الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما له من الحواري الورديات:
عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة حورًا خلقهن الله تعالى من الورد يقال لهن: الورديات، لا يتزوج بهن إلا نبي أو صديق أو شهيد، وإن لأبي بكر منهن أربعمائة".
ذكر تشوق أهل الجنة إليه، وتسليمهم عليه إذا دخلها:
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل رجل الجنة، فلا يبقى أهل دار ولا أهل غرفة إلا قالوا: مرحبًا، إلينا إلينا" قال أبو بكر: يا رسول الله ماتوا على هذا الرجل في ذلك اليوم؟ قال: "أجل وأنت هو يا أبا بكر". خرجه أبو حاتم هكذا بالتاء باثنتين معدى بعلى، ولعله أراد: التوى بالقصر الهلاك، وخرجه في الفضائل: ماثوا هذا الرجل بالمثلثة بإسقاط على، وقال: الثوي الإقامة يقال: ثوى يثوي ثوا أي: أقام، والأول أنسب للجواب بأجل.
الفصل الثاني عشر: في ذكر نبذ من فضائله
قال أبو عمر وغيره واللفظ له: لا يختلفون أن أبا بكر شهد بدرًا والحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن رفيقه من أصحابه غيره، وأنه كان مؤنسه في الغار، وأنه قام بقتال أهل الردة وظهر من فضل رأيه في ذلك وشدة بأسه مع لينه ما لم يحتسب، وأظهر الله به دينه، وقتل على يديه كل من ارتد عن دين الله حتى ظهر أمر الله وهم كارهون.
وقال صاحب الصفوة: ذكر أهل العلم بالتواريخ أنه لم يفته مشهد من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين انهزم الناس ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته العظمى يوم تبوك، وأنه تنزه عن شرب المسكر في الجاهلية والإسلام، وأنه أول من فاء تحرزًا من الشبهات.
ذكر ما جاء في أنه كان خيرًا كله:
عن طارق قال: جاء ناس إلى ابن عباس فقالوا له: أي رجل كان أبو بكر؟ قال: كان خيرًا كله أو قال: كالخير كله على حدة كانت فيه، خرجه أبو عمر. وعن عبد خير عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخير ثلاثمائة وسبعون خصلة، إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل فيه واحدة منهن، فدخل بها الجنة" قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله هل فيَّ شيء منها؟ قال: "نعم، جمع من كل" خرجه في فضائله وخرجه ابن البهلول من حديث سليمان بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الربيع بن أنس قال: مكتوب في الكتاب الأول: مثل أبي بكر مثل القطر1 حيثما وقع نفع. خرجه في فضائله أيضًا وقال: حسن.
ذكر إثبات أفضليته بالمصاهرة:
تقدم في باب ما دون العشرة مصاهرته صلى الله عليه وسلم والمصاهرة إليه موجبة للجنة محرمة على النار، وعن ابن عمر عن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل نسب وصهر منقطع إلا نسبي وصهري" خرجه تمام في فوائده، وسيأتي كيفية تزوجه صلى الله عليه وسلم بعائشة في بابها من كتاب مناقب أمهات المؤمنين، إن شاء الله تعالى.
ذكر منزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم:
عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا مع علي، إذ أقبل أبو بكر فصافحه النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه وقبل فاه أبي بكر فقال صلى الله عليه وسلم:"يا أبا الحسن، منزلة أبي بكر عندي كمنزلتي عند ربي" خرجه الملاء في سيرته.
ذكر أنه كان عنده بمنزلة سمعه وبصره:
عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر يوم بدر وقد أراد أن يتقدم
1 المطر.
في أول الخيل فمنعه وقال: "أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري". خرجه الواحدي وأبو الفرج في أسباب النزول في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} 1 الآية.
ذكر أدبه مع النبي صلى الله عليه وسلم:
عن زيد بن الأصم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أنا أكبر أو أنت؟ " قال: لا بل أنت أكبر مني وأكرم وخير مني، وأنا أسن منك، خرجه ابن الضحاك. وعن الحسن قال: لما بويع أبو بكر قام دون مقام النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه حمزة بن الحارث.
ذكر أنه لم يسؤ النبي صلى الله عليه وسلم قط:
عن سهل بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، إن أبا بكر لم يسؤني فاعرفوا له ذلك" خرجه الخلعي.
ذكر كتمه سر النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عمر بن الخطاب قال: تأيمت حفصة من خنيس بن حذافة وكان ممن شهد بدرًا، فلقيت عثمان بن عفان فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة فقال: أنظر، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبا بكر فعرضتها عليه فصمت، فكنت عليه أوجد مني على عثمان فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، ثم لقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين لم أرجع إليك فقلت: أجل فقال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لنكحتها. أخرجه البخاري.
"شرح" اختلف في موجدته على أبي بكر لماذا كانت؟ فقيل: لمكان الود
1 سورة المجادلة الآية: 22.
الذي كان بينهما في الصحبة وقيل: لأنه لم يرجع إليه شيئًا وعثمان أراحه ولم يعلق خاطره؛ فلذلك اختلف وجده عليهما فكان على أبي بكر أكثر، وقد جاء في بعض الطرق: فكانت موجدتي على أبي بكر أكثر من موجدتي على عثمان.
ذكر حبه صلة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبه صلة قرابته:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال أبو بكر: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ أن أصل من قرابتي، أخرجه في حديث طويل.
ذكر إيثاره سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرة عينه:
تقدم في إسلام أبي قحافة من حديث أسماء قول أبي بكر: أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحًا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينك قال:"صدقت".
وعن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد قد أطاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب، فوقف فسلم ثم نظر مجلسًا1 يشبهه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه أيهم يوسع له، فكان أبو بكر جالسًا على يمين النبي صلى الله عليه وسلم فتزحزح له عن مجلسه، وقال: ههنا يا أبا الحسن، فجلس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، قال أنس: فرأيت السرور في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أبا بكر، إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل" خرجه أحمد في المناقب والخلعي وابن السمان في الموافقة.
ومما يقرب من هذا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه
1 مكانًا يجلس فيه يناسبه.
جلس على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فصعد إليه الحسن فقال: انزل عن مجلس أبي فقال: مجلس أبيك لا مجلس أبي، وبكى وأجلسه في حجره وبكى وقال علي: والله ما هذا عن رأيي فقال: والله ما اتهمتك، وفي رواية: فبلغ ذلك عليا فجاء وقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: والله ما أمرناه، فقال أبو بكر: والله ما اتهمتك، خرجه ابن السمان.
