الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويمكن أن تكون هذه الألفاظ قد وجدت في العربية قبل زمن النبي صلى الله عليه وسلم بوقت طويل واستقرت في اللغة العربية حتى أصبحت جزءاً منها وصارت من مفرداتها التي يروج استخدامها بين العرب.
كما أن من المستحيل الآن بسبب غموض تاريخ اللغات السامية أن نحدد من اقتبس هذه الألفاظ المشتركة من الآخر: العربية أم العبرية (1) ؟
وهذا كاف في الدلالة على إثبات تفاهة حجج من توسع من المستشرقين في باب الاشتقاق من اللغات السامية (2) .
(1) عبد الرحمن بدوي: دفاع عن القرآن، ص 44.
(2)
راجع تعليقات إبراهيم عوض في كتابه: دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أضاليل وأباطيل، وهو الكتاب الذي ألفه في نقد ما كتب في الطبعة الأولى من الدائرة المذكورة، ص 187 وما بعدها حول آراء المستشرقين في المسائل اللغوية وما أثبته من وجود عدد كبير من هذه الألفاظ في الشعر الجاهلي قبل نزول القرآن الكريم.
(2)
محمد والقرآن:
يبدأ كاتب المقال هذا الفصل بقوله إن كتاب الإسلام المقدس وتجربة محمد النبوية ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بحيث لا يمكن فهم أيهما فهماً كاملاً دون الآخر.
ثم يشير إلى ما استقر عليه الرأي من أن الله في القرآن هو المتكلم دائماً، وأن محمداً هو المتلقي وأن جبريل هو وسيط الوحي ويضيف: ولكن تحليل النص يبين أن الموقف أشد تعقيداً من هذا.
ويبدأ الكاتب في عرض نصوص من القرآن الكريم لبيان العلاقة التي تربط بين أطراف القضية الثلاثة: المتكلم، والوسيط، والمتلقي، استناداً إلى منهج " النقد الأعلى والأدنى" الذي يعمد إلى تحليل هذه النصوص وربط بعضها ببعض ربطاً تاريخياً، وسوف نتتبع الكاتب في هذا العرض ونتقصَّى ما ذهب إليه، فإن كان مشتملاً على حقائق علمية ثابتة أيدناها ووافقناها، خدمة للكتاب العزيز، وإن جاء متضمناً غير ذلك بيناً وجه الخطأ فيه، وحاولنا قدر استطاعتنا الإبانة عن الحق والصواب بالبينة والبرهان.
أ- المتكلم:
يقول: "فيما يبدو أن الأجزاء الأقدم من القرآن، لا يتبين المتكلم أو مصدر الوحي، ففي بعض السور (يشير إلى آيات في سور الشمس، والقارعة، والتكاثر، والعصر) لا نجد حتى مجرد إشارة بأن الرسالة تأتي من الإله.
والكاتب يتجاهل هنا الآيات الأولى التي نزلت من القرآن، في سورة العلق (1) ، اقرأ باسم ربك الذي خلق"، فالرسالة قد أنزلت من الخالق، والنبي مكلف بالبلاغ. كما يتجاهل الكاتب - هو ومن نقل عنه من المستشرقين (2) - ما ورد في سورة الشمس نفسها التي استشهد بها من قول الله
(1) ترد السورة في ترتيب " نولدكه" الزماني للقرآن، وهو الترتيب الذي يعتمده المستشرقون، برقم 1 (انظر: دائرة المعارف الإسلامية، مادة القرآن في الفقرة 3 تاريخ القرآن) .
(2)
أعنى المستشرق موير Muri في كتابه " إله محمد ".
تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} فهذه وغيرها كلها إشارات إلى الخالق المعبود وصنعه في الكون وفي النفس البشرية.
ثم يقول الكاتب: إن السور المبكرة التي يشار فيها إلى إله محمد لا ترد فيها إشارة إلى اسم الإله، إنما هو لفظ الشخص الثالث، إذ ترد في العبارة "ربي" و"ربك" ويضرب الكاتب على ذلك مثلاً بما ورد في سورة: الذارايات، والطور، والمدثر. إلخ.
ولا يمكن من يزعم أنه يتبع منهجاً تحليلياً لنص من النصوص - وفقاً لمنهج النقد الأدنى - أن ينتقى منه ما يشاء ويغفل عن بقيته، إلا إذا كان يبغي التضليل، فهو قد غفل عن اسم إله محمد الذي ورد في السورة الأولى: العلق. {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (14:1)، كما ورد في السورة الثانية: المدثر: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} (31:2) . بل ورد في السورة التي استشهد بها الكاتب كالذاريات: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر" (51:50) .
