المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الخامس على هامش كتاب ــ إننا لم نقل، عندما وصفنا في الفصول - الصراع الفكري في البلاد المستعمرة

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌ ‌الفصل الخامس على هامش كتاب ــ إننا لم نقل، عندما وصفنا في الفصول

‌الفصل الخامس

على هامش كتاب

ــ

إننا لم نقل، عندما وصفنا في الفصول السابقة صنفين من (مرآة الحرمان)، إن ما وصفنا هو كل ما تنتجه ترسانة الاستعمار لتحطيم الأفكار.

إننا لو فكرنا هكذا فسوف نكون قد أسأنا الظن بالاستعمار، وبإمكانياته المتعددة المتنوعة لمواجهة الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، بل إن كل مناسبة جديدة تكشف لنا عن وسائل جديدة، وعن خطة مجددة، وعن شباك محدثة كأن الاستعمار لا يريد أن يترك لخصومه أن يدخلوا معركة اليوم، بما تزودوا به لمعركة الأمس، فوسائله تتنوع حسب الظروف، وطبقاً للمناسبات، فهو لا يحافظ إلا على المبادئ الأساسية التي يطبقها في كل مناسبة وفي أية ظروف.

وعليه فتكون محاولة جنونية، لو هدفنا في هذا العرض إلى أن نضع قائمة إحصائية للوسائل التي يستخدمها، وللخطط التي يطبقها في الصراع الفكري لقد أردنا فقط تزويد القارئ بمعلوممات كافية عن المبادئ ذاتها. ولو استطعنا أداءها له بالطريقة النظرية البحتة، أي دون ذكر تفاصيل خاصة لفعلنا، ولكننا نطرق موضوعاً جديداً كل الجدة، لا يمكن معه تناول الجانب النظري منه منفصلاً عن الواقع الذي يدل عليه، وإنه لا يمكن أن نجرد حقائق الصراع الفكري في البلاد المستعمرة دون أن نذكر الواقع الذي منه جردناها، ولا يمكن أن نستخلص المبادئ دون أن نشير إلى الوقائع التي استخلصناها منها، مع

ص: 112

ما يناسب من التحفظ في الموضوع، حتى لا يكون للنزعة الذاتية فيه مجالٌ باسم التجربة الشخصية.

إن الشيء الذي تقره التجربة بكل وضوح، هو أن الاستعمار يتكيف مع الظروف، حتى إنه يتخذ أحياناً طرقاً وسبلاً، لا ينتظر أن يتخذها ويتبعها لبعدها ظاهراً عن الميدان الذي تدور فيه المعركة، حتى إن الفكر يصبح أحياناً في حيرة حينما تتجلى له فجأة الحقيقة، وهي أن الاستعمار يفتح دائماً في الصراع الفكري أبواباً جديدة، لم نكن نفكر أنه سيأتي منها هجوم، فيأتي الهجوم من تلك الناحية التي لم نعدّ لها عدتها، ولم نستعد لصد الغارات التي تأتينا منها.

هذه حقيقة الصراع الفكري عامة، وإنما نريد توضيحها بواقعة تتضمن تفاصيلها ومحتواها.

فليتصور القارئ أنه أتى إلى عاصمة عربية منذ أربع سنوات ليقوم بمسؤولية مواطن ومسؤولية كاتب.

وأنه أتى خاصة من أجل نشر كتاب يتعلق موضوعه بمؤتمر باندونج، ولا شك أن القارئ الذي أخذ عبرة مما قدمناه وأصبحت لديه خبرة بما سلف ذكره، لاشك أنه يقدر أول ما يقدر، أن كتاباً هذا موضوعه لا يمكن أن تغيب فكرته عن شبكة المراصد المختصة بالصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ولو ذكرنا بعض التفاصيل البسيطة لزدنا هذا القارئ يقيناً بموضوعية هذا التقدير، وإنما نلخص هذه التفاصيل كلها فنقول: إن من يكتب في موضوعات كهذه، وهو يعيش في بلاد مستعمرة، يرى نفسه ((كذرة ألقت بنفسها بين قوى رهيبة متطاحنة، ويشعر بأنه إن لم يحدث لتلك الذرة أن تسحق إلى غبار الغبار فإنها معجزة)).