ذكر وفائه بعدات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:
عن جابر قال: أتي أبو بكر بمال من البحرين فقال: من كانت له عدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت، فقمت فقلت: لي عدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وما عدتك؟ فقلت: قال لي: "لأن أتاني الله مالًا لأحثين لك هكذا وهكذا وهكذا" قال: فحثا لي أبو بكر كما قلت ثلاث حثيات، حديث حسن صحيح.
وعن حبشي بن جنادة قال: كنت جالسًا عند أبي بكر فقال: من كانت له عدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقم، فقام رجل فقال: يا خليفة رسول الله وعدني ثلاث حثيات من تمر، فقال: أرسلوا إلى علي فقال: يا أبا الحسن، إن هذا يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده ثلاث حثيات من تمر فأحثها له قال: فحثاها1، قال أبو بكر: عدوها فوجدوا في كل حثية ستين تمرة لا تزيد واحدة على الأخرى فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة ونحن خارجون من الغار نريد المدينة:"يا أبا بكر، كفي وكف علي في العدد سواء" خرجه ابن السمان في الموافقة.
ذكر أن الله أعطاه ثواب من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم:
عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر: "يا أبا بكر إن الله أعطاني ثواب من آمن به منذ خلق آدم إلى أن بعثني،
1 أي: علي رضي الله عنه.
وإن الله أعطاك ثواب من آمن بي منذ بعثني إلى أن تقوم الساعة" خرجه الخلعي والملاء وصاحب فضائله.
ذكر شجاعته، وثبات قلبه عند الحوادث:
تقدمت أحاديث هذا الذكر في ذكر اختصاصه بأنه أشجع الناس، في فضل خصائصه.
ذكر علمه:
تقدم أيضًا في ذكر اختصاصه بالفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلميته بالأمور طرف منه، وذكرنا فيه ما يتضمن علمه وأعلميته، فلينظر ثمة1 وما يلتحق بهذا.
"ذكر فراسته وكراماته":
عن عائشة: أن أبا بكر كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما في الناس أحد أحب إلي غناء2 بعدي منك، ولا أعز علي فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا فلو كنت جددته واحتززته كان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث وإنما هو أخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله قالت: قلت: يا أبت لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية. خرجه في الموطأ وخرجه أبو معاوية الضرير، وزاد بعد قوله: ذو بطن بنت جارية، استوصي بها خيرًا، وإنه قد ألقي في نفسي أنها جارية فولدت أم كلثوم.
"شرح" جاد عشرين وسقًا أي: ما يجد من ذلك، ذكره الهروي وروى أن بني طي لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب، عزموا على الردة
1 أي: هناك.
2 نفعًا.
ومنع الزكاة، فقام فيهم عدي بن حاتم ووعظهم وخوفهم بالله وأعانه على ذلك زيد الخيل، ثم إن عدي بن حاتم قدم على أبي بكر بزكاة طي فسلم عليه فقال له: أتعرفني يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم أنت عدي الذي آمنت حين كفروا، وأقبلت حين أدبروا، وأوفيت حين غدروا، قد عرفتك وصاحبك زيد الخيل، ولو لم أعرفكما لعرفكما الله، خرجه الملاء.
ذكر اقتفائه آثار النبوة، واتباعه إياها:
تقدم في قتال أهل الردة قوله: والله لو منعوني عقالًا -وفي رواية: عناقًا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
وعن عائشة: أن فاطمة سألت أبا بكر أن يقسم لها ميراثها، وفي رواية أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، قال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورَّث؛ ما تركناه صدقة" 1 إنما كان يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته، زاد في رواية: إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ، ثم ذكر قصة طويلة، أخرجاه.
وقد روى حديث نفي الميراث جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة ولفظه:"لا تقتسم ورثتي دينارًا ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" أخرجه البخاري وابن عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام والعباس بن عبد المطلب.
وقد استنشد عمر طلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف فقال: نشدتكم بالذي تقوم السماء والأرض بإذنه، ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
1 في رواية: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث
…
" إلخ، وستأتي هنا.
"لا نورث ما تركنا صدقة"؟ قالوا: بلى. خرجه الخلعي وفي حديث أبي هريرة تصريح بأن ما تركه صلى الله عليه وسلم لا يورث مطلقًا وأن ما تركه يصنع به ما أمر به من صرفه في النفقة المذكورة ثم يتصدق بفاضله، وهذا يرد رواية من روى:"ما تركنا صدقة" بالنصب فإن صحت فهي غلط وإلا فالغالب أنها من وضع بعض المبتدعة حتى يجعل الميراث ثابتًا، والصدقة فيما تركه للصدقة.
وعن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: أعطني فدك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبها لي قال: صدقت يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يعطيكم منها قوتكم، فما تصنعين بها؟ قالت: أفعل فيها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل قال: ولك علي أن أفعل فيها ما كان أبوك يفعل قالت: والله لتفعلن ذلك قال: والله لأفعلن ذلك قالت: اللهم اشهد قال: فكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي في الفقراء والمساكين وابن السبيل، ثم ولي ذلك عمر ففعل مثل ذلك ثم فعل ذلك علي بن أبي طالب فقيل له في ذلك فقال: إني لأستحي من الله أن أنقض شيئًا فعله أبو بكر وعمر.
وعن أبي الطفيل قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: يا خليفة رسول الله أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ فقال: لا بل أهله، قالت: فما بال الخمس؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه كانت للذي بعده" فلما وليت رأيت أن أرده على المسلمين قالت: أنت ورسول الله أعلم ورجعت، خرجه ابن السمان في الموافقة.
وعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أتى العباس وعلي أبا بكر لما استخلف، فجاء علي يطلب نصيب فاطمة وجاء العباس يطلب نصيبه مما كان في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في يده نصف خيبر ثمانية عشر سهمًا وكانت ستة وثلاثين سهمًا وأرض بني قريظة وفدك فقالا: ادفعها إلينا إنها
كانت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما أبو بكر: لا أرى ذلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركنا فهو صدقة" فقام قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدوا بذلك قالا: فدعها تكن في أيدينا، تجري على ما كانت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أرى ذلك أنا الوالي من بعده وأنا أحق بذلك منكما، أضعها في موضعها الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعها فيه، فأبى أن يدفع إليهما شيئًا، فلما ولي عمر أتياه ثم ذكر قصة طويلة مضمونها أنهما ترددا إليه حتى دفعها إليهما وأخذ عليهما العهد أن يعملا فيها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل، خرجه بهذا السياق تمام في فوائده ومعناه في الصحيح.
وعن معاذ بن رفاعة عن أبيه قال: قام أبو بكر الصديق على المنبر فبكى ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه الأول على المنبر فبكى ثم قال: "سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية" خرجه الترمذي والحافظ الدمشقي في الموافقات.