وفي هذا - وغيره كثير - دلالة على أن اسم إله محمد (الله) قد ورد في السور المبكرة، على عكس ما يزعم الكاتب.
كما ورد في سورة المدثر - التي يستشهد بها الكاتب - بصيغة المتكلم أيضاً لا المفرد الغائب فقط - {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
…
وَجَعَلْتُ.. وَمَهَّدْتُ
…
سَأُرْهِقُهُ
…
سَأُصْلِيهِ} . (26:11) .
وواضح أن كاتب المقال - ومن اعتمد عليه من المستشرقين - يحاول أن يشكك في ماهية الطرف الأول من أطراف القضية (المتكلم: الله تعالى)
فيزعم أن هذا الطرف كان غامضاً في الفترة المكية المبكرة، لأن السور التي تنتمي لتلك الفترة لم تحدده أو تعينه بوضوح.
والكاتب يرمي إلى الإيحاء بأن اسم هذا الإله ما تحدد بوضوح إلا في الفترة المدنية بعد أن اتصل محمد باليهود الذين تعلم منهم كما يزعم الكاتب.
ثم ما لبث الكاتب أن ناقض نفسه فقال "ورد في القرآن أن محمداً (الذي زعم الكاتب لتوه أنه لم يكن يعرف ربه تماماً) قد رأى الله مرات عديدة Muhammed had Visions of God كما ورد في سورة النجم 10 (لعله يعني الآية 11) : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وفي سورة التكوير 23: "ولقد رآه بالأفق المبين"وعلى الأقل في الفترة المكية كان صوت الله نفسه، وليس أي وسيط، ما سمعه محمد".
ونقول إن النص في كلا الموضوعين لا يسمح بأن تكون الإشارة إلى الله تعالى، وإنما الضمير عائد في الآية الأولى إلى "شديد القوى " يعني جبريل عليه السلام، الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم: فقد رآه النبي على صورته التي خلقه الله عليها كما قال العلماء: وفي الآية الثانية يعود الضمير إلى رسول كريم، وهو أيضاً جبريل عليه السلام الذي يمهد الكاتب لإنكاره دوره بزعمه أن الشواهد تقول: إن محمداً قد تلقى الوحي في الفترة المكية من الله مباشرة، إذ لم تكن ثمة حاجة إلى وسيط بينه وبين محمد.
والكاتب يريد بهذا التلبيس أن يعد قارئه لقبول النتيجة التي يسوقها في الفقرة التالية.
ب- الوسيط:
يقول: وفي السور المبكرة ومن أجل تحديد مصدر الوحي، فإن الله هو المتكلم، وهو المصدر المباشر، مثلاً {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (1) . (المزمل 5) و {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} (الأعلى 6)، وعدد آخر من السور المكية المتأخرة والمدنية المبكرة يتحدث عن آيات القرآن والكتاب لمحمد (يشير إلى قوله تعالى:{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} (البقرة: 252) ، وآل عمران 108 وكلاهما مدنية، والجاثية 6 مكية) . لكن في خلال الفترة نفسها نجد مجموعة من السور تقول بتعالي الله عن الإيحاء المباشر. وقد جاء هذا بطريقتين: أن تقال الرسالة لكي تنزّل عن طريق وسطاء معينين. وأن تتصل بشكل ما بـ "الكتاب" وكلتا الظاهرتين تتضح في سورة الشورى 51 حيث ينكر القرآن بصراحة أن يتكلم الله مباشرة مع محمد: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء. وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان}
نقول: لا يمكن - بعد ما قدمناه في أول هذا الفصل - أن يزعم الكاتب اعتماداً على الآيتين اللتين أوردهما من سورة المزمّل وسورة الأعلى أن الله قد كلم محمداً صلى الله عليه وسلم تكليماً فما هو إلا تنزيل، ولا شك أن التحجج بالكلمات: سنلقي عليك، سنقرئك، نتلوها عليك، يدل على جهل مطبق بأساليب العربية، وهي لا تدل بحال على الإلقاء المباشر أو القراءة والتلاوة المباشرة على المتلقي.
(1) لاحظ أن ضمير المتكلم هنا يناقض ما قاله الكاتب من قبل عن عدم ظهور هذا الضمير في السور المبكرة.
ومن ثم فليس هناك تناقض ولا تعارض بين الآيات المبكرة والمتأخرة كما يزعم الكاتب، الذي يحاول هنا أن يشكك في دور جبريل عليه السلام، الطرف الثاني من القضية.
