الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
عموميات عن الصراع الفكري
ــ
يجب علينا أن نرجع إلى الوراء شيئاً ما، لنرى كيف بدأ الصراع الفكري يأخذ طابعه في البلاد المستعمرة.
يجب أن نرجع- على الأقل- نصف قرن إلى الوراء في مجرى الوعي الإسلامي، اي في اللحظات الأولى التي بدأ يستيقظ فيها حوالي سنة 1900 م: إن الستار يرتفع على المشهد الأول من المسرحية التي نحاول هنا وصف بعض مقاطعها.
ويمكننا أن نتصور المسرح الذي يرفع فيه الآن الستار في بلد معين، حتى يكون لنا إلمام أكثر بالميزات التاريخية والنفسية التي تسم الأشخاص، الذين يقومون بدور في هذه المسرحية، مع العلم بأنها ميزات ذات طابع عام يشمل العالم الإسلامي كله، ولا يختلف في مكان منه عن مكان آخر إلا بقدر ما تختلف الأسماء والتواريخ.
ففي الجزائر مثلاً نرى الستار يرتفع عن شعب لا زال يخدره النوم الذي أخنى عليه بضعة قرون: إنه الشخصية الأولى.
ولكن في اللحظة نفسها تدخل شخصية ثانية نطلق عليها (فكرة متجسدة)، لأنها تتمثل في شيخين وقورين: هما الشيخ بن مهنا والشيخ
عبد القادر المجاوي، يتقدمان على مسرح التاريخ الجزائري بوصفهما أول بطلين في الصراع الذي بدأ حينئذ ضد المرابطين والخرافات.
ولما كان لظهورهما دوي كبير في البلاد، جاءت شخصية ثالثة تدخل على أثرهما: هي الاستعمار.
فالاستعمار يدخل المسرح حتى يعيد إلى جوه صمتاً يغار ويحرص على بقائه كي يطيب للنائمين نومهم.
ذلك هو المشهد الأول من الصراع الفكري في الجزائر.
ولكن الاستعمار لا يلجأ في هذا الفصل الافتتاحي إلى غير وسائل القوة، إذ هو يدرك أنه يواجه (فكرة متجسدة)، يمكنه إقصاؤها عن خشبة المسرح إذا ما أبعد الشيخين اللذين يمثلانها، وكذلك فعل بالضبط.
ولكن سرعان ما تبين له أن الفكرة التي أراد إقصاءها بقيت حية في ميدان المعركة، إذ بقيت في صورة جديدة بوصفها (فكرة مجردة) استقرت في ضمير الشعب.
وهكذا يبدأ الفصل الثاني من الصراع الفكري، إذ أتيح للاستعمار أن يستنتج من الفصل الأول، الاستنتاجات التي سيطبقها فيما بعد في تخطيط سياسته الايديولوجية، إنه يدرك أن وسائل القوة إذا خابت إلى حد ما- كما رأينا في الفصل الأول في مقاومة فكرة متجسدة- فإنها ستخيب حتماً وبالأحرى في مقاومة فكرة مجردة، وأنه يجب إذن اتباع خطط أكثر دقة.
وهنا يبتدئ الصراع الفكري على حقيقته، إذ أن الاستعمار سوف يجتهد في هذا الفصل الجديد، في امتصاص القوى الواعية في البلاد المستعمرة بأي طريقة ممكنة، حتى لا تتعلق بفكرة مجردة، ومن البديهي أنه سيحاول أولاً تعبئتها
لحساب فكرة متجسدة تجسّداً تصبح معه أقرب إليه منالاً، لأنه يمكنه مقاومتها إما بوسائل القوة أو بوسائل الإغراء.
على أن الاستعمار لن يسلك هذا الطريق فقط، بل إنه سوف يواصل في الوقت نفسه حربه ضد الفكرة المجردة بوسائل ملائمة فيها أكثر مرونة، ويستعين من أجل ذلك بخريطة نفسية العالم الإسلامي: وهي خريطة تجري عليها التعديلات الضرورية في كل يوم، يقوم بها رجال متخصصون مكلفون برصد الأفكار؛ إنه يرسم خططه الحربية ويعطي توجيهاته العملية على ضوء معرفة دقيقة لنفسية البلاد المستعمرة، معرفة تسوغ له تحديد العمل المناسب لمواجهة الوعي في تلك البلاد حسب مختلف مستوياته وطبقاته، إنه يستخدم لغة ((الفكرة المتجسدة في مستوى الطبقة المثقفة، فيقدم للمثقفين شعارات سياسية تسد منافذ إدراكهم إزاء الفكرة المجردة)).
وفي مستوى آخر تراء يفضل لغة الدين، لأنها تسد بصورة محكمة منافذ الوعي إزاء الفكرة، في هذا المستوى.
غير أننا في مستوى أدنى درجة نراه يستغل جهل الجماهير، لينشئ حول الفكرة منطقة فراغ وصمت لعزلها عن المجتمع، وهكذا حتى يصل إلى أحط مستوى يستخدم سلاح المال، إذ يكون لنفسه بهذه الوسيلة صداقات، أو كما يعبرون بلغة الحرب اتفاقات في البلاد المستعمَرة، تساعده على توجيه هجمات محكمة في الوقت المناسب على بعض القطاعات من الجهة الفكرية.
ثم يزيد في إتقان خطته، فتراه يسدل ظلاماً شاملاً على تلك الجبهة كي يعزلها عن ضمير الشعب المستعمر نفسه وعن الضمير العالمي.
وبهذا يصبح وضع الأشياء وكأننا في قاعة غارقة في الضوء، بينما يبقى المسرح ذاته غارقاً في الظلام.
تلك مسرحية مخرجها الاستعمار، وهذا المخرج لا يريد أن يشاهد النظارة فعلاً ما يجري على خشبة المسرح.
هذا هو الأسلوب الخاص بالصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، نرجو أن نعطي عنها صورة موجزة في هذه الصفحات.