ذكر أنه من الذين استجابوا لله والرسول:
عن عروة عن عائشة، قالت لي: أبواك والله من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، خرجه مسلم، وفي رواية يعني أبا بكر والزبير، وقد خرجه البخاري في قصة طويلة ستأتي في فصل فضائل الزبير إن شاء الله.
ذكر تعبده وما جاء من حسن صلاته:
عن عبد الرزاق قال: أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من الزبير، وأخذها ابن الزبير من أبي بكر، وأخذها أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجه في الصفوة.
وعن أنس قال: صلى أبو بكر بالناس الفجر فاقترأ البقرة في ركعتيه، فلما
انصرف قال له عمر: يا خليفة رسول الله ما انصرفت حتى رأينا أن الشمس قد طلعت، قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، خرجه البغوي والمخلص الذهبي، وقد تقدم ما جاء في وتره أول الليل في باب الشيخين.
ذكر نبذ من أدعيته وتسبيحه:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن أبي بكر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم" أخرجاه.
وعن أبي راشد الخيراني قال: أتيت ابن عمر فقلت له: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى صحيفة فنظرت فإذا فيها أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: "يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي شرًّا أو أن أجره إلى مسلم" خرجه ابن عرفة العبدي والترمذي عنه، وفي طريق عند غيرهما:"قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك".
وعن أبي يزيد المدني قال: كان من دعاء أبي بكر: اللهم هب لي إيمانًا ويقينًا ومعافاة ونية، أخرجه ابن أبي الدنيا.
وعن أبي معاوية بن قرة قال: بلغني أن أبا بكر كان يقول: اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم لقائك، خرجه في فضائله. وعن جعفر الصادق قال: كان أكثر كلام أبي بكر الصديق: لا إله إلا الله، خرجه الخجندي.
ذكر اشتماله على أنواع من البر:
تقدم في خصائصه ذكر اختصاصه بالسبق إلى أنواع من البر في اليوم الواحد، وفي فضل الشهادة له بالجنة.
ذكر أنه يدعى من أبواب الجنة كلها، وفيها طرف من ذلك:
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دعي الإنسان بأفضل عمل يكون فيه، فإن كانت الصلاة أفضل عمله دعي بها، وإن كان الصيام أفضل عمله دعي به، وإن كان الجهاد أفضل عمله دعي به" قال أبو بكر: يا رسول الله وثم1 أحد يدعى بعملين؟ قال: "نعم أنت" وفي رواية: "وثم باب من أبواب الجنة يقال له: الريان" فقال أبو بكر: يا رسول الله وثم أحد يدعى منها كلها؟ قال: "نعم أنت" خرجهما في فضائله.
"شرح" زوجين وجاء في بعضها: زوجًا وهما بمعنى واحد، وكل شيء قرن بصاحبه فهو زوج وزوجين، فالمرأة زوج الرجل وهو زوجها ومنه قولهم: زوجت بين الإبل أي: قرنت كل واحد بشكله، وكذلك كل شيء، قال تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} 2 أي: مثلين وشكلين، وقد تقدم زيادة بيان في ذلك في باب الشهادة له بالجنة.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل ينفق زوجين في سبيل الله إلا والملائكة معهم الرياحين على أبواب الجنة ينادونه: يا عبد الله يا مسلم، هلم" فقال أبو بكر: إن هذا الرجل ما على ماله توى فقال: "يا أبا بكر إني لأرجو أن تكون منهم، بل وأنت منهم" خرجه في فضائله.
"شرح" توى مصدر توى المال يتوي تواء: إذا هلك، وأتوى فلان ماله: إذا أذهبه، وقول أبي بكر: ما على ماله توى إشارة إلى حسن العاقبة فيه.
1 وهناك.
2 سورة الذاريات الآية: 49.
ذكر ما أخبرت به زوجته من عمله، وأنه كان يوجد منه رائحة كبد مشويّ:
وروي أن عمر بن الخطاب أتى إلى زوجة أبي بكر بعد موته فسألها عن أعمال أبي بكر في بيته ما كانت؟ فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها، ثم قالت: إلا أنه كان في كل ليلة جمعة يتوضأ ويصلي العشاء، ثم يجلس مستقبلا القبلة رأسه على ركبتيه، فإذا كان وقت السحر رفع رأسه وتنفس الصعداء فيشم في البيت روائح كبد مشوي، فبكى عمر وقال: أنى لابن الخطاب بكبد مشوي، خرجه الملاء في سيرته.
ذكر زهده رضي الله عنه:
تقدم من حديث هذا الذكر خروجه عن جميع ماله في كتاب الشيخين وحديث على: "إن تؤمروا أبا بكر تجدوه زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة" في باب أبي بكر وعمر وعلي، وحديث:"تحلله بالعبا" في فضل خصائصه في ذكر اختصاصه بمواساة النبي صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عباس قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم وعليه إحدى عشرة رقعة بعضها من آدم، ومات أبو بكر وعليه ثلاث عشرة رقعة بعضها من آدم، خرجه في الفضائل وقال: غريب.
وعن زيد بن أرقم قال: استسقى أبو بكر فأتى بإناء فيه ماء وعسل، فلما أدناه من فمه بكى حتى أبكى من عنده فسكت وسكتوا، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته، ثم مسح وجهه فأفاق فقالوا: ما هاجك على هذا البكاء يا أبا بكر؟ قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يدفع عنه شيئًا يقول: "إليك عني" ولا أرى معه أحدًا فقلت: يا رسول الله أراك تدفع عنك شيئًا ولم أر معك أحدًا؟ فقال: "هذه الدنيا تمثلت لي بما فيها فقلت: إليك عني، فتنحت". وقال: "أما والله لئن أفلت مني لا ينفلت
مني من بعدك، فخشيت أن تكون قد لحقتني فذلك الذي أبكاني" خرجه الملاء.
ذكر رضاه عن الله تعالى، وسلام الله عليه:
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر هذا جبريل يقرئك من الله السلام ويقول لك: أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط" فبكى أبو بكر وقال: أسخط على ربي؟! أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض، خرجه الحافظ ابن نعيم البصري.
ذكر خوفه من الله تعالى، واعترافه:
عن الحسن قال: كان أبو بكر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد وتؤكل. وعن أبي عمران الجوني عن أبي بكر أنه كان يقول: لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن، خرجهما في الصفوة.
وعن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 1 آلى أبو بكر أن لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، خرجه الواحدي وخرج في فضائله معناه. عن عبد الرحمن بن عوف وعن طارق بن شهاب قال: قال أبو بكر لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} 2: آليت على نفسي أن لا أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، أخرجه الواحدي. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} 3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، ألا أقرئك آية أنزلت على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قال: فأقرأها قال: فلا أعلم إلا أني وجدت انقصامًا في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما
1 سورة الحجرات الآية: 2.