وينتقل الكاتب بعد ذلك ليقول "في أول سورة مدنية مبكرة - وهي سورة البقرة (الآية 97) يشار إلى وسيط الوحي لأول مرة في القرآن على أنه جبريل. وبناء على هذه الآية وعدد من الأحاديث النبوية فإن المفسرين حددوا الروح في الأجزاء المبكرة بأنه جبريل، ووضعوه منذ بداية منصب محمد كوسيط للتنزيل".
وكما أن جبريل، وعلى عكس المعتقد السائد، لم يعرف أبداً في القرآن على أنه واحد من الملائكة، كما لم يذكر أن الملائكة وسطاء للتنزيل، والسورة 16 آية 2 هي الأقرب في هذا الصدد".
ونقول: لقد ذكرت صفات الملك الذي يبلغ الوحي في ما نزل في الفترة المكية الأولى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوير 19-21)، {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (النجم: 5،6) إلى غير ذلك من الآيات التي تبين شخصية هذا الملك ذي القوة العلوية العالمة التي توحي إلى النبي علماً، وتبلغه رسالة ربه. والنبي يعرفه ويراه:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم: 10،11) ن ويناديه باسمه جبريل كما ورد في حديث الإسراء والمعراج، فلم تكن بالنبي والمسلمين حاجة إلى النص على هذا الاسم في القرآن. وما نزلت الآية التي يشير إليها كاتب المقال من سورة البقرة (97) : {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . الآية إلا حين سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي قال: جبريل. قالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال، فنزلت الآية.
فكون الاسم لم يرد في القرآن إلا في أوائل الفترة المدنية لا يعني أن الله تعالى هو الذي كان يوحي إلى النبي مباشرة كما زعم الكاتب. على أن الإسم لم يرد في القرآن إلا في مناسبتين فقط. هذه المناسبة التي رد فيها على اليهود، ومرة أخرى في سورة التحريم الآية 4 في موضع المحبة للنبي والاستعداد لتأييده ونصرته حتى في مواجهة أقرب الأقربين إليه وهن زوجاته (1) . ومن ثم فإن الملك الذي أبلغ الوحي كان معروفاً للنبي قريباً منه، ويصبح التعلل بتأخير ورود اسمه في التنزيل أمر لا طائل وراءه.
أما ما قاله الكاتب من أن القرآن لم يذكر أن الملائكة وسطاء للوحي، فيكفي أن نستشهد بالآية الأولى من سورة فاطر المكية:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} وبالآية (75) من سورة الحج (مدنية) : {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} وللدلالة على أن جبريل من الملائكة ما جاء في وصفه بالآية (19) من سورة التكوير {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فهو إذن رسول من الملائكة الذين يصطفيهم الله.
ثم إن الآية التي يشير إليها الكاتب: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} إنما هي تصريح بأن جبريل نزل بالقرآن كله مكية ومدنية.
(1) وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ".
ج- المتلقي:
وبعد أن فرغب الكاتب من الحديث عن طرف القضية الثاني، وحاول أن يلغى دوره أو يشكك فيه ينتقل إلى الطرف الأخير في القضية. محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول: يتحدث القرآن أيضاً لأول مرة عن معلم محمد من البشر في سياق مجموعة الاتهامات التي وجهها له معارضوه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان 4 وما بعدها) .
ويعقب الكاتب بقوله: "وفيما عدا عنصر الإفك فإن القرآن ينكر ما سجّل في هذه الآيات" والحق أن ما يقوله الكاتب هو الكذب والافتراء بعينه، فكما أن الآية الأولى المتعلقة بالإفك قد أكملت بـ "فقد جاءوا ظلماً وزوراً"، فقد اكتملت الآية الثانية بقوله تعالى:"قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض" فأين الأساطير القديمة من علم الله المحيط بسر السموات والأرض. ومثلما رد القرآن على هذين الافتراءين اللذين ساقهما كفار مكة رد على ما سجله بعدهما في السورة نفسها بقوله: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان 9) ، فهو إذاً قد رد على كل الاتهامات لا على اتهام واحد كما يزعم الكاتب.
ثم يقول: "ويأتي الرد على اتهام مشابه يسلّم بأن محمداً كان له معلم أجنبي في سورة النحل 103" ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر،
لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين"وتبدو التهمة هنا أيضاً غير منكورة. وهنا إصرار على أن الصياغة الحقيقية للقرآن لا تأتي من المعلم.