ومن الطبيعي إذا كان في نفسك هذا الشعور عند وصولك إلى العاصمة العربية، أن تفكر أولاً كيف تضع الكتاب الممقوت في قرار مكين، فتتوجه به

ص: 113

مثلاً إلى إحدى الهيئات لتجعله تحت رعايتها، ولسوف يتم هذا فعلاً، كما تمنيت، إلا أنك سوف تفاجأ أثناء زيارتك لتلك المصلحة الحكومية، حينما يقول لك من يتحدث باسمها، إن أحد الصحفيين، وهو مراسل جريدة كبرى من باريس قد سبقك، وقدم للمصلحة نفسها عرضاً بأن يقوم فيلسوف فرنسي بدراسة عن موضوع مؤتمر باندونج، حتى يستخلص منه نتائجه النظرية، في صورة تخطيط لحضارة إفريقية آسيوية تضم في تركيبها جانباً غربياً.

ولا شك أن من تتبع النظريات السياسية منذ الحرب العالمية الثانية، سيشعر حيناً بما في هذا العرض الغريب من قرابة لفكرة أوربا- إفريقية ((التي جادت بها القريحة الاستعمارية الصادرة عن فلسفة النازية))، وهي من مخلفات هتلر الفكرية في النفسية الاستعمارية الجديدة، التي نرى من آثارها السياسية، الجبهة الأوربية التي اتخذت قاعدتها في مدينة سترازبورج بشرق فرنسا.

فعرض الصحفي الباريسي يتصمن هذه الفكرة الاستعمارية في نطاق أوسع: نطاق فكرة أوربية - إفريقية - آسيوية.

ومما يزيد أهمية هذا العرض، هو أنه- فيما يبدو وكما قيل أثناء زيارة المصلحة المذكورة- قد عرض أيضاً على شخصيات مختصة بنيودلهي وبجاكرتا.

فهذا دون ريب مسعى غريب، ولكن غرابته ذاتها تزيدنا اهتماماً بشأنه، وتدعونا إلى التفكير في أمره.

وإذا فكرنا فيه زاد اهتمامنا بقدر ما تقل غرابته في نظرنا إليه من وجهات متعددة: فيمكننا أولاً أن نناقش العرض الذي قدمه الصحفي الباريسي على أنه مجرد فكرة نشأت في عقل إنسان، أي بصفته فكرة تقبل المناقشة، ورأياً يقبل الأخذ والرد، على أنه وجهة نظر خاصة تحتمل الصواب والخطأ، تبعاً لما إذا كنا نعترف أو ننكر إمكان قيام حضارة إفريقية آسيوية، يكون في تركيبها دور خاص للحضارة الغربية.

ص: 114

ولكن أليس في موقف كهذا إفراط في البراءة؟

إن من له أدنى حظ من الخبرة بالموضوع، يرى نفسه مضطراً إلى تأويل عرض الصحافي الباريسي تأويلاً آخر: وإذا بما كان يُستهان به بمجرد النظرة الأولى إلى هذا العرض الغريب، يأخذ مظهراً جديداً لا مجال فيه للبراءة.

فالنظرة الفاحصة إلى عرض غريب كهذا، تكشف من أول لحضة (في لونه الخاص، وفي ضوء الملابسات السياسية التي تمر بها البلاد الإفريقية الآسيوية) أنه يتصل بالصراع الفكري الذي نشأ على أثر مؤتمر باندونج، فإذا قدرنا أن المراصد المختصة بهذا الصراع قد تهتم بظهور أي كتاب يتصل بموضوع باندونج، فبالأحرى أن نقدر اهتمامها الخاص بكتاب فيه محاولة استنباط مضمون فكري من هذا المؤتمر، يحتمل أن يكون نظرية للفكرة التي سوّغتها مناقشاته وقاعدة أيديولوجية، يقوم عليها كفاح الشعوب التي تعارفت فيه؛ ومن المعقول جداً أن نرى صلة بين هذا الكتاب وعرض الصحافي الباريسي، لأنهما يلتقيان في نقطة اهتمام الاستعمار بكل ما ينشأ- في النطاق السياسي والفكري- عن مؤتمر باندونج، مع كل ما يتخذه من احتياطات بهذا الصدد: فاهتمام الاستعمار بشيء يتلاقى حتماً في نقطة معينة مع احتياطه منه.

