 311، وشرح العضد: 2/ 278، وإرشاد الفحول: ص/ 227.

(2)

راجع: المسودة: ص/ 441، ومختصر الطوفي: ص/ 169، ومختصر البعلي: ص/ 157، وتيسير التحرير: 4/ 160، ومناهج العقول: 3/ 92.

(3)

آخر الورقة (116/ ب من أ).

(4)

جاء في هامش (أ، ب): "الزركشي". راجع: تشنيف المسامع: ق (121/ ب).

ص: 336

وليس هذا عين القول الذي حكاه المصنف بأن القلب إفساد للعلة على ما توهم: لأن هذا مبني على القول المختار القائل بجواز تسليم صحة ما استدل به، لتكون معارضة، فكأنه قال: لو كان تسليم الصحة شاهدًا عدلًا صلح معارضًا، لكن ليس كذلك، فلا يصلح عوض ذلك القول على منع العلية، ومرجع هذا على كونه معارضة بعد تسليم الصحة.

قوله: "وهو قسمان".

أقول: القلب من حيث هو قسمان: لأن القالب إما بصدد تصحيح مذهبه، أو بصدد إبطال مذهب الخصم الذي هو المستدل، والأول ضربان:

أحدهما: أن يدل، مع ذلك على بطلان مذهب المستدل صريحًا، كقول الشافعي -مستدلًا-: بيع الفضولي باطل: لأنه بيع مال لا ولاية له عليه أصالة، ولا نيابة كشرائه.

فيقال: تصرف في مال الغير بغير إذنه، فتلغو الإضافة، ويصح البيع كالشراء بغير الإذن، فانه يصح، ويقع عن نفسه وتلغو التسمية.

الضرب الثاني: وهو الذي لا يدل على بطلان مذهب المستدل صريحًا مثل قول الحنفى -مستدلًا-: الاعتكاف لبث في محل مخصوص، فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة.

فيقول الشافعي: لبث مخصوص، فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة.

ص: 337

فالقالب قد أثبت مذهب نفسه، وهو عدم اشتراط الصوم فيه (1)، ودل على بطلان مذهب المستدل التزامًا، لأن الصوم لازم عند الحنفي للاعتكاف (2).

وإذا ثبت عدم اشتراط الصوم فيه انتفى اللازم وانتفاؤه يدل على انتفاء الملزوم.

والثاني -من قسمي القلب-: وهو الذي لإبطال مذهب الخصم أيضًا ضربان:

الأول: ما يدل عليه صريحًا مثل قول الحنفي -مستدلًا-:

الرأس عضو من أعضاء الوضوء، فلا يكفى فيه المسح بأقل ما ينطلق عليه اسم المسح كالوجه.

فيقول: فلا يقدر إذًا بالربع كالوجه (3).

والثاني: وهو الذي يدل على إبطال مذهبه التزامًا.

قوله: بيع الغائب عقد معاوضة، فيصح مع الجهل بالعوض كالنكاح.

(1) راجع: مغني المحتاج: 1/ 452 - 453، والمغني لابن قدامة: 3/ 185 - 186، وبداية المجتهد: 1/ 315.

(2)

وهو مذهب مالك. راجع: شرح فتح القدير: 2/ 390، وبداية المجتهد 1/ 315.

(3)

راجع: الإفصاح: 1/ 72، والقوانين الفقهية: ص/ 35، والإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 8، بداية المجتهد: 1/ 12، والمغني لابن قدامة: 1/ 125.

ص: 338

فيقول الشافعي: فلا يشترط فيه الرؤية إذًا كالنكاح، فإن خيار الرؤية لازم للبيع عنده، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.

ويلتحق بهذا القسم الأخير نوع آخر من القلب يسمى قلب المساواة عند الجمهور خلافًا للقاضي ومن تابعه، مثاله: قول الحنفى -مستدلًا في الوضوء، أو الغسل-: هذه طهارة لا يشترط فيها النية، كالنجاسة، فإن طهارتها لا تتوقف على النية عند غسلها بمائع (1).

فيقول الشافعي: فيستوي جامدها، ومائعها، كالنجاسة، فإن الجامد، والمائع فيها سواء، فلا يحتاج التيمم إلى النية، لأن المطهر الجامد كالمائع، فيلزم منه بطلان مذهب الخصم.

ووجه المساواة ظاهر من المثال بلا ريب.

قوله: "ومنها القول بالموجَب".

أقول: ومن القوادح القول بالموجب (2).

(1) راجع: بداية المجتهد: 1/ 8، وفواتح الرحموت: 2/ 353، وتشنيف المسامع: ق (121/ ب)، والغيث الهامع: ق (131/ أ - ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 315، وهمع الهوامع: ص/ 373 - 374.

(2)

يعني بما أوجبه دليل المستدل، واقتضاه، وهو بفتح الجيم، وبالكسر نفس الدليل لأنه الموجب للحكم.

راجع كلام الأصوليين على القول بالموجب: البرهان: 2/ 973، وأصول الشاشي مع عمدة الحواشي: ص/ 346، والمغني للخبازي: ص/ 315، والكافية للجويني: =

ص: 339

وحاصله تسليم مدلول الدليل، مع بقاء النزاع، ومن تعريفه علم عدم اختصاصه بالقياس.

بل يجري في سائر الأدلة، كما في الآية الكريمة (1) التي قدمها على تعريفه ولذلك قدمها.

ويقع القول بالموجب على وجوه ثلاثة:

الأول: أن يستدل المعلل بما يوهم إنتاج مطلوبة، أو لازمه، ولم يكن كذلك.

كقول الشافعي: القتل بالمثقل قتل بما يقتل غالبًا، فلا ينافي القصاص كالإحراق.

فيقول الخصم: أقول بذلك، ولا يلزم منه مطلوبك، إذ عدم المنافاة لا يستلزم الاقتضاء، ولا لازمه.

= ص/ 161، والمنهاج للباجي: ص/ 173، والمنخول: ص/ 402، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 365، وروضة الناظر: ص/ 350، وكشف الأسرار: 4/ 103، وفواتح الرحموت: 2/ 356، ومناهج العقول: 3/ 97، وتيسير التحرير: 4/ 124، وفتح الغفار: 3/ 41، وشرح العضد: 2/ 279، ومختصر الطوفي: ص/ 172، وإرشاد الفحول: ص/ 228.

(1)

حيث قال: "وشاهده: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} في جواب: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، فإنه لما ذكر صفة، وهي العزة، وأثبت بها حكمًا، وهو الإخراج من المدينة، رد عليه بأن تلك الصفة ثابتة لكن لا لمن أراد ثبوتها له، فإنها ثابتة لغيره باقية على اقتضائها للحكم، وهو الإخراج، فالعزة موجودة لكن لا له بل للَّه ولرسوله وللمؤمنين.

راجع: الإبهاج: 3/ 132، وشرح الكوكب المنير: 4/ 340.

ص: 340

الوجه الثاني: أن يستدل على إبطال ما توهم أنه مأخذ الخصم، ومبنى دليله.

كقول الشافعي -في المثال المذكور-: التفاوت في الوسيلة لا يوجب التفاوت فيما يتوسل إليه من قتل، وقطع، وغيرهما، فيجب القصاص بالمثقل.

فيقول الخصم: سلمنا ذلك، ولكن لا يلزم منه وجوب القصاص، لأن إبطال مانع لا يستلزم إبطال جميع الموانع ووجود الشرائط، والمقتضي، وثبوت الحكم موقوف على جميع ذلك.

والمختار أن المعترض مصدق فيما ذكره من أن الذي أبطله المستدل ليس مأخذًا له، لأنه عدل مأمون في ذلك.

وقيل: خصم لا يصدق إلا أن يبين له مأخذًا آخر.

واعلم أن أكثر ما يقع القول بالموجب من هذا القبيل، لأنه كثيرًا ما يقع الاشتباه في مأخذ الأحكام لخفائها، بخلاف الأول، لأنه يقل فيه ذلك، لأن الغالب أن المستدل يحرر البحث بحيث لا ينتج كلامه غير مطلوبه.