والكاتب يشير هنا إلى ما زعمه كفار قريش من أن رجلاً أعجمياً كان بين أظهرهم يبيع عند الصفا، وربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء وكان أعجمي اللسان لا يعرف العربية، أو كان لا يعرف منها إلا القدر اليسير، فزعموا أنه يعلم النبي، فأنزل الله هذه الآية التي تبين أن الكفار يعرفون قيمة القرآن وإعجازه، فكيف يمكنهم أن يزعموا ان أعجمياً يعلم محمداً هذا الكتاب؟ فإن كان قادراً عليه فليظهرن به لنفسه.
يقول الأستاذ سيد قطب في "ظلال القرآن" "وحتى الماديون الملحدون في روسيا الشيوعية، عند ما أرادوا أن يطعنوا في هذا الدين في مؤتمر المستشرقين عام 1954 كانت دعواهم أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد - هو محمد - بل من عمل جماعة كبيرة. وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية بل إن بعض أجزائه كتب خارجها. فكيف كان يمكن - وهذا رأي جماعة من العلماء في القرن العشرين - أن يعلمه بشر لسانه أعجمي عبد لبني فلان في الجزيرة؟ (1)
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، طبع دار الشروق سنة 1397، 4:2195.
ونحن بدورنا نقول للكاتب ولغيره ممن يزعم هذا الزعم: قل لنا ما اسم هذا المعلم؟ ومن الذي رآه وسمعه؟ وماذا سمع منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟ (1) .
ثم يقول كاتب المقال: "وهناك سور مدنية تعطى انطباعاً بأن محمداً جهد في الحصول على معلومات من الكتاب المقدس عند اليهود، حيث جرى اتهامهم بأنهم يخفون كتابهم عنه. وقد عرضت بعض النسخ المكتوبة على محمد أو أتباعه، انظر: مثلاً: الأنعام 91: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً".
ولا أدري من أين أتى الكاتب بهذه القصة الملفقة التي أراد أن يستشهد عليها بالآية الكريمة من سورة الأنعام، وهي سورة عدها الطبري - الذي يرجع إليه الكاتب كثيراً - مكية وليست بمدنية، كما اختار الطبري قول ابن عباس ومجاهد في أن الآية نزلت في قريش (2) واستحسن قراءة" يجعلونه " بدلا من "تجعلونه" ومن ثم يكون تفسير الآية: قل لهم يا محمد: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس، مما يجعله اليهود صحائف يخفون بعضها ويظهرون بعضها قضاء للباناتهم من وراء هذا التلاعب الكريه" (3) . وقد اختار ابن كثير ما اختاره الطبري لأن "الآية مكية واليهود لا ينكرون
(1) راجع مناقشة هذه المسألة بتوسع عند: الدكتور محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم، طبع مصر 1416، ص 62 وما بعدها.
(2)
انظر: مختصر تفسير ابن كثير، تحقيق محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت: 1402، 1:598.
(3)
سيد قطب: الظلال، 2:1364.
إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر" (1) .
بل إن المستشرق تيودر نولدكه في كتابه "تاريخ القرآن" والذي يتمسك كاتب المقال بأقواله ويعده عمدة في ترتيب النزول - يجعل السورة مكية وليست مدنية (2) ، كما يقول كاتب المقال. ومن ثم فالخطاب هنا لقريش، لا لليهود الذين وصفتهم الآية بأنهم يخفون بعض أجزاء التوراة لغرض في نفوسهم، وليس لإبعادها عن عين محمد صلى الله عليه وسلم كي لا يقتبس منها، كما يزعم الكاتب.
حتى ولو كان الخطاب موجهاً إلى اليهود - كما اختاره بعض العلماء والمفسرين - فالمعنى هو هو، ولا يحتمل غيره. ولقد ورد الخطاب بالمعنى نفسه إلى اليهود في سورة مدنية هي المائدة 15 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} وفي سورة البقرة 174:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} ، وفي المائدة أيضاً 61 {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} ، ويبين القرآن في الآية الواردة في سورة البقرة 174 نفسها هدف اليهود من إخفاء جانب كبير من "الكتاب"{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} فهذا هو هدفهم على نحو ما حدده القرآن نفسه، وما كان ينبغي لكاتب المقال وقد ألزم نفسه باتباع منهج النقد الأدنى بالتعمق في دراسة النص وكشف غموضه
(1) مختصر ابن كثير: 598:1.
(2)
انظر: المقال نفسه في دائرة المعارف الإسلامية.