وإذن فليس من ترف الحديث أن نقول: إن كتاباً من طبيعته أن يثير اهتمام الاستعمار لابد أن يتلاقى مع احتياطاته منه.

وإذا صح لنا أن نقرر هذا بمقتضى الظروف التي تحيط بالواقعة والشروط التي يجري عليها الصراع الفكري، فإننا لا نغلو في نظرنا إلى الأشياء، عندما نقدر أن عرض الصحافي الباريسي هو بالضبط نقطة الالتقاء، التي تمثل اهتمام الاستعمار بكتاب نوهت به مراصده والاحتياطات التي يجب أن يتخذها ضده.

ص: 115

وما هذه الاحتياطات؟ وكيف يمكن أن نرى أثرها في عرض الصحافي الباريسي؟

يجب أولاً أن نقدر، مع ضرورة ذكرنا مسوّغات هذا التقدير كي لا نتورط في إطالة لا حاجة لها هنا

يجب أن نقدر أن الاستعمار كان على علم بالطريق الذي سيسلكه صاحب الكتاب، عند وصوله إلى العاصمة العربية التي أشرنا إليها، وهذا استنتاج جد بسيط بالنسبة للاستعمار، لأنه قدر تقريباً جميع الظروف التي تحيط بالمؤلف.

وإذن فليس من الغلو في شيء أن نرى في وصول الصحافي الباريسي إلى العاصمة نفسها وفي زيارته للمصلحة نفسها ليقدم لها عرضه الغريب، قبل بضعة أيام من وصول وزيارة صاحب الكتاب، نرى شيئاً قدرته ضرورة الصراع الفكري بالنسبة لهذا الكتاب.

وهذا أمر سهل تصوره: فإذا أخذنا في اعتبارنا على ضوء ما سلف توضيحه في زيارة الصحافي الباريسي، وما يمكن أن تثير من نقط استفهام، بسبب الصورة التي قدم فيها عرضه الغريب، كأنما كان يهدف إلى إحاطته بالشبهات، ويستحث حوله الشكوك، تبين لنا أن هذه الأشياء كلها بما فيها من شذوذ تكوّن في الواقع مرآة حرمان من نوع خاص، لأن هذا الشذوذ هو نفسه مصدر الكف والحرمان.

وحتى ندرك ذلك يجب أن نجمع هذه العناصر كلها، كما تتجمع فعلاً الآثار التي خلفتها زيارة الصحافي الباريسي، وستخلفها زيارة الكاتب بعده، إلى المصلحة نفسها، يجب جمعها في عملية ذهنية واحدة وفي سياق نفسي واحد.

إن مدير المصلحة الذي زاره صحافي يعرض عليه ((مساهمة فيلسوف فرنسي في إبراز فكرة باندونج))، ثم يزوره صاحب كتاب يتصل بالضبط بهذا

ص: 116

الموضوع، لا يمكنه عادة، أن يفصل، في عقله وفي نفسه هاتين الزيارتين.

وهكذا تصبح تلقائياً، زيارة الصحافي مقدمة لزيارة المؤلف، ولكنها تشع دوافع الحرمان على ما تقدمه، وإذن فلا مبالغة في القول إنها مقدمة مقصودة بجميع تفصيلاتها المشبوهة، أي بجميع تفاصيلها المشعة للكف والحرمان لسد الطريق في وجه كتاب أفلت- في ظروف معينة لا يتسع المجال إلى شرحها- من رقابة الاستعمار المباشرة، إفلاتاً لم يبق معه في استطاعة الاستعمار إلا أن يلجأ إلى الوسائل العلمية لسد الطريق في وجهه.

وليس من الصعب أن نتصور الأثر العقلي- النفسي الذي خففه بهذا الصدد، الصحفي الباريسي أثناء زيارته بالعاصمة العربية، ونيودلهي، وبجاكرتا

أي على طول الخط الذي من شأن كل كتاب يتصل بباندونج أن يتبعه في حالة انتشاره الطبيعي.

