الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدخل
هناك أشياء لا يجدي الحديث عنها، إن لم يكن مستمداً برهانه من تجربة شخصية تضيء الموضوع من الداخل بضوئها الخاص.
والصراع الفكري في البلاد المستعمَرة واحد من تلك الأشياء، فليس للقارئ إذن أن يتعجب، إن رأى كاتباً يطرق هذا الموضوع من زاوية تحددها له تجربته الخاصة، بما في هذه الكلمة من إشارة إلى بعض التفاصيل من حياته الشخصية، ولا مجال هنا لذكر علة هذا الموقف للكاتب في البلاد المستعمرة، لأن الأمر يستدرجنا إلى الحديث الطويل عن أوضاع البلاد ومقوماتها الفكرية، وربما سوف يأتي هذا الكلام أو بعضه في محله خلال هذه الدراسة.
فيكفينا أن نقول في هذا المدخل إن الكاتب مضطر إلى هذا الموقف بطبيعة الموضوع، خصوصاً إذا ما اضطرته الظروف القاسية للدفاع عن أفكاره في فترة معينة، عندما يمر الصراع الفكري بأزمة خاصة كما يحدث في البلاد المستعمرة، حيث تجهل غالباً أمر الصراع الفكري بينما هو يدور في أرجائها، ومن أجلها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى أن الكاتب التقدمي، في الخارج، يجهل هو الآخر هذا الصراع، فنراه مثلاً يشارك في المعركة ضد الاستعمار بجانب المستعمَرين، ولكنه يشارك فيها ما دامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع الصراع الفكري كأنما يضيق صدره منها في طابعها الجديد، أو أنه بعبارة أخرى، يرى أن من حق الرجل المستعمَر أن يدافع عن
نفسه ما دام دفاعه في الحقل السياسي، ولكنه حينما ينتقل دفاعه إلى الميدان الفكري، يرى أن هذا الرجل قد دخل مكاناً لا حق له في دخوله.
ومن الممكن أن يفسر هذا الوضع بالجهل الذي يحيط بالصراع الفكري في البلاد المستعمرة سواء من ناحية أهل البلاد، أو من ناحية الكتاب التقدميين في الخارج، ولكن التجربة تدل على أن هذا الجهل قد يكون مصطنعاً، بصورة أو بأخرى، مما يجعل القيادة السياسية في البلاد المستعمرة تتخذ من معركة الأفكار - ولأسباب معينة- موقفاً حيادياً أو سلبياً، وأحياناً معادياً.
كما يتخذ الكاتب التقدمي - في الخارج ولأسباب أخرى- الموقف نفسه، فتراه وهو يخوض المعركة ضد الاستعمار إذا به كأنه ينحاز إلى صفوفه، حينما تتخذ هذه المعركة صبغة فكرية.
ولو حللنا هذا الموقف الغريب وجدنا أن هذا الكاتب التقدمي، إما أنه يخضع لاعتبارات ملقنة أو لعقد موروثة، وهو في كلتا الحالتين يصبح موقفه إزاء الصراع الفكري في البلاد المستعمرة موقف العداء أو الحياد، فحينما يقدم كاتب من هذه البلاد كتاباً للطبع، ترى الكاتب التقدمي مثلاً يعلن عنه في صحيفته بثلاثة أسطر أو أربعة ((كتاب اتخذ صاحبه موقفاً يناقض موقف الأحزاب الوطنية)).
فإذا ما تصورت أن هذه الصحيفة توزع على نطاق واسع في البلاد المستعمرة، التي تدور فيها المعركة الفكرية، فسوف تدرك مدى تأثير هذه الجملة الغامضة على مصير الكتاب، خصوصاً إذا ما تابعت الصحيفة خطتها بعد صدوره، فنشرت مثلاً قائمة لـ ((الكتب القيمة التي صدرت خلال الشهر)) وتناست أن تذكره من بينها.
وهكذا نشاهد موافقات غريبة بين بعض مواقف الكتاب التقدميين
وما يخططه الاستعمار، حتى يرتاب من يشاهدها فيصبح يتساءل: هل هي مجرد موافقات، أم هي على العكس اتفاقات تحمل طابع الصراع الفكري في أغمض صوره.
مهما يكن من أمر فليس موضوعنا دراسة هذا الجانب من المشكلة، لأنه ينبغي لنا في دراستها أن نأخذ في اعتبارنا معطيات الشخصية التقدمية وخصائصها، مما لا يدخل في سياق حديثنا، غيرأنه لا بأس في أن نذكر للقارئ بعض تفاصيل مما يمكن أن نسميه (الأدب التقدمي) دون أن ننسى مجابهته لعمليات الاضطهاد في الجزائر مثلاً، أو في إفريقيا الجنوبية.
ففي الجزائر نشهد بأن الكاتب التقدمي يقوم بالدور القيم، في فضح وحشية.
الاستعمار في البلاد المستعمرة وكشفها للرأي العام العالمي.