عن طريق مقارنة المعاني والألفاظ بعضها ببعض أن يصرف النظر ويتغاضى عن هذه النصوص التي تعين الباحث عن الحق على الوصول إليه من أقرب طريق ولا سيما وأنه قد قرأ هذه النصوص نفسها ويستشهد بها بعد قليل.
ولا شك أن الكاتب قد خرج على المنهج الذي اعتمده بنفسه لهدف يسعى إليه، بل خرج على كل منهج علمي معترف به في الدراسة حين زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جهد للحصول على معلومات من التوراة، وهذا ما لم يرد في أي مصدر من المصادر، وقد عجز الكاتب عن ذكر مصدر يستند إليه في نقل هذا الخبر المكذوب، فتركه دون سند.
وأخيراً ها هو ذا يعلن عن النتيجة التي ظل يضمرها ويتحايل بكل حيلة كانت غير معقولة ولا مقبولة ويلبس لها مسوحاً زائفة من العلم والدراسة النقدية يدلس لها على الناس ويفتري بها على الدين وعلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قدم لتلك النتيجة مستشهداً بآيات لم يذكرها وإنما أشار إلى موضعها فحسب لكي يوهم بأنه إنما يتقدم بخطى علمية واثقة نحو الحقيقة التي اطمأن إليها، مع أن النتيجة لا تتصل بالمقدمة من قريب أو بعيد.
يقول: وهناك أجزاء (سور) تتهم اليهود بأنهم يكتبون أجزاء بأنفسهم ويقولون: هذا من عند الله". انظر أيضاً البقرة 77،140،174، آل عمران 71، المائدة 15. (1) وفي تلك الأجزاء (السور) لا نجد صعوبة في أن نرى
(1) يشير إلى الآيات الكريمة أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " البقرة 77، (
…
ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله..) 140، (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً) 174، (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق
…
) آل عمران 71. (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب..) المائدة 15.
محمداً يتلقى قصصاً ومعلومات أخرى من معلمين مختلفين، بمن فيهم اليهود والنصارى، ثم إنه في لحظات الوحي ينقح المادة، ويحيلها على صيغتها القرآنية. ومثل هذا الرأي، مع أنه يخالف المعتقد المألوف اليوم لا يتضارب مع بعض الأخبار الموجودة في مجموعات "الحديث" وغيرها من المصادر الإسلامية المبكرة".
إذاً هذا ما كان يحشد نفسه له منذ البداية غير عابئ بالأصول العلمية ولا المبادئ النقدية المرعية، ولا بأولويات الحيدة والتجرد العلمي بهدف الوصول إلى الحقيقة، بل يحاول أن يلوي عنق الحقائق لكي يصل إلى القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي ألف القرآن. وإذا تذرعنا بالصبر وتوقفنا قليلاً عند هذه النتيجة التي انتهى إليها نقول: إنه لا الآيات التي أشار إليها ولا مجموعات الحديث بل ولا المصادر الإسلامية المبكرة تشتمل من قريب أو بعيد على شيء مما يقول، وإلا كان قد أتى بدليل عليه من الحديث النبوي الشريف أو المصادر الإسلامية المبكرة.
ثم يقول: "في الفترة المكية المتأخرة والمدنية المبكرة قيل إن محمداً قد تم تحديه لكي يخرج للناس كتاباً يمكنهم قراءته بأنفسهم (93:17) وأن أتباعه شكوا بأنه ليس لهم كتاب مقدس كاليهود والنصارى (155:6) .
وما يقوله الكاتب هنا ليس إلا سلسلة من الأغلاط ينبغي تصحيحها وفقاً للمنهج النقدي الذي يتبعه الكاتب نفسه، فهو يشير إلى الآيات الكريمة من سورة الإسراء (وهي مكية وليست بمدنية)(1) 91 – 93 {وَقَالُوا لَنْ
(1) يضعها بعض المستشرقين في الفترة المكية الثالثة والأخيرة، انظر: عبد الرحمن بدوي: دفاع، ص 106.
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً}
…
{أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} الآية. وهذه الآيات الكريمة تبين الاقتراحات التي عرضها كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ومنها، كما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما اقتراح عبد الله ابن أبي أمية المخزومي:"فو الله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة. إلخ "(1) .
