الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيرة النبوية من خلال أهم كتب التفسير
تمهيد:
يتفق العلماء على أن أهم ما ينبغي الرجوع إليه لتفسير القرآن الكريم هو القرآن الكريم نفسه (1) ، وذلك أن القرآن الكريم يفصل ما أجمل، ويقيد ما أطلق، ويبين ما أبهم، ويؤكد الحدَث والحكم (2) .
ويتفق العلماء أيضاً على أن المرحلة الثانية للتفسير بعد النظر في القرآن نفسه، هي الرجوع إلى السنة النبوية، لأنها شارحةٌ للقرآن، وموضِّحة له، قال الإمام الشافعي رحمه الله " كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن".
وقال ابن برَّجان (3) في " الإرشاد في تفسير القرآن ": "ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن، وفيه أصله، قرب أو بعد، فهمه من فهمه، وعمه عنه من عمه، قال الله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
.... وهكذا حكم جميع قضائه، وحكمه على طرقه التي أتت عليه، وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه، ويبلغ منه الراغب فيه
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (13/363) وتفسير ابن كثير (1/3) والبرهان للزركشي (2/175) والإتقان للسيوطي (2/1197) ونقل الإجماع على ذلك د. علي العبيد في " تفسير القرآن الكريم: أصوله وضوابطه "(38) .
(2)
انظر أنواع تفسير القرآن للقرآن في: التفسير والمفسرون للدكتور الذهبي (1/38 – 40) وتفسير القرآن الكريم: أصوله وضوابطه للدكتور علي العبيد (39 – 44) .
(3)
عبد السلام بن عبد الرحمن بن أبي الرجال اللخمي الأفريقي ثم الإشبيلي. روى عن ابن منظور، وروى عنه عبد الحق الإشبيلي. من علماء القراءات والحديث والتصوّف. له " شرح الأسماء الحسنى ". توفي سنة 536هـ. (طبقات المفسرين للداودي: 1/306) .
حيث بلَّغه ربه تبارك وتعالى؛ لأنه واهب النعم، ومقدِّر القسم " (1) .
وقال الشاطبي " السنة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان له، فلا تجد في السنة أمراً إلا والقرآن قد دلّ على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية "(2) .
وقال الزركشي " لطالب التفسير مآخذ كثيرة، أمهاتها أربعة: الأول: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الطراز الأول، لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع، فإنه كثير..
قال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاث كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير (3) قال المحققون من أصحابه: ومراده أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة (4) ، وإلا فقد صحّ من ذلك كثير.
(1) البرهان للزركشي (1/129، 130) والبحر المحيط في أصول الفقه له أيضاً (4/166) .
(2)
الموافقات (4/12) ثم قيَّد ذلك بالسنن التكليفية والتفسيرية للقرآن، دون الأخبار الخارجة عن ذلك؛ لأنه أمر زائد على مواقع التكليف، وإنما أنزل القرآن للتكليف، ومثَّل له بحديث الأقرع والأعمى والأبرص، وحديث جريج، ونحو ذلك من القصص النبوية (4/55) .
(3)
رواه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "(2/224) وعقَّب عليه بقوله: وهذا الكلام محمول على وجه، وهو أن المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القصَّاص فيها. ونقله عنه السخاوي في خاتمة " المقاصد الحسنة "(481) والسيوطي في خاتمة " الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة "(455) .
(4)
هذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية في " مقدمة التفسير "(مجموع الفتاوى: 13/346) وتفسيره أولى من تفسير الخطيب المتقدم؛ لأن الإمام نسب الضعف إلى نوع الفنّ، لا إلى كتاب معيَّن، فقال: المغازي، والتفسير، والملاحم. ولو أراد كتباً معينة لسمَّاها. وثانياً: أن مقولة الإمام أحمد تنطبق على عامة كتب المغازي والتفسير، ولا تخصّ كتباً معينة. وثالثاً: أن مراد الإمام أحمد – والله أعلم – أن الغالب على هذه الفنون المراسيل، كما روي عنه: ليس لها إسناد. ولم يرِد أن هذه الأنواع من الكتب ضعيفة، بل أراد إثبات أن غالب رواياتها مرسلة، والمرسل إذا تعضَّد بغيره لم يبقَ ضعيفاً.
فمن ذلك تفسير الظلم بالشرك في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] ، وتفسير الحساب اليسير بالعرض، رواهما البخاري (1) .
وتفسير القوة في: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] بالرمي، رواه مسلم (2) .
وكتفسير العبادة بالدعاء في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60](3) " (4) .
وتعريف السنة هو: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف (5) .
فالسنة تشمل: الأقوال والأفعال والسيرة والشمائل، لذا فإنك تجد روايات ذلك كله في كتب السنة المتعددة كصحيح البخاري وغيره.
1) الأول رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (كتاب الإيمان/باب ظلم دون ظلم) ورواه مسلم في صحيحه أيضاً (كتاب الإيمان/باب صدق الإيمان وإخلاصه) ، والثاني رواه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (كتاب العلم/باب من سمع شيئاً فلم يفهمه فراجع فيه حتى يعرفه) ، ورواه مسلم في صحيحه أيضاً عنها (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها/باب إثبات الحساب) .
(2)
رواه مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه (كتاب الإمارة/باب فضل الرمي والحثِّ عليه) .
(3)
رواه أحمد وأصحاب السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(4)
البرهان (1/156، 157) .