…
طالما حلم إله الحرب أن يكون تحت تصرفه السلاح المطلق، الذي يعبر المسافات، ويتخطى حدود الأوطان، ولا يرد بأسه بأية وسيلة.
وقد تحقق هذا الحلم القديم، باستخدام الطاقة النووية وبإعداد الصاروخ العابر للقارات.
ولكن سرعان ما قلب هذا السلاح المطلق قضية الاستراتيجية في العالم رأساً على عقب: إنهم كانوا يقولون في عصر الحروب الكلاسيكية، إن ربع الساعة الأخير هو الذي يقرر مصير الحرب. أما الآن فينبغي أن نقول إن ربع الساعة الأول هو الذي يقرر مصيرها.
من هنا اتخذت الأشياء مغزى جديداً في المنطق الحربي، الذي سيطر على قادة السياسة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى أن مستر دلاس لو كان صريحاً وجهر برأيه، حينما كان يعد إنشاء قاعدة حربية لبلاده في آسيا، لقال: إنه يريد في الحقيقة إنشاء مانعة صواعق، تجذب إليها صواعق ربع الساعة الأول في الحرب الذرية، بعيداً عن مواطن السكان ومراكز الإنتاج بأمريكا.
ولو صارحنا هكذا قادة السياسة الغربية، لفهمنا حينئذ الفهم الصحيح تلك العطايا من الدولارات، التي توزعها أمريكا على بعض الحكومات الإفريقية والآسيوية، مقابل إنشاء مانعات صواعق في بلادها: إنها بلاد معدة بتلك العطايا لتصبح الهدف للمدفعية الذرية حينما تندلع الحرب.
هذه هي الفكرة التي يخفيها في نفسه مستر دلاس في سياسة الأحلاف العسكرية، من نوع (الحلف الأطلنطي) مطبقاً في آسيا وإفريقيا، غير أن هذه الأحلاف قد أصبحت غير مجدية، لأن الأرض أصبحت صغيرة جداً بالنسبة إلى المتوقع من الخراب والتدمير، على نطاق حرب ذرية لا ينفع فيها أي احتياط من النوع الذي يفكر فيه مستر دلاس، وهكذا باتت الحرب العالمية الثالثة التي عاشت الشعوب في انتظارها منذ عشر سنوات، من أبعد التوقعات.
وأصبح من شأن السياسة اليوم أن تدرس كيف تكسب السلم، لا كيف تكسب الحرب.
ولكن هذا لا يعني أن المشكلات قد زالت مع الخصوم بسبب الاتجاه الجديد: فإن وجود هذه المشكلات وبالتالي وجود الخصوم فيها منوط بمسوّغات لا زالت قائمة، طبقاً لبعض الرواسب النفسية التي حاولت، في دراسة سابقة، تبيين طبيعتها حينما تحدثت عن (ذهان القوة والسيطرة).
وعليه، فإذا كانت الحرب لن تقع نظراً لهذه الاعتبارات، فإن الصراع سيستمر بسلاح آخر، وفي ساحات قتال جديدة، إن انتصارات السلام تتقرر في جبهات الصراع الفكري.
ويجب ألا يبقى عندنا شك في أن الخصوم الذين يتنافسون، على محور واشنطن- موسكو، للاستيلاء على عناصر القوة، سيلجؤون إلى سلاح الأفكار، لأن قنابلهم الذرية أصبحت عاجزة في المستقبل عن حل مشكلاتهم المعلقة.
وهذا الاستنتاج يطابق تماماً ما يتنبأ به أقطاب العلم والفكر مثل (برتراند راسل)، الذي يستنتج في مقال خصصه لهذا الموضوع ((بأن كل من يعتقد أن انتصار الشيوعية أو أعوانها أصبح مستحيلاً، يجب عليه أن يعدل أفكاره: إنه يجب عليه أن يعترف بأن وجهة النظر التي بفضلها يجب أن تنتشر، هي أن
تنتشر بالإقناع لا بالقوة (1))).
فإذا اقتصرنا- في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الإنسانية- على اعتبار ما يتعلق بمحور (طنجة- جاكرتا) فإن المشكلة التي تعترضنا ذات وجهين، لأنه يجب علينا أن نفكر كيف نعطي لأفكارنا أقصى ما يمكن من الفعالية، ومن ناحية أخرى أن نعرف ما الوسائل التي يستخدمها الاستعمار لينقص ما يمكن من فاعملية أفكارنا؟.
وهكذا نصبح- في الواقع- أمام مشكلتين: الأولى تتضمن كيف ننشئ أفكاراً فعالة في مجتمعنا (2)؟. والثانية كيف يجب أن نفهم أسلوب الاستعمار في الصراع الفكري؟. حتى لا يكون له أي سلطان على أفكارنا.
ولكني سأهتم في الصفحات التالية بالمشكلة الثانية: ما طرق التخريب التي يمارسها الاستعمار ضد أفكارنا؟
هذا هو السؤال الذي سأحاول الإجابة عنه معتمداً على تجربة شخصية أعتبرها مفيدة لسببين:
أولهما: لأنها تتضمن ربع قرن من حياتي.
ثانيهما: لأنها حدثت في بلاد مستعمَرة حيث يمكن للاستعماراستخدام جميع وسائله.
ومن المكن أن أورد هذه التجربة على أنها قصة أقصها على القارئ، أو مذكرات لمكافح في الجبهة الفكرية.
ولكنني أتجنب الصورة الأولى لأنها ربما توحي للقارئ أنه يقرأ قصة
(1) مقتطف من كتاب تيبور مند: (بين الخوف والرجاء) باريس 1958.
(2)
إنني أخصص دراسة لهذا الموضوع تحت عنوان (مشكلة الأفكار في المجتمع الإسلامي).
