الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
مظاهر أخرى للصراع الفكري
ــ
إننا بيّنا في الفصول السابقة كيف يركب الاختصاصيون المشرفون على الصراع الفكري أجهزة خاصة لتحطيم الأفكار، كما يركب العلماء المختصون في علم المواد المشعة أجهزة لتحطيم الذرة.
وقد تعرضنا ونحن في الطريق إلى حالات كشفت لنا عن بعض أسرار الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وعن الشروط الاجتماعية- النفسية التي يجري على مقتضاها هذا الصراع.
ولكن حالات أخرى بقيت، لاشك، في الظلام، إما لأننا نجهلها تماماً، على الرغم مما يكون فيها من الدلالة والفائدة، وإما لأننا أغفلناها في الفصول السابقة بمقتضى الترتيب الذي يفرضه الموضوع، بينما لاشك بأننا لو تناولناها، وأمكن ذلك، لكشفت لنا عن حقائق أخرى تدل على قوة جهاز الاستعمار في هذا الميدان وعلى إحكام خططه، وربما دل أيضاً بعضها أحياناً، بصورة غير منتظرة على ضعف غير متوقع في هذه الخطط، يشعرنا بمصداق الآية الكريمة:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 4/ 76].
فعندما نتناول فصلاً من الصراع الفكري، تعترضنا حالات تدل فعلاً على أدق قوة الاستعمار في الوسائل يتخللها أحياناً ضعف في التفكير، يجب أن نعيره أيضاً بعض الاهتمام، كما نهتم بالعناصر التي تدل على قوته.
فعلى سبيل المثال ليتصور القارئ أنه دعي يوماً ليحاضر، وأنه اختار إحدى مشكلات البلاد الإفريقية الآسيوية موضوعاً لمحاضرته.
فمن المعلوم على ضوء ما قدمنا أن موضوعاً كهذا جدير بأن يثير اهتمام مراصد الاستعمار، فوق أي موضوع آخر، لأنه يتصل بالمشكلات التي تناولها، مباشرة أو ضمناً مؤتمر باندونج، أي بالمشكلات التي تكوّن أهم نشاط سياسي في منتصف القرن العشرين، وأهم مركز للتفكير الاجتماعي في عصرنا.
وعليه فنكون من البسطاء إن لم نقدر مبدئياً أن المراصد المختصة ستكون، بصورة أو بأخرى، على أهبة القيام بمهمتها، وهذا من بديهيات الصراع الفكري في البلاد المتخلفة، ثم نجد فعلاً في صحافة اليوم الذي يلي المحاضرة تعليقاً طويلاً على موضوعها، دون أن يذكر اسم المحاضر مرة واحدة، أو يذكر أنه تعليق على محاضرة معينة، وإنما يقوم صاحب هذا التعليق بدور تمثيلي، شاهدنا أدواراً مثله في الطريق، خلال التجربة الطويلة، فنراه يفور غضباً على موضوع المحاضرة، فيستخف صاحبها الذي يتناول موضوعاً سخيفاً كهذا إلخ
…
ثم يتنازل ويعطف على هذا الغبي، فيتبرع عليه بالحقيقة التي لم يهتد إليها في محاضرته غير الموفقة، فهذا دور كامل بجميع تفاصيله من الأدوار التي يخصص لها الاستعمار بعض الممثلين.
فلو كان ليد الاستعمار رائحة لاكتشفنا بعض الحقائق الخاصة بالصراع الفكري دون أي جهد لعقولنا، ولاكتشفنا مثلاً أن الظروف التي أحاطت بمحاضرة كهذه كانت كلها تعبق بهذه الرائحة، منذ توجيه الدعوة إلى المحاضر، إلى ظهور التعليق الصحافي الغريب على المحاضرة نفسها
…
وليس في هذا كله أية غرابة، إنه الصراع الفكري في البلاد المستعمرة
…
ومهما يكن من أمر، فإن غرضنا في هذا الفصل الوصول، بقدر الإمكان، إلى بعض الحقائق التي لم نصل إليها في الفصول السابقة.