2 سورة الحجرات الآية: 3.
3 سورة النساء الآية: 123.
شأنك يا أبا بكر؟ " فقلت: يا رسول الله بأبي وأمي وأينا لم يعمل سوءًا وإنا لمجزيون بما عملنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك حتى تلقوا الله وليست لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة" خرجه في فضائله.
وخرج الماوردي عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله ما أشد هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، إن المصيبة في الدنيا جزاء".
وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر لم يحنث قط في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين فقال: لا أحلف على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني، أخرجه الحميدي عن أبي بكر البرقاني، وعن قيس بن أبي حازم قال: رأيت أبا بكر آخذًا بطرف لسانه وهو يقول: هذا الذي أوردني، خرجه في الصفوة.
وعن عمر أنه دخل على أبي بكر وهو ينصنص لسانه أو يحرك لسانه ويقول: إن ذا أوردني الموارد، خرجه صاحب فضائله والملاء بهذا السياق، وخرج ابن حرب الطائي أن أبا بكر قال: لساني أوردني الموارد.
"شرح" النصنصة بالصاد المهملة معناها: التحريك، واللقلقة بالمعجمة لغة فيها، إلا أنها غير مسموعة في هذا الحديث.
وعنه أيضًا أنه دخل عليه وهو آخذ بطرف لسانه ويقول: إن هذا أوردني الموارد، ثم قال: يا عمر لا حاجة لي في إمارتكم فقال عمر: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، خرجه في فضائله. وروي أنه كان له حصاة يضعها في فمه خوفًا من فلتات اللسان، خرجه الملاء.
ذكر ورعه رضي الله عنه:
عن عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر
يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: ما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه، أخرجه البخاري.
وعن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر غلام يغل عليه، فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ فقال: حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني، فلما أن جاء اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني فقال: أف لك وكدت تهلكني، فأدخل يده في حلقه وجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء، فدعا بعس ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به" فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. خرجه في الصفوة والملاء في سيرته.
"شرح" يغل عليه أي: يأتيه بغلته وفلان يغل على فلان وأغل القوم: إذا بلغت غلتهم، والعس: القدح العظيم.
وقد تقدم ذكره في شرح قوله صلى الله عليه وسلم، والسحت: الحرام والكهانة: الإخبار عن المغيبات في مستقبل الزمان، وقد كان في العرب كهنة كشن وسطيح وغيرهما، فمنهم من كان له تابع من الجن ورئي يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يعرف الأمور بمقدماتها وأسبابها يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف لأنه يدعي معرفة المسروق واسم السارق ومكان السرقة، ومنهم من مستنده في ذلك حساب وخط في رمل وغير ذلك. وما أحسن الكهانة! فيه إشعار بأنه لو كان
يحسن الكهانة لكان ما يأخذه مباحًا وهو كذلك؛ لأنها معاملة كانت جائزة بينهم، ومعاملة الكفار إذا تعاوضوا فيها قبل الإسلام نفذناها وأمضيناها، فلو كان العبد يحسن الكهانة لاستقرت الأجرة في رقبتهم له ولاستحق مؤاخذة منهم، ولما لم يحسنها كان ذلك جزعًا منه وأكل مال بالباطل، فإنهم لو علموا أنه لا يحسن الكهانة ما عاملوه وكانت المعاملة باطلة في أصلها؛ فلذلك حرمت والله أعلم.
وعن مجاهد قال: لما نزل عذر عائشة، جاء أبو بكر فجلس عند رأسها فقالت: قد أنزل الله عذري بغير حمد منك ولا صاحبك فهلا عذرتني؟ فقال لها أبو بكر: فكيف أعذرك بما لا أعلم، خرجه في فضائله وقال: حديث حسن.
وعن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به وإن لم يكن في كتاب الله وعلم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به وإن لم يجد خرج فسأل المسلمين فقال: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر يذكرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء فيه فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا ديننا أو قال: من يحفظ علينا سنة نبينا، خرجه الإسماعيلي في معجمه وصاحب فضائله.
وعن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر. خرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه.
وعن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلب قالت: فغمني فقلت: لأي شيء تتقلب؟
لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي هي عندك قالت: فجئته بها، فدعا بنار فأحرقها فقلت: ما لك يا أبت تحرقها؟ قال: ما بت الليلة، خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني، فأكون قد تقلدت ذلك، خرجه في فضائله وقال: غريب.
وعنها قالت: لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة، فنظرنا فإذا هو عبد نوبي يحمل صبيانه وإذا ناضح كان يسقي بستانه فبعثنا بهما إلى عمر فبكى عمر وقال: رحمة الله على أبي بكر، لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا، خرجه صاحب الصفوة والفضائلي.
وخرجه ابن قتيبة في المعارف ولفظه: انظري يا بنية فما زاد في مال أبي بكر منذ ولينا هذا الأمر رديه على المسلمين، فوالله ما نلنا من أموالهم إلا ما أكلنا في بطوننا من جريش الطعام، ولبسنا على ظهورنا من خشن ثيابهم، فنظرت فإذا بكر وجرد قطيفة لا تساوي خمسة دراهم، فلما جاء بها الرسول إلى عمر قال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين أتسلب هذا ولد أبي بكر قال: كلا ورب الكعبة لا يتأثم بها أبو بكر في حياته وأتحملها بعد موته، رحم الله أبا بكر لقد كلف من بعده تعبًا.
وخرج البغوي معناه في معجمه بزيادة ولفظه: يا بنية إني كنت أتجر1 قريش وأكثرهم مالًا، فلما شغلتني الإمارة رأيت أن أصيب من المال فأصبت هذه العباءة القطوانية وحلابًا وعبدًا، فإذا مت فأسرعي به إلى ابن الخطاب، يا بنية ثيابي هذه كفنيني فيها قالت: فبكيت وقلت: يا أبت نحن أيسر من ذلك فقال: غفر الله لك وهل ذلك إلا المهل قالت: فلما مات بعثت بذلك إلى ابن الخطاب فقال: يرحم الله أباك، لقد أحب أن
1 أعظمهم تجارة.
لا يترك لقائل مقالًا.
وخرج القلعي معناه وقال بعد قوله فأبلغيه عمر: ولم يكن عنده دينار ولا درهم، ما كان إلا خادم ولقحة ومحلب، فلما رجعوا من جنازته أمرت به عائشة إلى عمر فقال عمر: يرحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده.