الوجه الثالث: من وجوه القول بالموجب-: أن يسكت المستدل عن صغرى مقدمتي دليله، والحال أنها غير مشهورة كقول الشافعي -في افتقار الوضوء إلى النية-: ما ثبت قربه فشرطه النية.

فيقول المعترض: سلمنا ذلك، ومن أين لك أن الوضوء قربة؟ فلو صرح المستدل بالصغرى، أو كانت مشهورة لم يتأت القول بالموجب، بل يكون

ص: 341

الاعتراض حينئذ بمنع الصغرى، ثم بعد الاعتراض بالقول بالموجب على المستدل أن يبين أن الذي أثبته هو مدعاه، أو مستلزم له في الصورة الأولى، أو يبين أن الصغرى صفة في الثالثة، أو أن الذي أبطله مأخذ الخصم في الثانية، فإن قام بما ذكرنا تَمَّ له ما أراد، وافزم الخصم، وإلا فقد انقطع (1).

قوله: "ومنها القدح في المناسبة".

أقول: من القوادح القدح في المناسبة (2).

وهو على أربعة أوجه:

الأول: القدح في نفس المناسبة بإبداء مفسدة راجحة، أو مساوية لما مر من أن المختار انخرام المناسبة بالمفسدة الراجحة، والمساوية.

ودفع هذا يكون بالمصلحة الراجحة، أي: بأن يبين أن المصلحة راجحة، إما إجمالًا بأن يقول المستدل: لولا المصلحة المذكورة لكان الحكم تعبديًا، وقد أبطلناه بأن الأحكام مشتملة على الحِكَم، والمصالح تفضلًا.

(1) راجع: خلافهم في كون القول بالموجب قادحًا في العلة، أولًا: الإحكام للآمدي: 3/ 172، والإبهاج: 3/ 133، وشرح العضد: 2/ 278، وفواتح الرحموت: 2/ 357، وتيسير التحرير: 4/ 126، ومناهج العقول: 3/ 99، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 402.

(2)

راجع كلام الأصوليين على هذا القادح: الإحكام للآمدي: 3/ 103، وشرح العضد: 2/ 267، ومنتهى السول والأمل: ص/ 195، وفواتح الرحموت: 2/ 340، وتيسير التحرير: 4/ 136، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 318 مع حاشية البناني.

ص: 342

وإما تفصيلًا بأن يقول في المسألة [المخصوصة](1): ما ذكرتُه من المصلحة ضرورية، وما ذكرته أنت أمر حاجي، أو الذي ذكرته قطعي، وذاك ظني إلى غير ذلك من وجوه الترجيح.

مثاله: إذا قال المستدل: التخلي للعبادة أفضل لما فيه من تزكية النفس.

فيقال: لا نسلم إذ يفوت معه إضعاف تلك المصلحة من إيجاد الولد، وكسر الشهوة، وكف النظر عن المحرمات.

فيقول: هذه وإن كانت واحدة، صورة لكن أرجح من تلك المصالح كلها، لأنها لحفظ الدين، وتلك لحفظ [النسل](2).

الوجه الثاني: القدح في إفضاء الحكم إلى المصلحة وفي عبارتهم تسامح، لأن الإفضاء من شروط الوصف المناسب ولذلك كان هذا الاعتراض (3) راجعًا إلى القدح في المناسبة مثاله: قول المستدل: حرمة محارم الزوجة بالمصاهرة على التأبيد للحاجة إلى ارتفاع الحجاب، والتحريم مؤبدًا يفضي إلى رفع الفجور لانقطاع الطمع الباعث على النظر والهم.

فيقال: التحريم على الوجه المذكور أكثر إفضاء إلى الفجور، لأن النفوس مجبولة على الشغف بما منعت منه.

(1) في (أ): "في المخصوصة".

(2)

في (أ، ب): "النفس" والمثبت من هامش (أ).

(3)

آخر الورقة (117/ ب من أ).

ص: 343

والجواب (1): أن بالدوام، والتأبيد تصير المحارم كالأمهات، فلا يميل الطبع السليم إليهن (2).

الوجه الثالث: القدح في انضباط الوصف الذي يشتمل على مراتب متفاوتة كالحرج، والمشقة، فإنهما يختلفان بحسب الأشخاص، والأزمان، فلا يمكن تعيين القدر المقصود.

والجواب: أنه إن ضبط عرفًا فذاك، وإلا يناط الحكم بالمظنة كالسفر في المشقة (3).

الرابع: أن يكون غير ظاهر كالرضا في العقود، والقصد في القتل، وسائر الأفعال.

والجواب: ضبطه بصفة ظاهرة، ففى الرضا صيغ العقود، وسائر الأفعال بما يدل على القصد كاستعمال الجارح في المقتل في القتل (4).

(1) أخر الورقة (111/ ب من ب) وجاء في بداية الورقة (112/ أ) منها "الثالث عشر" يعني بتجزئة الناسخ.

(2)

راجع: فواتح الرحموت: 2/ 341، وتيسير التحرير: 4/ 136، ومنتهى السول والأمل: ص/ 195، وشرح العضد: 2/ 267، والمحلي مع البناني: 2/ 318، وإرشاد الفحول: ص/ 231.

(3)

راجع: شرح العضد 2/ 268، وفواتح الرحموت: 2/ 241، وتيسير التحرير: 4/ 137، وإرشاد الفحول: ص/ 232.

(4)

راجع: منتهى السول والأمل: ص 195، وشرح العضد: 2/ 267.

ص: 344

قوله: "ومنها الفرق".

أقول: من القوادح الفرق (1) بين الأصل والفرع بإبداء خصوصية في الأصل تكون شرطًا في الوصف الذي ادعى المستدل عليته، ولا توجد في الفرع (2)، وهذا معنى المعارضة في الأصل أو بإبداء خصوصية في الفرع تكون مانعًا (3).

قال الآمدي: "المعارضة في الفرع تكون بما يقتضي نقيض حكم المستدل إما بنص، أو إجماع، أو بوجود مانع الحكم، أو بفوات شرطه،

(1) راجع الكلام على الفرق: البرهان: 2/ 1060، والكافية للجويني: ص/ 298، والمنهاج للباجي: ص/ 201، والوصول لابن برهان: 2/ 327، والمنخول: ص/ 417، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 367، والإحكام للآمدي: 3/ 164، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 403، والمسودة: ص/ 441، وشرح العضد: 2/ 276، والإبهاج: 3/ 134، ونهاية السول: 4/ 230، ومناهج العقول: 3/ 100، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 319، ونشر البنود: 2/ 223، وإرشاد الفحول: ص/ 229.

(2)

مثاله: أن يقول الشافعي: النية في الوضوء واجبة كالتيمم بجامع الطهارة عن حدث، فيعترض الحنفي بأن العلة في الأصل الطهارة بالتراب لا مطلق الطهارة.

(3)

كأن يقول الحنفي: يقاد المسلم بالذمي كغير المسلم بجامع القتل العمد العدوان، فيعترض الشافعي بأن الإسلام في الفرع مانع من القود لشرف الإسلام.

راجع: تشنيف المسامع: ق (123/ أ)، والغيث الهامع: ق (133/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 378، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 367، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 403، والمسودة: ص/ 442، ونشر البنود: 2/ 224، والمحلي: 2/ 220.

ص: 345

ولا بد من بيان تحققه، وطريق كونه مانعًا، أو شرطًا على طريق إثبات المستدل علية الوصف المعلل به" (1).

وأما وجه كون الفرق معارضة في الأصل، والفرع هو أن إبداء الخصوصية في الأصل لما كان معارضة فيه وضم إلى ذلك بيان انتفائها في الفرع، فكان معارضة في الفرع أيضًا.

أو يقال: إبداء المانع في الفرع معارضة فيه، وبيان انتفائه في الأصل دال على أن العلة ذلك الوصف مع انتفاء هذا المانع لا الوصف الذي ادعاه وحده، ولا شك أنه معارضة في الأصل.