وقد تكون الحقيقة التي نصل إليها متصلة بجانب واقعي، أي إننا نستخلصها من سياق قصة تتضمن سلوكاً معيناً، يكشف لنا عن ضعف خلقي في مجتمعنا، أو تكون متصلة بجانب نظري، عندما نستنتجها من سياق منطقي، يتضمن طريقة تفكير معينة، تكشف لنا عن ضعف في جهازنا الفكري.
وأحياناً يكشف لنا الواقع الذي نقف عنده جانبي الضعف في وقت واحد: قد نذكر مثلاً كيف تتصرف جريدة، تصدر تحت شعار العلم والدين، حينما يرسل إليها أحد بمقالة في موضوع اجتماعي يتصل بصفته توجيهاً عاماً بالحياة السياسية، فإذا بنا نرى الصحيفة العلمية الدينية تجزئ المقالة المذكورة إلى نصفين، فتنشر النصف الأول، ثم لا تنشر النصف الثاني إلا بعد أسابيع، أي عندما لا يبقى أثر ما نشر من الأول في الأذهان، ولا يبقى للقارئ فرصة يشعر معها بوحدة الموضوع ويدرك معناه في حدودها، وحتى تفوت بالتالي، على القارئ الفائدة التوجيهية التي قدرها صاحب المقالة هدفاً لمقالته.
فقصة كهذه، زيادة على أنها تعرض إلى تأملنا اعتبارات واقعية تتعلق بسلوك أفراد، يستغلهم الاستعمار في بعض ظروف الصراع الفكري، فإنها تضعنا من ناحية أخرى، أمام اعتبارات نظرية ذات أهمية تتعلق بحياة الأفكار الخاصة ذاتها، بوصفها كائنات حية مستقلة، تؤدي وظيفتها بنفسها طبقاً لفعاليتها الخاصة، كما تتعلق بالفكر بصفته أداة تنسيق وتركيب للأفكار حتى تؤدي وظيفتها.
وعليه فالجانب النظري في موقف صحيفة كالتي سبق ذكرها يجب أن يثير اهتمامنا كله.
إننا تحدثنا فيما سبق عن النزعة (الذرية)، النزعة التي تجعل كما بينا تفكيرنا عاجزاً عن ضم مجموعة من الأفكار في اطراد واحد طبقاً لتسلسلها، ضماً يحول بين
عقلنا وبين تتبع الفكرة في حركتها المنطقية؛ ولهذه النزعة في الميدان السياسي يرجع سبب تحطيم وحدة المشكلات العضوية وتجزئة الحلول، حتى تصبح السياسة العاطفية، وهي التعبير عن التفكير (الذري) في الواقع المحس، تصبح تلك السياسة عاجزة عن صياغة حكم صحيح على ذلك الواقع، لأن الحكم يفترض قاعدة يجب الرجوع إليها، ومقياساً تقاس به الأمور! أي يفترض تركيب مجموعة أفكار وتنسيقها، أعني أن (الحكم) يفترض عمليات ذهنية لا تتفق مع التفكير الذري.
والشيء المؤسف في مثل هذه الحالة هو أن المرض له تأثير عكسي أو متبادل، فعندما تصبح السياسة عاجزة عن صياغة الحكم اللائق عن واقع البلاد، تصبح البلاد عاجزة عن صياغة الحكم الموفق في توجيه سياستها وفي تعديلها إذا انحرفت.
فلو أننا حللنا بعض الحالات السياسية التي نتجت في البلاد الإسلامية على أثر الحرب العالمية الثانية، فسنخرج حتماً بنتيجة هي أن الذين قادوا الشعوب إلى الكوارث الكبرى، لم يكونوا من المحترفين العاديين الذين يسيرون في ركب الاستعمار على مرأى العيون، بل هم على العكس من ذلك، رجال مكرمون، مرفوعون على منابر الزعامة وكراسي الحكم: رجال وضعوا في حرم أوطانهم مواضع (الأبطال) وبنيت لهم الأضرحة الفخمة أو هم بنوها من أموال أوطانهم قبل أن يبرحوا الحياة الدنيا.