خيالية، كما أتجنب الصورة الثانية لأنها تضطرني لذكر الكثير من تفاصيل شخصية، لا أرى مناسبة لذكرها هنا، وإنما أود أن يقرأها القارئ بين الأسطر، لأنها تكشف له دقائق الاستعمار وتجلي خططه، في الصراع الفكري.
إننا ذكرنا أن الاستعمار مُخرج لا يرى أين يقع الضوء على المسرح حينما يدور فيه فصل من فصول الصراع الفكري، وإذن سوف يكون من المفيد إن وجّه بعض الضوء على من يقوم بدور فيه، حتى لو كان ضوء شمعة جيب، محاولاً بذلك تجلية مهمة الصراع الفكري في وقت مناسب، أعني في الوقت الذي يجد العالم فيه نفسه مضطراً لخوض معركة الأفكار.
وربما أتاحت لنا هذه المحاولة تصوير الطابع الخاص الذي تتخذه هذه المعركة في البلاد المستعمرة، حيث تكون فيها-كما قلنا- منعزلة عن الشعور في الداخل وفي الخارج معاً.
ولسنا نشير بالشعور في الخارج، إلى الصحفي أو الكاتب التقدمي الأجني فقط؛ وقد بينا فيما سبق الدوافع التي تعزل هؤلاء نفسياً عن الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، ولكننا نشير إلى المثقف العربي نفسه، الذي كافح ضد الاستعمار ضمن (جبهة وطنية)، إنه على الرغم من ذلك، أو على الأصح بسبب ذلك، لم يكتسب التجربة الشخصية التي تتيحها الظروف لمن وجد نفسه في وضع الفدائي، أي منفرداً في جبهة الصراع الفكري في بلاده.
إنه من الضروري لمن يريد أن يتعرف على وسائل الاستعمار في هذا الميدان، أن يكون له اتصال مباشر به، بينما لا يكون هذا الاتصال ممكنا لمن يكافح ضمن (جبهة وطنية) تموله وتحميه، وتحيطه بالاحترام، ثم تمنحه غالباً مركزاً يغبط عليه ..
أما الصحافي أو الكاتب التقدمي الذي يكافح في بلاده ضد الاستعمار، بالكتابة أو بالقول، فإن قوانين بلاده ذاتها تحميه من الأذى وتحمي أسرته،
ولربما وضعت أفكاره أحيانا موضع التقديس، كما نرى أولئك الأحرار من الشعب الإنجليزي، الذين رافقوا المهاتما غاندي في طريق (الساتيا جراها) الذي قاد الهند إلى الاستقلال.
وهكذا يصبح للصراع الفكري ظروفه الخاصة بالنسبة لمن يجد نفسه متورطاً فيه- في بلاد مستعمَرة كالجزائر، أي في بلاد تجهل هي ذاتها، أن معركة أفكار تدور في أرجائها- فيتأتى هكذا للاستعمار أن يعزل من دخل المعركة، حتى ليجد نفسه في وضع الفدائي الذي يخوض المعركة على حسابه الخاص، دون أي قاعدة تموله وتسلح كفاحه.
إن ظروف البلاد المستعمَرة لم تترك لمن يدخل الصراع الفكري أن يختار، ولو قدرنا أنه قد اختار هو نفسه، هذا النوع من الكفاح، لكان في تقديرنا نوع من الاعتساف، لأننا نكون قد اتهمناه، بمقدار من البلادة لا يتصوره العقل أو بمقدار من البطولة لا يدعيه لنفسه.
فالأشياء تسير بصورة آلية، وطبقاً لقدر مقدور تفرضه طبيعة المعركة في البلاد المستعمَرة، ومقارنات أحوال ناتجة عن أوضاعها وظروفها الخاصة، فهذه الأشياء هي التي تقرر نوع المركة وتضطر من أراد أن يخوضها أن يكون في وضع الفدائي المنعزل.
ولكي تكون هذه الأشياء أكثر وضوحاً في أذهاننا، فلنتخذ من الواقع مثلاً يؤيد إيضاحها: إن ثورة تموز (يوليو) 1952م في القاهرة كانت من أهم الحوادث بالنسبة للصراع الفكري، لأنها كنست عهد فاروق وآذنت بعهد جديد وكان لهذا الحدث تأثير شرارة كهربائية انطلقت في وعي البلاد العربية والعالم الإسلامي.
وبذلك دخلت التاريخ فكرة معينة تمثل شخصية جديدة تدخل مسرح الصراع الفكري.
ولكن يجب أن نتصور بجانب ذلك، مدى اهتمام المراصد المختصة إزاء ظهور هذه الفكرة، إنهم سجلوها في الحال وأبلغوا عنها فوراً.
وعلى أثر ذلك سنرى شخصية ثانية تدخل المسرح: الاستعمار.
لقد بدأت المعركة فعلاً تزداد حرارة، بمقتضى تفاعل الرأي العام في البلاد المستعمَرة مع حوادث القاهرة، ولقد أبدى الضمير الجزائري مثلاً اهتماماً متزايداً لقضية الإصلاح الزراعي والملكية، حينما سجلتها الثورة المصرية بين أهدافها الأساسية، وكان الشعب الجزائري متحمساً لهذه القضية، ومتحمساً لها خاصة لأنها تمثل قضيته، ما دام الاستعمار قد استهدف في تخطيط سياسته الجزائرية، الاستيلاء على التراب وتحطيم طبقة الفلاحين.
هنا شعر الاستعمار بأنه أمام حالة خطيرة، إذ أنه أمام (فكرة جديدة)، وكان من الطبيعي أن يستعد لحملة عنيفة ضد تلك الفكرة.
هذه صورة موجزة من الظروف التي تكوّن فجأة فصلاً من فصول الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة.