قال: والصحيح أنه قادح (2) سواء قلنا: إنه معارضة في الأصل، أو في الفرع، أو فيهما إذ على جميع التقادير لا يتم القياس. وقيل: لا يقدح، لأنه استقل بالمناسبة، فهي علة أخرى، ولا تنافي بين العلل، وإلا لم يعتد به، وضعفه لائح.

قال بعض الشارحين (3): "الحق أن الفرق إن كان معارضة في الفرع، فهو قادح قطعًا، وإن كان في الأصل ابتنى على التعليل بعلتين، فمن منعه رآه قادحًا، وإلا لزم تعدد العلل، ومن جوزه لم يره قادحًا، لجواز تعدد العلل".

(1) راجع: الإحكام للآمدي: 3/ 163، والمختصر لابن الحاجب: 2/ 276.

(2)

وذكره إمام الحرمين عن جماهير الفقهاء في البرهان: 2/ 1060، وراجع الخلاف فيه المراجع التي سبقت في تعريفه.

(3)

هو الزركشي في تشنيف المسامع: ق (123/ أ).

ص: 346

قلت: هذا الكلام دليل على أنه لم يدر معنى القلب، لأنا قدمنا أن القلب إبداء خصوصية في الأصل هى شرط العلية، وأما أن تلك الخصوصية علة مستقلة، فلا قائل به.

واعلم أنك إذا عرفت وجه قدح القلب في القياس عرفت أن ذلك قادح سواء جعل سؤالًا واحدًا، أو سؤالين.

قوله: "وأنه يمتنع تعدد الأصول".

أقول: القائلون بكون الفرق [قادحًا](1) اختلفوا في جواز تعدد الأصل الذي يقاس عليه الفرع، والصحيح عدم جوازه، لأن الأصل الواحد كاف بالمقصود، والتعدد يوجب الانتشار، ولو جوزنا تعدد العلل.

وقيل: يجوز لأنه أقوى لإفادته الظن (2).

ثم المجيزون افترقوا: بعضهم إذا فرق المعترض بين أصل واحد، وبين ذلك الفرع يكفيه في القدح، ولا يجب التعرض لسائر الأصول.

وقيل: يجب التعرض للكل لأن المجموع في الحقيقة هو الأصل الملحق به لا كل واحد.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

وصححه ابن الحاجب في المختصر: 2/ 277، وراجع: همع الهوامع: ص/ 379، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 220.

ص: 347

والحق: التفصيل وهو أن ينظر في غرض المستدل، فإن كان قصده جعل تلك الأصول بمنزلة الواحد، بأن لم يعتبر جامعًا بين كل أصل، وذلك [الفرع](1)، بل بين المجموع وبينه، فلا يجب القدح في كل واحد، لأن المجموع يبطل بإبطال جزء منه.

وإن جعل كل واحد أصلًا ممتازًا لجامع، فلا يجدي القدح إلا في كل واحد، واحد.

وإذا علم ذلك فجواب المستدل تابع لذلك إن كان المجموع أصلًا واحدًا، فلا بد من تصحيح كل جزء منه، وإلا يكفيه تصحيح أصل واحد.

قوله: "ومنها فساد الوضع".

أقول: من القوادح فساد الوضع (2).

وهو عبارة: عن كون القياس على وضع أي هيئة غير صالحة لترتب الحكم عليه، كما إذا كان المطلوب الإثبات، والقياس يقتضي النفي، أو

(1) سقط في (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع كلام الأصوليين على هذا القادح: البرهان: 2/ 1028، والكافية للجويني: ص/ 148، وأصول السرخسي: 2/ 233، والمنهاج للباجي: ص/ 178، والمغني للخبازي: ص/ 317، وروضة الناظرة ص/ 340، والإحكام للآمدي: 3/ 143، وكشف الأسرار: 4/ 118، وشرح العضد: 2/ 260، وفواتح الرحموت: 2/ 346، وتيسير التحرير: 4/ 145، وإرشاد الفحول: ص/ 230.

ص: 348

بالعكس، أو يكون فيه خلل بحيث لا يترتب عليه لا المطلوب، ولا نقيضه، كما إذا كان الوصف طرديًا غير مؤثر.

مثاله: إذا قال الحنفي: القتل جناية عظيمة لا يجب فيها الكفارة كما في سائر الكبائر (1).

فيقال: كونه عظيمة يلائم الكفارة لا التخفيف بعدمها.

وكما إذا قيل: الزكاة على التراخي لأنها وجبت للارتفاق، ودفع حاجة الفقير كالدية على العاقلة.

فيقال: كونها لدفع الحاجة يناسب عدم التراخي.

ومن فساد الوضع: كون الجامع في قياس المستدل قد ثبت اعتباره بنص، أو إجماع في نقيض ذلك الحكم، والوصف الواحد لا يثبت به النقيضان، وإلا لم يكن مؤثرًا لثبوت كل منها بدل الآخر.

مثاله: قول الشافعي: مسح التيمم مسح قيس فيه التكرار (2)، كالاستنجاء.

فيقال: المسح لا يناسب التكرار، لأنه ثبت اعتباره في كراهة التكرار في المسح على الخف.

(1) راجع: شرح فتح القدير: 10/ 309.

(2)

راجع: المحلي مع حاشية البناني: 2/ 322 - 333، وهمع الهوامع: ص/ 380، والغيث الهامع: ق (134/ أ).

ص: 349

وجواب المستدل في القسمين بتقرير كون الدليل صالحًا لترتب الحكم عليه بأن يكون للوصف جهتان، نظر المستدل فيه من إحدى الجهتين هذا في الأول.

وأما في الثاني فبأن يمنع كون علته [تقتضي](1) نقيض ما علق عليها، أو يسلم ذلك، ولكن يبين وجود مانع في الأصل.

مثال الأول: الارتفاق، ودفع الحاجة في الزكاة، فإنهما جهتان مختلفتان.

ومثال الثاني: أن يقول: المانع من التكرار في الخف خوف فساده.

واعلم أن القسم الأخير من فساد الوضع يشبه النقض من حيث تخلف الحكم عن الوصف المدعى عليته، إلا أن هنا الوصف يثبت نقيض الحكم، وفي النقض لا تعرض لذلك، أي: لإثباته به، وإن كان الوصف موجودًا.

ويشبه القلب من حيث إنه إثبات نقيض الحكم بعلة المستدل إلا أنه يفارقه من حيث إن في القلب إثبات النقيض بأصل آخر.

ويشبه القدح في المناسبة (2) من حيث إنه ينفى مناسبته للحكم لمناسبته لنقيضه إلا أنه لا يقصد هنا بيان عدم مناسبة الوصف للحكم، بل بيان بناء نقيض الحكم عليه في أصل آخر.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

آخر الورقة (118/ ب من أ).

ص: 350

قوله: "ومنها فساد الاعتبار".

أقول: من الأسولة (1) فساد الاعتبار (2)، وهو عدم صحة الاحتجاج بالقياس لقيام النص (3)، أو الإجماع (4) على خلافه.

(1) هكذا في (أ، ب) وهو جمع صحيح لأن الهمزة تقلب واوًا وهذه ناحية صرفية.

راجع: شذا العرف: ص/ 118.

(2)

راجع كلام العلماء على هذا القادح: اللمع: ص/ 65، 66، والجدل لابن عقيل: ص/ 64، والمنهاج للباجي: ص/ 179، وروضة الناظر: ص/ 339، والإحكام للآمدي: 3/ 143، وشرح العضد: 2/ 259، ومختصر الطوفي: ص/ 166، ومختصر البعلي: ص/ 152، وفواتح الرحموت: 2/ 330، والمحلي مع حاشية البناني: 2/ 324، ونشر البنود: 2/ 228، وإرشاد الفحول: ص/ 230.

(3)

من كتاب، وسنة.

مثاله من الكتاب: كان يقال: في التبييت في الأداء صوم مفروض فلا يصح بنية من النهار كالقضاء، فيعترض بأنه مخالف لقوله:{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب: 35] إلخ. فإنه رتب فيه الأجر العظيم على الصوم كغيره من غير تعرض للتبييت فيه، وهذا مستلزم لصحته دونه.