ليس في إمكان أي مؤرخ اجتماعي أن يقدر تقديراً صائباً الكارثة التي حلت بالعالم الإسلامي، يوم تأسست دولة باكستان، ولكن نستطيع من الآن أن نقول إنها غيرت مجرى تاريخ الإسلام في آسيا لعدة قرون، وحينما نحلل هذه الكارثة بصفتها حادثاً سياسياً يتصل بطبيعة الحال بطريقة تفكير معينة، نرى أن فكرة (باكستان) هي أبرز صورة تظهر فيها النزعة (الذرية) بكل وضوح.
فهي بصفتها فكرة، تكوّن في حد ذاتها حالة جديرة بالاهتمام في دراسة كهذه، لأنها تكشف لنا جانباً من الصراع الفكري لم نقف عنده في الفصول السابقة، إذ أننا لم نتناول الموضوع حتى الآن، إلا من جانب سلبي، أي إننا تعرضنا إلى الحالات التي تكشف لنا، كيف يرسم الاستعمار خطته كي يحطم أفكاراً معينة، أو كيف يسد أمامها الطريق حتى لا يتركها تصل إلى وعي الجماهير.
أما الحالة التي نتناولها هنا فإنها تكشف لنا عن جانب إيجابي، أي تكشف لنا هذه المرة، كيف يخلق الاستعمار الأفكار المناسبة لمصالحه، وكيف يغذيها في وعي الجماهير، ويروجها في أسواق السياسة العاطفية.
إن فكرة باكستان من هذا الإنتاج: فكيف استطاع الاستعمار أن يحقن بها ضمير المسلمين؟.
إنه من الواضح أن القضية تتصل بجوانب الضعف في هذا الضمير، أي بمجموعة الاستعدادات التي أطلقنا عليها، في دراسة أخرى، القابلية للاستعمار، كما تتصل من ناحية ثانية، بفن الاستعمار في خلق الأسطورة.
فربما أعطانا عرض هذه القضية على أنها مجرد حادث من حوادث التاريخ السياسي في القرن العشرين فرصة لإضافة بعض الملاحظات للموضوع، لأن خلق فكرة باكستان من أهم الحوادث السياسية التي تتجلى فيها جوانب ضعفنا وفنية الاستعمار.
لسنا في حاجة إلى أن نتناول أصول الفكرة البعيدة التي تمتد إلى حوالي سنة 1906، حينما أعلنت مراصد الاستعمار الإنجليزي ظهور فكرة جديدة في أفق السياسة الإمبراطورية في ذلك العهد، تلك الفكرة التي كانت تتمثل في صورة جبهة وطنية معادية للاستعمار، تكونت في الهند على يد الزعماء الذين كانوا يخوضون المعارك التحريرية الأولى مثل متيلال نهرو، والد رئيس الحكومة الهندية السابق.
ولكنا سنتناولها حين كانت على وشك التحقيق، في صورة مشكلة سياسية ملحة، أعني في الملابسات الدولية التي خلقتها الحرب العالمية الثانية.
إن من الواضح أن هذه الحرب قد خلقت تصميماً عالمياً جديداً، وانتهت إلى توزيع جديد للقوى في العالم، ولم تكن السياسة الإنجليزية متسمة بطابع العاطفة، حتى تنسى أنها ملزمة بمواجهة هذه الحالة الجديدة.
فعلينا إذن أن نتصور هذه الضرورة السياسية، حينما تدخل الدور العملي التطبيقي في تخطيط يشرف عليه رجل مثل تشرشل، إنه يجب أولاً أن نتصور القضية كما يتصورها هذا العملاق السياسي، أي أن نضع المشكلة كما يضعها هو في مصطلحات (القوة) كي نفهم الحل الذي وضعه لها.