فالكاتب هنا يمهد للزعم بأن القرآن إنما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لهذا التحدي من جانب خصومه، مع أن القرآن كان ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم ويتلى قبل هذا التحدي (إن كان التحدي صحيحاً) ببضع سنوات، وإنما اقترح الكفار هذه الاقتراحات لإظهار إنكارهم للدعوة إلى الإيمان بالغيب وبما لا تدركه حواسهم، وهو ما جاءت به السور التي نزلت من القرآن قبل نزول هذه السورة، ولم تكن بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه من خصومة قبل نزول القرآن، فقد لبث عمراً بين ظهرانيهم لا يتحدونه ولا يتحداهم حتى نزل القرآن، ولم يكن هناك مجال للتحدي ولا سبب له قبل نزوله.
إذن لم يصرح الكفار بهذا التحدي إلا بعد نزول القرآن بزمن، ولا يمكن أن يكون هذا التحدي سابقاً على النزول.
(1) نقلاً عن مختصر تفسير ابن كثير، 400:2.
ويستمر الكاتب في أغاليطه موهماً قارئه بأنه يسوق من الأسباب المنطقية المستخرجة من تحليل النص القرآني ما يبرهن على أن القرآن إنما هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم، فيزعم أن المسلمين شكوا بأنه ليس لديهم كتاب مقدس كالذي عند اليهود والنصارى، مشيراً إلى الآية الكريمة من سورة الأنعام (156) :{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ..} الآية.
قال الطبري: "الذي يتخذه الكاتب مصدراً رئيساً" معناه وهذا كتاب أنزلنا لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، يعني لينقطع عذركم
…
فالكتاب قد أنزل لقطع الحجة.
وهذا يعني أن المسلمين لم يشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما يزعم الكاتب - افتقارهم إلى كتاب مقدس كاليهود والنصارى، وهو ما لم يرد في مصدر من المصادر، لأن كتاب المسلمين المقدس كان ينزل على رسولهم صلى الله عليه وسلم منذ مدة طويلة، وكان ملء السمع والبصر، قد دارت حوله منذ أنزل معارك عنيفة وجدل كثير بين المؤمنين والكافرين، وكان أمر القرآن هو شغلهم الشاغل وهمهم الناصب، فما الذي يحمل المسلمين على أن يطلبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بما هو لديهم ويعدونه مصدر عزهم وفخارهم؟!
ومع أن الآيات التي أشار إليها الكاتب من سورة الأنعام قد نزلت بمكة، وأن الخطاب فيها " لأهل مكة "(1) فإنه يريد أن يبين أن هذه الشكوى المزعومة قد تمت بالمدينة وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد استجاب لأتباعه الذين تلاقت إراداتهم مع إراداته بإنشاء مجتمع إسلامي متميز بالمدينة، يقول الكاتب" إن إنشاء مجتمع إسلامي مستقل بالمدينة متميز عن أهل الكتاب كان مرهوناً بالإتيان بكتاب إسلامي مقدس منفصل، يؤدي دوره كفرقان لتثبيت حقيقة الكتب المقدسة السابقة (3:3، 105:4، 48:5إلخ) .
ونقول للكاتب: أيهما أسبق في الوجود: نزول القرآن أو إنشاء المجتمع الإسلامي بالمدينة؟ فالكاتب يريد أن يعكس القضية فيبين أن القرآن إنما جاء استجابة لحاجة ذلك المجتمع إلى دستور خاص به يميزه عن أهل الكتاب، أي أن وجود المجتمع الإسلامي سابق على نزول القرآن، وهذا زعم سخيف لا يحتاج إلى أدنى التفات.
على أن الفرقان لم ينزل لمجرد التأكيد على أن كتباً قد أنزلت من قبل هدى للناس فحسب وإنما لكي يهيمن على تلك الكتب بعد أن نالها من التحريف ما نالها. وهو الأمر الذي تؤكده الآيات الكريمة التي استشهد الكاتب بها وأشار إليها عرضاً في ذيل الفقرة التي نقلناها عنه، ولكنه أغفل ذلك عمداً.
(1) قال الكسائي:
…
والخطاب لأهل مكة، غرائب الفرقان، للنيسابوري 2: 1344، طبع مصر 1416هـ (1995م) .
يقول الكاتب: "وهذا من شأنه أن يبرهن على أن محمداً بدأ في جمع كتاب مقدس مكتوب في السنوات المبكرة من الفترة المدنية لكن مسؤوليات قيادة المجتمع المسلم السريع النمو أجبرته على أن يترك هذه المهمة دون إتمامها. (انظر Bell - Watt) .
والكاتب هنا يخلص إلى نتيجتين منتزعتين من المقدمات الفاسدة التي قدمها، وهما:
(1)
- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعن بتدوين القرآن وكتابته في الفترة المكية.
