المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثالث تركيب آخر لمرآة الكف ــ لو أننا اقتنعنا في هذا العرض - الصراع الفكري في البلاد المستعمرة

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌الفصل الثالث تركيب آخر لمرآة الكف ــ لو أننا اقتنعنا في هذا العرض

‌الفصل الثالث

تركيب آخر لمرآة الكف

ــ

لو أننا اقتنعنا في هذا العرض بالجانب القصصي، لكانت القصة التي تابعنا تفاصيلها إلى هنا كافية؛ ويمكن إذن أن نسدل الستار على المسرحية التي وضعناها لفصل من فصول الصراع الفكري، للتعريف بحلقة من حلقات سلسلته.

بيد أننا لا نريد عرض قصة وإنما تحليل (حالة)، لنظهر ما يتصل فيها بجهود الاستعمار من ناحية، وما يتصل بجمود القابلية للاستعمار من ناحية أخرى.

ولقد يكون مفيداً بعد أن نكون قد لاحظنا هذه (الحالة) في صورة معينة، أن نلاحظها في صورة أخرى، أي أن نتتبع الموضوع في ظروف وأحوال مختلفة، كي نحيط به من أكبر زاوية ممكنة وكي نقدم عنه للقارئ أكثر ما يمكن من المعلومات.

فلا بأس إذن أن نعود إلى الموضوع في ظروف جديدة حتى ترى كيف يتابع الاستعمار عمله، وكيف يجدد خططه حسب الظروف، وكيف تستمر القابلية للاستعمار في طريقها، فلا هي تستفيد من تجربة مرت بها، ولا هي تحاول أن تستفيد من تجربة تقدم إليها.

إنه لا حاجة بنا إلى القول دائماً إن الاستعمار ولا شك هو الشر، وإنه صورته المجسمة على الأرض، فنحن في هذه النقطة متفقون.

ص: 64

ولكن من هذه النقطة بالضبط ينطلق طريقان أمام العقل الذي يريد مواجهة هذه المشكلة: فالطريق الأول ينطلق من سؤال ينبع من نفوسنا، في قليل أو كثير من الوضوح، حينما نقول: لماذا هذا الشر موجود؟

والطريق الثاني ينطلق من سؤال يختلف تماماً عن الأول، يدركه عقلنا أيضاً في قليل أو كثير من الوضوح، حينما نقول: لماذا نحن، المسلمين، مُعَرَّضون خاصة لهذا الشر؟

ولو أننا أعرنا الموضوع نصيباً من التأمل، لوجدنا أن كلا الطريقين يؤدي إلى مواقف، وإلى نتائج تختلف تمام الاختلاف عما يؤدي إليه الطريق الآخر.

فالسؤال الأول يقحمنا فعلاً في عالم الميتافيزيقا، في اتجاه لا يمكن أن تجد فيه المشكلة المطروحة حلاً عملياً، أو أي حل، لأن عناصر المشكلة كلها تصبح خارج نطاقنا، وتحت تأثير مسببات وعوامل لا تخضع لإرادتنا.

لماذا يوجد الشر؟ ولماذا يوجد الشيطان، ولماذا الاستعمار يمثلهما؟

هذه الأسئلة تعبر في الواقع عن سؤال واحد في صور مختلفة، لا تجدي صورة منها لأنها لا تؤدي إلى موقف سليم واقعي وفعّال، تجاه المشكلة التي تعبر عنها.

والواقع أن ليس لنا أن ننكر على أحد وضع السؤال في هذه الصورة، ولكن الجواب عليه سيقوده حتماً إلى الميتافيزيقا البحتة، مع كل ما يترتب عن هذا من النتائج المنطقية والأخلاقية والاجتماعية.

وإن مما يذكر عن أهل بيزنطة في عهد تدهور حضارتها، أنهم كانوا يتجادلون في جنس الملائكة: هل هم ذكور أم إناث .. ؟ ونحن إذا ما تورطنا في الميتافيزيقا، يمكننا أن نتجادل في جنس الاستعمار: هل هو رجل أم أنثى؟

ولو أن هذا قد وقع، فإنني على يقين من أن الاستعمار سوف يرينا عورته

ص: 65

كرجل مرة، وأخرى عورته كأنثى ثم يتركنا في غينا هائمين. وربما تنشأ عندنا مدرستان، ويظهر في هذا الأمر مذهبان، ولا شك فإنه حينئذٍ سوف يبذل كل ما في وسعه لبث روح الجدال بينهما، حتى تنصرف كل الطاقات العقلية، في العالم الإسلامي إلى هذا الجدال العقيم. ثم عندما يؤول الجدال إلى مشاجرة، فسوف يسعى الاستعمار من بعد ذلك، حتى يقر في أذهان كل من الطائفتين، أن كل من لا يشارك في هذا الجدال وتلك المشاجرة خائن، وأن كل من لا يقول إن الاستعمار أنثى أو ذكر، يصبح في نظر المذهبين مرتداً خائناً.

وبطبيعة الحال، فإن الاستعمار سوف يقوم هو نفسه، وعلى حسابه الخاص، بنشر هذه الإدانة وبتعليق نصها على الجدران في المدينة

فهذا شيء لا غرابة فيه.

ولكن فلنترك هنا الجدال عن عورة الاستعمار، لنرى ما هي نتائج هذا الموقف في الطور العقلي والاجتماعي في البلاد الإسلامية.

فإننا حينما نضع المشكلة في هذا الاتجاه الميتافيزيقي وننظر نتائجها في سلوك الفرد بالنسبة إلى الاستعمار، فسوف يتبين أنه لابد له من أن يكون في إحدى حالتين:

1 -

حالة فيها نوع من العبادة والخنوع.

2 -

حالة فيها الثورة والحقد.

ونحن نشاهد فعلاً هاتين الحالتين في المجتمع الإسلامي منذ أخذ يشعر بالاستعمار، ويسعى لتخليص نفسه منه: إننا نجد من بين المسلمين من يرى فيه الشيطان، فيعتريه الهول منه ويهزه الغضب من الشعور بأنه الشيطان.

ومنهم من يرى فيه إلهاً، فيعبده لأنه يتصور أن النعم بيده، في الدنيا على الأقل.

ص: 66

وكلتا الحالتين، هما في الواقع، نتيجة للصورة الميتافيزيقية التي توضع فيها المشكلة الأساسية.

ونكون على جانب لا بأس به من البلادة أو من الادعاء، إذا قدرنا أن الاستعمار يجهل هذه الأوضاع النفسية، كما نكون على جانب هام من العبث إذا قدرنا أن الاستعمار يعلم هذا ولا يستغله.

وعلينا إذن أن ندرك كيف يحدد الاستعمار نفسه، وموقفه أمام هاتين الحالتين، ولقد أشرنا إلى موقفه إشارة عابرة، حينما تحدثنا عن (المنديل الأحمر) الذي يترك الثور يتزايد غضبه، حتى يفقد أنفاسه.

ولا شك فإن الاستعمار سيبذل جهده بكل تأكيد، حتى يزداد من يكره الشيطان حقداً أو غضباً عليه، ويزداد من يدين له بالنعم، شكراً وحمداً.

وهذان الموقفان- وإن كانا يختلفان من الناحية الأخلاقية- يحققان النتيجة نفسها من الناحية العملية، إذ هما يكوّنان حجر الزاوية في الخطة التي يرسمها الاستعمار لتنويم الوعي الإسلامي، كيما يحول بينه وبين المشاكل القائمة.

فكما شعر أن المشكلة الأساسية على وشك لفت النظر إليها، وإثارة الاهتمام بها، تراه يزيد في التلويح بالمنديل الأحمر كما يزيد حفنات جديدة من النقود في ضمائر بعض الولاة المسلمين ذوي الضمائر، المعدة على صندوق الصدقات، وإذا بالمشكلة تعود إلى الغيوم.

فهذا فعل لفت، أو تحويل للموضوع ولا شك، فإن كل بلد إسلامي يعرف على الأقل فصلاً من فصوله، في نضاله ضد الاستعمار في السنوات الأخيرة.

وعلى سبيل المثال، فإن الجزائري المعاصر لنا يذكر، دون لبس أو شك كيف ولد سنة 1936 المؤتمر الجزائري المشهور، وكيف قتل في مهده، وقد كان

ص: 67

يمثل أهم مرحلة في تطور الشعب الجزائري السياسي بعد الحرب العالمية الأولى، كما كان يمثل بالنسبة للاستعمار أخطر الظروف التي عرفها في سياسته الجزائرية منذ 1830.

ولقد كان المؤتمر يحمل في روحه، وفي النزعات التي ورثها عن الكفاح الطويل الذي سبقه، ما يؤهله ليكون في توجيه الحياة السياسية في الجزائر، العنصر الفعال، فقد قام ليكون في البلاد جهازاً سياسياً فوق الأحزاب، يجعل الإدارة الاستعمارية وجهاً لوجه، مع الشعب الجزائري ذاته لا مع القادة السياسيين.