وتشرشل لم يكن بكل تأكيد، آخر من قرأ، من رجال الدولة الإنجليزية، المحاضرة الشهيرة التي ألقاها السير جون هالفورد وتناول فيها موضوع (القاعدة الجغرافية للتاريخ)، كما أنه لم يكن بكل تأكيد أيضاً الرجل الذي لا يحسم أية مشكلة سياسية ذات أهمية معينة، دون أن يلقي أولاً نظرة على الخريطة الجغرافية.
وعلى هذا، ففي سنة 1945 وجدت إنجلترا نفسها مضطرة إلى حل مشكلة الهند، في وضع دولي غيرته الحرب العالمية الثانية تغييراً شاملاً، حتى لم يعد أي حل صالحاً لحسم هذه المشكلة، إذا لم تستمد عناصرها كلها من الواقع العالمي الجديد، إذا لم يراع فيها ما تمليه خريطة التوزيع الجديد للقوة في العالم.
وهذا الواقع العالمي الجديد يفرض، أولاً وقبل كل شيء استقلال الهند، على أنه ضرورة تمليها الظروف القاسية بالنسبة للاستعمار، التي نتجت عن الحرب، ولكن هذه الظروف نفسها وضعت انجلترا أمام (مشكلة القوة)، لابد من حلها في ملابسات دولية جديدة على أي صورة، فكان عليها إذن أن تأخذ في حسابها، ثلاثة عوامل في سياق واحد:
1 -
تطور ست مئة مليون صيني على حدود البلد.
2 -
تطور أربع مئة مليون، تمثل مجموع الشعب الهندي.
3 -
تطور الجماهير المسلمة الموزعة على خريطة آسيا.
وهذه الحشود من البشر تكون، في نظر رجل سياسة مثل تشرشل، يخضع تفكيره إلى مبدأ الفعالية ومنطق القوة، قوات هائلة لابد من تضعيفها أو توجيهها أو تحطيمها.
وكان حل المشكلة الأولى يبدو، خلال السنوات التي تلت الحرب مباشرة، كأنه قد تحقق فعلاً في شخص تشانج كاي شيك، فقد كان توجيه الشعب الصيني على يده شيئاً ممكناً. ولكن سرعان ما ذهبت التطورات السياسية في البلاد بهذا الحل إلى ظلمات التاريخ، وبدت هذه المشكلة في صورة جديدة بالنسبة للمنطق السياسي الذي يطبقه تشرشل، إذ يجب أن يفكر الآن كيف يبني على حدود الهند، سداً للحد من انتشار الشيوعية الصينية في شبه القارة وفي جنوب شرق آسيا. بينما لا يمكن أن يكون هذا السد سوى استقلال الهند، حتى لا يبقى للشيوعية تأثير على الشعور الوطني في الهند، ولا تبقى - في حالة نشوب حرب عالمية ثالثة- جاذبية خفية، كالجاذبية النازية التي أثرت قليلاً أو كثيراً، على الشعوب المستعمرة خلال الحرب العالمية الثانية.
وهنا تواجه إنجلترا المشكلة الثانية: فعندما تستغل الهند بملايينها الأربع مئة، تصبح قوة من الدرجة الأولى في آسيا (1).
فيجب إذن التوفيق بين استقلال الهند، بصفته ضرورة في التخطيط السياسي العالمي الجديد وبين ضرورة إضعاف قوتها.
(1) مما يلاحظ بهذا الصدد أن نهرو نفسه اعترته نشوة القوة، غداة استقلال الهند، فقد رأيناه يصرح في ذروة الفرح أن الهند تكافح إلى أن تكون دولة عظمى مع الصين وأمريكا. فكان إذن تشرشل محقاً في وضع المشكلة في مصطلح القوة.
فكانت فكرة باكستان ثمرة هذا التوفيق، أي إنها الحل المناسب للمشكلة الثانية التي كان على تشرشل أن يحلها، غداة الحرب العالمية الثانية، في نطاق استقلال الهند. ولكن إذا كانت الفكرة تحددت مبدئياً فيما يبدو في نطاق المشكلة الثانية فإنها تتخذ صورتها الكاملة في نطاق المشكلة الثالثة، أي بالنسبة إلى مصير الجماهير المسلمة التي يحتمل أن تكوّن في الهند وفي جنوب شرق آسيا قوة هائلة، إذا تابعت سيرها على الطريق الذي تسير عليه منذ انتشار الإسلام هناك.