ولكن هذه الملاحظة لا تزيد موقف الكاتب التقدمي إلا غرابة، حينما نراه من ناحية أخرى يلتزم الصمت أمام بعض الجرائم الاستعمار ية، بينما يثيره غالباً، ما هو أقل منها، فيدهشنا موقفه في وقائع ذات دلالة: فقد رأينا مثلاً، منذ سنة، تلك الفاجعة التي عنونتها الصحافة، حتى في البلاد الربية، بـ (خطف خائن كبير في الجزائر)، وكانت بهذا النبأ، المنقول عن شركة أنباء أمريكية، تشير إلى مأساة مؤلمة وجريمة لا تغتفر، ارتكبها الاستعمار ضد فضيلة الشيخ العربي التبسي، الذي اختطفته فعلاً اليد السوداء في العاصمة الجزائرية حيث انقطعت أخباره من ذلك الحين.
ومن تتبع أنباء هذه المأساة يرى أنه قرأ في الصحافة نبأ اختطاف (الخائن الكبير) في سطرين، ثم ثلاثة أسطر للتدارك بعد أسبوع وكان التدارك مائعاً جداً، حتى إنه لم يزل الشبهات التي ألقاها في الأذهان النبأ السابق، كأنما اليد التي حررت هذا التدارك زميلة اليد التي حررت نبأ الاختطاف وزميلة اليد التي اختطفت.
وهكذا نرى: ثلاثة أسطر تشوه اسماً محترماً، وسطران لتدارك مريب
…
ثم يسدل الليل ظلامه مرة واحدة على مأساة هذا الشهيد الذي قام في وجه الاستعمار خلال ثلاثين سنة.
وهكذا يسود الصمت في تلك الصحافة التقدمية، ذات اليمين أو ذات الشمال، بينما هي ملأت العالم صراخاً حينما اعتقل وحوكم الكردينال (مندزانتي).
وها هو ذا رجل آخر، ذلك الصحفي هنري علاج الذي اعتقلته اليد نفسها التي اختطفت الشيخ العربي التبسي، وعذبه الجلادون أنفسهم، ولكنه لا زال حياً يرزق وينشر عن تعذيبه كتاب تذيع الصحافة التقدمية صيته في أرجاء العالم. ويبلغ طبعه في البلد الواحد- مثل بريطانيا العظمى- الملايين من النسخ، ثم تعرضه الولايات المتحدة في معرضها في موسكو خلال شهر آب سنة 1959. وهو لكاتب شيوعي!!!
أليس لمن يتتبع هذه الأمور ببعض الاهتمام الحق في أن يتساءل: هل هذه مجرد موافقات أم هي محاولات لتحقيق أهداف معينة، أو بعبارة أخرى: هل هي اتفاقات خاصة بالصراع الفكري؟.
إن شعورنا بمأساة الرجل الذي يعتقل ويعذب واجب، ولا بد أن نحني الرؤوس أمام كل محنة إنسانية، ولكنه من واجبنا أيضاً أن نتمسك بحرية الفكر حتى أمام الموت مع خشوعنا إزاءه.
إن تفاصيل كالتي نذكرها قد تأتي في صور متنوعة في موقف الكاتب التقدمي، وفي مستويات مختلفة.
إنني أذكر ما اعتراني من العجب خلال مطالعة أخيرة- وهي دون أي شك من أفيد مطالعاتي- فقد تتبعت خطوة خطوة، فكرة الكاتب ملاحظاً فيها أكثر
من مرة وجوه التشابه بين أفكاره وأفكار أودعتها في كتاب نشرته منذ زمن غير بعيد.
وكان العجب يعتريني خلال هذه المطالعة إذ أنني لم أر الكاتب التقدمي يذكر- ولو مرة واحدة- كتابي، حتى حينما يكون وجه التشابه بيننا لا يمكن أن يفسر بمجرد الصدفة. بل كنت أراه يلجأ في حالة كهذه إلى التعبير عن الفكرة المشابهة بألفاظ أخرى، ثم يتبعها بتعليق فيقول مثلاً:((إنه لمن فضول القول أن نقول كذا وكذا .. )) وكأنه يحاول بهذا التعليق أن يجعل التشابه من طبيعة الأشياء حتى يبعد عن ذهن القارئ التساؤل في شأنه.
وهكذا تصبح الفكرة المستعارَة من مؤلف من أبناء المستعمَرات شيئاً لا يحتاج إلى ذكر صاحبه لأنه من الأشياء المتداولة، حسب التعليق الذي علق به الكاتب التقدمي الذي استعارها، وفي مكان آخر لا يلجأ هذا إلى مثل هذا التعليق، وإنما هو يبدل الألفاظ التي تعبر عن الفكرة: فقد تحدثت مثلاً عن الشعوب الإفريقية الآسيوية ووصفتها بأنها تكوّن (الطبقة الكادحة في العالم)، فنرى الكاتب التقدمي يبدل بهذه العبارة أخرى فيقول (الطبقة الكادحة العالمية).
وليس لنا بعد هذا أن نصدر- بمقتضى هذه التفاصيل- حكماً عاماً بخصوص الأدب التقدمي والكتاب التقدميين، فإننا نجد في مواقفهم في أوربا من سمو الأفكار، وعلو النفس وطيبة الخاطر، وشجاعة الفؤاد ما هو جدير بالاحترام من كل إنسان يحترم نفسه. وإنما كان علينا في هذا المدخل أن ننبه القارئ الذي لم تسبق له خبرة بالموضوع، إلى بعض الجوانب المجهولة من الصراع الفكري في البلاد المستعمرة.
***