"شرح" الناضح: البعير يستقى عليه والأنثى: ناضحة وسانية، جريش الطعام: غليظه وجرشت الشيء: إذا لم ينعم دقه وملح جريش: لم يطيب، البكر بالفتح: الفتى من الإبل والأنثى: بكرة وبالكسر: المرأة التي ولدت بطنًا واحدًا وبكرها: ولدها الذكر والأنثى فيه سواء، وكذلك هي في الإبل، القطيفة: دثار مخمل والجمع: قطائف، وجرد القطيفة من إضافة الشيء إلى صفته والمراد أن القطيفة انجرد وبرها لكثرة الاستعمال، ولعله بالتحريك من قولهم: رجل أجرد بين الجرد: لا شعر عليه والجرد بالتحريك: فضاء لا نبات فيه، يتأثم أي: يتجنب الإثم وكذلك يتحرج ويتحنث، العباءة القطوانية منسوبة إلى قطوان موضع بالكوفة، والحلاب والمحلب بالكسر: الإناء يحلب فيه، والمهل هنا: القيح والصديد، وفي قوله تعالى:{يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} قيل: هو النحاس المذاب وقيل: دردي الزيت.
ذكر تنزيهه عن شرب الخمر في الجاهلية والإسلام، وعن قول الشعر في الإسلام:
عن أبي العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكر في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ قال: أعوذ بالله، فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي وأحفظ مالي، فمن شرب الخمر كان مضيعًا في عرضه ومروءته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"صدق أبو بكر" مرتين، خرجه الرازي.
عن عائشة: أن أبا بكر لم يقل شعرًا في الإسلام حتى مات، وأنه كان قد حرم الخمر في الجاهلية.
ذكر تعففه عن المسألة:
عن ابن أبي مليكة قال: كان ربما يسقط الخطام من يد أبي بكر فيضرب بذراع ناقته فينحيها فيأخذه قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ فقال: إن حبي1 صلوات الله عليه وسلامه أمرني أن لا أسأل الناس شيئًا، خرجه أحمد وصاحب الصفوة.
ذكر تواضعه:
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنك لست تصنع ذلك خيلاء" خرجه البخاري.
وعن عطاء بن السائب قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر فيها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: إلى أين تريد يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: السوق قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة وما كسوة في الرأس والبطن، خرجه في الصفوة.
وعن عمر بن إسحاق قال: خرج أبو بكر وعلى عاتقه عباءة له فقال له رجل: أرني أكفك فقال: إليك عني لا تغرني أنت وابن الخطاب عن عيالي، خرجه في الصفوة. وقال: قال علماء السيرة: كان أبو بكر يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع قالت جارية من الحي: الآن من يحلب لنا منائح دارنا؟ فسمعها فقال: لأحلبنها لكم، وأرجو أن لا يغرني ما دخلت فيه عن خلق كنت فيه، فكان يحلب لهم رحمه الله.
1 حبيبي.
وعن عمر أنه كان رديف أبي بكر قال: وكنا نمر بالناس فنسلم عليهم فيردون، قال أبو بكر: لقد فضلنا الناس اليوم بزيادة كثيرة، خرجه أبو عبد الله الحسين القطان.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قعد أبو بكر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء الحسن بن علي فصعد المنبر وقال: انزل عن منبر أبي فقال له أبو بكر: منبر أبيك لا منبر أبي، منبر أبيك لا منبر أبي فقال علي وهو في ناحية القوم: إن كان لعن غير أمري، خرجه أبو بكر بن الأنباري.
وعن ابن عمر: أن أبا بكر بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام ومشى معه نحوًا من ميلين فقيل له: يا خليفة رسول الله لو انصرفت؟ فقال: لا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار" خرجه ابن حبان.
ذكر سرعة رجوعه عن غضبه، وما ظهر من بركته:
عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرة:"من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس" وأن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة وأبو بكر بثلاثة وأنا وأبي وأمي ولا أدري هل قال: وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر، وأن أبا بكر تعشى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعد أن مضى من الليل ما شاء الله تعالى فقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ أو قالت: ضيفك قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء قد عرضوا عليهم فغلبوهم قال: فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا غنثر فجذع وسب وقال: كلوا لا هنيئًا وقال: والله لا أطعمه أبدًا وحلف الضيف أن لا يطعمه حتى يطعمه أبو بكر قال أبو بكر: هذه من الشيطان، قال: فدعا بالطعام فأكل قال: وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، قالت: حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت
قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر، فإذا هي كما هي وأكثر قال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني، هي الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه، ثم أكل منها لقمة ثم حملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده وكان بيننا وبين قوم عهد فمضى الأجل فتفرقنا اثني عشر رجلًا مع كل واحد منهم أناس، الله أعلم كم مع كل رجل منهم فأكلوا1 منها أجمعون، أخرجاه.
"شرح" الغنثر: الجاهل، جذع أي: خاصم والمجاذعة: المخاصمة.
وعن أبي برزة الأسلمي قال: كنا عند أبي بكر الصديق في عمل فغضب على رجل من المسلمين، فاشتد غضبه عليه جدا فلما رأيت ذلك قلت: يا خليفة رسول الله أضرب عنقه؟ فلما ذكر القتل أضرب عن ذلك الحديث أجمع إلى غير ذلك من النحو قال: فلما تفرقنا أرسل إلي بعد ذلك أبو بكر وقال: يا أبا برزة ما قلت؟ قال ونسيت الذي قلت قلت: ذكرنيه قال: أما تذكر ما قلت؟ قلت: لا والله قال: أرأيت حين رأيتني غضبت على الرجل فقلت: أضرب عنقه يا خليفة رسول الله؟ أما تذكر ذلك أو كنت فاعلًا؟ قال: قلت: نعم والله والآن إذا أمرتني فعلت، فقال: ويحك أو ويلك ما هذه لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه أحمد.
"شرح" ويح: كلمة ترحم، وويل: كلمة عذاب وقال اليزيدي: هما بمعنى واحد، تقول: ويح لزيد وويل له ترفعهما على الابتداء ولك نصبهما بإضمار فعل، كأنك قلت: ألزمه الله ويحًا وويلًا، ولك أن تقول: ويلك وويحك على الإضافة وويح زيد وويله كذلك، والنصب بإضمار فعل أيضًا.
1 وهذا من البركة الحسية، يدل على كرامة أبي بكر رضي الله عنه.
ذكر غيرته، وتزكية النبي صلى الله عليه وسلم زوجه 1:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس، فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ فرآهم فكره ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لم أر إلا خيرًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قد برأها من ذلك" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "لا يدخل رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان" خرجه مسلم والنسائي والحافظ أبو القاسم في الموافقات.
ذكر تكذيب ملك إنسانًا وقع بأبي بكر، ولم يزل كذلك حتى انتصر لنفسه:
عن سعيد بن المسيب قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه إذ وقع رجل بأبي بكر فآذاه فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثانية فصمت عنه ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر أنه وجد عليه فقال: وجدت علي يا رسول الله حين انتصرت منه وقد أعرضت عنه مرتين فظننت أنك ستردعه عني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان" خرجه أبو داود وأبو القاسم في الموافقات.