فكما أن استقلال الهند كان في الواقع سداً في وجه الشيوعية ليحد من انتشارها، فكذلك كان تأسيس دولة (باكستان) سداً وضع ليحد من انتشار الإسلام في الهند، حتى لا تنشأ (قوة) إسلامية في شبه القارة، نظراً إلى أن كل ما يضعف مركز الإسلام في الهند يضعف إشعاعه في آسيا وبالتالي في العالم.
إن هذه التفاصيل تدخل كلها في الحسبان في عملية سياسية معقدة، وفي عملية ذهنية واحدة يقوم بها رجل سياسة مثل تشرشل، حينما يفكر في مشكله معينة تتضمن التوزيع الجديد للقوى في العالم.
ومن هنا تبدأ فكرة باكستان التي تهمنا بصفتها قضية فكرية في نطاق الصراع الفكري، لأننا نرى الاستعمار يحقنها في الضمير المسلم بسهولة نادرة.
إننا رأينا كيف قدر الاستعمار الحلول لمشكلة سياسية معينة، طبقاً لمبدأ توزيع القوى المناسب لمصالحه.
ونحن هنا نرى في الواقع أن الاستعمار يأتي بهذه الحلول، وهو يلقي نظرة على الخريطة الجغرافية التي سترسم على سطحها، ونظرة أخرى على الخريطة النفسية للعالم الإسلامي الذي سيستقبل تلك الحلول بالتهليل والتكبير.
وهو في نظرته الأخيرة هذه إنما يكشف النزعة الذرية: أي النزعة التي تجعلنا لا نتصور قضية سياسية في صورتها الحقيقية، لأننا لا نجمع عناصرها في
عملية ذهنية واحدة، ولا نرتب تفاصيلها في سياق واحد.
فعندما فكر تشرشل، على أثر الحرب العالمية الثانية، في قضية التوزيع الجديد للقوى في العالم، نراه يدرس في الواقع ثلاث مشكلات أشرنا إليها، لم تر قيادتنا السياسية في كل هذا إلا مظهراً واحداً، هو تأسيس دولة باكستان، طبقاً للميول العاطفية المستولية على الخطة السياسية في بلادنا وطبقاً للنزعة الذرية المستولية على العمليات الفكرية عندنا.
وهكذا فعندما يحطم الاستعمار فكرة معينة، مثلاً كتلك المقالة التي مزقتها الصحيفة العلمية الدينية التي أشرنا إليها، نرى الفكر عندنا عاجزاً عن جمع شتاتها، في عملية ذهنية واحدة تعيد إليها وحدتها ومغزاها (1)، نراه عاجزاً أيضاً وللسبب نفسه عن اكتشاف التزييف عندما يخلق الاستعمار فكرة مزيفة ليروجها في سوق السياسة العاطفية.
وهذا العجز في الاتجاهين، ليس من طبيعة الفكر الإسلامي كي يزعم المستشرق جيب؛ ولكن من أثر التطورات التاريخية التي اعترته مند عهد ما بعد الموحدين، وخاصة، منذ عهد الاستعمار والقابلية للاستعمار، فسلبته ميزات العقل الذي شق طريق الحضارة الإسلامية ومهد سبيل الحضارة الحديثة
…
وهكذا كلما سلب العقل ميزاته، وفقد المقاييس التي تهديه السبيل، كانت الكوارث السياسية على الأبواب، واستطاع الاستعمار أن يحقق أهدافه ضد الأوطان والأديان، تحت شعارات مقدسة كـ (إسلام) و (وطن).
وها نحن أولاء، بعد عشر سنوات تقريباً، نرى أن المسلمين الذين كانت دعوى إنقاذهم أساساً لفكرة باكستان، يرون أن منقديهم شتتوا شملهم وبددوا
(1) قد شاهد المؤلف هذه الظاهرة، لا في تجربة واحدة، ولكن في تجارب متعددة، فهو إذن يقدر هذه الخاصية تقديراً موضوعياً.