ومما يجب ملاحظته في هذه الأثناء، أن الصحافة (الوطنية) أي صحافة الأحزاب التي تحمل في البلاد طابع الكفاح ضد الاستعمار، كانت تتخذ إزاء هذه الحوادث موقفاً شبه حيادي، إذ لا تنتشر عنها غير الأنباء التي توزعها شركات الأنباء العالمية، التي نعلم ما لها من روابط وثيقة بالاستعمار، حتى كان من الميسور على القيادة الاستعمار ية أن تعد عدتها للهجوم في ظروف جد مواتية.
وهكذا بدأ الاستعمار فعلاً هجومه ضد فكرة الإصلاح الزراعي وتعديل الملكية؛ ولا عجب في هذا، وإنما العجب كل العجب أن يصدر هجومه الأول على أعمدة صحيفة تحمل طابع الوطنية، والجهاد ضد الاستعمار.
فتعجب إن شئت، أيها القارئ الكريم، ولكنه واقع الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة ..
ولنتصور الآن: ماذا يكون موقفك في مثل هذه الظروف، وليس أمامك إلا السكوت في صالح الاستعمار أو الكلام في صالح قضية تهم الشعب!
فإذا قدرنا أنك اخترت الحل الثاني، فيبقى علينا أن نستنتج من هذا الفرض نتائجه، إذ لا يمكنك أن تدخل المعركة، في مثل هذه الظروف، إلا منفصلاً عن (الجبهة الوطنية) التي تمثل في بلادك (الجهاد) ضد الاستعمار، أي أن الوضع هو الذي يفرض عليك ألا تدخل المعركة إلا بوصفك (فدائياً) لا حيلة له إلا اتباع ما يمليه ضميره عليه، ولا وسيلة له سوى ما بين يديه، دون ما تمويل أو زاد، دون سلاح يأتيه من خلفه في جبهة الصراع.
تلك هي بالضبط ظروف الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، وليس لأحد أن يختار سوى أن يستمر فيه على هذه الشروط، أو أن يخرج من الميدان.
وإنك تعلم، لا شك، أن الاستعمار بالمرصاد: فهو يريد طبعاً أن يضطر المكافح إلى الحل الثاني، أي أن يضطره إلى الخروج من الميدان.
ولسوف يستعين بطبيعة الحال للوصول إلى غايته تلك بجميع ما في البلاد المستعمَرة من ضعف في حياتها الفكرية ومن رواسب سلبية في حياتها السياسية.
وهذا الجانب من القضية لابد من توضيحه بسبب ما له من الأهمية في سير الصراع الفكري، فلو أننا قمنا بدراسة مقارنة للأشكال السياسية في بلاد مختلفة، أو في بلد واحد في مراحل مختلفة من تطوره، فإننا سوف نجد على العموم، صنفين من السياسة وأن لكل صنف واقعه الخاص.
فأما الصنف الأول فهو السياسة التي تتمثل في (أفكار مجردة)، وأما الصنف الثاني فهو السياسة التي تتمثل في (أفكار مجسدة).
وقد تكون الأولى نوعاً مطوراً من الثانية، كما يمكن أن تكون الأخيرة صورة منحطة من الأولى. ولكل صنف منهما اعتباراته الخاصة به، طبقاً لجذوره وفروعه النفسية.
فالسياسة التي تتطور تبعاً لـ (أفكار مجردة) تعانق بحكم الضرورة الضمير الشعبي، ومن ناحية أخرى فإنها تلتزم المبادئ والمقاييس والقواعد التي تتحكم في سيرها، فإنها بذلك تحمل في طبيعتها مبدأ التعديل الذاتي الذي يفرض عليها رقابة من نفسها، معدلاً بذلك حركتها واتجاهها عند الحاجة.
وكل حركة من حركاتها تتطلبكأي عملية حسابية، تعقيباً على نتيجتها، وتصحيحاً تابعاً لها، فإن السياسة المقعدة تراجع دائما نتائجها.
وهذه المراجعة تحميها من تدخل أي عامل أجنبي يحاول تغيير مجراها ومرساها، لأنها تكون جهازاً معدلاً يطلق إشارة الخطر كلما حدث في الطريق أي حدث من شأنه أن يغير في الحركة أو في الاتجاه.
ولقد لخص بعض الساسة هذه الاعتبارات كلها، أو أنها تلخصت تلقائياً، في ذهنه حينما صرح منذ عامين، قائلاً ((إن سياستنا لا تخطئ لأنها علم)).
فبقدر ما نتصور أن العلم لا يخطئ، فإن هذا السياسي يكون محقاً في وجهة نظره.
أما في البلاد التي لم تبلغ درجة معينة من التطور أو التي سببت لها بعض الظروف وعواصف التاريخ، نكسة في التطور وحركة تقهقر شامل، كما حدث لألمانيا في عهد هتلر، فإن الفكرة المجردة تحل في شخص لتنشئ صورة سياسية خاصة، وهذه بحكم شذوذها عن مقاييس العقل، تتشبث بفرد تتجسد في ذاته فتتطور وتنمو وتنتظم طبقاً لمصالحه الشخصية انتظاماً تصبح معه هذه المصالح تلقائياً، هي المسوغات والدوافع والمقاييس لسياسة عاطفية.
وقد يحدث أن يتنحى أو ينحى، الفرد الذي يجسد هذه السياسة فيحل مكانه كائن مركب، أو بعبارة أدق (مركب أفراد) يجمع بينهم اتصال عضوي، مثل ما يسمى في الطب (التوائم السيامية)(1).
وقد يحدث أن يكون هذا الاتصال بواسطة جهاز هضم مشترك. فيصبح الكائن المركب بذلك قائماً على تضامن هضمي، فكل ما يمر بحنجرة فرد من الأفراد المركبين يدخل في عملية هضم مشتركة.
وتصبح (القضية) كما يقال في العرف السياسي قضية هضم، ولا بأس أن يكون في الرؤوس المتصلة بالجهاز الهضمي أفكار مختلفة شريطة ألا يعطل ذلك الاختلاف عملية الهضم، وإلا تخلص مركب الأفراد من الرأس الذي يحمل فكرة مشوشة، وفصله عن جهازه الهضمي.