(5)
السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي/د. مصطفى السباعي (47) .
وسيرته صلى الله عليه وسلم هي مظهر هذه التطبيقات العملية، فهي جزء من السنة النبوية التي يجب الرجوع إليها في تفسير القرآن، وبذا يُفهم قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت "كان خُلُقُه القرآن"(1) .
فتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم العملية للقرآن تفسيرٌ له، كما أن في أقواله صلى الله عليه وسلم ما هو تفسيرٌ له، قال شيخ الإسلام ابن تيمية " يجب أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] يتناول هذا وهذا "(2) .
وقال ابن القيم " البيان من النبي صلى الله عليه وسلم أقسام: أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفياً. الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك.. الثالث: بيانه بالفعل كما بيَّن أوقات الصلاة للسائل بفعله. الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن، فنزل القرآن ببيانها.. إلخ "(3) .
ولتوضيح هذا أقول: إن بيانه صلى الله عليه وسلم للقرآن على وجوه (4) :
الأول: ما أوضح به معنى جملة أو مفردة من مفردات القرآن، وهذا يكون بالقول وبالفعل، فالقول: كتفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين
(1) رواه مسلم في صحيحه بمعناه (كتاب صلاة المسافرين وقصرها/باب جامع صلاة الليل) .
(2)
مجموع الفتاوى (13/331) .
(3)
إعلام الموقعين (2/295، 296) .
(4)
انظر: الرسالة للإمام الشافعي (91) وأصول التفسير وقواعده لخالد العك (128) والتفسير والمفسرون للذهبي (1/55 – 57) .
بالنصارى (1) ، وتفسير الصلاة الوسطى بالعصر (2) ، وتفسير الشاهد والمشهود بيوم الجمعة، ويوم عرفة (3) .
والفعل كصلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بعد طلوع الشمس عندما نام عنها في أحد أسفاره، وتلاوته قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14](4) ، وكما كان صلى الله عليه وسلم يصلي تطوعاً حيثما توجهت به راحلته في السفر (5)، وهو توضيح معنى قوله سبحانه:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] وأن مما يشمله النوافل ولو مع القدرة على التوجه للقبلة، وكما يقول صلى الله عليه وسلم في ركوعه وسجوده في الصلاة "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأوَّل قوله سبحانه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 3](6) ، وهو توضيح لوقت هذا التسبيح وصيغته.
(1) رواه أحمد والترمذي وحسَّنه وابن حبان عن عدي بن حاتم رضي الله عنه (جامع الأصول: 2/7) .
(2)
رواه البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه، ورواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، وله طرق أخرى (جامع الأصول: 2/49، 50) .
(3)
رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بسند ضعيف، وأخرجه البيهقي عنه أيضاً بسند حسن (فضائل الأوقات للبيهقي: 349) .
(4)
رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه (البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/باب من نسي صلاة، ومسلم: كتاب المساجد/باب قضاء الصلاة الفائتة: جامع الأصول: 5/189) .
(5)
رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما (البخاري: كتاب تقصير الصلاة/باب صلاة التطوع على الدابة وحيثما توجَّهت به، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين/باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجَّهت: جامع الأصول: 5/476) .
(6)
رواه الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (البخاري: كتاب صفة الصلاة/باب التسبيح والدعاء في السجود، ومسلم: كتاب الصلاة/باب ما يقال في الركوع والسجود: جامع الأصول: 4/191) .
الثاني: ما أزال به الإشكال عن فهمٍ مغلوط للآية، كتفسيره الظلم بالشرك في قوله سبحانه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82](1) ، لئلا يفهم منها مطلق الظلم. وتفسيره الخيط الأبيض والخيط الأسود بسواد الليل وبياض النهار (2) ، لئلا يفهم منها الخيط القطني.
الثالث: ما أكّد به معنى قرآنياً، وهذا يكون بالقول وبالفعل، فالقول: كتأكيده أهمية الإيمان بالله (3) ، ووجوب الصلاة والزكاة (4) ، وفضل الذكر (5) ، وتحريم الربا (6) .
والفعل كتطبيقه العبادات والمعاملات والأخلاق القرآنية.
وبفهم هذين النوعين من التفسير: القولي والفعلي، يحلّ الإشكال الواقع
(1) رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد تقدم قريباً.
(2)
رواه الشيخان عن عدي بن حاتم رضي الله عنه (البخاري: كتاب الصوم/باب قول الله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود (، ومسلم: كتاب الصوم/باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر: جامع الأصول: 2/28) .
(3)
كقوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم في حديث جبريل " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.. الحديث " متفق عليه عن عمر رضي الله عنه.
(4)
كقوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم " خمس صلوات كتبهن الله على العباد " رواه مالك وأبو داود والنسائي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه (جامع الأصول: 6/44) ، وقوله " اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم " رواه الترمذي وصححه عن أبي أمامة رضي الله عنه. (جامع الأصول: 9/545) .
(5)
كقوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم " سبق المفرِّدون " قالوا: وما المفرِّدون يا رسول الله؟ قال " الذاكرون الله كثيراً والذاكرات " رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (كتاب الذِّكر والدعاء/باب الحث على ذكر الله تعالى: جامع الأصول: 4/475، 476) .
(6)
كقوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم " لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " رواه الترمذي وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأوله في صحيح مسلم (جامع الأصول: 1/542) .