ومثاله من السنة: كان يقال: لا يصح القرض في الحيوان لعدم انضباطه كالمختلطات غير المنضبطة، فيعترض عليه بأنه مخالف لحديث أبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم: استلف بكرًا، ورد رباعيًا، وقال:"إن خيار الناس أحسنهم قضاء".

راجع: صحيح مسلم: 5/ 54.

(4)

مثال الإجماع: كان يقال: لا يجوز للرجل أن يغسل زوجته الميتة لانقطاع العصمة بالموت بدليل حل أختها، وأربع سواها فهي كالأجنبية، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأصحابه ومن معهم فيعترض بأنه مخالف للإجماع السكوتي في تغسيل علي لفاطمة =

ص: 351

وقد تقدم أن القياس في مقابلة النص، والإجماع باطل.

قال المصنف: وفساد الاعتبار أعم من فساد الوضع لصدقه حيث يكون القياس على الهيئة الصالحة لترتب الحكم عليه (1).

وهذا سهو، بل هذا مباين لفساد الوضع، لأن القياس هناك ليس بصحيح في نفسه، إما لكونه ليس على الهيئة الصالحة، أو لكونه مستلزمًا نقيض الحكم، وهنا القياس صحيح غايته معارض بأقوى منه.

= رضي الله عنهما، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وغيرهم. هذا بعد اتفاقهم على جواز غسل المرأة زوجها كما قاله ابن المنذر.

راجع: شرح فتح القدير: 2/ 106، والمغني لابن قدامة: 2/ 523، ومغني المحتاج: 1/ 325، وبداية المجتهد: 1/ 228 - 229.

(1)

يرى البعض أن فساد الاعتبار أعم من فساد الوضع، ومقدم عليه لأن فساد الاعتبار نظر في فساد القياس من حيث الجملة.

وفساد الوضع أخص لأنه يستلزم عدم اعتبار القياس لأنه قد يكون بالنظر إلى أمر خارج عنه، وهو اختيار الصفي الهندي، والمصنف، والشارح وغيرهم.

وذهب البعض إلى أن فساد الاعتبار أعم من فساد الوضع من وجه وأخص منه من وجه.

ومنهم من ذهب إلى أن فساد الوضع أعم من فساد الاعتبار، لأن القياس قد يكون صحيح الوضع، وإن كان اعتباره فاسدًا بالنظر إلى أمر خارج، فكل فساد الوضع فساد الاعتبار، ولا عكس.

راجع: المحلي مع حاشية البناني: 2/ 324، والغيث الهامع: ق (134/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 382.

ص: 352

حتى لو عورض ذاك النص بقى القياس سالمًا عندهما.

وللمعترض تقديم فساد الاعتبار على سائر الاعتراضات وتأخيره عنها.

وعندي أنه يجب تقديمه، لأنه أقوى لدلالته على بطلان القياس بخلاف غيره، فإنه إما مطالبة لتصحيح الدليل أو معارضة له.

وإذا علم حقيقته، فالجواب عنه بوجوه:

منها: الطعن في السند إن كان قابلًا، كالإرسال، والانقطاع، وتكذيب الأصل الفرع فيه، وكون الراوي غير عدل.

ومنها: منع ظهوره، فيما قصده المعترض كمنع عموم ما استدل به، أو مفهومه، أو الإجمال فيه.

ومنها: دعوى التأويل، أي: هو محمول على غير ظاهر بدليل يرجحه على ظاهره، أو بالقول بالموجب، بأن يقول: ولئن سلمنا ما تقوله لكن مدلوله لا ينافي حكم القياس، أو يعارضه بنص آخر فيسلم له القياس.

لا يقال: فللمعترض أن يعارض المستدل بنصين، فلا يتم له ما رامه: لأنا نقول: النص الواحد يعارض النصوص كشهادة الاثنين، مع الأربعة.

لا يقال: فعلى هذا يلزم أن يعارض نص المعارضة نص المستدل، وقياسه: لأنا نقول: إجماع الصحابة قائم على خلافه: لأنهم كانوا عند تعارض النصوص يرجعون إلى القياس.

ص: 353

وهذا معنى قول بعض الأفاضل (1): "المناظر تلو الناظر".

والحاصل: أن الترجيح إنما يكون عند اختلاف جنس الحجة، وله وجوه أخر من الترجيح ما تخفى على من أتقن المباحث السالفة واللاحقة.

قوله: "ومنها منع علية الوصف".

أقول: من الاعتراضات منع علية الوصف المدعى كونه (2) علة.

قال ابن الحاجب: "هذا من أعظم الأسولة المتوجهة على القياس"(3).

وجه ذلك: أن العلية قَلَّ ما تكون قطعية، فيظهر وجه السؤال ولتكثير مسالك العلة تتعدد طرق الانفصال عنها، وعلى كل واحد تتوجه أبحاث تكثر القيل، والقال.

وقد اختلف في قبوله، والأصح قبوله، وإلا لكان كل وصف طردي صالحًا للعلية، فيؤدي إلى التلاعب (4).

(1) المراد به القاضى عضد الملة والدين الإيجي في شرحه على المختصر: 2/ 260.

(2)

راجع كلام الأصوليين على هذا القادح: البرهان: 2/ 970، والمنهاج للباجي: ص/ 168، ومفتاح الوصول ص/ 157، والمنخول: ص/ 401، وروضة الناظر: ص/ 340، ومنتهى السول والأمل: ص/ 194، وفتح الغفار: 3/ 41، والمحلي مع حاشية البناني: 2/ 325، وإرشاد الفحول: ص/ 231.

(3)

راجع: مختصر ابن الحاجب: 2/ 263، والإحكام للآمدي: 3/ 149، ومنتهى السول والأمل: ص/ 194.

(4)

راجع: المسودة: ص/ 429، وهمع الهوامع: ص/ 382.

ص: 354

قيل: ليس القياس إلا إلحاق فرع بأصل لجامع، وقد حصل، فلا تكلف بغير ذلك.

قلنا: لا نسلم ذلك مطلقًا، بل لجامع علم، أو ظن عليته اتفاقًا، ولم يوجد جامع كذلك.

قيل: الطرق الدالة على عدم كون الوصف علة من كونه طرديًا، وإبداء وصف آخر، وغيرهما معلوم بين أهل الجدل، فلو وجد المعترض شيئًا من ذلك لأبداه.

وحيث عجز، فلا وجه لمطالبته [المستدل](1) إقامة الدليل على علية الوصف (2).

الجواب: يستلزم (3) قولكم هذا أن كل صورة عجز المعترض عن إبطالها، فتكون صحيحة بلا برهان، وليس كذلك، حتى إثبات حدوث العالم، وقِدم الصانع اللذين هما من أشكل المسائل لا يصح دليلهما بمجرد عجز المعترض عن إبطاله، بل لا بد من صحة الترتيب في الدليل، ووجه دلالته.

وإذا ثبت أن المطالبة صحيحة فلا بد من إثبات العلة بأحد مسالكها.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: المسودة: ص/ 429، وروضة الناظر: ص/ 342، ومختصر الطوفي: ص/ 167، ومختصر البعلي: ص/ 154.

(3)

آخر الورقة (112/ ب من ب).

ص: 355

قوله: "ومنه وصف العلة".

أقول: من المنع مطلقًا منع كون الوصف الذي يدعيه المستدل قيدًا للعلة كذلك، بل بحذفه من الاعتبار (1).

مثاله: قول الشافعي -في إفساد الصوم بالجماع-: تجب الكفارة، لأنها شرعت للزجر عن الجماع المحذور في الصوم كالحد فإنه شرع للزجر عن الجماع زنى.

فيقال: لا نسلم قيد الجماع، بل إنما شرعت لمطلق الجناية على الصوم، وتحصل تلك الجناية بأنواع الإفطار عمدًا.

والجواب -عن هذا- ببيان خصوصية الجماع، واعتبارها، نقول: رتب الشارع في قضية الأعرابي الكفارة على الجماع، وترتيب الحكم على الوصف دال على عليته.

قال المصنف: "وكأنَّ المعترض ينقح المناط" لأنه تقدم أن تنقيح المناط حذف الخصوصية عن الاعتبار اجتهادًا، ونوط الحكم بأعم، والمستدل يحقق المناط أي يبين خصوصية الوصف، واعتبارها.