إنه تركيب بالغ الدقة، والاستعمار يتقن تركيبه بدقة صانع الساعات العبقري، فهو يكوّن لها جهازاً صالحاً لتحويل أي فكرة تظهر في البلاد المستعمرة إلى فكرة (متجسدة) قريبة المنال، ويكون له بالتالي خير وسيلة لمقاومة أي محاولة، تظهر في البلاد المستعمَرة لتعديل وتصحيح نظمها السياسية.
إنه جهاز يعمل طبقاً لآلية نفسية غير معقدة، تدفعه إلى الحركة دوافع عاطفية، وتوجهه العوامل التي تتحكّم فيه لسياسة عاطفية، وهي عوامل تمثلها في مستوى معين، مصالح خاصة.
والاستعمار يعلم كل شيء عن آلية تلك المصالح، التي تعبر في النهاية عن ردود أفعال لجهاز هضم.
(1) يعبرون بهذه العبارة عن التوائم التي تولد ملتصقة بعضو من أعضائها.
ولا يغيب عن نظرنا أن السياسة لا تحيد، ولا يمكن لأي محاولة أن تحيدها عن الطريق، طالما بقيت دوافعها في ضمير يعي، وفي عقل يدرك، وفي قلب يشعر، أو بعبارة أخرى طالما كانت دوافعها متصلة بالأفكار.
أما إذا كانت دوافعها ناشئة عن آلية جهاز هضم، فإن الاستعمار يستطيع أن يتصرف في رغبات ذلك الجهاز، أي في شهوات (مركب أفراد) لتبقى البلاد المستعمَرة تحت تصرفه سياسياً واقتصادياً.
والأمثال التي تدل على هذه الحالات كثيرة في البلاد الإفريقية- الآسيوية، إننا نرى- مثلاً- مصر تواصل تنميتها الاقتصادية (1)، على الرغم من الضغط الماحق المسلط على اقتصادها من الخارج منذ عامين، أي منذ تطبيق مشروع أيزنهاور المشهور، بينما ترى في بلاد إفريقية آسيو ية أخرى، النشاط الاقتصادي معطلاً على الرغم من حقنه بالدولارات أكثر من مرة، لأن سياسة تلك البلاد لا تخضع لسلطة ضمير وعقل وقلب، أي لسلطة أفكار ولكنها تخضع لشهوات أمعاء.
فالأمعاء التي ركب عليها الاستعمار الرؤوس الحاكمة تعطل النشاط الطبيعي في الوطن.
وحينما نتكلم عن هذا الكائن الغريب، فإننا لا نتحدث عن وحش من عصور ما قبل التاريخ، بل عن حيوان معاصر لنا: إنه كائن أميبي تتصرف دوافعه الهضمية في سياسات بدائية.
وكل ما يقتضيه الإتقان من دقة تركيب هذا الجهاز الغريب، هو أن تؤدي شهواته وظيفة سياسية في البلاد المستعمَرة، وقد بينا أن الاستعمار يتقن جداً هذا
(1) حرر هذا الفصل قبل تأسيس الجمهورية العربية المتحدة.
التركيب، وأساس نجاحه في هذه المهمة هو ما تتضمنه نفسية الشعوب عامة، من ميل طبيعي نحو (السهولة) والأشياء المسهلة.
فحينما تخطط السياسة طبقاً لمبدأ السهولة، فإنها سوف تجتذب إلى تيارها كثيراً من الناس ذوي النوايا الطيبة، الذين يقدرون الأشياء بناء على سهولات الحاضر، لا على صعوبات المستقبل.
وإذا ما قدرنا أنه يضاف شيء من الإغراء إلى هذه الجاذبية الطبيعية، فإننا سوف نتصور حتمية الانزلاق إلى وحل السهولات المغرية. وهذا الشيء موجود بالفعل، إذ أن طريق السهولة تؤدي حتماً إلى سياسة هضمية تلبي وتغذي الشهوات. فهو موجود من بين الشعارات الرائجة في الأسواق السياسية، وإن كلمات مثل الاستعمار والامبريالية والوطنية، تليق جداً لتشحيم المنحدر حتى يكون الانزلاق عليه نحو السهولة ميسوراً جداً.
وقد رأينا في مؤتمر باندونج، كيف تستخدم كلمات (شيوعية) و (استعمار)، وقد استخدمها فعلاً بعض الدجالين في خطة تشحيم محكمة، كي يخرجوا المؤتمر من طريق البناء وينزلقوا به للتهافت والصخب.
وهذا كله في سجية الإنسان في ميوله الطبيعية. وقد تعد برامج الثقافة في البلاد المتقدمة من أجل مقاومة هذه الأسباب النفسية حتى لا ينتج عنها انحرافٌ ما في حياة المجتمع.
غير أن الاستعمار يستغل هذه الاستعدادات ويقرن أسبابها النفسية بخطط تربوية مناسبة في البلاد المستعمَرة، لأنها ليس لديها في ثقافتها الموروثة عن عهد انحطاط؛ ما يقاوم أسباب الانحراف في نفسية شعوبها، فيصل إلى أن يضع بتلك الاستعدادات سياسة (عاطفية- شهوانية) تتفق مع مصالحه. فهو يضعها حينما يربط عواطف الشعب الطيبة بشهوات (مركب أفراد) معين.
إنه يعلم أن كل شعب مستعمَر يحقد على الاستعمار، فتراه إذن يستخدم جاذبية اسمه نفسه ليربط براءة الشعب المستعمَر، وشهوات (مركب الأفراد) الذي يتزعم حياته السياسية.
إن كلمة (استعمار) هي أخطر سلاح يستخدمه الاستعمار، وأحكم فخ ينصبه للجماهير، وما من خائن يدسه الاستعمار في الجبهة التي تكافح فيها الشعوب المستعمَرة، إلا وكلمة (استعمار) هي التي تفتح له أبواباً مغلقة في عواطف الجماهير.