وقد قيل: إن قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} 2 الآية في ذلك. عن مقاتل أن رجلًا نال من أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر فسكت عنه أبو بكر ثم رد عليه، فقام صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل شيئًا حتى إذا رددت عليه قمت؟ فقال: "إن ملكًا كان يجيب عنك، فلما رددت ذهب الملك وجاء
1 زوج أبي بكر رضي الله عنه.
2 سورة النساء آية 148.
الشيطان" فنزلت، ذكره أبو الفرج في أسباب النزول.
ذكر ما جاء في الترغيب في محبته:
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حب أبي بكر واجب على أمتي" خرجه الحافظ السلفي في مشيخته.
وعنه قال: كنا في بيت عائشة أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وأنا يومئذ ابن خمس عشرة سنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، ليت أني لقيت إخواني فإني أحبهم" فقال أبو بكر: يا رسول الله نحن إخوانك قال: "لأنتم أصحابي، إخواني الذين لم يروني وصدقوني وأحبوني حتى إني لأحب إلى أحدهم من ولده ووالده" قالوا: يا رسول الله إنا نحن إخوانك قال: "لأنتم أصحابي، ألا تحب يا أبا بكر قومًا أحبوك بحبي إياك -قال: فأحبهم ما أحبوك بحبي إياك" خرجه الأنصاري.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقعد فقال: "يا عمر إني أشتاق إلى إخواني" قال عمر: يا رسول الله أفلسنا إخوانك؟ قال: "لأنتم أصحابي، ولكن إخواني قوم آمنوا بي ولم يروني" قال: فدخل أبو بكر على بقية ذلك فقال له عمر: يا أبا بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني أشتاق إلى إخواني" فقلت: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: "لا ولكن أنتم أصحابي، ولكن إخواني قوم آمنوا بي ولم يروني" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ألا تحب قومًا بلغهم أنك تحبني فأحبوك بحبك إياي، فأحبهم أحبهم الله" خرجه ابن فيروز.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كانت الليلة التي ولد فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقبل ربكم عز وجل على جنة عدن فقال: وعزتي وجلالي، لا أدخلك إلا من أحب هذا المولود" خرجه علي بن نعيم البصري وقال: غريب من حديث الزهري عن نافع، وخرجه الملاء في سيرته.
وعن قيس بن أبي حازم قال: التقى أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب فتبسم أبو بكر في وجه علي فقال له علي: ما لك تبسمت؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجوز أحد الصراط إلا من كتب له علي بن أبي طالب الجواز" فضحك علي وقال: ألا أبشرك يا أبا بكر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يكتب الجواز إلا لمن أحب أبا بكر" خرجه ابن السمان.
وعن أنس أن يهوديا أتى أبا بكر فقال: والذي بعث موسى كليمًا إني لأحبك، فلم يرفع له أبو بكر رأسًا تهاونًا باليهودي، قال: فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك:" قل لليهودي الذي قال لأبي بكر إني أحبك: إن الله عز وجل قد أحاد عنه في النار خلتين، لا توضع الأنكال في قدميه ولا الغل في عنقه لحبه أبا بكر" فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فأحضره فأخبره الخبر قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد1 رسول الله حقا، والذي بعثك بالنبوة لا ازددت لأبي بكر إلا حبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هنيئًا هنيئًا" خرجه الملاء في سيرته.
شرح أحاد أصله أمال، والمراد والله أعلم هنا: أزال وهو داخل في الميل، تقول: حاد يحيد حيودًا وحيدة وحيدودة، والأنكال جمع نكل بالكسر وهو القيد، والغل: ما يجعل في العنق.
ذكر ما جاء عن عمر في تفضيله أبا بكر على نفسه:
عن ابن عمر قال: قيل لعمر: ألا تستخلف؟ فقال: إن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر الصديق، متفق على صحته وسيأتي في فصل وفاة عمر من
1 يا محمد.
كتاب مناقبه.
وعن ابن عباس قال: قال عمر: والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إليَّ أن أتقدم على قوم فيهم أبو بكر، أخرجاه.
وعن أبي عمران الجوني قال: قال عمر: وددت أني شعرة في صدر أبي بكر، خرجهما في فضائله. وعن الحسن بن أبي الحسن قال: قال عمر: وددت أني من الجنة حيث أرى أبا بكر، خرجه في فضائله.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال عمر: أبو بكر سيدنا وخيرنا وقد تقدم في فصل الخصائص، وتقدم فيه أيضًا حديث القائل له: ما رأيت أحدًا خيرًا منك فقال: هل رأيت أبا بكر
…
الحديث.
ذكر ما يتضمن تعظيم عمر أبا بكر:
عن أنس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم دارنا فحلبنا له من شاة داجن وشيب له بماء من ماء بئر في الدار وأبو بكر عن شماله وأعرابي عن يمينه، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر ناحية فقال عمر: أعط أبا بكر، فناول الأعرابي وقال:"الأيمن فالأيمن" خرجه بهذا السياق علي بن حرب الطائي وقد تقدم في الخصائص مختصرًا من حديث الموطأ.
وعنه قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا فحلبنا له من داجننا وشبنا لبنها من ماء الدار، وعن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أهل البادية ومن وراء الرجل عمر بن الخطاب وعن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، فشرب حتى إذا نزع القدح من فيه أو همّ بنزعه قال عمر: يا رسول الله أعطه أبا بكر، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي وقال:"الأيمن فالأيمن" خرجه النسائي.
ذكر ما جاء عن علي أنه كان إذا حدثه أحد استحلفه غير أبي بكر:
عن علي قال: كنت إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء، فإذا حدثني عنه غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته،
وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس من عبد يذنب ذنبًا فيقوم فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر، إلا غفر الله له " خرجه النسائي والحافظ في الأربعين البلدانية.
وعنه أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الصحابة أين يدفن؟ قال أبو بكر: عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس من نبي يموت إلا دفن حيث يقبض، وأبو بكر مؤتمن على ما جاء به.
وعنه قال: سمعت أبا بكر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يذنب ذنبًا، فقام فتوضأ فأحسن الوضوء، فقام فصلى ثم استغفر الله تعالى، إلا كان حقا على الله تعالى أن يغفر له" قال: فجعل ينادي بها على المنبر: صدق أبو بكر، صدق أبو بكر وذلك لأن الله تعالى قال:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} 1 خرجهما في فضائله.