فشعر الاستعمار أنه سيفقد وسائل التأثير والرقابة على سياسة البلد، إذا ما خرجت من تصرف القادة بوضع هذا التصرف تحت نظر الشعب.

وإذا به يلوح بالمنديل الأحمر: فيغتال مفتي الجزائر حتى تكون جثته مسوغاً للإدارة الاستعمارية في إصدار الأوامر الصارمة، ثم يلقي من ناحية أخرى بحفنات نقود في ضمائر بعض القادة، فيذهب المؤتمر بعد ذلك قتيلاً، ويصبح هباء خلال شهر واحد، ما كافح من أجله الشعب الجزائري ربع قرن.

ولا شك أن التاريخ السياسي الحديث في أي بلد مسلم، سجل فصلاً كهذا، أعني أن الاستعمار يستغل الأوضاع النفسية نفسها، فهو يثير الغضب الأعمى عند الجماهير، ويغذي شهوات القادة.

ومن الواضح فإن هذا الجهاز سوف يظل خفياً لا يرى، لأنه مقيم في أعماق أنفسنا، كما من في استعدادنا لتقبل الإيحاءات التي من شأنها أن توجه سلوكنا، فهناك مختبرات متخصصة في الكيمياء السياسية تخصصاً عميقاً، تعد تلك الإيحاءات وتشحنها في شعورنا بالطرق المناسبة، ويكفي أن يضع أحد الاختصاصيين إصبعه على زر خفي، فتنطلق في شعورنا شحنة من الغضب والثورة، أو من

ص: 68

الإجلال والخشوع، حسب ما تكون الشحنة مجرد عوامل نفسية، تسلط على إحساس الجماهير أو نقود تصب في ضمائر بعض القادة.

وهنا تواجهنا مشكلتان، ولكن مشكلة العوامل النفسية والإيحاءات هي الأهم في نظرنا، لأن تلك العوامل تحرك الملايين من الجماهير الطيبة، بينما لا تحرك النقود سوى أفراد، أعدت ضمائرهم على صورة صندوق الصدقات الذي توضع فيه النقود، كتلك الضمائر التي باعت المؤتمر الجزائري سنة 1936 إلى الاستعمار.

فالمشكلة الأولى هي التي تهمنا لأنها تتصل بسلوك كل مسلم بصفة عامة، وينبغي لنا ألا نلاحظ في هذا السلوك، النتائج التي تقع مباشرة تحت حسنا لأنها ظاهرة في أثرها- فلا حاجة بنا إلى تأملها- بل الأسباب التي تسبب تلك النتائج، والتي لا نراها لأنها أسباب خفية.

وهذا يعني أنه ينبغي ألا نعد الأشياء من الوجهة السياسية في سطحيتها، ولكن من الوجهة النفسية في عمقها.

فكثيراً ما يرى الفرد منا في قضية ما أن أسبابها متعددة، وفي الغالب يكون ذلك التعدد في صورتها الخارجية فقط بمعنى أنها تظهر متعددة، لأن تأثيرها على شعوره يتكرر في ظروف مختلفة باختلاف الزمن والمكان. فكلما أتى منها مظهر جديد لتغير الظروف ظن أن السبب جديد في ماهيته.

وإذا كنا نقع هكذا في الخطأ بالنسبة لسلوك الفرد، فمن الواضح أننا سنقع في الخطأ نفسه وللسبب ذاته، بالنسبة للسلوك العام، أو بتعبيرآخر بالنسبة للسياسة في البلاد المستعمرة، حيث إن الضعف الموجود في موقف الفرد إزاء مشكلاته الشخصية سيوجد مجموعاً في ضعف عام متفشٍ في السياسة.

وعليه فإن بحث القضية في مستوى الفرد، سيؤدي إلى نتائج صحيحة في مستوى المجتمع إذا تصرفنا في تطبيقها كما يجب.

ص: 69

إن مشكلة الفرد المسلم بالنسبة للصراع الفكري، هي أن سلوكه يصبح في حكم الفعل الشرطي كما يحدده بافلوف، أي إنه لا يستطيع توجيه فكره وعمله باختياره طبقاً لمقاييس يحددها عقله ويعيها ضميره، والخطة التي يطبقها الاستعمار تهدف إلى هذه النتيجة النفسية عن طريق بافلوف.

وهذا السلوك الشرطي ينتج عند المسلم- بصفة طبيعية- من جراء الدوافع المتعلقة بغريزة الدفاع عن النفس، وهي الدوافع التي انطلقت منذ الهجوم الاستعماري، في غرة القرن الماضي.

كما ينتج أيضاً- بصفة صناعية- من الإيحاءات التي تسلطها على مشاعره، ومن وقت إلى آخر المختبرات المختصة، كي ترفع توتر طاقات الدفاع عن النفس فوق الدرجة اللائقة، حتى يكون الفرد في حالة توتر شاذة.

ويمكن أن نقول دون تردد، إن هذه الدوافع المنطلقة في حالة غير عادية، وهذه الإيحاءات السلبية هي التي جعلت من المسلم- فيما يظهر- منبوذ القرن العشرين، أي الشخص الذي يعيش على هامش المجتمع العالمي المعاصر.

ومما يلاحظ بشأنه فعلاً حينما نراقب سلوكه في المناطق الخارجية عن دار الإسلام القائمة على حدوده، أي في مناطق الاتصال بعالم الآخرين، فإننا نجده يسلك غالباً- إن لم نقل دائماً- مسلك المتهم أو المتهم بالنسبة للآخرين، أي مسلك الفرد الذي يعيش منبوذاً في المجتمع العالمي في القرن العشرين.

وهذه الحالة تلقي ثقلاً على مصيره، في الوقت الذي يتقرر فيه مصير العالم بإجماع الإنسانية.

وإنه لمن لغو الحديث أن نقول إن الاستعمار يعلم هذا الوضع الشاذ في سلوكنا، ويرى فيه أحسن مشجع لعزلنا عن المجتمع العام، كما يعزل مكافح الصراع الفكري عن المجتمع الخاص، إذ يعزلنا فعلاً عن عالم نتهمه ويتهمنا، ويملأ

ص: 70

أبصارنا فيه بالأشباح التي يزيد تأثيرها في توترنا، فوق درجة مجرد الدفاع عن النفس، بينما يزيد المنديل الأحمر في فزعنا من إبليس.

وهكذا تستطيع المختبرات المختصة أن تصرف كل إمكاناتنا الفكرية والمادية إلى معارك وهمية، فنسمع فيها قعقعة السلاح ودوي الحرب، ولكنا نتصارع فيها مع أشباح تحركها أمام أبصارنا المسحورة يد خفية ماهرة.

فحينما تصعد صرخة الانتصار في الفضاء، فإن ذلك يعني أن شبحاً قد اختفى عن المسرح حتى يتيح لنا الشعور بالانتصار عليه.

والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك الوهمية، التي ننتصر فيها على الأشباح، كتلك المعركة التي خاضها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو.

ويتبين من خلال بعض الموازنات الحديثة، أن عهد المعارك الوهمية ضد الأشباح لم ينقض في العالم الإسلامي، كما رأينا ذلك سنة 1948 حينما خسرنا معركة وهمية ضد شبح اسمه إسائيل، كان يحركه أمام أبصارنا (المسحورة) ذلك (الحاوي) الماهر، المستر تشرشل وتلميذه الشاطر ترومان.

أو بكلمة واحدة، إننا لا زلنا مستعدين لنصرف من الوقت والمال والفكر دون جدوى.

ويجب أن نضيف إلى هذا أنه كلما وضعنا أنفسنا في فصل كهذا، فإن الاستعمار سوف يكلف الاختصاصيين في لعبة الظل، ليصور لنا معركة خيالية تصرف المسؤولين في البلاد الإسلامية عن المشاكل الحقيقية.

وهذا هو ما نشعر به أولاً، إزاء بعض المشاريع ذات الشأن، حينما يحاول من يقوم بها، أن يجند الأفكار والأقلام والأموال للدفاع عن الإسلام من هجمات المستشرقين.

ص: 71

فإذا بالاستعمار يبدي ارتياحه لمثل هذه المشاريع حينما يأتيه نبؤها، إن لم نقل إنه أوحى من بعيد بفكرتها، لأنها سوف تصرف الأموال والأقلام والأفكار عن الأشياء الجدية.

كما نشعر أيضاً أنه سوف يبدي قلقه، لو أن أحداً انفلت من تأثير سحره، وحاول أن يقول إن المشكلة ليست في الدفاع عن الإسلام، الذي يجد في جوهره حصانته من عطاء الله إليه، ولكن في تعليم المسلمين كيفية الدفاع عن أنفسهم بما في الإسلام من وسائل الدفاع.