وبهذا وبغيره من الشعارات المثيرة، يتمكن الاستعمار من وضع الطابع البدائي على سياسة البلاد المستعمرة، ليقرر لنفسه بذلك انتصارات الحاضر والمستقبل، فهو يعلم أنه من الميسور دائماً أن يخدع فرداً أو زمرة أفراد، ولكنه من العسير عليه أن يخدع بفكرة أو يغري بها.
ومن هنا ندرك ما سيبذل الاستعمار من جهد، لعزل الأفكار عن المجال السياسي، حتى إن عمليات الرقابة والتصحيح والنقد الذاتي، التي من شأنها أن تكشف نواياه وتعطل مشروعاته، تصبح غير ممكنة في البلاد المستعمَرة.
إن الاستعمار شيطان، ولكنه لو جهر بإعجابه (بمركب الأفراد) وشكره على الخدمات التي يقدمها له، عن شعور أو عن غير شعور، لكان دون شك، شيطاناً بليداً أبلد من وزير الخارجية الأمريكي، لو أنه شكر عن طريق الإذاعة أو الصحافة، حكومة إفريقية آسيوية لأنها سمحت له بإنشاء قاعدة حربية في بلادها، لتجذب إليها الصواعق الذرية بعيداً عن أمريكا إذا ما نشبت حرب عالمية ثالثة.
إن الشيطان- أو بعبارة أخرى الاستعمار - يكون أبلد من هذا الوزير الفضولي، لو أنه شكر (مركب الأفراد) على أنه أمعاء تهضم غذاءها بكل هدوء، فلا تكشف نواياه ولا مشاريعه.
إن الاستعمار يحسب حساباً لكل أعماله وأقواله، حتى لا ينفك الاتصال بين مصالح مركب الأفراد، وبين انفعالات الشعب، أي بين شهوات البطون المؤثرة وبين الأوضاع العاطفية الواقعة تحت تأثيرها.
والمحافظة على هذا إلاتصال هو الشرط الأساسي في خطة الاستعمار الاستراتيجية، التي تقتضي في حالة التطبيق:
أولاً: أن يضرب الاستعمار كل قوة مناهضة له، تحت أي راية تجمعت.
ثانياً: أن يحول في كل الظروف، بينها وبين أن تتجمع تحت راية أكثر فعالية.
وهذان الشرطان يحددان استراتيجية الاستعمار في الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة: إنه يحول بين الفكر والعمل السياسي حتى يبقى الأول غير مثمر والثاني أعمى.
وهو من أجل هذا، يطبق طريقة التجميد، التي تطبق في جبهة القتال لتجميد قوات العدو عند نقطة معينة.
فالاستعمار يتبع في ذلك طريقة تطبق في بعض الألعاب الإسبانية: إنهم يلوحون بقطعة قماش أحمر أمام ثور هائج في حلبة الصراع، فيزداد هيجانه بذلك. فبدلاً من أن يهجم على المصارع يستمر في الهجوم على المنديل الأحمر الذي يلوح به حتى تنتهك قواه
…
فالاستعمار يلوح في مناسبات معينة، بشيء يستفز به الشعب المستعمَر حتى يثير غضبه، ويغرقه في حالة شبيهة بالحالة التنويمية التي يفقد معها شعوره ويصبح عاجزاً عن إدراك موقفه، وعن الحكم عليه حكماً صحيحاً، فيوجه ضرباته وإمكانياته توجيهاً أعمى، ويسرف من قواه دون أن يصيب بضربة
صادقة المصارع الذي يلوح بالمنديل الأحمر
…
الاستعمار بطل الألعاب الإسبانية
…
في المجال السياسي.
ويمضي الشعب الباسل في هذا الوضع الدرامي، كأنما تضحياته ذاتها من النفس والنفيس جمدته وقضت عليه بالبقاء فيما هو فيه.
وهكذا نصل إلى استنتاج جد غريب في السيكولوجية السياسية، وهو أن السياسة العاطفية لا تجد مسوغاتها في كسبها ولكن في خسارتها: فكلما تقطعت أنفاس الثور، ونزف دمه في حلبة الصراع، ازداد هجومه على المنديل الأحمر
…
والاستعمار يجيد تشغيل هذا الجهاز، لأنه هو الذي ابتكره وركبه، أو ركب فيه بعض محركاته فهو يعلم أن هذه المحركات ليست من مواهب ضمير، ولكن من خصائص أمعاء
…
فهو يستمر إذن، في التلويح بالمنديل الأحمر، حتى لا تكون للشعب المستعمَر فرصة يتدارك فيها، ويفكر في أمره، وأن ينظر إلى مشكلاته بمنطق الفعالية، أي أن يضعها طبقاً للأسس السياسية العملية.
هكذا يجمد الاستعمار القوات التي تناضل ضده، يجمدها هكذا عند نقطة معينة وتحت راية معينة.
فلو أتيح لإنسان أن يتتبع بإمعان، أحوال الصراع الفكري في بلد مستعمر معين، ورزق موهبة النقد السليم للأشياء، والإدراك الصحيح لمجرى التاريخ، أقول لو أنه تتبع هذه الأحوال منذ الحين الذي دخلت فيه القوى المناهضة للاستعمار على المسرح، فإنه سوف يتنبه لشيء هو أن الاستعمار يسلط الأضواء الكاشفة على ركن معين من المسرح، أي بالضبط على النقطة التي يريد أن يجمد عندها القوى المناهضة له.
ثم يرى أن ركناً آخر من المسرح بقي يغمره الظلام. وإذا هو حدَّق البصر لاحظ أن الأضواء الكاشفة تتحول عن هذا الركن عن قصد، كأن إرادة خفية تحرص على أن يبقى مغموراً بالظلام: ففي هذا الركن على وجه التحديد، يريد الاستعمار عزل (الفكرة) ومعها يعزل بطبيعة الحال، المكافح الذي دخل المعركة تحت رايتها، واضطرته الظروف كما بينا أن يدخلها بمفرده، أي بصفته فدائياً يجد نفسه في نقطة تقاطع النيران التي تصوب عليه من يمين وشمال، من خلفه وبين يديه.