(2)
- أن كتابة القرآن لم تستكمل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وليس هناك أساس نقلي أو عقلي يستند إليه الكاتب في انتزاع هاتين النتيجتين غير ترديده كلام غيره من المستشرقين وبخاصة "بوهل" الذي كتب مادة "القرآن" في الطبعة الأولى من دائرة المعارف الإسلامية وزعم فيها أن القرآن لم يسجل كله في الفترة المكية. ورد عليه أحد العلماء العرب المحدثين، وهو الدكتور إبراهيم عوض، بقوله: "ترى أيمكن أن نتصور أن ينشق أوائل من آمن بالرسول على قومهم ودينهم وأسلوب حياتهم معرضين أنفسهم للهلاك بسبب القرآن ثم هم مع ذلك لا يتنبهون لأهميته ولا يبالون بتسجيله.. (1) ؟ وقد كان كتاب الوحي في مكة معروفين للكافة.
(1) د. إبراهيم عوض: دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أضاليل وأباطيل، ص 14.
ثم إن الكاتب يخلط - ربما عن عمد - بين كتابة الوحي وجمع القرآن، فعند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان القرآن كله مكتوباً كما كان محفوظاً في صدور المؤمنين، يدل على ذلك التقرير المفصل الذي أورده البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه والذي يقول فيه. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال" وعلى أن الجمع كان بمنزلة تحر في الحفظ والصيانة (1) لا كما زعم المستشرقون أن القرآن لم يكن مكتوباً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
الناسخ والمنسوخ:
لاشك أن من يريد أن يعرض لقضية الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابد له - إذا صح قصده وكان نشدان الحقيقة ديدنه - أن يعرض لهذه القضية في الفصل الخاص "بتاريخ القرآن" وتطور الأحكام التي اشتمل عليها الكتاب العزيز. ولكن الكاتب أقحم هذه القضية - لغرض في نفسه سوف نتبينه من خلال تحليل مقولاته - على هذا الفصل المتعلق بـ "محمد والقرآن" ولم ينتظر حتى يعرضها في مبحث تاريخ القرآن والذي يلي هذا الفصل مباشرة.
يقول الكاتب:"والقرآن نفسه يعترف بأن تغييرات وقعت في الوحي {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة 106)، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (النحل: 101) . ثم إن هناك آية في سورة الحج (52 - 53) تعطي تفسيراً آخر لتغيرات جرت
(1) انظر: عدنان زرزور، علوم القرآن، ص 87.
ونقول: إن الكاتب أقحم الآيات الواردة بسورة الحج في قضية الناسخ والمنسوخ وهي ليست منها، فقوله تعالى:"فينسخ الله" المراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان، وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام (1) .
ومن هنا فإن هذه الآية لا تتعلق بقضية النسخ في القرآن والكلام هنا يشمل الرسل والأنبياء جميعاً من أوتي منهم كتاباً ومن لم يؤت، ولا تخص محمداً صلى الله عليه وسلم وحده، ومن ثم لا يخصّ القرآن، وهو ما يعني أن ما يلقي الشيطان إنما هو خارج الوحي وليس فيه.
أما وقد أثبتنا أن الآيات التي أوردها الكاتب من سورة الحج لا تشير من قريب أو بعيد إلى القرآن الكريم ولا تتعلق بقضية النسخ فيه، فعلينا الآن أن ننظر في الآيتين اللتين استشهد بهما الكاتب من سورتي البقرة والنحل.
فالتشريع الإسلامي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم قد مر بمراحل، وهذا التحول اقتضى أحياناً إلغاء قاعدة ما واستبدالها أخرى بها مختلفة عنها، فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال - في فترة الرسالة هو لصالح البشرية، فإذا نسخ الله آية ألقاها في عالم النسيان " (2) وهذا لا يعني بحال أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نسي بعض الوحي فلم يضمنه
(1) غرائب القرآن للنيسابوري، 3:2378.
(2)
سيد قطب: الظلال، 1:102.
الكتاب، وإنما هو قد أنسي آيات تتضمن أحكاماً وأوتي آيات خيراً منها، أما نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره بشراً يصيبه النسيان - فقد ضمن الله تعالى أن ينحيه عن الوحي منذ الوهلة الأولى في السور المبكرة بالفترة المكية، يقول تعالى في سورة الأعلى (سنقرئك فلا تنسى)(1) .