إن المتحدثين معه خلال هذه الزيارات، ما كانوا لينخدعوا بعرضه الغريب، وهم يعلمون أن الفلسفة ليست بضاعة يعرضها في الأسواق صحافي يقوم بدور السمسار، ويعلمون أنه لا يوجد فيلسوف، فرنسياً كان أو غيره، يعرض نفسه بهذه الطريقة المحتقرة.

والصحفي نفسه، يعلم هذا: فحينما يقوم بدور السمسار فليس ذلك في الواقع عرض أفكاره، ولكن لتشويه أفكار معينة، وهذا من صميم الصراع الفكري، ومن نبعه ومن منطقه ومن أسلوبه.

إن السمسار الذي يأتي بعرض غريب كالذي أتى به الصحفي الباريسي، لا يمكنه أن يخدع محدثيه، هذا إذا قسنا بمقياس العقل، وأما إذا قسنا بمقياس النفس فربما قلنا إنه خدعهم فعلاً بما خلف في نفوسهم من دوافع لا شعورية تؤدي

ص: 117

مفعولها تلقائياً في الوقت المناسب، على طريقة القنبلة الزمنية التي تنفجر في وقت معين، أي عندما يأتي بعده صاحب الكتاب.

ومما يجب ملاحظته، على الأقل بالنسبة للعاصمة العربية هو أن (العروة الوثقى) مهدت لهذه المقدمة النفسية، حينما أشارت إلى ((الكاتب الفرنسي الذي اعتنق الإسلام)) كما بينا ذلك في فصل سابق.

وهكذا يتم تركيب لمرآة كف بجميع شروطها، ليكون فيها كتاب معين، موضوع الإلقاء للدوافع الحرمانية، ويكون الصحفي مصدراً أول لهذه الدوافع، وهو يشعر بذلك، بينما يكون صاحب الكتاب نفسه، ومن حيث لا يشعر، مصدراً آخر. أو إذا ما استخدمنا لغة بافلوف، يكون شخصه بمثابة المثير الشرطي- بما أن زيارته كانت تحركاً تلقائياً- لآلية انعكاس الكف الخفي الذي خلقته زيارة الصحفي.

ولسنا هنا نبحث القضية من جانب واحد، هو جانب الأفعال المنعكسة الشرطية التي تلقيها مرآة الكف على فكرة معينة.

ومع ذلك فمن الممكن أن تحدث للفكرة وهي في طريقها على خط طنجة - جاكرتا، انعكاسات أخرى لا صلة لها بالصحفي، تنتجها مصادر أخرى مزمنة ليست موضوع هذا العرض، الذي نخصصه للمرآة ووظيفتها في الصراع الفكري، لنبين كيف أن تركيبها يتنوع بالنسبة للموضوع الواحد، وبالنسبة للفكرة الواحدة، تبعاً للظروف، كما بينا ذلك في الفصول السابقة.

فلو أننا راجعنا ذكرياتنا في مدى ربع قرن مثلاً أو يزيد، سيبدو لنا هذا التوزيع في خطط الاستعمار بكل وضوح، مع محافظته على المبادئ التي حللناها فيما سبق.

فيمكننا مثلاً أن نقف حوالي عام 1939 عند فكرة (الوهابية)، لأنه كان لها

ص: 118

دوي في الغرب، لا تعرف البلاد العربية مداه، لأننا بحكم تطورنا الاجتماعي لم ندخل بعد إلى عالم الأفكار، فلا ندرك قيمتها حتى تعكسها لنا مرآة الغرب، وليس طبعاً من مصلحة الغرب أن يعكس لنا الأفكار التي يريد تحطيمها.

وفكرة (الوهابية) قبل عام 1939 كانت تبدو للاستعمار ممتلئة بالمخاوف، لأنها كانت تمثل في نظره مركز الثقل في الصراع الفكري في البلاد العربية الإسلامية، وكان دوماً يفكر في وسائل التخلص منها حتى خلصه منها فعلاً البترول.

فاستخدمت إنجلترا وسائل القوة لتحطيم عبد العزيز: حاولت أن تؤلب عليه خصوم ملكه، مثل ابن رفادة والدرويش، كي تمتص قواته الفتية بثورات متكررة.