ثم لو أنه تأمل هذه الملاحظات لوجد نفسه أمام أمر يدعو إلى الدهشة: فهناك اتفاق ضمني بين السياسة الشهوية المتجسدة في (القناة الهاضمة) وبين الاستعمار. ومهما تكن حقيقة هذا الاتفاق فليس من الضروري، أن تكون الرؤرس المركبة على (القناة الهاضة) جميعها على بينة منه، فإن هذه الغفلة كما سبق أن بينا من طبيعة السياسة العاطفية التي تتجه تلقائياً نحو السهولة، أو بتعبيرآخر إنها من طبيعة القابلية للاستعمار.
ومع ذلك فإن هذا الاتفاق قد يكون مقصوداً بالذات، فإننا لا نتصور على سبيل المثال أن مركب الأفراد الذي يحكم في كراتشي، يجهل علاقته بالاستعمار ودوره في سياسة الأحلاف الاستعمار ية، بينما هو أدق جهاز ركبه الاستعمار الذي أتقن جداً هذا التركيب، ونجح حتى في تركيب رأس علي خان على (القناة الهضمية)، التي تكوّن جهاز الحكم في تلك البلاد المظلومة.
ومع هذا، أو على الرغم من هذه الدقة وهذا الإتقان في صنع الآلات الهاضمة، التي يحاول الاستعمار أن يجعل منها أجهزة الحكم في البلاد المستعمرة، قد يجد نفسه أمام أمر واقع، تحدث إشارة خطر مفاجئة، تفاجئه على الرغم من احتياطاته وتوقعاته كلها، وعلى الرغم من شركائه الذين يشاركونه الأمر بحكم الإغراء أو بحكم البلادة.
إن إشارة الخطر حينما تطلق، توشك أن توقظ شعباً مرهق الأعصاب جسيم الآلام مستولياً عليه الغضب، كأنما المنديل الأحمر جعله في حالة شبه تنويمية.
فإشارة الخطر التي انطلقت فجأة، قد تذكره بحقه، بل بواجبه في فرض رقابته على السياسة المتبعة في بلاده وفي أن يطلب كشف الحسابات ومراجعتها، وهذا هو الخطر الأكبر على الاستعمار، حينما يرى الشعب المستعمر يتولى بنفسه الحياة السياسية، كما حدث ذلك أو كاد يحدث حينما تأسس في الجزائر سنة 1936م، ذلك المؤتمر الذي أقام قادة الأوساط الاستعمار ية وأقعدها.
لقد كانت لحظة خطر شديد بالنسبة للاستعمار، فقد شعر أن الوصل الذي وضعه وأحكم وضعه بين شهوات بدائية تحرك مركب أفراد، وبين اندفاعات عاطفية تهز جماهير، بين عملية هضم وبين سياسة تستهدف السهولة، شعر الاستعمار فجأة أن ذلك الوصل قد أصبح مهدداً حينما انطلقت إشارة الخطر.
فماذا سيفعل الاستعمار في مثل هذه اللحظة؟
ينبغي لنا أن نلاحظ أولاً، أن الإشارة التي أعلنت الحظر، قد تكون بلغت بل إنها بلغت فعلاً إلى علمه، عن طريق مراصده قبل أن تصل إلى شعور الشعب المستعمر، لأنه لا يملك جهازاً- كأن يكون طبقة مثقفة واعية- من وظيفته أن يبلغه هذا النبأ.
وبهذه الملاحظة ذاتها ندخل في الموضوع من بابه: إن إشارة الخطر إذ تعلن في الواقع، عن كتاب صدر أو عن مقالة نشرت أو عن حديث انتشر، إنما تدل على وقوع الحدث الأول من فصل من فصول الصراع الفكري.
الصراع الفكري؟
…
فهل لهذه الكلمة معنى في البلاد المستعمرة، وهذه البلاد تجهل عموماً قيمة
الفكرة في مصير المجتمعات، كما تجهل دقة الحطط التي ترسم من أجل التحكم في مصير الشعوب المتخلفة عن طريق أفكارها.
إنه ينبغي أن نفهم الفرق الشاسع بين موقفين: موقف من يريد من الماء شيئاً تتطلبه تغذية جسمه حينما يعطش، وحاجة ترابه حينما يزرع، وموقف من يريد زيادة على ذلك أن يعرف ما هو الماء بوصفه (ماء)، ومن أي العناصر يتركب وتحت أي الشروط يتم تركيبه. فالفرق بيِّن: بين موقف من يعلم (تلقائياً) كيف يتصرف بالشيء في حاجاته مثل الماء، وبين موقف من يحاول أن يتصرف في الشيء ليس طبقاً لحاجاته فحسب بل أبعد من حاجاته البسيطة أيضاً.
كذلك فإن البلاد المستعمرة لا تعرف عموماً ما هو الصراع الفكري، وإنما تسجل تلقائياً نتائجه السلبية في حياتها، فحينما ترسل إلى الخارج بعثة من الطلاب للدراسة العليا، فقد قام تلقائياً بعمل يتصل بالصراع الفكري، ولكنها لا تعلم بالضبط مقتضيات هذا الصراع وأسلوبه ووسائله وأهدافه.
وعلى ذلك فإن عملها ينتهي حالما تخرج البعثة من أرضها، إذ تصبح شؤونها مجرد عملية صرف، يقوم بها المصرف الذي يؤدي لكل طالب مبلغه الشهري.