فالاستعمار يغضب حينما يتوقع بأن المشكلة سوف توضع هكذا، إذ بذلك سوف يفلت من يده زمام الأمور، وأن الناس سوف ينتهون من الحديث عن عورته، هل هو امرأة أم رجل، وأن القضية سوف تخرج من عالم الميتافيزيقا والظلام لتدخل عالم الجد، وتصبح قضية مطروحة لعلم النفس والاجتماع، لتدرس في ضوئها الشروط التي تشجع الاستعمار أو تنمي القابلية للاستعمار، وها نحن أولاء في صميم موضوع هذا الفصل.

إنه لمن ترف القول إذا قلنا إن كل ما يحدث اضطراباً في خطة الاستعمار المطبقة، أو يحدث أثراً يناقض السلوك الشرطي، الذي أصبحت أفكارنا وأفعالنا خاضعة له، بمقتضى تلك الخطة، قد يصبح موضع كل اهتهام من طرف الاستعمار.

وإنني لا أشك في أن ما كتبته في محاولة سابقة عن التجربة التي تتعلق بالعروة الوثقى، لكي أطلع بعض الطلبة المتصلين بي على أسلوب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة قد بلغ الدوائر المختصة، إذ تناولته الأيدي منذ سنتين داخل الجمهورية العربية المتحدة وخارجها، حتى إن بعض الطلبة وزعوا منه عدداً من النسخ طبعوها على حسابهم بالآلة الكاتبة الكبيرة (1).

(1) نشير إلى التوزيع الذي قام به بعض أبنائي الطلبة بليبيا.

ص: 72

ويكون من العبث ومن جهل أسلوب الصراع الفكري إن لم نقدر هذا.

ولكن هذا التقدير يحتمل نتائج منطقية لا سبيل لأن نقصيها عن الاعتبار. وهي أن الدوائر المختصة لا يمكنها أن تقف عند حد الاطلاع عندما يبلغها ما كتب في الموضوع منذ سنتين.

وإذا قدرنا هذا كما يجب، فما النتيجة العلمية بالنسبة إلى خطة الاستعمار في مواصلة الصراع؟

إن أقل ما يمكن أن نتصوره هو أن تلك الدوائر المختصة، لابد أن تتقبل الملاحظات المسجلة في الخطوط الذي وزعت منه بعض النسخ في البلاد العربية، بوصفها نقداً قد يفيدها في تعديل الخطة، إذا ما اقتضت الظروف ذلك، وإننا نكون قد اتهمنا الاستعمار بما ليس فيه، إذا قدرنا، حينما يشعر بضعف في خطته، أو بحاجة إلى تعديلها، أنه لا يسارع إلى تدارك الضعف وإلى تصحيح الخطأ في خطته.

والحق إنه ليس للقيادة الاستعمارية في بنائها الفكري، تلك الحواجز التي نراها تكف عملية التكيف عند قيادتنا.

وإذن فماذا يستنتج من هذا كله؟

إن الدوائر المختصة التي ركبت الجهاز الذي وصفناه في الفصل السابق، وأطلقنا عليه مرآة الكف ومرآة الحرمان، لم تشعر بالحاجة إلى تغييره تغييراً كلياً، وإنما رأت أن تعديله قد يكون مجدياً لسايرة ظروف جديدة.

وربما أن هؤلاء الاختصاصيين استفادوا من ملاحظاتي، أكثر مما استفاد منها الطلبة الذين أردت اطلاعهم عليها، وليس في ذلك أية غرابة.

فكان إذن على أولئك الاختصاصيين تعديل الجهاز، أو بالضبط تحسينه من

ص: 73

الناحية الفنية ومن ناحية الوسائل، بأن تكون الخطة معززة هذه المرة، بالوسائل الكافية وبالكفاءات اللازمة، وبالآلات البشرية ( Robots) التي تنجز الأعمال حينما يوضع في ضميرها بعض نقود كما توضع في صندوق الصدقات.

فالتركيب الجديد يتجاوب أولاً مع الضرورة التي تنتج عامة، من أن كل فخ عرف مكانه يصبح دون جدوى، أو بالتعبير العسكري: من أن كل جهاز يقع تصميمه في يد العدو لايبقى صالحاً للاستعمال ضده.

فكان من الضروري إذن- ضرورة فنية- تعديل مرآة الكف التي وصفناها في الفصل الأخير لأن هذا الوصف ذاته كشف سره منذ سنتين.

ولا شك أن هناك أشياء أخرى تؤيد هذه الضرورة، أشياء ناتجة عن الظروف الجديدة الخاصة بالبلاد الإسلامية والعربية، وعن الطور الجديد الذي يمر به الصراع الفكري في العالم عامة، وخاصة في البلاد التي لا زالت في المعركة التحررية.

فيجب علينا إذن أن نوازن بين الجهاز الجديد والقديم من جهة جوانب الضعف فيه كي ندرك التحسين الذي أتى به الجديد.

لقد ذكرنا كيف كان التركيب الأول يعرض اسم مؤلف لانعكاسات المرآة (بوصفه فرنسياً اعتنق الإسلام)، يعرضه لها بصفة ثنائية، بما أنه كان يقحمه بين اسمين آخرين تلقي عليه تلك الانعكاسات، أي أن الاسم القصود لم يكن في هذا التركيب ينتج مباشرة الإيحاءات السلبية، وإنما كان يتلقاها من الخارج ويعكسها فقط.

وكان هذا جانب ضعف في الجهاز، بل إن ما يزيد في هذا الضعف هو أن أجزاء التركيب كلها ظاهرة مرئية، لأنها كانت مكتوبة على صفحة من صفحات (العروة الوثقى).

ص: 74

وبعبارة أخرى، إنه كان تركيباً فجاً بدائياً.

فكان إذن من الحكمة أن يفكر يوماً ما الهتمون بالصراع الفكري، في تركيب جهاز جديد تكون أجزاؤه غير ظاهرة، وغير ظاهرة خاصة إلى الشخص المقصود، حتى تؤدي المرآة مفعولها دون أن يشعر بذلك.

والتحسين المنشود الذي أتى به الجهاز الجديد، هو بالضبط أنه لا يراه إلا من قدّر له، عن قصد أن يراه، أو بتعبير مصطلحنا: لا يراه إلا من هو معد من أجله، ليعكس إلى نظره وشعوره خاصة تلك الإيحاءات التي من شأنها أن تجعله في حالة (السلوك المشروط)، إزاء الأفكار المقصودة من وراء هذا كله.

فميزة التركيب الجديد هو أنه يمكنه أن يلفت النظر إلى كاتب معين، دون أن يشعر هذا بأنه أصبح يشع إيحاءات، ويعكس ردود أفعال شرطية موجهة ضد أفكاره ذاتها.

فهذه المرة لا يمكن لهذا المؤلف أن يتفطن للشبك الذي نصب لأفكاره، لأنه نصب وراء ظهره، وبعيداً عن نظره، فهو عبارة عما يسمى (لعب صور الظل)، أي تلك الصور التي يمكن للاعب ماهر أن يصورها من ظل يديه وأصابعه، بوصفها قصة يراها الناظر على الحائط، ويمكن أن يزيد اللاعب الماهر في إعجاب ذلك الناظر، إذا كان عنده الصوت المناسب مثل لاعب (جراجوز)، ليعقب على الصور التي تلقيها يداه وأصابعه على الحائط بما يناسب من التعليقات.

وكل مهارة هذا المخرج تكون في أن يستمر لعبه حتى النهاية، دون أن يشعر به الكاتب الذي أعد من أجل أفكاره هذا الجهاز، ولسنا نرى مكاناً لوصف تفصيلي لهذا الجهاز، إذ أننا لا نرى مسوغاً لأن نقدم في هذا العرض النظري،

ص: 75

لقصة من الصراع الفكري، كل تفاصيلها الواقعية، فحسبنا أن نورد جمل القصة بالصورة التي تتيح لنا أن نعطي فكرة عن تركيب الجهاز الجديد وعن كيفية تشغيله في ظروف معينة.

إن الاختصاصيين المهتمين بالصراع الفكري قرروا ألا يكون عملهم قائماً، في هذه المرة على (دائرة أفكار) معينة، كما كان شأنهم في المرة الأولى التي وصفناها.

إن مبدأ الجهاز الجديد من نوع آخر: إن كل كاتب له- قبل دائرة أفكاره- دائرة تشمل حياته الشخصية في عقر بيته، ودائرة تضم علاقاته الاجتماعية، خارج بيته، مهما يكن عددها.

وهذه الدوائر الثلاث ليست منفصلة الواحدة عن الأخرى، فقد بينا في الفصل السابق كيف أن دوافع الحرمان التي تسلط على شخص كاتب، بأنها وهي توجه إلى دائرته الشخصية، بصفته (كاتباً فرنسياً) مثلاً، تكون موجهة في الواقع إلى دائرة أفكاره.