غير أنها كانت تحاول أولاً وقبل كل شيء أن تحطم الفكرة ذاتها التي قام عليها هذا الملك، وتأسست عليها الدولة السعودية الفتية، فكانت تطبق من أجل ذلك خطة يمكن أن نسميها (خطة المحامي المورّط)، الذي يورِّط موكله بدعوى أنه يقوم بالدفاع عنه.

فكان من يتحدث باسم الحكومة في لندن، لا يترك فرصة تمر دون أن يذكر بحرارة الصداقة العظيمة التي تكنها إنجلترا لابن سعود، مثل الفكرة الوهابية التي أنهت دورها بوصفها (فكرة مجردة) حوالي عام 1925، وبدأت دورها الجديد (فكرة مجسدة) منذ ذلك العهد، أي منذ تأسيس الدولة السعودية في حدودها الحالية

حتى إن الملك العربي أصدر (حوالي عام 1933) في نداء وجهه للعالم، كعادته بمناسبة الحج، تصحيحاً ذا مغزى في هذا الصدد.

وإذا كانت طريقة (المحامي المورّط) مستخدمة من ناحية في ميدان

ص: 119

السياسة، أي في ميدان الأفكار المتجسدة في البلاد المستعمرة، فإنها تطبق من الناحية الأخرى في ميدان الأفكار المجردة.

ويجب ألا نغفل في هذا السياق ملاحظة نرى فيها بعض الأهمية فيما يتعلق بـ (المحامي المورّط): فإن هذا الكائن الغريب قد يكون موجوداً بالفعل تحت تصرف مراصد الاستعمار، وأحياناً أخرى قد يكون من الواجب صنعه خاصة.

فإذا أخذنا فيما سبق فكرة كافية عن الصورة الأولى، يجب أن نكوّن أيضاً فكرة عن الصورة الثانية.

فلنتصور مثلاً أن شاباً قد أنهى دراسته العليا في عاصمة عربية ورجع ناجحاً إلى بلاده، حيث ترغب حكومته في توظيفه في وزارة الخارجية.

ولكن الشاب اندفع بدافع ثقافته، فنشر مقالات للتعريف ببعض الأفكار التي تثير اهتماماً بليغاً من طرف مراصد الاستعمار، كالأفكار التي تتصل بمؤتمر باندونج، ثم أبدى رأيه في بعض المواقف السياسية، التي يريد الاستعمار عادة إحاطتها بالسر، فهذا الشاب الجسور يلاحظ مثلاً أنه ((في الوقت الذي كان الاستعداد يجري فيه لعقد مؤتمر التضامن الآسيوي- الإفريقي في كوناكري دعا الرئيس نكروما إلى مؤتمر للشعوب الإفريقية في أكرا)).

فهذه الملاحظة تمثل بالضبط ما أطلقنا عليه، خلال هذه الدراسة (إشارة خطر)، الإشارة التي تعلن بأن معركة قد بدأت في جبهة الصراع الفكري، لأن مراصد الاستعمار تلقتها قبل أن تبلغ إلى وعي الشعب المستعمَر. أو شبه المستعمَر.

فماذا سيحدث لهذا الشاب النبيل؟

إن مراصد الاستعمار ستتدخل أولاً وقبل كل شيء، حتى لا يحصل على الوظيفة التي كان ينتظرها بوزارة الخارجية ..

ص: 120

ثم بكل هدوء وبرود فإنها ستعرض عليه وظيفة أخرى يتقاضى منها، إذا ما قبل، ماهية تزيد على ما يتقاضاه موظف مبتدئ بوزارة خارجية، فتعرض عليه مثلاً مائة وخمسين جنيها في مقابل عمل بسيط، إن لم نقل مقابل عمل صوري، في سفارة تمثل مصالح معينة، لا تتفق مع فكرة باندونج ولا فكرة التضامن الإفريقي- الآسيوي، ولا فكرة بناء حضارة كحل لمشكلة البلاد المتخلفة، ولا أية فكرة من الأفكار التي دخل هذا الشاب من أجلها المعركة.

وإذن وفي حالة قبول هذا الشاب النبيل العرض السخي الذي قدم له، نكون أمام احتمالين:

أولهما هو أن هذا الشاب سيشعر بضيق الموقف: فيعدل سلوكه طبقاً لذلك، ويكف قلمه ولسانه عن أفكار تحرم صاحبها من منصب يستحقه بوزارة الخارجية.