قوتهم، ومزقوا وحدتهم وصيروهم أقلية حقيقية، بدعوى أنهم لا يريدون أن يتركوهم في وضع أقلية وهمية، ومما يزيد في العار وفي فضيحة الموقف وفي خزي السياسة العاطفية، أن نرى سخف المنطق الذي سارت على هديه القضية حيث قلنا، تأييداً لها، أو سمعنا من يقول، تدعيما لبرهانها: نعم إن المسلمين يأكلون البقرة والهندكيين يعبدونها، فلا يمكن أبداً أن نجمع بين طائفتين هذا شأنهما.
ولو استطاعت البقرة النطق لقالت: ما بال القوم لا يتركونني وشأني، مع من يعبدني ومن يأكلني.
ولكن للأسف إن القيادة السياسية التي قادتنا في معركة فلسطين، وفي تقسيم الهند لم تكن من نوع البقر
…
وإلا ما كان يستطيع تشرشل أن ينفذ خطته ولا الاستعمار أن يحقق أهدافه.
وها نحن أولاء مضطرون في النهاية إلى تسجيل حقيقة مرة مثلما سجلها التاريخ: فعلى اعتبار أن فكرة باكستان كانت في عقولنا دواء لحالة مسلمي الهند، فيجب أن نعترف أن الدواء كان شراً من الداء.
ولكن مما يسلينا ويواسينا هو أن القواعد والمقاييس المنطقية قد تغيب، أحياناً حتى في البلاد التي نتلقى منها الدروس.
لقد رأينا منذ أسابيع، موجة استنكار تكتسح العالم بسبب حكم أصدرته السلطات الاستعمارية في الجزائر على فتاة جزائرية. وإننا نشارك طبعاً في هذا الاستنكار حينما نرى أبرز الشخصيات السياسية تحني الرأس تقديراً للرأي العالمي، ونحن أيضاً نحني الرأس أمامه، ولكن أليس من حقنا أن نسأل أنفسنا لماذا هذه الصحافة التي هزتها الموجة التي نشير إليها، كما اهتزت أيضاً لقضية الكردينال مندزنتي ولقضية مكاريوس، لم تحرك ساكناً بشأن فضيلة الشيخ العربي التبسي، حينما اختطفته اليد السوداء من بيته في الجزائر فغاب حتى الآن خبره.
إن مشكلة المقاييس لها حتماً دورها في جميع البلاد، وفي سائر الميادين، والواقع يدلي لنا أحياناً بالبرهان: فمثلاً، بمناسبة معرض الرسم في لوس انجلوس، منذ شهر (1) منحت الجائزة للوحة ثبت أخيراً أنها من عمل ببغاء أراد صاحبه أن يفسح مناسبة للضحك، وطبيعي أن الجمهور ضحك فعلاً عندما بلغه صدى القصة، وضحك على حساب المحلفين الذين أصدروا حكماً على عمل دون الرجوع إلى مقياس، ولكن عندما يحدث هذا الخطأ، في السياسة على أثر حكم مماثل، فالمناسبة لا تكون حينئذٍ للضحك بل للبكاء.
غير أن هذه المشكلة لا يبلغ أثرها في البلاد الأخرى ما يبلغه عندنا، حيث يمتد إلى جميع الميادين السياسية والفكرية. إن العالم الغربي على الرغم من أن (القاعدة المنطقية) لا تحتل فيه مكاناً كالذي نجده في دول أخرى، فإن الناس هناك لا يستهينون بالمقاييس، بل يرجعون إليها في قياس الأفكار وأنواع السلوك، بل يحدث أن يتخذ (النقد الذاتي) في الغرب لهجة، تفوق قساوتها ما تصل إليه في بلاد أخرى تتعصب لمبدأ النقد، وقد حدث فعلاً هذا منذ شهور عندما وجه أحد أعضاء مجلس اللوردات بإنجلترا نقداً إلى الملكة اليزابيث، فكان لنقده صدى كبير في البلاد نفسها وفي العالم.