ولكننا بينا في الوقت نفسه، ضعف هذا التركيب، لأنه لا يشمل الدائرة الشخصية لتنتج مباشرة دوافع الحرمان، وإنما هي تتلقاها من الخارج، وتعكسها فحسب، على دائرة الأفكار التي تكون بهذا، لأن ما تتضمنه من أفكار قد وضع في إضاءة غير مباشرة، أي تحت تأثير دوافع واردة من الخارج.

فالتحسين الذي أدخل على هذا التركيب هو أن يضعها في إضاءة مباشرة، أي أن يضع دائرة أفكار مؤلف مقصود تحت تأثير دائرته الشخصية مباشرة.

والتصميم النظري لهذا الجهاز قد يكون على هذه الصورة:

ص: 76

ـ[(دائرة الأفكار)

(دائرة الصلات الاجتماعية)

(الدائرة الشخصية)

فيمكننا الآن أن نفسر عمل الجهاز على ضوء هذه الصورة النظرية.

إننا نرى أولاً، أن كل ما يصدر من إشعاع من الدائرة الشخصية الخاصة بفرد معين، يصب حتماً بخيره أو بشره في دائرة أفكاره، لأنه ينعكس عليها بمقتضى تداخل الدائرتين؛ بمعنى أن أي تعفن أخلاقي يحدث داخل الدائرة الشخصية يصل إشعاعه فوراً- بصفته تعفناً- إلى دائرة الأفكار.

وبالآلية نفسها، فإن كل ما يحدث من خير أو شر، على الدائرة الاجتماعية يحدث أثراً إلى الخارج، تجاه دائرة الأفكار وينعكس عليها أيضاً.

ولكن يجب أن نلاحظ أن نصيب الإشعاع الذي يرد من الدائرة الاجتماعية تجاه الداخل، ينعكس على الدائرة الشخصية ثم يعود منها، كإشعاع منعكس، إلى دائرة الأفكار ليلقي عليها ما يحمل وما حمل من الدوافع الحرمانية. حتى إن دائرة الأفكار تتلقى في النهاية، كل ما تشعه الدائرة الاجتماعية في الاتجاهين.

وبالتالي فإن كل ما يحدث بطريقة طبيعية أو صناعية، تعفناً في الدائرة

ص: 77

الشخصية الخاصة بفرد أو في دائرته الاجتماعية، فإن تأثيره يصيب بأكمله دائرة أفكاره.

وإنما يجب أن نلاحظ، كي نكون أكثر دقة وتحرياً، أن لدائرة الأفكار ذاتها إشعاعها الخاص: تشع هي نفسها بإيحاءاتها على الدائرة الشخصية، التي تعكس بعض هذه الإيحاءات على الدائرة الاجتماعية التابعة لها.

إن للأفكار سلطة خاصة تفرض رقابة على الإيحاءات، التي ترد إلى دائرتها من الدائرة الشخصية ومن الدائرة الاجتماعية، وتصحح معناها إذا وقع فيه انحراف، مقصود أو غير مقصود.

فعندما يقول لنا أحد إن غاندي مثلاً، كان ينشر أفكاره المعروفة (باللاعنف) عن اتفاق خاص بينه وبين الاستعمار البريطاني، أو لأنه تقاضى رشوة عن ذلك، فإن دائرة الأفكار نفسها التي توجه إليها هذه الإيحاءات السخيفة، تضرب بها عرض الحائط وتلغيها بمجرد ما لها من القيمة الذاتية، أي بقطع النظر عن الدائرة الشخصية الخاصة بغاندي، وعن دائرته الاجتماعية، حتى إنه يمكننا إصدار الحكم المبطل لتلك الإيحاءات، بمجرد الالتفات إلى دائرة الأفكار فقط، باعتبار قيمتها الأخلاقية والعقلية من ناحية، وباعتبار مكانها في التخطيط السياسي العالمي من ناحية أخرى.

وأحياناً نرى أن الأفكار تدافع مباشرة عن دائرتها ضد أفكار أخرى يراد زجها فيها، عن قصد أو بحكم الصدفة؛ إن التاريخ الإسلامي نفسه يعطينا صورة من هذا القبيل: إننا نذكر بصفتنا مسلمين المحاولة أو المحاولات التي قام بها بعض الأشرار الآثمين لانتحال الآيات تزييفاً للوحي.

وقصة (الغرانيق) كانت إحدى تلك المحاولات، التي كانت تصدر من مركز الإشعاع المزيف الذي كان يشرف عليه، لاشك السبائيون والمنافقون، لقصد

ص: 78

تشويه القرآن الكريم، غير أن هذه المحاولات الأثيمة لم تحظ بأي نجاح، لأن دائرة الأفكار القرآنية تلغي بنفسها تلقائياً كل فكرة دخيلة عليها، فتطردها وتقصيها عن دائرتها.

حتى إنه ليمكننا القول إن السبئيين قد نجحوا، إلى حدٍ ما، في مساعيهم الأثيمة ضد الحكم الإسلامي، إذ أنهم تمكنوا من تغيير مجراه منط واقعة صفين، ولكنهم مع ذلك لم يتمكنوا من تغيير ذرة من دستوره المنزل، لأن القرآن يدفع عن نفسه الأباطيل، ويطرد كل دخيل عليه. فما كان لأحد من السبئيين أو غيرهم، أن يضيف إليه شيئاً، مثل قصة ((الغرانيق)).

ذلك لأن الأفكار عامة، لها من قوة الدفاع عن نفسها مما يخولها سلطة، تفرض بها رقابة على كل ما يكون من شأنه أن يشوه معناها أو يفقدها وحدتها: إنها تطرده فوراً من دائرتها.

فكذلك الأفكار القرآنية قد استخدمت خلال القرون قوتها ضد كل محاولة تحريف أو تزييف، وفرضت رقابتها على كل دخيل عليها مثل قصة (الغرانيق)، تطرده من دائرتها مقصية بذلك شحنة الإيحاءات السلبية التي يحملها الدخيل إليها، حتى لا يكون لها، أي أثر سيئ على الضمير الإسلامي في النهاية.

وهكذا كان مصير جميع المحاولات التي أريد بها تشويه القرآن وتحريفه عبر التاريخ، لأن الأفكار القرآنية خاصة، والأفكار من حيث هي أفكار عامة، وفي نطاق شروط اجتماعية معينة، تقوم بدور المصفي بالنسبة للأفكار الدخيلة، المشتبه فيها، التي تحاول يد خفية أن تزجها في دائرتها.

غير أن لهذه الرقابة، وهذه السلطة، التي تحتمي بها من أفكار الغش والدس، شرطاً نفسياً- اجتماعياً يمكننا فهمه على ضوء قصة (الغرانيق): لماذا لم

ص: 79

يتح لهذا الدخيل أن يندس في دائرة الأفكار القرآنية، وبالتالي أن يدس الريب والحرمان في الضمير الإسلامي؟

والجواب على ذلك أن هذا الضمير نفسه كانت له حصانته الخاصة ضد الحرمان، فقد كان محصناً أولاً بنظافته الأخلاقية، التي لم تكن تتيح لأي جرثومة أن تصل إليه من الخارج، أي أنه لم يكن فيه أي استعداد للتعفن.

ثم إنه كان محصناً ثانياً بميزة فكرية، وهي التي تكون بالضبط حجر الزاوية في الصراع الفكري، فهذه الميزة هي التي تجعلنا ندرك تلقائياً قيمة الأفكار بصفتها أفكاراً، وتجعلنا بالتالي ندرك أهمية الصراع الفكري وخطورته، وخاصة تكون هذه الميزة المصفي الذي يمسك الأفكار المزيفة، فلا يتركها تندس في دائرة الأفكار المستقيمة لتزيف وحدتها، وتشوه صورتها.

وبهذا ننتهي إلى أن الشيء الذي يتكفل حصانة دائرة أفكار معينة، هو في الحقيقة، قيمة أخلاقية تشترط النظافة وتفرضها في كل الظروف، وقيمة فكرية تجعلنا نميز بين الغث والسمين.

فإذا حدث في مجتمع ما أن اختل هذا الشرطان الأساسيان فإن الأفكار تفقد كل حصانة، كما يفقد من يدخل الصراع تحت رايتها ضمن ما هو ضد الإيحاءات السلبية، التي تنتجها مختبرات السياسة العلمية لمواجهة الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وفي هذه الحالة تفقد الأفكار كل فعاليتها في مجتمع لم تبق لها فيه سلطة الرقابة والتصفية والتصحيح، أو لم تكتسب فيه بعد هذه الميزات.

وهكذا تصبح دائرتها معرضة لكل الإيحاءات السلبية الموجهة ضدها، دون أن يمكنها أن ترد من ناحيتها على هذا التحدي.

ويكون المكافح الذي دخل المعركة تحت راية تلك الأفكار، معرضاً لأن يخوض المعركة وحده، دون أن تسانده عن يمينه أو شماله أو من خلفه أو من

ص: 80

الأمام، أية قوة تعزز كفاحه كما بينا ذلك في الفصول السابقة.