وثانيهما، هو أنه يستمر أو على وجه أدق، ربما تحمله السفارة التي توظفه على أن يستمر في دفاعه عن تلك الأفكار.

ففي الاحتمال الأول تكون السفارة قد حلت المشكلة بوجه من الوجوه.

أما في الاحتمال الثاني فإنها تكون صنعت من شاب مثقف نبيل (محامياً مورّطاً) للأفكار التي دخل من أجلها المعركة.

وهذا الاحتمال الأخير أقرب من أسلوب الصراع الفكري ومن واقعية الاستعمار فيه ومن حقيقته المؤلمة، التي لا ندركها ما دمنا نفقد المقاييس المطلقة التي تدل على قيمة الأفكار مباشرة، في حد ذاتها دون ربطها بأي شخص يدافع عنها دفاع المؤمن بها (مثل الشاب الذي ذكرنا قصته) أو يدافع عنها دفاع (المحامي المورِّط).

ومهما يكن الأمر فلا غرابة إذن في أن يجد كتاب، يتعلق بموضوع هام مثل

ص: 121

باندونج من يقوم بالدفاع عنه بكيفية ما وفي ظروف معينة، حتى يكون لدفاعه الأثر المورِّط للكتاب (1) في بعض الأوساط الدبلوماسية التي كان من المتوقع أن تهتم به.

وليس موضوعنا عندما يقع هذا، أن نعلق على نضج هذه الأوساط، ولكن يجب أن نعلم كيف يستخف بها الاستعمار فيطبق عليها ما يطبقه في الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، أي في البلاد التي تتفق على أن الناس فيها لا يدرسون الأفكار من خلال تأمل شخصي مباشر، بل من خلال الانعكاسات التي يلقيها عليها (محام مورِّط) أو في الصورة التي تعكسها لنا (مرآة حرمان).

وقوة الاستعمار في هذه الحال، هو أن يطبق طرقاً بسيطة كشفت تجارب بافلوف، عن صلتها بالتركيب النفسي عند الأفراد وهمَّ (جوبلز) بتطبيقها العلمي في ميدان السياسة في عهد هتلر.

وإنما الفرق بين الاستعمار وبافلوف، هو أن الكائنات التي يجري عليها العالم الروسي تجاربه كانت حيوانات صغيرة مثل الكلاب والفئران، بينما الاستعمار يجريها على علماء ودبلوماسيين ورجال سياسة إلخ ..

ويجب أن نعلم أن فن بافلوف يطبق في كل وسط إنساني لم يتم نضجه الفكري، أو لم تتخذ في توجيه ثقافته الاحتياطات اللازمة ضد الانحراف الذهني.

ومن أخطر وجوه هذا الانحراف ما أطلقنا عليه اسم (الذرية).

فأي إنسان لا يحكم على الأمور بناء على تفكير شخصي مباشر، يتعرض لأن يصدر أحكامه طبقاً لما يتلقاه عن هذا الواقع بطريق الإيحاء، لا طبقاً لما في

(1) يرى المؤلف أنه في غنى عن ذكر التفاصيل الواقعية التي تفسر هذا المعنى: وإلا أوردنا لكل سطر من هذا البحث قصة تشرحه.

ص: 122

الواقع من حقيقة ظاهرة أو كامنة، لأنه لا يحاول أن يجمع عناصر الحكم المختلفة في عملية ذهنية واحدة لا عنده من ميل مرضي إلى (الذرية).

(فالمحامي المورط) و (الصداقة المورطة) و (مرآة الحرمان) هي في الواقع النقاط المختلفة في الآلة، التي تلعب عليها أصابع ماهرة في الموسيقا الخاصة بالصراع الفكري.

ولكن لا يستطيع التوقيع على هذه الآلة الدقيقة من ليس له دراية، بما يمكن أن نسميه رياضة أو جبر الأفكار، ومن ليس له إلمام بالأفكار على أنها كائنات حية تؤدي دورها في شروط عضوية معينة، ولا تقوم بأي دور بدونها، بل تفقد الحياة بفقدها فتصبح جثثاً هامدة لا صوت لها، ولا قيمة لها في الإيقاع الذي يمثل موسيقا الصراع الفكري في العالم.

***

ص: 123