وإنما ذكر لفظة "كأنَّ" لأن تنقيح المناط ليس وظيفة المعترض، لأنه من مسالك العلة، فهو وظيفة المستدل، ولأن تحقيق المناط ليس إثبات

(1) راجع: المحلي مع البناني: 2/ 325 - 326، وتشنيف المسامع: ق (124/ ب)، والغيث الهامع: ق (134/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 383.

ص: 356

الخصوصية، بل تقرير العلة، وتحقيقها في صورة النزاع ككون النباش سارقًا.

قوله: "ومَنعُ حُكمِ الأصل".

أقول: من المنوع المتوجهة منع حكم الأصل (1)، وكان الأولى تقديمه على حكم العلة كما لا يخفى (2)، وفي كونه لمجرده، قطعًا للمستدل خلاف.

المختار عند الجمهور، ومنهم المصنف لا يكون قطعًا.

وقيل: قطع له.

وقيل: إن كان ظاهرًا بحيث يعرفه أكثر الفقهاء، وإن كان خفيًا فلا، واختاره الأستاذ.

(1) راجع كلام العلماء على هذا القادح: أصول الشاشي: ص/ 343، والمغني للخبازي: ص/ 316، والبرهان: 2/ 968، ومنتهى السول والأمل: ص/ 193، والمنهاج للباجي: ص/ 163، والجدل لابن عقيل: ص/ 47، ومفتاح الوصول: ص/ 156، والمنخول: ص/ 401، وروضة الناظر: ص/ 340، وكشف الأسرار: 4/ 112، وفتح الغفار: 3/ 41، والمسودة: ص/ 401، وتيسر التحرير: 4/ 127، وفواتح الرحموت: 2/ 332.

(2)

كأن يقول الشافعي: الخل مائع لا يرفع الحدث، فلا يزيل النجاسة كاللبن.

فيقول الحنفي: لا أسلم الحكم في الأصل. فإن اللبن عندي يزيل النجاسة.

راجع: شرح العضد: 2/ 261، والإحكام للآمدي: 3/ 144، ومختصر الطوفي: ص/ 166، ومختصر البعلي: ص/ 153، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 326، وهمع الهوامع: ص/ 383، وإرشاد الفحول: ص/ 230.

ص: 357

وقال الغزالي: "هذا ليس أمرًا شرعيًا، ولا عقليًا فالرجوع إلى عرف بلد المناظرة إن عدّوه [قطعًا] (1) كان قطعًا، أو لا فلا"(2).

واختلف النقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي نقل ابن الحاجب، واتَّبعه المصنف أن هذا المنع لا يسمع من المعترض؛ لأن المستدل يقول: أنا قد بينت على أصل صحيح عندي، وهذا كلام بعيد.

والحق على ما في الملخص (3) من أنه يسمع، هذا تفصيل المذاهب.

لنا -على مختار المصنف-: أنه يسمع، ولا ينقطع المستدل.

أما إنه يسمع، فلأن انتفاء حكم الأصل قادح في الاستدلال واستنباط الحكم، وليس دعوى المستدل صحته مفيدًا لصحته، ولزوم الخصم الاعتراف بدون دليل.

وأما كونه ليس قطعًا، فلأن غاية ذلك الاعتراض أنه منع مقدمة من مقدمات القياس كمنع العلية، والنقض، والقلب، وغيرها، فأي فرق بين مقدمة، ومقدمة؟

قالوا: انتقال من إثبات حكم الفرع إلى إثبات حكم الأصل (4)، والانتقال أشد عيوب المناظرة.

(1) سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: شفاء الغليل: ص/ 465.

(3)

الملخص في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي، حقق في جامعة أم القرى.

(4)

آخر الورقة (119/ ب من أ).

ص: 358

قلنا: حيث لا يكون بينهما ملاءمة كمن تكلم في نجاسة الكلب ثم انتقل إلى مسألة الفرس، والخنزير، فإنه قادح، وأما إذا شرع في مسألة تتعلق بالكلب، ثم انتقل إلى أحواله وصفاته لا يعد قادحًا.

وعلى هذا الذي قلنا من أنه يسمع، ولا ينقطع، فعليه إقامة الدليل على وجود الحكم في الأصل، ولا يكون منقطعًا، وعلى تقدير إقامته الدليل.

المختار أن المعترض لا يكون منهزمًا، بل له أن يعود باعتراض آخر، وآخر إلى أن ينقطع، أو يغلب.

واستدل المصنف على هذا بأنه ربما اعترض [بسبعة](1) اعتراضات ولاء (2).

بأن يقال: لا نسلم حكم الأصل في قياسك، فلا يصح، ولئن سلمنا أن حكم الأصل ما ذكرت، لكن لا نسلم كونه مما يقاس عليه، سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه معلل بل تعبدي، سلمناه لكن لا نسلم أنه معلل بالوصف المشترك بين الأصل وذلك الفرع، سلمنا كونه علة، لكن وجوده في الأصل ممنوع.

(1) في (أ، ب): "بسبع" والمثبت هو الصواب لأن الأعداد من ثلاثة إلى تسعة تُذكَّر، مع المؤنث، وتؤنث مع المذكر.

(2)

الولي: حصول الثاني بعد الأول من غير فصل، والمراد أن كلًا منهما مرتب على تسليم ما قبله.

راجع: المصباح المنير: 2/ 672، وحاشية البناني على المحلي: 2/ 327.

ص: 359

سلمنا ذلك لكن غير متعد، بل قاصر، سلمناه لكن ليس موجودًا في الفرع.

هذه [سبعة](1) اعتراضات ثلاثة منها، وهي الأولى متعلقة بالأصل، وثلاثة تليها متعلقة بالعلة، والاعتراض الأخير بالفرع.

وللجواب عنها طريقان:

إما أن يدفع الأخير وحده، فإنه كاف، أو يأتي عليها على الترتيب المذكور واحدًا بعد واحد، ويتفرع على هذا جواز إيراد المعارضة، سواء كانت من جنس واحد كأن يقول المعترض: دليلك منقوض بكذا، وبكذا.

أو جنسين كأن يقول: منقوض بكذا، ومعارض بكذا.

وعلى تقدير الاختلاف إما مترتبة بأن يقتضى اللاحق تسليم السابق كالمعارضة، مع منع وجود الوصف في الأصل، فإن المعارضة موقوفة عليه: لأنها أقامت الدليل على خلاف ما أقام عليه الخصم.

أو غير مترتبة كالنقض، أو القلب، مع منع التأثير، فعلى جواز الأول اتفاق أهل النظر، وفي اختلافها مع عدم الترتيب، الجمهور على الجواز، ومع الترتيب على عدم الجواز.

(1) في (أ، ب): "سبع" والصواب المثبت لما سبق.

ص: 360

وأشار المصنف إلى أن المختار جوازه، ورد ما توهموه مانعًا بأن تسليمه تقديري؛ أي: ما قلتم: لا يجوز، لأن التسليم اعتراف ببطلانه، فلا وجه لعده اعتراضًا، وتقديمه ليس كذلك، بل ذلك يقدح لو كان اعترافًا حقيقة، وأما على وجه التنزل فلا.

قوله: "ومنها اختلاف الضابط".

أقول: من الأسولة دعوى اختلاف الضابط في الأصل والفرع (1)، وإنما كان قادحًا، لأن تساوى الفرع والأصل في العلة شرط كما تقدم (2).

مثاله: قياس شهادة الزور في القتل على الإكراه في القصاص.

فيقال: المعنى الموجود في الإكراه ليس موجودًا في شهادة الزور، وإذا اختلف الضابط لم يلزم من اعتباره في الأصل اعتباره في الفرع، فللشارع اعتبار أحدهما دون الآخر.

(1) راجع الكلام على هذا القادح: الإحكام للآمدي: 3/ 165، ومنتهى السول والأمل: ص/ 199، وشرح العضد: 2/ 276، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 329، وتشنيف المسامع: ق (125/ أ)، والغيث الهامع: ق (135/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 385، وإرشاد الفحول: ص/ 231.