والواقع أن مجتمعنا أصبح يعاني في قيادته أزمة أخلاقية وفكرية، تجعله عامة لا يحقق للأفكار شروط حصانتها وفعاليتها فيه، حتى إنها تكون معرضة للدس إما لضعف أخلاقي يحيط بها وإما لضعف فكري يخذلها.

غير أننا إذا ما فحصنا هذه الحالة على ضوء تجربة طويلة، فسوف نجد أن الضعف الفكري هو أقوى العوامل تأييداً ومساعدة، لمساعي الاستعمار في جبهة الصراع الفكري.

فالتجربة تكشف لنا أن مأساة الأفكار عندنا تدور فعلاً على هذا المحور.

ويمكنني أن أذكر، على سبيل المثال، وتأييداً لهذا الرأي، قصة تتصل بموقف جمعية الطلبة الجزائريين المسلمين، بالجزائر. عندما صدر هناك سنة 1948م، كتاب (شروط النهضة ومشكلات الحضارة).

إن هذه الجمعية قامت برد فعل غريب، فنشرت في الصحافة بلاغاً يدين الكتاب المذكور على أنه مضر بقضية الشعب.

ولا شك أن هذا (الإيحاء) قد أتى عن طريق طالبين أو ثلاثة، يستخدمهم الاستعمار لحسابه في مثل هذه المهمات.

ولكن هل (تَعَفُّن) طالبين أو ثلاثة هو أساس المشكلة؟ أم الضعف الفكري الغريب الذي أبداه مئتان أو ثلاث مئة طالب حينما تقبلوا دون أية رقابة، الإيحاء الموجه ضد الكتاب؟

وكذلك الأمر سنة 1954م حينما صدر كتاب (وجهة العالم الإسلامي) للمؤلف نفسه، فإن جمعية العلماء الجزائريين كأنما قد أرادت أن تصدر حكماً بإدانته، بطريق غير مباشر، فسحبت من مؤلفه منحة شهرية كانت تزعم أنها

ص: 81

تقدمها له لتأييد الإنتاج الفكري، ومن الواضح أن رد فعل كهذا كان مقرراً بمقتضى المبدأ الثاني الذي قدمنا ذكره، أي المبدأ الذي يقضي في منهج الاستعمار، بفصل الكتاب عن القضية التي يكافح من أجلها فصلاً عمليا بوسائل مادية، أو معنويا بوسائل نفسية، وتحويل المعركة التي بدأت بينه وبين الاستعمار إلى معركة بينه وبين إخوانه.

ولكن حينما يحدث هذا فهل أساس المشكلة (تعفن) الشخص من بين المشرفين على جمعية العلماء، الذي أتى عن طريقه هذا الإيحاء من طرف الاستعمار ليلقيه في آذان أولئك المشرفين؟ أم أساسها الضعف الفكري الفظيع الذي أبداه هؤلاء المشرفون الذين عبروا في هذه المناسبة، عن عدم كفاءهم، وأخص منهم بالذكر فضيلة الشيخ العربي التبسي، لأنني أعلم أنه كان على جانب خلقي عظيم، بينما نراه من الناحية الفكرية يبدي ضعفاً كبيراً، فلم يقتنع بتقبل الإيحاء المذكور، بل أصبح يدافع عنه بكل إخلاص دون أن يشعر بأن موقفه ذاته كان في خطة الاستعمار، بصفته أهم العوامل التي من شأنها أن تبعد كاتباً معيناً عن القضية. فهو قد وقف هذا الموقف لأنه لم يكن يعلم- رحمه الله أن الصراع الفكري، هو فوق كل شيء. الصراع الذي يصنع سلاحه مما في طيات النفس وخفايا الروح.

وبالتالي فإن الجانب الفكري هو الأساسي في المشكلة التي نحن بصددها: إن الأفكار لا تتمتع في المجتمع الإسلامي بقيمة ذاتية، تجعلنا ننظر إليها بصفتها أسمى المقومات الاجتماعية، وقوة أساسية تنظم وتوجه قوى التاريخ كلها، وتعصمها بذلك من محاولات الإحباط مهما كان نوعها.

وهذه الثغرة تعود في تكوينها، إلى شيء من التخلف في تطورنا الاجتماعي، عرفناه في دراسة أخرى (1) بـ ((الطور لما قبل الاجتماعي))، أي

(1) راجع (فكرة كومنولث إسلامي).

ص: 82

الطور الذي لم يكتشف فيه الطفل بعد عالم الأفكار، وحينما يكون المجتمع في هذا العمر النفسي فإن الأفكار لا تجد فيه مسوغاً ولا هو مسؤول عن ذلك، كما لا يسأل الطفل عن شيء ليس من سنه.

وبسبب هذه الثغرة، فإن الصراع الفكري لا زال يغشاه الظلام الذي يغشى الحقائق، التي لم تكتسبها ولم تهضمها تجربتنا، لأنها لم تصل بعد إلى إدراكنا.

وفي مثل هذه الظروف، فإن دائرة الأفكار تكون معرضة إلى تحدي الاستعمار ومؤامراته، دون أن تستطيع الرد اللازم عليه.

فهي معرضة خاصة، إلى الإشعاع الذي يصدر إليها من دائرة صاحبها الشخصية، ومن دائرته الاجتماعية، دون أن يحميها من هذا الإشعاع شيء من الرقابة والتصفية والتصحيح ..

فالجهاز الذي يتركب من الوجهة النظرية من ثلاث دوائر متداخلة كما بينا، يصبح من ناحية التأثير، كأنه مركب من دائرتين فقط: الدائرة الشخصية والدائرة الاجتماعية.

أما الأفكار التي يصل إليها التحدي دون أن يمكنها الرد عليه، فإنها فقدت تأثيرها بسبب الضعف المتفشي في الجهاز الفكري عندنا اليوم، فكأنما دائرتها أصبحت ملغاة لا تلعب دوراً في الصراع الفكري في البلاد الإسلامية.

هكذا يمكننا أن نتصور من الوجهة الفنية، التعديل والتحسين الذي طبق في إنتاج عوامل الحرمان ودوافع الكف. كما نحاول وصف ذلك في هذا الفصل. فالمنهج المطبق في الصورة الأولى التي تحدثنا عنها، كما ن يقتضي تسليط إشعاع الحرمان على دائرة الأفكار، من تلقاء دائرتي أفكار لمؤلفين آخرين معروفين ذكرناهما في الفصل السابق. فكان هذا الإشعاع خارجياً، يأتي من الخارج إلى دائرة الأفكار التي نريد تسليطه عليها.

ص: 83

أما في الصورة الجديدة التي نخصص لها هذا الفصل، فإن الإشعاع يسلط على دائرة الأفكار من الداخل، فهو يأتيها من دائرة صاحبها الشخصية ومن دائرته الاجتماعية.

وهذا يعني طبعاً أن هاتين الدائرتين تنتجان الإشعاع، من تلقاء نفسهما بحكم طبيعتهما، أو أنهما أعدتا لإنتاجه، بطريقة صناعية معينة.

وبالتالي فإنتاج هذا الإشعاع النفسي هو القضية الأساسية، والمشكلة الرئيسية لا ينتظر من التعديل المقصود والتحسين المنشود.

وهذه النتيجة المنتظرة تكون بالضرورة، مطابقة لطبيعة الدائرة الشخصية والدائرة الاجتماعية اللتين أعدتا لإنتاج الإيحاءات المقصودة، ومطابقة أيضاً للمنهج المطبق من أجل ذلك.

فعلينا إذن أن نحدد هاتين الدائرتين من وجهة تركيبهما ومحتواهما:

أ - أما الدائرة الشخصية: فإنها تتضمن بحكم الضرورة حياة الفرد الخاصة، مع أسرته أو بمفرده.

ب - أما الدائرة الاجتماعية فإنها تتضمن بالضرورة، الجوار والعلاقات المهنية، والعلاقات الودية والعلاقات الناشئة عن الضرورة اليومية (مثل علاقتنا مع البائع الذي نشتري منه يومياً جريدتنا وخبزنا)، والعلاقات التي تنشأ بمقتضى حاجة التسلية، إذا تعودنا الذهاب إلى مقهى، والعلاقات الأدبية، إذا كان لنا صلات ببعض الطلبة.

هذه هي العناصر الأساسية للدائرتين.

فكيف تنتج الدائرتان، وهذا تركيبهما، إشعاع الحرمان والكف؟ وبعبارة أخرى كيف تعدان لإنتاج هذا الحرمان صناعياً، حتى يوجه إلى دائرة الأفكار التابعة لهما؟

ص: 84

فمما تجب ملاحظته بالنسبة للدائرة الشخصية أن هناك ثلاث حالات ممكنة:

1 -

حالة تنتج فيها بطبيعتها الدوافع الحرمانية، بسبب تعفّن في جوهرها.

2 -

وأخرى تنتج فيها تلك الدوافع بصفة طارئة، أعني بسبب ما يحقن فيها من التعفن بطريقة صناعية أو ما يلصق بصورتها الظاهرة على الأقل.

