المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المؤلف يودع الحياة - الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق - المقدمة

[السبكي، محمود خطاب]

الفصل: ‌المؤلف يودع الحياة

كما مال غيره من المعمرين. بل ما زال عاكفا على العمل، فى داره بين مسجده الزاهر، ومكتبته العامرة، ومؤلفاته القيمة، وجمعيته الشرعية الميمونة، وتلامذته العديدين الوافدين إليه يغترفون من منهله العذاب، ويحيطون به إحاطة الهالة بالقمر فى مجلسه الخاص بعد عصر كل يوم، ويعلوهم جميعا حياء وأدب جم من هيبة الشيخ وجلاله. وما يمنعهم حياؤهم السؤال عن مهمة دينية أو دنيوية. ومن جلس منهم لا يفك حبوته إلا مؤذن المغرب، يدعوه إلى الوقوف بين يدى الحى القيوم! !

‌المؤلف يودع الحياة

وما طالت حياة الشيخ بعد وداعه الأزهر، إنها لمدة قصيرة: سنتان إلا نحو شهرين. فى نهايتها يزوره الموت الزوام. وما اشتكى ألما، وما انقطع عن عمله الموصول، ولا عن مجلسه الخاص إلا بعد عصر الخميس الثالث عشر من شهر ربيع الأول عام اثنين وخمسين وثلاثمائة وألف (13 من ربيع الأول سنة 135 هـ)

وفى صبيحة يوم الجمعة الرابع عشر منه، أطل على بعض تلامذته من نافذة حجرته، فناوله آخر ملزمة من الجزء السادس من شرحه لسنن الإمام أبى داود (المنهل العذب المورود) كان يصححها لترسل إلى مطبعة الاستقامة. ولما حان وقت صلاة الجمعة، أخذ القوم يلتفتون يمنه ويسرة، علهم يحظون بطلوع الشيخ عليهم متقدما إلى الصف الأول، يستمع إلى الخطيب، ويؤدى صلاة الجمعة ويعظهم بعدها كعادته. فما حظوا، وارتد البصر منهم وهو كليل! ! وما حسبوا أن فقدانهم الشيخ هذه الساعات، يكون فقدانا لا رجعة بعده، ولا لقاء إلا يوم اللقاء! !

ساعة الوداع:

وفى منتصف الساعة الثانية بعد الظهر (الجمعة 14 من ربيع الأول سنة 1352 هـ)، (7 من يوليه سنة 1933) لفظ الشيخ آخر نفس من أنفاسه الطاهرة، وجاد بروحه العظيمة

ص: 20

الوثابة المتفانية فى نصره الدين والسنة المطهرة، ولا ينبغى شهرة ولا أثرة (1) وكان النبأ مروعا، وكانت الفاجعة أليمة، والكارثة عظمى، والخسارة غير هينة وليست على مسلمى مصر فحسب، بل على مسلمى الشعوب التى عرفت مكانته، وانطوت قلوبهم على محبته، وعلى العمل بما كان يدعو إليه من خير العمل. وكم كانت دهشة الناس وحيرتهم بهذا النبأ المزعج إذ فقدوا أمامهم ومحط آمالهم، من كانوا إليه يهرعون. وبدعوته إلى العمل بالدين الحق يسارعون. وكم كانت آلامهم التى تفتت الأكباد، وتصدع الأفئدة، وتحز حنايا (2) الضلوع، حينما وثقوا أن الشيخ ينتزع من بينهم انتزاعا إلى مقره الأخير، إلى روضته الندية إلى جدثه مهبط الرحمة والرضوان، بعد أن صلى عليه أكبر أنجاله الكرام الأستاذ السيد أمين، يؤم الجم الغفير ممن وصل إليه النبأ من سكان القاهرة، وهم قل من كثر من تلامذته ومحبيه المنتشرين فى القاهرة وضواحيها وبلدان القطر وغيره من الأقطار العربية.

تشييع الإمام الراحل إلى قبره:

صلى عليه هذا الجم الغفير فى ساحة داره الواسعة بجوار مسجده المعمور. ثم أخذ الناس يتهافتون على حمل سريره كلما مر عليهم وكنت ترى الشوارع مكتظة تموج بهم موجا. حتى أن السرير كانت لا تبصره العيون من ازدحام الجموع المشيعة، وكلهم تبدو على وجوههم علائم الأسى والحزن! !

واخترقت الجنازة فى سيرها شوارع الخيمية، والغورية، والسكة الجديدة، والمشهد الحسينى، والدراسة، وقرافة المجاورين، وخوند طولباى والسلطان أحمد ثم شارع قرافة باب الوزير. وفيه مدفن المرحوم إبراهيم باشا حليم. ثم انعطف السائرون يمنة مخترقين شارع حسن بك حسنى. وفيه على يسارهم المقبرة الشرعية،

(1)(الأثرة) بفتحتين، اسهم من استأثر بالشئ استبد به.

(2)

(تحز) أى تقطع الضلوع الشبيهة بالحنايا جمع حنية كفنية وهى القوس.

ص: 21