(2)

وقد أوصل المصنف القوادح إلى ستة عشر قادحًا، وأوصلها ابن الحاجب والأكثر إلى خمسة وعشرين قادحًا، وبعضهم إلى اثني عشر قادحًا.

راجع: منتهى السول والأمل: ص/ 192، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 2/ 257، وتشنيف المسامع: ق (125/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 385، وإرشاد الفحول: ص/ 135، والغيث الهامع: ق (135/ ب).

ص: 361

والجواب عن هذا بوجهين:

أحدهما: الضابط هو القدر المشترك كالتسبب في المسألة المذكورة [فإنه](1) موجود فيهما من غير تفاوت.

ثانيهما: بيان أن إفضاء الضابط في الفرع إلى المقصود، مثل إفضائه في الأصل، أو أزيد.

ولا يحصل الجواب بإلغاء التفاوت بأن يقال -في المثال المذكور-: التفاوت ملغى في القصاص لمصلحة حفظ النفس، بدليل أنه يقتل العالم بالجاهل.

وتقدم الفرق بين [قطع](2) الأنملة المزهق للروح، وحز الرقبة، وإنما لم يكن مثله جوابًا، لأن إلغاء مانع واحد لا يوجب إلغاء جميع الموانع، ألا ترى أنه لم يلغ التفاوت بالحرية.

قوله: "والاعتراضات راجعة إلى المنع، وإلى مُقدِّمِها".

أقول: المشهور أن الاعتراض إما مانع، أو معارضة.

وذلك: لأن غرض المستدل إثبات مدعاه، وذلك يتوقف على صحة مقدمات دليله، وعلى عدم دليل آخر معارض لدليله، كما أن من أراد إثبات حق على غيره لا بد له من بينة عادلة، وأن لا تكون معارضة بأخرى مثلها.

(1) في (أ، ب): "فإنها" والمثبت من هامش (أ) هو الصواب.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 362

قال المصنف: بل الاعتراضات كلها راجعة إلى المنع.

لأن المعارضة منع للعلة عن الجريان، وهذا الذي قاله ليس معنى المعارضة، بل لازم معناه، لأن المعارضة -كما هو المسطور في كتب الخلاف-: عبارة عن إقامة الدليل على خلاف ما أقام عليه الخصم (1) ويلزم منه منع جريان العلة، والأمر في هذا سهل.

قوله: "ومقدِّمها"، بكسر الدال يريد به الاستفسار (2)، لأنه طليعة المنوع ليس داخلًا فيها.

وهذا ما قاله بعض المتأخرين: إنه ليس سؤالًا (3).

(1) المعارضة -لغة-: المقابلة على سبيل الممانعة، واصطلاحًا كما عرفها الشارح.

راجع معنى المعارضة: الجدل لابن عقيل: ص/ 70، والكافية للجويني: ص/ 69، والحدود للباجي: ص/ 79، والكليات للكفوي: 4/ 265، والتعريفات للجرجاني: ص/ 219، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 336، وحاشية الصبان على شرح آداب البحث: ص/ 13.

(2)

الاستفسار: استفعال من الفسر، وهو لغة: طلب الكشف والإظهار، ومنه التفسير. واصطلاحًا: طلب معنى لفظ المستدل لإجماله، أو غرابته.

راجع: مقدمة جامع التفاسير للراغب: ص/ 47، والمفردات: ص/ 380، المعتبر للزركشي: ص/ 304، والإتقان للسيوطي: 4/ 192، وتشنيف المسامع: ق (125/ ب)، والغيث الهامع:(ق 136/ أ).

(3)

يعني اعتراضًا، وقادحًا من قوادح العلة لأن الاعتراضات خدش كلام المستدل، والاستفسار ليس فيه خدش بل غايته أنه استفهام للمراد من الكلام، وهو ما رجحه المصنف. =

ص: 363

والصواب خلافه: لأنه طلب فهم المراد، فهو أول المقامات (1).

وهو وإن كان واحدًا لكن بعد التأمل لا سؤال أعم منه، لأنه يرد على تقرير المدعى، وعلى جميع المقدمات، وعلى جميع الأدلة، لكن شرطه أن لا يكون تعيينًا مفوتًا لمقصود المناظرة، إذ كل لفظ فسرته لا بد وأن تفسره بلفظ آخر، وهلم جرا، ولذلك قال القاضى أبو بكر:"لا يحسن الاستفهام إلا لدى الإبهام"، ولذلك [أيضًا] (2) قيده المصنف بقوله:"حيث غرابة، أو إجمال". وإذا ثبت أنه سؤال مقبول، فعلى المستدل البيان، أم على المعترض؟

قيل: على المستدل: لأنه المحتاج إلى الإثبات الذي لا يتم بدونه، والحق (3) أنه على المعترض إذ يكفي المستدل أن يقول: الغرابة والإجمال خلاف الأصل: لأن وضع الألفاظ للبيان.

وإذا قلنا -بناء على الصحيح-: إن على المعترض البيان، فإذا بين أن اللفظ يطلق على المعنيين لا يكلف الزيادة على ذلك من إثبات

= راجع كلام الأصوليين على هذا القادح: روضة الناظر: ص/ 339، والإحكام للآمدي: 3/ 141، ومنتهى السول والأمل: ص/ 192، ومختصر الطوفي: ص/ 166، ومختصر البعلي: ص/ 152، والمحلي مع حاشية البناني: 2/ 331، وتيسير التحرير: 4/ 114، وإرشاد الفحول: ص/ 229.

(1)

وعليه الأكثر. انظر المراجع السابقة، وتشنيف المسامع: ق (125/ ب)، والغيث الهامع: ق (136/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 386 - 387.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

آخر الورقة (113/ ب من ب).

ص: 364

التساوي في الإجمال، وإن كان الإجمال لا يحصل إلا به، لأنه لو كلف ذلك لطال الكلام، وسقط مقصود المناظرة، فاغتفر ذلك في حقه.

مثال ذلك: إذا قال المكره: مختار فيجب عليه القصاص فيقال: ما معنى المختار؟ فإنه يقال للراغب في الشيء وللقادر عليه.

أو يقول: بَانَ بذلك بطلانه.

فيقال: ما معنى بان؟ لأنه يكون تارة بمعنى ظهر، وتارة بمعنى انفصل.

ومثال الغرابة: ما إذا قيل: الأُيَّل (1) حيوان لم يُرض (2) لا تؤكل فريسته كالسِّيْد (3).

فيقال: ما معنى الأيل، وما معنى السيد (4).

(1) في (أ): "الإبل" وفي (ب) بدون نقط، والمثبت من هامش (أ).

والأيل: بضم الهمزة، وكسرها، والياء فيهما مشددة مفتوحة: ذكر الأوعال، وهو التيس الجبلي، والجمع الأياييل. راجع: المصباح المنير: 1/ 33.

(2)

لم يرض، أي: لم يعلم، يقال: رضت الدابة رياضًا: ذللتها، فالفاعل رائض، وهي مروضة، وراض نفسه: على معنى حلم فهو ريض.

راجع: المصباح المنير: 1/ 245.

(3)

السيد: بكسر السين وسكون التحتية المثناة هو الذئب، وفي لغة هذيل يطلق على الأسد.

راجع: الصحاح: 2/ 492، معجم مقاييس اللغة: 3/ 120، ولسان العرب: 4/ 217.

(4)

جاء في هامش (أ): "الأيل الكلب، والسيد الذئب".

ص: 365

وجواب الاستفسار ببيان ظهوره فيما قصده، إما بالنقل عن أهل اللغة، أو في العرف العام كذا، أو الخاص، أو بقرائن الأحوال، أو يفسده بما يحتمل لغة.

قيل: وربما لا يحتمل.

والصواب خلافه: لأنه يصير من جنس اللعب، فتخرج المناظرة عن وضعها من طلب إظهار الحق.

وهنا طريق آخر ربما استعمله بعض أهل الجدل بأن نقول -بعد بيان المعترض-: الأصل عدم (1) الإجمال، أو أنه ظاهر فيما قصدت، لكونه غير ظاهر في غيره.