3 -

لا تنتج مطلقاً إشعاعاً حرمانياً لأنها سليمة من طبيعتها من ناحية، ولم تنجح، من ناحية أخرى محاولات تعفينها صناعياً أو تشويه مظهرها.

أما بالنسبة للدائرة الاجتماعية فهناك حالتان ممكنتان:

1 -

أنها لا تنتج انعكاسات الحرمان لأنّ ما تتضمنه من علاقات إنما هي علاقات سليمة في جوهرها.

2 -

أنها تشع انعكاسات الحرمان لأن علاقة، على الأقل، من العلاقات التي تشملها مشتبه بها.

وهذه الحالة الأخيرة تنقسم بدورها إلى حالتين جزئيتين:

أ - فإما أن العلاقة المشتبه بها قد دخلت في دائرة الفرد، وهو يعلم الشبهات التي تحوم حولها.

ب - وإما أنها قد دخلت في دائرة الفرد، وهو لا يعلم شيئاً عما بها من الشبهات، أو لا يعلم شيئاً لأن تلك الشبهات قد أضيفت إليها بطريقة صناعية.

وبالتالي فلو أننا تأملنا هذه الحالات بإمعان، فسوف نجد أن الدائرة الشخصية كلها تحت تصرف صاحبها، أما دائرته الاجماعية فإنها لا تكون تحت تصرفه إلا بصفة جزئية، أي في نطاق علمه فقط، إذ لا يمكنه أن يفرض رقابة

ص: 85

على كل علاقاته الاجتماعية في جواره، في الدكان، وقي المقهى، وبين الطلبة إلخ

حتى إنه يكون من الممكن جدا إضافة علاقة مشتبه بها، أو تعفين علاقة موجودة من قبل في تلك الدائرة، دون أن يعلم صاحبها شيئاً عن ذلك، وقد لا يعلم شيئاً عن ذلك حتى من يحمّل الشبهات ليحملها إلى تلك الدائرة.

فهذا التحليل يبين لنا كيف يمكن، في حالة واقعية، أن يتصرف من هو قائم بهذه العمليات لينتج أولاً، انعكاسات الحرمان في الدائرتين، الشخصية والاجتماعية، ثم كيف يسلطها على دائرة الأفكار.

والتحليل يبين لنا أيضاً، أن الدائرة الشخصية هي، في النهاية التي تتحكم في مشكلة من يقوم بعملية إنتاج انعكاسات وإيحاءات الكف والحرمان: فإن كانت متعفنة بطبيعتها، أو إذا تمكن القائم بالعملية أن يدخل فيها التعفن بطريقة صناعية، فإن إلقاء الشبهات على الدائرة الاجتماعية يكون أيسر، لأنها تجد في التعفن الداخلي، طبيعيا كان أو صناعياً صورة مسبقة في الأذهان تحمل تفسيرات ومسوّغات منطقية مسبقة للشكوك والشبهات، التي يراد إلقاؤها على الدائرة الاجتماعية.

فإذا كان أي خلل أخلاقي في الدائرة الشخصية فإنه يكون أيسر من لعب الصبيان بالنسبة إلى القائم بهذه العمليات، أن يلقي ما يريد من الظلام على دائرة الأفكار في البلاد التي تفقد فيها الأفكار نورها الذاتي، وذلك لأنه يستعين بالشبهات التي يمكنه في هذه الحالة خلقها بكل سهولة في الدائرة الاجتماعية.

ومن هنا ندرك أن اهتمام من يقوم بهذه العمليات، سوف يتعلق أولاً باستغلال التعفن الطبيعي الموجود في الدائرة الشخصية المطابقة للأفكار المقصودة، أو بإنتاج التعفّن فيها بطريقة صناعية، بكل ما لديه من الوسائل إن لم يكن التعفن في طبيعتها.

ص: 86

فما هي تلك الوسائل؟

فلنفرض أنك تعيش بمفردك، بعيداً عن زوجتك وأهلك، ففي مثل هذه الحالة يحاول القائم بالعمليات أن يدخل امرأة في حياتك، ليس فحسب لإحداث خلل أخلاقي في دائرتك الشخصية، ولكن لذلك أولاً، ثم تمهيداً لعمليات أخرى على الدائرة الاجتماعية، حسبما توحي به الظروف، لأن دخول المرأة في الدائرة الشخصية يخلق مسوغات ويمهد السبيل لإيحاءات كثيرة في الدائرة الاجتماعية.

وعليه فسوف ترى في يوم ما أن حسناء شقراء تطرق بابك وتحاول أن تدخل إلى قلبك ولعلها تكون أجنبية، ولكن من أرسلها إلى بابك يعلم أن لك شيئاً من الاهتمام بشؤون الدين مثلاً، فرأى طبقاً لذلك أنه من إتقان الخطة أن يلقن رسولته الساحرة بعض الآيات من الذكر الحكيم، كي تبرهن بها على اهتمامها بالشؤون التي تهمك، ولتجد أيسر الطرق إلى قلبك.

ولكن للقلوب أقفالاً مفاتيحها ليست بيد البشر، وعليه فإن المبعوثة الجميلة المهذبة قد تخيب في مهمتها مثلاً.

فماذا يفعل إذن القائم بالعمليات؟ إنه ربما يرسل إليك هذه المرة ساحرة سمراء، وإن رأى أنها لم تنجح في مهمتها أكثر من الأولى، فربما يرسل ثالثة من نوع آخر، لا تتلو عليك من الذكر الحكيم، ولكنها تقدم لك مثلاً هدية معينة من المصنوعات الضرورية لصاحبة البيت، وبالمناسبة تسألك؟

- هل السيدة صاحبة البيت هنا؟

ربما إنك أيها القارئ الكريم لا تتصور بسهولة، أن مثل هذا السؤال يتصل بالصراع الفكري فالأحسن إذن أن نترك الموضوع.

وفي النهاية، فإذا فشلت هذه المحاولات كلها لإدخال امرأة في دائرتك

ص: 87

الشخصية، فإن القائم بالعمليات سوف يشعر على الأقل بنصف الهزيمة، ولكنه مع ذلك فإنه لا يترك المعركة إذ يبقى له الأمل في دائرتك الاجتماعية.

فلنقدر أن دائرتك الاجتماعية لسبب ما، لا تضم إلا عدداً قليلاً من الصلات يمكن تعدادها كما يلي:

(أ) صلة جوار تشمل زوجين في عنفوان الشباب تكون الزوجة (ف) شقراء مثلاً، وجار فوقك لا تعرفه ولكنه ينصب فوق رأسك (دوشة) لا تعرف في البداية معناها، وربما تكتشفه فجأة يوماً فلنسمه (ج).

(ب) صلة أدبية مع عدد من الطلبة لأنهم يهتمون بالقضايا التي تهمك فلنشر إليهم بـ (ط).

(ت) صلة ودية مع سيدة (م) تكتب في الصحافة التي تكتب فيها أنت، وخاضت مع زوجها المرحوم المعركة ضد الاستعمار.

(ث) علاقة حاجية في دكان تأخذ فيه كل أسبوع جريدة أجنبية فلنشر إليها بـ (د).

(ج) ثم علاقة غير مستمرة بأسرة (ب) تزورها قليلاً مرة في الشهرين أو في الثلاثة أشهر مثلاً.

فإذا أردنا أن نرسم هذه العلاقات في تخطيط فستكون لدينا دائرة اجتماعية على هذه الصورة:

ص: 88

ـ[صورة التخطيط]ـ

ولنفرض بعد هذا أنك تعرف جيداً العنصر (م) وإلى حد ما العنصر (ط)، حتى إنه لا يتطرق إلى ذهنك بسببهما شيء من الريب، ولكنك ليس لديك عن العناصر (ج ف ب د) المعلومات الكافية، بينما مراصد الاستعمار تعلم عنهم كل شيء كما تعلم جهلك أحوالهم.

فكيف يبدأ إذن عمل القائم بالعمليات التي نتحدث عنها؟

فإنه بكل وضوح، لا يمكنه التأثير مباشرة على العناصر (م ط)، ولكنه يمكنه بطريقة غير مباشرة أن يجعل من كليهما، أو من أحدهما أو من بعض عناصر أحدهما مراكز إشعاع الحرمان، دون أن يشعروا، لأنه يمكنه في كل الظروف، أن يستخدم عناصر أخرى خارجة عن الدائرة الاجتماعية وموجودة تحت تصرفه، ليحمل الشبهات إلى العناصر الموجودة فيها، أو إلى بعضها كالعنصر (م) مثلاً، دون أن يشعر هذا ولا أن يشعر صاحب الدائرة، كما أن الذباب يحمل بعض الأمراض إلينا دون أن نشعر بذلك: فعندما تملي الحاجة أن يصبح العنصر (م) مشعاً دون أن يشعر، فيكفي للقائم بالعمليات أن يخلق بينه وبين أحد العناصر

ص: 89

المشبوه فيها صلة صورية، فيقوم مثلاً العنصر المشبوه فيه بزيارة إلى المعهد الذي تدرس فيه (م) فيقدمه إليها أحد معارفها، وفي الوقت الذي تصافحه بالضبط تلتقط صورة، ومن هنا يبتدئ تصرف بسيط ليجعل من (م) مركز إشعاع يشع على دائرتك الاجتماعية الشبهات، دون أن تشعر هي أو تشعر أنت، غير أنه على فرض أن قصة الصورة الملتقطة في معهد، لم تثر الشكوك لديك أول الأمر، إلا أنه قد يحدث شيء خاص يجعلك تدرك فجأة معناها الصحيح في نطاق الصراع الفكري، وذلك حينما ينكشف لك صدفة أن دائرتك الاجتماعية كلها قد أصبحت مركز إشعاع موجه إلى دائرة أفكارك.