فصل في التنبيه على ما رواه علي رضي الله عنه في فضل أبي بكر، وما روى عنه:
وأحاديث هذا الفصل كلها مذكورة في غيره متقدمة ومتأخرة، وإنما لما كانت الدواعي متوفرة عد ما يرويه علي وما يروى عنه في فضل أبي بكر، وكذلك ما يرويه أبو بكر ويروى عنه فلذلك عقدنا هذا الفصل ننبه فيه على ما تقدم وتأخر ليطلب في مواضعه ونعقد أيضًا فصلًا مثله في مناقب علي إن شاء الله.
وقد ذكرنا ما رواه أو روي عنه مما تضمن فضل أبي بكر وغيره في آخر باب الشيخين ما خلا حديث "مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل" يعني أبا بكر وعليا، فإنه في فصل بعده وأما ما اختص بأبي بكر فنحن نذكره هنا.
1 سورة النساء آية: 110.
فمنها حديث النزال بن سبرة عنه في قوله في أبي بكر: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، رضيه صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لديننا، وحديث ابن يحيى في المعنى.
وعن علي أن الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق، الثلاثة في فضل اسمه، وحديث الحسن أن رجلًا سأل عليا: كيف سبق المهاجرون إلى بيعة أبي بكر؟ فقال: إنه سبقني بأربعة، الحديث تقدم في ذكر أنه أول من أظهر إسلامه، وحديث آخر عنه في معناه فيه، وحديث تضمن قوله صلى الله عليه وسلم لجبريل:"من يهاجر معي؟ " قال: أبو بكر، وحديث:"ما منكم من أحد إلا وقد كذبني إلا أبو بكر" في أول الخصائص وحديث: "إني أترككم فإن يرد الله بكم خيرًا" الحديث في ذكر اختصاصه بالخيرية، وحديث أبي سريجة عنه أن أبا بكر مثبت القلب، وحديث "إنه أشجع الناس".
وقوله: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفجعنا بنفسك، تقدم في ذكر اختصاصه بالأشجعية، وحديث:"إن الله تعالى يكره تخطئة أبي بكر" في الخصائص في أعلميته، وحديث أن قوله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أبو بكر في الخصائص في آخرها، وحديث رضيه صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا تكرر متقدمًا ومتأخرًا في فصل خلافته، وفي هذا الفصل قوله: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر للصلاة وهو يرى مكاني.... الحديث، وحديث قيس بن عباد عنه في المعنى، وحديث أن الله أعطاه ثواب من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في فصل فضائله.
وحديث تجلي الله تعالى له خاصة في فصل خصائصه، وحديث "رحم الله أبا بكر، كان من أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف" في خصائصه، وحديث:"إن الخير ثلاثمائة خصلة، وفيه منها جمع من كل" في فضائله، وحديث:"نازلت ربي فيك يا علي ثلاثًا فأبى إلا أبا بكر" سيأتي في فصل خلافته، وثناؤه عليه يوم مات في فصل وفاته إن شاء الله تعالى.
ذكر اعتذار عبد الله بن عمر في تقديمه أباه في السلام على أبي بكر تنبيهًا على أفضليته 1:
عن عبد الله بن عمر: كان إذا قدم من سفر لم يدخل على أهله حتى يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين، ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه وعلى أبي بكر وعمر، وكان إذا سلم على عمر قال: السلام عليك يا أبي، لولا أنك أبي ما بدأت بك قبل أبي بكر، خرجه أبو بكر بن أبي داود.
ذكر ما روي عن عائشة في أبي بكر:
عنها قالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق ونزل بأبي ما لو نزل على الجبال الراسيات لهاضها قلت: فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحطها وثنائها، خرجه الطبراني.
وعن القاسم بن محمد قال: سمعت عائشة تقول: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اشرأب النفاق وارتدت العرب وعاد أصحاب محمد كأنهم معزى بحظيرة في حفش، والله ما اختلفوا في الأمر إلا طار أبي بكذا وغنائها، خرجه الإسماعيلي في معجمه.
وعنها وقد بلغها أن قومًا تكلموا في أبيها، فبعثت أزفلة من الناس وعلت وسادتها وأرخت ستارتها فحمدت الله تعالى وصلت على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قالت: أبي وما أبي، والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وظل مديد، هيهات، كذبت الظنون، أنجح والله إذ كديتم، وسبق إذ ونيتم، سبق الجواد إذا استولى على الأمد فتى قريش، ناشئًا وكهفًا كهلًا يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها ويلم شعثها حتى حليته قلوبها ثم استشرى في دينه.
وفي رواية: استشرى في الله تعالى، فما برحت شكيمته في ذات الله عز وجل حتى اتخذ بفنائه مسجدًايحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان رحمه الله
1 أفضلية أبي بكر رضي الله عنه.
غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجي النشيج، فأنصفت عليه نسوان أهل مكة وولدانهم يسخرون منه ويهزءون به:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 1 وأكبرت رجال ورجالات فحنت قسيها وفوقت سهامها، وامتثلوه غرضًا.
وفي رواية: فانتثلوه عرضًا، فما فلوا له صفاة ولا قصفوا له قناة، ومضى على سيسائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه ورست أوتاده ودخل الناس في دين الله أفواجًا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتًا، واختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم اضطرب حبل الدين ومرج أهله، وبغى الغوائل وظنت رجال أن قد اكتثبت نهزها.
وفي رواية: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نصب الشيطان رواقه ومد طنبه، ونصب حبائله وظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين يظنون، وأبي أبو بكر الصديق بين أظهرهم، فقام حاسرًا مشمرًا وأقام أوده بثقافته، زاد في رواية: فجمع حاشيته ورفع قطريه فرد نشر الإسلام على عزه، ولم شعثه بطيه، وأقام أوده بثقافته حتى امذقر النفاق بوطأته، فلما انتاش الدين بنعشه.
وفي رواية: حتى امذقر النفاق بوطأته وانتاش الدين بنعشه، فلما أراح الحق على أهله وقرت الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، حضرت منيته فسد ثلمته بنظره في الشدة والرحمة ذاك ابن الخطاب، لله در أم حملته وردت عليه لقد أوحدت به فديخ الكفر وفنخها وشرك الشرك شذر مذر، فأروني ماذا ترون؟ وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم؟ أم يوم طعنه إذ نظر لكم؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ثم التفتت إلى الناس فقالت: سألتكم بالله، هل أنكرتم مما قلت شيئًا؟ قالوا: اللهم لا. خرجه صاحب الصفوة في فضل عائشة في فصاحتها
1 سورة البقرة الآية: 15.
وصاحب فضائله وقال: حسن صحيح.
وخرجه الحافظ أبو القاسم السمرقندي بالروايات المزيدة.