والحق: أن هذا ليس جوابًا: لأن المعترض بذل مجهوده في بيان الإجمال، فلو كان هذا القدر جوابًا لم يكن للمناظرة فائدة، والمصنف نقل الخلاف مجردًا عن الاختيار.

قوله: "ومنها التقسيم".

أقول: من الاعتراضات التقسيم، وهو كون اللفظ المورد في الدليل دائرًا بين أمرين، أو أكثر (2)، فيمنع الذي يتوهم كونه محصل المقصود، ويسكت عن الآخر؛ لأنه لا يضره، أو يتعرض لعدم صلاحية ذلك للعلية.

(1) آخر الورقة (120/ ب من أ).

(2)

راجع كلام الأصوليين على هذا القادح: المنهاج للباجي: ص/ 210، والكافية للجويني: ص/ 394، وروضة الناظر: ص/ 341، والإحكام للآمدي: 3/ 146، =

ص: 366

قيل: لا يقبل هذا السؤال، لأن منع أحد محتملي كلام المستدل لا يمنع مطلوبه، إذ ربما لا يكون هذا المحتمل مراده.

والمختار قبوله، إذ بإبطال ذلك [يتعين](1) الباقي، وربما لا يمكنه إتمام الدليل به، فله مدخل في هدم الدليل، ولكن لقبوله شرط، وهو أن يكون منعًا لما يلزم المستدل بيانه.

مثاله: ما إذا قال في الصحيح الحاضر: إذا فقد الماء، وجد سبب التيمم، وهو تعذر الماء، فيجب التيمم.

فيقال: ما المراد بتعذر الماء أمطلقًا سبب؟

أم في السفر، أو المرض؟ الأول ممنوع، والثاني لا يجديك نفعًا.

والجواب -عن هذا السؤال-: بأمور:

الأول: أن يبين أن اللفظ دال على المعنى الذي أراده، إما لغة بالنقل عنهم، أو وُجد الاستعمال، والأصل فيه الحقيقة، أو عرفًا أي عرف كان، أو عُلم بالقرائن عقلية، أو لفظية.

هذا كلام المصنف على ما ذهب إليه الشارحون (2).

= ومنتهى السول والأمل: ص/ 193، وشرح العضد: 2/ 262، والمسودة: ص/ 426، ومختصر الطوفي: ص/ 167، ومختصر البعلي: ص/ 153، والمحلي مع حاشية البناني: 2/ 333، ونشر البنود: 2/ 235، وإرشاد الفحول: ص/ 231.

(1)

غير واضحة في (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: تشنيف المسامع: ق (126/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني: 2/ 334، وهمع الهوامع: ص/ 387 - 388.

ص: 367

وعندي أن هذا الكلام سهو منهم: لأن التقسيم نوع من المنع وارد على علية ما ادعاه علة لحكم الأصل.

غايته: أن هذا المنع يشتمل على الترديد، فيكون أخص من مطق المنع.

فالجواب إنما يكون بإثبات عليته بأحد المسالك العلية، والذي ذكره المصنف هنا هو ما ذكره في جواب الاستفسار.

وإن كنتَ في ريب فتأمل في المثال المذكور، أو في قوله: الملتجئ إلى الحرم وجد منه سبب استيفاء القصاص، وهو القتل العمد العدوان، فيجب استيفاؤه.

فيقال: يُستوفى مع المانع، أو بدونه؟

الأول ممنوع، والثاني مسلم، ولكن لما قلت: إن الحرم ليس بمانع؟

ثم انظر في أجوبة المصنف كيف تستقيم؟

قوله: "ثم المنع".

أقول: لما فرغ من الاعتراضات الواردة على القياس شرع يبين اصطلاحات أهل الجدل (1).

(1) الجدل -لغة-: اللدد في الخصومة، والقدرة عليها، من جدله يجدُله، ويجدِله: أحكم فتله. واصطلاحًا: فتل الخصم عن قصده لطلب صحة قوله، وإبطال غيره.

وعند المناطقة: هو القياس المؤلف من المشهورات، والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان. =

ص: 368

قال: إذا شرع المعلل في نمَل المذاهب -ما دام ناقلًا- لا يتوجه إليه المنع، فإذا اختار قولًا، أو مذهبًا توجه إليه المنع، وهذا على وجهين: إما قبل تمام الدليل، أو بعده، فالأول، أي: المنع قبل تمام الدليل مناقضة، وهي: منع مقدمة بعينها سواء كان مع السند، أو بدونه، فإذا منع مقدمة، فعلى المستدل إثباتها، فإن أقام المعترض دليلًا على انتفاء تلك المقدمة، فالحق أنه لا يسمع منه: لأنه منصب المستدل، فلو مكن منه يقع الخبط في البحث.

وما قيل: من أنه يسمع منه بعد إقامة المستدل الدليل على تلك المقدمة سهو: لأنه إما أن يسلم دليله فتم له ما رامه، أو يمنع مقدمة من مقدمات هذا الدليل، فعلى المستدل إثباتها، وهكذا.

والثاني -وهو المنع بعد تمام الدليل-: إما منع للدليل بتخلف الحكم في صورة وهو النقض الاجمالي، أو مع تسليم الدليل بأن يقول: وإن دل دليلك على ما ذكرت، ولكن عندي ما ينفيه، وهذا يسمى معارضة، وحينئذ يكون المعترض مستدلًا.

= راجع: مقاييس اللغة: 1/ 433، والمصباح المنير: 1/ 93، ومختار الصحاح: ص/ 96، والقاموس المحيط: 3/ 346، والكليات: 2/ 172، وكشاف اصطلاحات الفنون: 1/ 242، والكافية في الجدل: ص/ 20، والجدل لابن عقيل: ص/ 1، والمنهاج في ترتيب الحجاج: ص/ 11، ودستور العلماء: 1/ 385، والإحكام لابن حزم: 1/ 41، والفقيه والمتفقه: 1/ 229، والتعريفات للجرجاني: ص/ 74، ومناهج الجدل: ص/ 45.

ص: 369

ثم وظيفة المستدل الدفع لما يورد عليه من المنوع، إلى أن ينهزم المعترض [بانتهاء الأمر إلى ضروري لا يمكن إنكاره، أو يقيني يكون مشهورًا لا يمكن الخلاف فيه](1) أو يقف على منع يعجز المستدل عن إبطاله، فينقطع.

قوله: "خاتمة: القياس من الدين".

أقول: القياس أحد الأدلة المتفق عليه (2).

فكونه من الدين (3)، ومما يتعبد به لا ينبغى أن يُخالَف فيه (4).

وما يقال: إن الدين ما كان مستمرًا، والقياس ليس مستمرًا يعني أنه قد لا يحتاج إليه.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

أى من حيث الجملة، وقد تقدم الخلاف في ذلك.

(3)

الأكثر على أنه من الدين لأنه مأمور به، وهو اختيار القاضي عبد الجبار من المعتزلة.

وفصل أبو علي الجبائي بين ما كان منه واجبًا بأن لم يكن للمسألة دليل غيره، فهو من الدين بخلاف ما إذا يكن واجبًا، فهو ليس منه لعدم الحاجة إليه.

وقال أبو الهذيل من المعتزلة أيضًا: ليس من الدين، وعلل ذلك بما ذكره الشارح هنا.

راجع: المعتمد: 2/ 244، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 337، وهمع الهوامع: ص/ 390، والغيث الهامع: ق (139/ أ)، ونشر البنود: 2/ 241.

(4)

وقد ذكر الآمدي، والزركشي أنهم إن عنوا بالدين ما كان من الأحكام المقصودة بحكم الأصالة، كوجوب العمل، وحرمته، ونحوه، فالقياس، واعتباره ليس بدين، فإنه غير مقصود لنفسه، بل لغيره، وإن عنى بالدين ما تعبدنا به، كان مقصودًا أصليًا، أو تابعًا، فالقياس من الدين لأنا متعبدون به كما سبق، واعتبر الآمدي الخلاف لفظيًا.