ولهذا التحول الغريب شروط فنية خاصة ليس هنا موضوع الحديث عنها، لا يتحقق بدونها تركيب الجهاز كله وتشغيله، ولكن فلنترك هذا جانباً تجنباً للإطالة في غير مكانها، وإنما سنذكر في الفصل المقبل الشروط العامة التي تجعل مثل هذه العمليات متيسرة في البلاد المستعمَرة، غير أننا لا نترك هذا الفصل قبل أن نوضح للقارئ ولو بصفة عابرة، نقطة تتضمن زبدته إلى حد ما: فماذا تفعل أنت حينما تكشف لك الصدفة الخطة الجديدة التي تضمنها هذا الفصل؟

إنك سوف تجد نفسك مضطراً بطبيعة الأشياء، إلى أن تحطم دائرتك الاجتماعية، حينما تشعر أنها أصبحت مركز إشعاع خطير موجه إلى أفكارك، إذ لم يبق أمامك إلا أن تفصل عنك كل العناصر، التي تتركب منها تلك الدائرة أو تنفصل أنت عنها.

وإذا حدث هذا، وبوغت القائم بالعمليات بتحطيم الجهاز الدقيق الذي ركبه في دائرتك الاجتماعية، فكيف تتصور أنه سيرد الفعل؟

إنك لست في الموضوع إذا تصورت أن الاستعمار يترك معركة، علق عليها شيئاً من الاهتمام وبذل فيها شيئاً من الجهد- لأنه رأى، في ظروف معينة، أن

ص: 90

لابد أن يوقف بعض الأفكار عند حدها- لست في الموضوع إذا تصورت أنه سيقف مكتوف الأيدي لأنك باغته بمبادرة لم يكن يتوقعها.

وإذن ماذا سيفعل؟

إنه بكل بساطة سيحاول تدارك الموقف بكل ما يتوافر عنده من الوسائل المادية والفنية. إنك حطمت جهازه، نعم، ولكنه يمكنه أن يرتقه إلى حد ما حتى تستمر المعركة إلى النهاية التي قدرها.

وإذن كيف يفعل؟

إنه سيحاول التعويض عن الدائرة المحطمة بدائرة ملفقة، يركب فيها عناصر مشبوهة لا تعرفها، وبما أنك لا تتصل بها أنت فسوف تتصل بك هي في كل مكان تكون فيه، تتصل بك، أو بصورة أدق، تبدي أنها تتصل بك: فهذا مثلاً رجل يركب الأتوبيس الذي ركبت فيه، وتلاحظ أنه يتظاهر بأنه يعرفك، دون أن يحدثك، فهو كأنما يومئ إليك بشيء في نظره، وحينما تنزل أنت في المكان الذي قررت النزول فيه، تفاجأ بأنه نزل وراءك، ولم يبق إذن أمامك إلا التعلق فوراً بالأتوبيس الذي وضعك على الرصيف، إن لم يكن فاتك .. وهكذا يبقى الرجل على الرصيف مشدوهاً لفساد خطته.

وتستمر المعركة هكذا، بمثل هذه التفاصيل الغريبة.

هل هذا كل شيء، وكل ما يقال في هذا الفصل؟ فإذن تبقى فائدته معلقة.

قد بينا في الفصل السابق أن تطبيق المبدأين- اللذين يكونان أساس الصراع الفكري، بالنسبة للاستعمار- يهدف إلى إقصاء المكافح عن ميدان المعركة، وفصله عملياً وروحياً عن القضية التي يكافح من أجلها.

ص: 91

يجب إذن أن نبين كيف يصل الاستعمار أو يحاول الوصول إلى هذه الغاية، في نطاق التجربة الجديدة التي يصفها هذا الفصل.

إننا تناولنا الجانب التحليلي ولم نعط الجانب العملي كفاية من التوضيح:

إننا قدمنا أن الاستعمار يريد أن يعزل عملياً من يدخل حلبة الصراع الفكري ضده، وفصله عن القضية التي دخل من أجلها في المعركة، أو على الأقل يحاول فصله عنها معنوياً بالوسائل النفسية المناسبة.

ولكن إذا قررنا أن الاستعمار يعرف الغايات لأنه هو الذي حددها، فهذا لا يعني أنه يعلم مسبقاً طوارئ الطريق.

وعليه فالقضية تتضمن، بالنسبة له احتمالين:

أولهما، هو أن لا يطرأ في الطريق شيء يخالف بصورة ما الأمر الذي بيّته، فتسير الأمور حسب تقديره إلى النهاية، أي إلى أن يجد المكافح نفسه في شبكة، بعض خيوطها من مكر الاستعمار وبعضها من بلادة القابلية للاستعمار، وبذلك سيجد نفسه مفصولاً فعلاً عن القضية.

والاحتمال الثاني هو أن يحدث طارئ في الطريق يغير وجه المعركة، لأنك شعرت فجأة بأن عمليات خطيرة تجري على دائرتك الشخصية ودائرتك الاجتماعية، فيتبين لك على ضوء تجربتك، معنى هذه العمليات في مصطلح الصراع الفكري في البلاد المستعمرة.

وربما يحدث هذا الطارئ من جراء هذه العمليات ذاتها، عندما يخطئ الاستعمار في تقدير بعض تفاصيلها رغبة في التعجيل مثلاً، فتؤدي به رغبته إلى الخطأ، كي يحقق قوله عز وجل:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء 4/ 76].

ويتغير فعلاً وجه المعركة لأن الكاتب سيقوم بردود أفعال.

ص: 92

ولو تتبعنا، منذ هذه اللحظة، المعركة في صورتها الجديدة، لحصلنا على تفاصيل أخرى تثري معلوماتنا عن الصراع الفكري.

فما ردود الأفعال التي يستطيع أن يقوم بها الكاتب، عندما يكتشف فجأة أنه قد أصبح موضوع عمليات الكف التي أشرنا إليها في هذا الفصل؟

وما أثرها من الناحية الموضوعية ومن الناحية الشكلية في تعديل خطة الاستعمار، منذ أن يصبح في مواجهة ردود أفعال لم يكن ينتظرها؟

إن المكافح الذي يكتشف فجأة الأحبولة التي تهدد أفكاره، سيسرع أولاً إلى تحطيم دائرته الاجتماعية كما قدمنا، كي ينتزع من أيدي الاستعمار الأداة التي يستطيع بها القيام بعمليات الكف. ولقد رأينا أن الاستعمار في مثل هذه الحالة، يرد الفعل نفسه بمحاولة إنشاء دائرة اجتماعية ملفقة حولك، لأنك حطمت الدائرة السابقة، فيبدأ هكذا دوراً جديداً، وإذن ستشعر بأن يداً سوداء تنسج حولك ظروفاً غامضة، في كل مناسبة تضطرك إلى الخروج؛ فمثلاً عندما تركب الأتوبيس تجد نفسك مع راكب أجنبي يقوم بكل وضوح بدور (المعرفة المورطة) فيظهر ويخفي، في آن واحد، أن بينك وبينه علاقة، لا يمكنك أن تنفيها، لأن الرجل لم يقل كلمة واحدة، وإنما تكلم بطريقة الإيحاء، حتى تكون أي محاولة من طرفك لإيقافه عند حده، محاولة غير قانونية تعرضك لضحك الناس منك.

وتجري المعركة هكذا بمثل هذه التفاصيل، فتكون يوماً على رصيف في انتظار (الباص)، وإذا سيدة أقرب إلى الكهولة منها إلى الشباب، وعليها ملامح الأناقة الخاصة بالسيدات اللائي احتككن كثيراً بالحضارة الغربية، تسألك عن الطريق بلغة عربية تشعرك لهجتها أنها أجنبية، وتدخل فعلاً معك في الحديث، فتشعرك أنها تسافر كثيراً، وأنها آتية من تركيا واليونان، وأنها

ص: 93

مسلمة، وأنها تقضي صلاتها في جامع كذا، ثم تسألك هل أنت مسلم؟ وهكذا يتسع الحديث، وفي النهاية تسألك عن كتاب هو أحد كتبك وأنت لم تشر بنصف كلمة إلى شخصيتك كاتباً.