كما أن الأمر لو كان متعلقاً بنسيان الرسول صلى الله عليه وسلم – كما يزعم الكاتب - لما كانت هناك حاجة إلى الإتيان بآيات أخرى بدل التي نسيها، ولما كان هناك ناسخ ومنسوخ.
والله عليم بما يصلح للبشر من المبادئ والشرائع، فإذا بدل آية استنفدت أغراضها ليأتي بآية أصلح للحالة الجديدة التي صارت إليها الأمة وأصلح للبقاء أمد الدهر فالشأن له (2) ، فإذا كان الله عز وجل قد بدل بعض الأجزاء - كما يقول الكاتب – ووضع مكانها أجزاء أفضل أو أحسن فالأمر له، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أن القرآن الكريم قد نزل منجماً وأن من أهم المباحث التي عكف عليها المسلمون - بل وحتى المستشرقون - مبحث آيات الأحكام والتطور الذي لحق ببعضها خلال فترة نزول القرآن.
ولعل السبب الذي دفع علماء المسلمين إلى ترتيب سور القرآن الكريم حسب النزول منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هو محاولتهم معرفة الناسخ والمنسوخ، الذي أصبح منذ القرون الأولى للإسلام علماً ينطوى على
(1) يقتضي المنهج النقدي الذي يتبعه الكاتب في دراسته حول القرآن (وهو منهج النقد الأعلى والأدنى) التنبه إلى الألفاظ المشابهة للفظ: ننسها مثل: تنسى، ولكنه أغفل ذلك عمداً.
(2)
سيد قطب، أيضاً: 4: 194.
أهمية بالغة في الشريعة الإسلامية حيث تتوقف على هذه المعرفة قرارات علمية ذات أهمية قصوى في مسار الحياة العملية للمسلمين (1) فالنسخ أمر مقرر ومعترف به في علوم القرآن لكن مناطه بيد الله سبحانه وتعالى، ولا ينسب إلى نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم بحال من الأحوال.
والكاتب بزعمه أن الشيطان يلقي في الوحي إنما يمهد للحديث عن قصة الغرانيق التي يقول إن بعض المستشرقين قبلها كحقيقة تاريخية وبعضهم رفضها لضعف الإسناد أو لأن العلماء قد اختلقوها للدلالة على نظرياتهم في شأن النسخ.
ونقول: أما أن بعض المستشرقين رفضوا قصة الغرانيق التي يقول إن بعض المستشرقين قبلها كحقيقة تاريخية وبعضهم رفضها لضعف الإسناد أو لأن العلماء قد اختلقوها للدلالة على نظرياتهم في شأن النسخ.
ونقول: أما أن بعض المستشرقين رفضوا قصة الغرانيق بسبب ما يشوبها من ضعف في الإسناد فهو حق لا مراء فيه، وأما أن علماء المسلمين اختلقوها لاتخاذها دليلاً على نظرياتهم في شأن النسخ فهو ما لم يقله أحد، فقد أجمع العلماء على أنها قصة مختلقة من أساسها.
ولكن الذي يهمنا هنا هو الإشارة إلى مدى ما لهذه المزاعم من تأثير في ضعاف العقيدة ممن ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، فقد ربط الكاتب بين قصة الغرانيق وفهمه المغلوط كما أسلفنا لمعنى ما ورد في سورة الحج " فينسخ الله
(1) انظر: عبد الرحمن بدوي، دفاع عن القرآن، ص 102.
ما يلقى الشيطان" وسمى القصة المذكورة " الآيات الشيطانية "Satanic Verses"، وقد اتخذ سلمان رشدي – الكاتب البريطاني الذي لازال ينسب نفسه إلى الإسلام – من هذه التسمية عنواناً لروايته التي أثارت اشمئزاز المسلمين ونفورهم في العالم بأسره.
وهكذا يتبين لنا من تحليل هذين الفصلين من مقال دائرة المعارف الإسلامية حول "القرآن" أن الكاتب - ومن يعتمد عليهم من المستشرقين – لم يكن في أي خطوة من خطوات بحثه وفياً للمنهج الذي اعتمده في الدراسة، كما لم يكن أميناً في تحليله للنص صادقاً في طرح أبعاده وبيان مراميه أمام قارئه، وزاد على ذلك أنه ابتعد عن مقتضيات المنطق في عرض القضايا واستخلاص النتائج، بل عبث بالأدلة والشواهد كل العبث لكي يخرج بأحكام قد اعتقدها سلفاً ودخل بها على الموضوع قبل البدء في بحثه.