راجع: الإحكام: 3/ 140/ 141، وتشنيف المسامع: ق (126/ ب).

ص: 370

أو أنه قد ينعدم بانعدام المجتهدين فَيَرِد على كلا الوجهين السنة.

وهو جزء من أجزاء أصول الفقه، خلافًا لإمام الحرمين (1) هذا نقل المصنف (2) والذي في البرهان في أول باب القياس خلاف هذا.

فإنه قال: "الأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع القياس، فهو إذن أحق الأصول باعتناء الطالب"(3).

ولا شك أنه يريد به أصل الفقه (4)، إذ هو ليس من أصول الدين حقيقة إجماعًا.

(1) قال الزركشي: "وشبهته أن أصول الفقه أدلته، وأدلته إنما تطلق على المقطوع بها، والقياس لا يفيد إلا الظن، وهذا ممنوع: لأن القياس قد يكون قطعيًا، سلمنا، لكن لا نسلم أن أصول الفقه عبارة عن أدلته فقط، سلمنا لكن لا نسلم أن الدليل لا يقع إلا على المقطوع به" تشنيف المسامع: ق (126/ ب).

(2)

قلت: وقد أقره على هذا النقل الزركشي، والمحلي، والعراقي، والأشموني، شارحو كلامه، وكذا البناني، والعطار في حاشيتيهما، والشربيني في تقريراته.

راجع: الغيث الهامع: ق (137/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه: 2/ 338، وحاشية العطار عليه: 2/ 379، وهمع الهوامع: ص/ 390.

(3)

راجع: البرهان: 2/ 743.

(4)

قلت: هذا فهم الشارح رحمه الله لكلام الإمام ومراده هنا. لكني رجعت إلى ما قاله الإمام عند تعريفه لأصول الفقه فوجدته مؤيدًا لما نقله المصنف عنه سابقًا.

قال إمام الحرمين: "فإن قيل: فما أصول الفقه؟ قلنا: هي أدلته، وأدلة الفقه هي الأدلة السمعية، وأقسامها: نص الكتاب، ونص السنة المتواترة، والإجماع". =

ص: 371

وحكم المقيس (1) دين اللَّه بناء على أن القياس أصل، ودليل شرعي في مسائل دينية، ولا يصرح بأنه قول اللَّه، ولا رسوله: لاحتمال الخطأ على المجتهد.

وهو فرض كفاية، مع كثرة المجتهدين، وإذا انفرد واحد فيصير عليه فرض عين (2).

= وقال: "ولذلك قال المحققون: أخبار الآحاد، وأقيسة الفقه لا توجب عملًا لذواتها، وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل، وهى الأدلة القاطعة على وجوب العمل عند روايته أخبار الآحاد، وإجراء الأقيسة".

بل مما يوضح مراده في الأصل الذي نقله الشارح عنه قوله: "فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد، والأقيسة لا تلغى إلا في أصول الفقه، وليست قواطع! قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها" البرهان: 1/ 85 - 86.

وقال -في التلخيص بعد تعريفه لأصول الفقه بما سبق ذكره-: "فإن قيل: أفيدخل في هذا الفن ما لا يلتمس فيه القطع، والعلم؟

قيل: ما ارتضاه المحققون أن ما لا يبتغى فيه العلم لا يعد من الأصول.

فإن قبل: فأخبار الآحاد، والمقاييس السمعية لا تفضى إلى القطع، وهى من أدلة أحكام الشرائع! قيل: إنما يتعلق بالأصول تثبيتها أدلة لا وجوب الأعمال، وذلك ما يدرك بالأدلة القاطعة، فأما العمل المتلقى منها فمتصل بالفقه دون أصول الفقه" التلخيص: ق (1/ ب).

(1)

أى: يقال: إنه دين اللَّه تعالي، أو دين رسوله صلى الله عليه وسلم يعني أنه دل عليه.

(2)

راجع: المحلي مع حاشية البناني: 2/ 339، وهمع الهوامع: ص/ 391، والغيث الهامع: ق (137/ ب)، وتشنيف المسامع: ق (126/ ب)، ونشر البنود: 2/ 239، وشرح الكوكب المنير: 4/ 225.

ص: 372

وينقسم باعتباره القوة، والضعف إلى جلي وخفي (1)، الجلي منه: ما قطع بنفي الفارق فيه، أو كان احتمال الفارق فيه ضعيفًا.

والخفى خلافه، وهو ما كان احتمال الفارق فيه قويًا كقياس القتل بالمثقل على المحدد.

وقيل: الجلي ما ذكر أولًا، والخفي قياس الشبه، والواضح ما بينهما.

وقيل: الجلي قياس الأولى مثل قياس الضرب على التأفيف في الحرمة، والواضح المساوي كقياس إحراق مال اليتيم على أكله في التحريم، والخفي ما كان دونه كقياس التفاح على البر في الربا، كما تقدم تحقيقه سابقًا.

وقياس العلة: ما صرح فيه بالعلة مثل حرمت النبيذ كالخمر للإسكار.

وقياس الدلالة: ما يكون الجامع فيه لازم العلة (2).

(1) راجع تقسيم الأصوليين للقياس بهذا الاعتبار: اللمع: ص/ 55، والمنخول: ص/ 334، وأدب القاضي للماوردي: 1/ 586 - 600، والأحكام للآمدي: 3/ 95، والمحصول: 2/ ق/ 2/ 170، والجدل لابن عقيل: ص/ 11، والمنهاج للباجي: ص/ 26، وشرح العضد: 2/ 247، ومختصر البعلي: ص/ 150، والمحلي مع حاشية البناني: 2/ 339، وتيسير التحرير: 4/ 76، ونشر البنود: 2/ 243، وإرشاد الفحول: ص/ 222.

(2)

وينقسم القياس أيضًا باعتبار العلة إلى ثلاثة أقسام: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس في معنى الأصل كما ذكر هنا.

راجع: المنهاج للباجي: ص/ 26، والجدل لابن عقيل: ص/ 13، واللمع: ص/ 55، وأعلام الموقعين: 1/ 133، ومفتاح الوصول ص/ 155، وشرح العضد: 2/ 247، والمحلي وحاشية البناني عليه: 2/ 341، ومختصر البعلي: ص/ 150، وإرشاد الفحول: ص/ 222.

ص: 373

كما إذا قيس تحريم النبيذ على الخمر بعلية الرائحة اللازمة عادة للشدة المطربة، وهى ليست علة اتفاقًا، أو يكون الجامع أثرًا من آثار العلة كما إذا قيل: القتل بالمثقل يأثم فاعله، فيجب فيه القصاص كالقتل بالمحدد، فالإثم ليس علة، بل أثر من آثارها، أو يكون حكمًا من أحكامها كان يقال: تقطع الجماعة بواحد كما يقتلون به بجامع وجوب الدية عليهم حيث كان غير عمد.

ووجوب الدية حكم العلة التى هي القطع في الصورة الأولى والقتل في الثانية، وهو في الحقيقة استدلال بأحد موجبي الجناية من القصاص، والدية، الفارق بينهما العمد على الآخر.

والفاء في عبارة المصنف دالة على تفاوت مراتب القياس في الثلاثة المذكورة (1)، فالأول أولى من الثاني، والثاني أولى من الثالث.

وإذا جمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق، فهو القياس في معنى الأصل كقياس البول في الإناء، وصبه في الماء على البول فيه، بجامع أن لا فارق بينهما في مقصود المنع الثابت (2)، بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبول أحدكم في الماء الراكد"(3).

(1) يعني قوله: "وقياس الدلالة ما جمع فيه بلازمها، فأثرها فحكمها".

(2)

آخر الورقة (121/ ب من أ).

(3)

رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والبغوي عن أبي هريرة.

راجع: صحيح البخاري: 1/ 66، وصحيح مسلم: 1/ 162، وسنن أبي داود: 1/ 17، وتحفة الأحوذي: 1/ 222، وسنن النسائي: 24/ 1، وسنن ابن ماجه: 1/ 143، ومختصر سنن أبي داود: 1/ 75، وشرح السنة: 2/ 66.

ص: 374