"شرح" الأزفلة: جماعة وجمعه: أزافل، تعطوه الأيدي: تناوله يقال: عطا يعطو وظبي عاط: يتناول الشجر، الطود هو: الجبل العظيم فاستعارته له مشرف عال، أنجح إذ كديتم أي: انقطعتم وآيستم يقال: أكدى يكدي فهو مكد مأخوذ من كدية الركية، وهو أن يحفر الحافر فيبلغ إلى الكدية وهي الصلابة من حجر أو غيره فلا يعمل معوله شيئًا، فييأس ويقطع الحفر، ونيتم أي: ضعفتم تقول: ونى يني وناء وونياء إذا ضعف، يريش مملقها أي: يقوى فقيرها وأصله من رشت السهم تقول: رشت الرجل أي: قويته فارتاش أي: قوي والمملق: الفقير تقول منه: أملق إملاقًا.
يرأب شعبها أي: يلائمه ويجمعه والشعب: الصدع وهو الشق في الشيء، ويلم شعثها والمراد بالشعث هنا انتشار الأمر والتفرق بعد الاجتماع كما يتشعث الرأس واللم: الجمع، حليته قلوبها أي: أسلحته وأعجبها تقول: حلا يحلو حلاوة وحلا بالكسر بعيني وفي عيني وبصدري وفي صدري يحلى حلاوة: إذا أعجبك وقال الأصمعي: حلى في عيني بالكسر وحلا في عيني بالفتح، استشرى في دينه أي: ألح فيه، فما برحت شكيمته في ذات الله يقال: فلان شديد الشكيمة إذا كان شديد النفس ثابتًا على أمره، وفلان ذو شكيمة إذا كان لا ينقاد، وقيذ الجوانح: فعيل بمعنى مفعول أي: إنه كان محزون القلب حتى كأن الحزن صيره لا حراك به من الوقذ وهو الضرب حتى يصير المضروب لا حراك به، تقول منه: وقذه يقذه وقذًا ومنه الموقوذة، شجي النشيج أي: في صوت بكائه رقة وحنان تقول: نشج ينشج نشيجًا: إذا غص ببكائه وظهر منه صوت، وشجا شجًا: إذا حزن، وأكبرت رجال أي: عظمت ورجالات جمع: رجل ويجمع على رجال.
حنت قسيها أي: عوجت، وفوقت سهامها أي: جعلت لها فوقًا
وهو موضع الوتر من السهم، وذلك إشارة منها إلى إرسال الكلام نحوه لقولها، وامتثلوه غرضًا أي: صيروه مثل الغرض، ومن رواه انتثلوه غرضًا أي: صيروه مثل الغرض ومن رواه انتثلوه عرضًا أي: تركوه من النثل وهو أن يترك الشيء مرة واحدة يقال: نثل ما في كنانته إذا صبه مرة واحدة وكذا نثره، فلوا صفاته أي كسروها والصفاة: الصخرة الملساء يقال في المثل: ما تبذأ1 صفاته وجمعها: صفا مقصور وفله فانفل أي: كسره فانكسر وكأنها تشير إلى أنهم لم يغيروا من أمره المستجمع المستحكم شيئًا، ولو قصفوا له قناة تقول: قصفت الشيء أي: كسرته والإشارة إلى ذلك المعنى أي: لم يزل أمره قائمًا وكعبه عاليًا، على سيسائه أي: على ما ركب من أمره وسيساء الحمار: ظهره. قال أبو عمرو: السيساء من الفرس: الحارك ومن الحمار: الظهر، ضرب الدين بجرانه جران البعير: عنقه من مذبحه إلى منحره وكذلك هو من الفرس والمعنى أنه ألقى بجرانه على الأرض كما يفعل البعير إذا برك، ورست أوتاده: ثبتت، أفواجًا: جماعات جمع: فوج ويجمع أيضًا على فووج وجمع الجمع: أفاوج وأفاويج.
أرسالًا جمع: رسل بالتحريك، وهو في الأصل القطيع من الإبل والغنم، فاستعير للجماعة من الناس، أشتاتًا أي: متفرقين واحدهم شت، مرج أهله يقال: مرج الأمر مرجًا إذا التبس هذا أصله، والمراد والله أعلم بمرجهم اضطرابهم من قولهم: مرج الدين والأمر اختلط واضطرب، اكتثبت نهزها يقال: كثبت الشيء كثبًا: جمعته وانكثب الرمل أي: اجتمع ومنه سمي الكثيب من الرمل والنهز جمع: نهزة وهي الفرصة، والكثب بالتحريك: القرب يقال: رماه من كثب أي: من قرب ويقال: أكثبك الصيد إذا أمكنك والتقدير: اقتربت فرصها.
ومنه حديث يوم بدر: "إن أكثبكم القوم فأنبلوهم" أي: قاربوكم وأمكنوكم
1 تبذأ: تزدرى ويستخف بها.
من أنفسهم فارموهم بالنبل، ولات حين يظنون وأبي بين أظهرهم أي: ليس الحين حين ظنهم ما دام أبي بين أظهرهم، ومنه:{وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي: ليس الحين حين خلاص، أوده: اعوجاجه، بثقافته أي: حذاقته وفطنته يقال: ثقف ثقافة، وقطر الشيء جانباه ونشر الإسلام على عزه أي: ما انتشر منه على حاله الذي كان عليه، من قولهم: اطو هذا الثوب على عزة أي: على طيه الأول وكسره، امذقر النفاق: تقطع يقال: امذقر الرائب، إذا انقطع فصار اللبن ناحية والماء ناحية، قاله الجوهري.
انتاش الدين يقال: انتشته أي: خلصته من ضراء ومنه التناوش: التناول بنعشه أي: رفعه، يقال: نعشه الله فانتعش أي: رفعه فارتفع، فأرادت والله أعلم بهذا وبما بعده أنه رفع منار الدين وأشاد قواعده وأقر الحق وأزاح الباطل، فقرت أمور الدين على ما كانت عليه، والكاهل: الحارك وهو ما بين الكتفين، أوحدت به أي: جاءت به وحيدًا لا ثاني له ولا مثل له، ديخ ودوخ بمعنًى والأصل بالواو من قولهم: داخ البلاد يدوخها إذا قهرها واستولى عليها وكذلك دوخ البلاد، الثلمة: الخلل، المرحمة: الرحمة، فنخها: قهرها يقال: فنخه الأمر: قهره، شرك الشرك شذر مذر يقال: شركت النعل وأشركتها أي: رممتها بالشراك فكأنه رم الكفر وشذر مذر أي: في كل جهة، يقال: تفرقوا شذر مذر بكسر الشين والميم وفتحهما وفتح الذال في اللغتين: إذا ذهبوا في كل وجهة، تنقمون أي: تعتبون يقال: نقم ينقم بكسر مضارعه، فهو ظعنه أي: سيره وارتحاله يقال: ظعن ظعنًا وظعنًا.