إنها لا تعلم أن تلك البعثة التي سلمت شؤونها للمصرف، قد دخلت دون أن تشعر في حلبة الصراع الفكري، إذ تقبلتها رعاية الاستعمار وأحاطتها برقابة دقيقة، وأعدت لكل فرد من أفرادها ملفاً خاصاً، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة من تصرفاته إلا أحصاها، حتى يكون لدى الاستعمار عن تلك البعثة معلومات أكثر مما هي عليه عند المصلحة أو الوزارة التي أرسلتها.
فهذا بالنسبة للبعثة هو الفصل الأول: فصل التعرف ثم يبتدئ الفصل الثاني: فصل التوجيه.
وهنا يبذل الاستعمار كل مواهبه الشيطانية حتى لا تعود البعثة بطائل لبلادها، إذ يتصرف من أجل ذلك طبقا للمعلومات التي سجلتها الملفات: فهو يغذي الهوى والشهوات دون أن يصرف قطميراً، فإن التكاليف تدفعها ميزانية البلاد المستعمَرة ذاتها والمصرف المختص يؤديها والحمد لله في كل شهر
…
ويستمر هذا التوجيه السلبي خفياً كسرّ من أسرار ملفات الاستعمار الخاصة بالصراع الفكري، السر الذي لا نعلم عنه شيئاً نحن أبناء المستعمرات أو شبه المستعمرات، إلا عندما يأتينا فجأة صداه في صحيفة يومية في شكل فضيحة أو جريمة يرتكبها أحد أفراد البعثة، دون أن نشعر أنه في الواقع صدى المعركة ونبؤها في صورة جزئية عابرة، لأننا تعودنا بمقتضى (العقل الذري) الذي يجزئ الأشياء، ألا نرى الجزئيات التي تقع تحت حسنا تنبع من كليات لم تصل بعد إلى عقولنا، كما لا نرى من ناحية أخرى وبسبب تخلفنا الاجتماعي، أن العالم الذي نواجهه ونعيش فيه مخطط، أي أنه عالم لا تأتي فيه الأشياء عفواً وإنما بوصفها نتائج لخطط محكمة.
ثم بعد سنوات من ذهاب تلك البعثة التي أرسلناها للخارج تأتي النتيجة النهائية: إن بعض أفرادها يعودون إلى البلاد بخفي حنين لأن التوجيهات الاستعمار ية المحكمة حطمتها في الطريق، وبعضها الآخر لا يريد العودة لأن الاستعمار حينما لاحظ امتيازهم في العلوم مثلاً، لم يرَ من مصلحته أن يتركهم يعودون، فاتخذ كل الإجراءات الضرورية من أجل ذلك بكل ما لديه من وسائل الإغراء.
غير أن هذه الأشياء لا تصل إلينا إلا في صورة مجملة بصفتها مجرد أنباء نتلقاها من الصحافة اليومية، دون أن نتصور أسبابها الكامنة ودون أن نشعر أن هذه الفضائح اليومية، تنبع من فضيحة كبرى هي تصورنا الصبياني للعالم الذي نعيش فيه.
وبعبارة أخرى: إن البلاد المستعمرة تعيش الصراع الفكري، وتسجل نتائجه السلبية في حياتها أو ميزانيتها وفي أخلاقها، دون أن تعلن عن حقيقته شيئاً، وتترك المعركة في وجوه نشاطها نتائجها المتنوعة، دون أن تشعر تلك البلاد أن معركة مرت بأرجائها.
فالأمر- كما بيّنا في غير هذا المكان (1) - أن الأشياء تمر علينا دون أن تصل لشعورنا، لأننا نمر على سطح الأشياء دون أن نصل إلى مكنونها.
وهل يرجى من الاستعمار أن يسلّط الأضواء على المسرح، في الوقت الذي تدخل فيه الفكرة حلبة الصراع، وبالضبط على الركن الذي تبتدئ فيه المعركة؟
لاشك أنه سوف يكون شيطاناً بليداً لو فعل ذلك، بل على العكس سوف يحاول أن يجعل الظلام يتزايد في ذلك الركن حينما تدخل الفكرة حلبة الصراع، بمعنى أنه يحاول جهده عزل المعركة عن الطاقات المكافحة في البلاد وعن وعي البلاد ذاتها.
وإذن فحينما تنطلق إشارة الخطر في كتاب صدر أو مقالة نشرت، فإن المكافح الذي أطلقها يجد نفسه منعزلاً وفي وضع الفدائي على الرغم من إرادته، وهكذا يبدأ كفاحاً فردياً بمعنى الكلمة، لا يجد فيه الفدائي قوة تسانده ولا قاعدة تمده بالغذاء والسلاح: فالظروف التي جعلت منه (فدائياً) لم تترك له وسيلة ولا حيلة
…
وسوف يستوحي الاستعمار من تلك الظروف ذاتها خطته إزاء الفدائي، بما يقتضيه منطق الوحوش الضارية، فيوجه ضرباته القاسية لكل أفراد أسرته
(1) كتاب (مشكلة الثقافة).
أطفالاً ونساء، لأن الضربات التي قد يتلقّاها طفل أو امرأة أو شيخ عجوز، تؤثر في أعصابه وفي معنوياته أكثر من الضربات التي يتلقاها في شخصه.
هذا هو أسلوب الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة في صورته الإنسانية، وإن ظروف الحرب القاسية لهي التي تملي هذا الأسلوب، وقدى لا يجد القارئ في هذه الصورة، إلا مجرد تلميحات إلى الجانب المتعلّق بحياة شخص وبحياة أسرته، ولكن عليه أن يقرأ هذه التفاصيل بين السطور، إذا كان يريد أن يكوّن فكرة صحيحة، عن حقيقة الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، حيث يجعل منه الاستعمار صراعاً خفياً أصم دون صدى ودون شهرة: صراعاً يحيطه الظلام والإبهام والغموض، صراعاً يصب العذاب .. حتى على العجوز .. حتى على المرأة .. حتى على الطفل ..
هذا هو الطابع العام للصراع الفكري في البلاد المستعمَرة.
***