وهكذا نرى تأثير المقاييس المعدل في حياة الشعوب وفي توجيه سياستها.
إننا ندرك من هنا اهتهام الاستعمار بالاتجاهات المعادية لنظام الرقابة الذاتية، وكيف يرعاها لأنها تدعم الانحرافات التي يريد دسها، عن طريق (أفكار متجسدة) في سياسة البلاد التي تحاول التخلص منه، وكيف يسعى بكل جهده لتحطيم الأفكار المجردة حتى لا تقوم بدورها المعدل، وهو يبلغ هذه الغاية حين يحرك الميول المتجسمة في الفرد أو (مركب الأفراد) الذي يمثل الكفاح ضد
(1) كتب هذا الفصل سنة 1956
الاستعمار، في الصورة التي تكون في نظره شراً لابد منه، لإبقاء الشعب المستعمر في نطاق السياسة العاطفية، وللحيلولة بينه وبين بلوغ مرحلة السياسة المقعدة التي يشير إليها رجل السياسة، في التصريح الذي أوردناه في الفصل الأول، بأنها (علم لا يخطئ).
والاستعمار يطبق في هذا المجال طريقة (دمل التصفية)، فهو يجمع القوى المعادية له تحت سلطان العاطفة، حتى لا تتجمع تحت قيادة (الفكر المجردة)، فتراه أحياناً يلوح بالمنديل الأحمر في مكان معين ليستدرج إليه القوات المكافحة ضده، وتارة يسلط عليه أضواء المصابيح كي يلفت انتباه الجماهير عن مكان آخر تدور فيه المعركة.
ونرى أحياناً أبطال السياسة العاطفية يقومون تحت إشرافه، دون أن يشعروا، بدور صمام فصل الدائرة الكهربائية، في الراديو، ذلك الجهاز الذي يفصل بعض الموجات غير المرغوب فيها عن الاستقبال: فهو يفصل هنا بعض الأفكار عن الحركة السياسية، حتى لا تؤثر في توجيهها أو في تعديل انحرافاتها إذا حدثت.
فلو أننا تتبعنا النشاط الاستعماري في الميدان الفكري في دورة كاملة، أي في معركة تحرر من بدايتها، لرأينا أن (صمام الفصل) الذي نشير إليه يقوم بدوره على مرحلتين:
أ - ففي مرحلة ما قبل الثورة يقوم بدور اللافتة التي ترفع فوق رأس الشعب الشعارات الساحرة: الحرية، الاستقلال، الوطن؛ حتى يحوّل الأنظار عن الأفكار الفنية التي تبحث عن الطرق العملية لتحقيق هذه الشعارات.
ب - وفي مرحلة ما بعد الثورة أي في مرحلة التنظيم بعد التحرر، ترى نشاطه يشوه تلك الشعارات ذاتها حتى يستولي على العقول الريب، ويتسرب إلى القلوب الندم، والأسف على عهد الاستعمار.
وهكذا تستخدم السياسة العاطفية على أنها (صمام فصل) في المرحلة الأولى لتجميد الطاقات التحررية في المكان الذي يلوح فيه الاستعمار بالمنديل الأحمر، ثم في المرحلة الثانية تستخدم لتهديد المثاليات التي دارت تحت لوائها معارك التحرر
…
وفي كلتا الحالتين يهدف الاستعمار، بالوسائل المناسبة إلى فصل البلد المستعمَر عن بعض الأفكار، فإذا كانت منبعثة من الداخل، فمن الميسور لديه أن يستخدم وسائل الضغط والإرهاب مع من دخل المعركة تحت رايتها، أما إذا كانت آتية من الخارج، أي إذا كان صاحبها قد أفلت من نفوذ الاستعمار المباشر، فسيكون الاستعمار مضطراً إلى التكيف مع الظروف الجديدة في الصراع الفكري، وإلى استخدام الوسائل العلمية التي أشرنا إليها عندما وصفنا صنفين من (مرآة الحرمان) في الفصول السابقة.
***