ولا يستطيع من له بعض التجربة في هذا الموضوع، أن يفسر هذه المحاورة الغريبة على أنها مجرد مصادفة كلامية، ومن طرف هذه السيدة الأنيقة، التي أتت تسأل عن طريقها فقط.

ومما يزيد في ريبتك هو أنك خلال حديثك مع السيدة، قد لاحظت أن عدسة تصوير بدأت تستعد على الرصيف الآخر، لالتقاط صورتك مع هذه السيدة التركية اليونانية.

فلا يبقى شك في ذهنك بأنك في فصل من فصول الصراع الفكري، وأن وراء حديث السيدة عن صلواتها وأسفارها وعما كتب عن القرآن، وراء كل هذا غاية أخرى.

أي غاية يا ترى؟

إنه سؤال يبقى للأسف بلا جواب، لأنك لا تعلم الغيب، وليس لديك من وسائل المعرفة والوصول إلى الحقيقة إلا التفسير والتأويل على ضوء تجربتك

وهذا الطريق غير معصوم من الخطأ إن لم تسنده وسائل أخرى ليست في يدك

ولا يبقى لك إذن لمواجهة هذه المحاولات- التي تفهمها، دون أن يقنعك فهمها لا يبقى إلا رد فعل واحد: أن تلزم بيتك ولا تخرج منه إلا عند الضرورة القصوى

وتشعر إذن أنك الفرد الذي يواجه الجهاز الضخم، أنك الإنسان المركب من

ص: 94

لحم ودم، أمام الآلة الدقيقة المركبة من حديد وفولاذ، ويتحقق أمام عينيك المعنى الذي خطر ببالك يوماً ما، عندما أودعت في مذكراتك أنك ((الذرة التي ألقت بنفسها بين قوى هائلة تتصارع في العالم

وأن الذرة إن لم تحطم، فهي معجزة

)).

هذا وجه الصراع، أو بعض ملامحه من الناحية الموضوعية، ولكن ما صورته من الناحية الشكلية؟

إن الفرد الذي اكتشف فجأة أن عمليات حرمانية تجري على دائرته الاجتماعية، قد يقرن تاريخ هذه العمليات بالحدث الذي لفت نظره إليها لأول مرة، فيصبح هذا الحدث في ذهنه هو بداية العمليات

ثم تأتي الأيام بمزيد من المعلومات، فتكشف عن أن الحدث السابق، ليس هو البداية وإنما هو من طوارئ الطريق الطارئ، الذي لم يقدره القائم بالعمليات تقديراً محكماً، حتى استطاع أن يلفت به نظر من تجري على حسابه هذه العمليات، فيكشف هذا الأخير أو يرى على ضوء المعلومات الجديدة، أن الصورة الأولى التي أخذها عن القضية، وإن كانت صحيحة من الناحية الموضوعية، ليست صحيحة من الناحية الشكلية، إذ أن الحدث الذي كان يرى فيه بدايتها ما كان في الواقع إلا طارئاً من طوارئ الطريق ..

وربما تأتي الأيام بمعلومات أخرى، فتكون نتيجتها من الناحية الشكلية، صورة جديدة للقضية في ذهن من يعيش هذه التجربة

والآن لو فرضنا أن هذا الرجل ليس لديه، للوصول إلى الحقيقة إلا وسائله الشخصية،- وسائل الفرد أمام الجهاز الضخم، وسائل الإنسان المركب من لحم ودم أمام الآلة المركبة من الفولاذ، وسائل الذرة المقحمة بين قوى هائلة- لو فرضنا أنه أراد أن يرفع القضية، في صورتها الأولى مثلاً، أمام مجلس أرواح استحضره، كي يصدر حكمه فيها

ماذا سيحدث؟

ص: 95

إن الاستعمار لا يفقد، في أي حال من الأحوال حق الدفاع عن نفسه، ولا يفقد وسائل الدفاع طبعاً

إنه من دون شك سيكون في أحد الاحتمالين:

أولهما هو أنه يعلم أنه في المرحلة التي أثيرت فيها القضية، لم يكن لأحدى علم بالعمليات إلا عند من هو قائم بها، وعند الذي اكتشف فجاة أنها تجري على حسابه.

ففي هذه المرحلة يكون تصرف الاستعمار من أبسط ما يكون: إنه يوقف العمليات، ويدخل إصبعه في الظلام ويقول: إن صاحبكم الذي رفع علي هذه القضية مصاب بالوهم والخيال، فاتركوه إلى حاله حتى يرجع إليه رشده.

ولا يقول هذا جهراً وإنما يهمس به همساً، ويوحي به إيحاء على عاداته وطريقته.

وثاني الاحمالين هو أن تثار القضية، في مرحلة لا يمكن للاستعمار فيها أن يبني دفاعه على أساس البراءة. ولكنه يعلم بطريقته الخاصة أن الرجل الذي أثارها، لا يعرف بالضبط بدايتها، وليس في يده وسائل الوصول إلى معرفتها معرفة قد تكون معها الصورة التي عرض فيها القضية على مجلس الأرواح صحيحة من الناحية الموضوعية، ولكن غير صحيحة من الناحية الشكلية، إذ فيها خطأ من جهة تحديد البداية.

وإذن فسوف يستغل الاستعمار هذا الضعف، فيقوم بما يسميه أهل القانون بـ (دفع شكلي) لينقض الدعوى، لا من حيث محتواها ولكن من حيث صورتها، وهذا بالضبط منطق إبليس بعد أن أتم تعليمه في مدرسة القانون الروماني التي تهتم بالشكليات أكثر من الموضوع.

ص: 96

هذه هي الصورة العامة لتجربة معينة خصصنا لها هذا الفصل، كي نبين للقارئ أن الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، يجدد بجانب من جوانبه وبصورة ما، الأسطورة الشهيرة التي يصف فيها أفلاطون، بطريقة رمزية الحالة الغريبة التي يكون عليها بعض الناس، حينما يتصورون الواقع، حسبها يصور لهم لا طبقاً لحقيقته؛ فهم يعيشون في نظر الفيلسوف العتيق، في قعر غار، ملتفتين إلى جدرانه قهراً، فلا يرون سوى الأشباح المتحركة عليه دون أن يفكروا أنها الأشخاص يأتون ويذهبون وراء ظهورهم، وأن ناراً أوقدت بين باب الغار وأولئك الأشخاص هي التي تلقي ظلهم في صورة أشباح متحركة على الجدران، ودون أن يشعروا خاصة، أن الحقيقة ليست في تلك الصور الوهمية، ولا في النار التي تصورها لأبصارهم المسحورة، بل هي خارج الغار، في ضوء النهار، تحت الشمس الساطعة

ولو عاش أفلاطون في زماننا لأتيحت له الفرصة أن يضيف لأسطورته صوتاً يتخافت ويهمس همساً: صوت الملقن أو المفسر الذي يدلي بالتفسيرات، أو بوجه أدق يدلي بالإيحاءات المناسبة لأصحاب الغار ليزيد في خبالهم خبالاً.

ويكون بذلك وصف حالتنا حينما يبدي لنا الاستعمار ما يريد من الصور الوهمية، ويصف لنا الأشياء كيفما يريد بصوت المتخافت. ومهما يكن من الأمر فإننا نستفيد مما قدمنا، أن الاستعمار إذا حاول وخاب مرة أولى، وثانية وثالثة إلخ فإنه مستمر على الرغم من ذلك في طريقه، مصرّ على خططه

وقد نعجب من هذا ونتساءل لماذا يصر؟

والجواب هو أن الاستعمار يعلم بكل تأكيد، أن الرجل الذي دخل المعركة هكذا، في جبهة الصراع الفكري، ليس بيده كل ما يتمنى من وسائل الدفاع، وأن ردود أفعاله ستكون محدودة بالضرورة، والظروف السياسية ذاتها قد تحدها

ص: 97

أحياناً، وعليه ليس في مواصلة العمليات التي وصفنا بعضها أي خطر بالنسبة لمن يقوم بها، لأن الاستعمار يعرف كما بينا، خريطة الأرض التي تجري عليها، وإنه أمن جميع طرقه

وبالتالي فإنه يقدر على ضوء معرفة دقيقة في هذا الميدان، أن اسقراره في خططه بعد المرة الأولى والثانية والثالثة إلخ، سوف يؤدي إما لفصل المكافع فصلاً عملياً عن القضية التي دخل من أجلها في المعركة، وإما أن يفصله عنها معنوياً عندما يصور له عبث تلك الذرة التي تريد أن تحطم الجبل.

هذا ما يريد وما يقدر الاستعمار، ولكن الأمر ليس بيده ولا بيد أحد إنه بيد من يقدر الأشياء تقديراً فتسير الذرة ويسير الجبل حسب تقديره.

***

ص: 98