الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في حلبة الصراع
ــ
إن الاعتبارات التي تقدمت في الفصل السابق. تبين كيف أن الغموض يكوّن العنصر الأساسي الذي يميز الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وكيف أن الاستعمار يبذل جهوده في إحاطة هذا الصراع بالغموض، سواء بالنسبة لابن البلد الذي يكافح الاستعمار في جبهة وطنية تساند كفاحه، وإن كانت تفرض عليه، في الوقت نفسه رقابة لا تتفق دائماً مع ضرورات الكفاح، كما سبق أن بينا، أم بالنسبة للمسلم الذي دخل المعركة ضد الاستعمار في بلد مستقل أو شبه مستقل، وبالتالي بالنسبة للكاتب التقدمي الذي يسهم أيضاً، في الخارج، في هذا الصراع في صورته السياسية كما ذكرنا آنفاً.
ولا غرابة إذا كان هذا الكاتب التقدمي، وذلك المسلم المكافح في بلد مستقل أو شبه مستقل، يجهلان هذه الأشياء فإن ابن البلد المستعمرَ نفسه يجهلها.
ومن هنا كان علينا أن نخص التجربة الشخصية في هذا الميدان بقيمة أكبر، مما يمكن أن تستحقه في ميدان آخر، لأنها سوف تنبه الشباب المسلم لأخطار الطريق ومفاجآتها في اللحظات التي سيدخل فيها حلبة الصراع الفكري، الذي سيقرر مصير العالم أجمع، ومصير العالم الإسلامي العربي بوجه خاص.
إن الغموض الذي يريد الاستعمار أن يحيط به الصراع الفكري، لا تبدده الاعتبارات العامة، إن لم تستمد برهاناً من تفاصيل واقعية، أعني من صميم تجربة
وقعت فعلاً في ظروف معينة، فهذه التجربة تقضي حينما نريد أن نصور خطة الاستعمار في هذا السبيل، أن نلاحظ مبدأين: مبدأ الغموض ومبدأ الفعالية.
فالمبدأ الأول يقضي بألا يكشف الاستعمار النقاب عن وجهه في المعركة، إلا إذا لم تترك له الظروف حيلة، فهو دائماً أو غالباً يستخدم قناع القابلية للاستعمار.
والمبدأ الثاني ناتج عن الأول في حيز التطبيق، إذ أن هدف الاستعمار لا يتعلق في الأساس بذات شخص معين، ولكن بأفكار معينة يريد تحطيمها أو كفّها، حتى لا تؤدي مفعولها في توجيه الطاقات الاجتماعية في البلاد المستعمَرة.
وهذا يعني أن الاستعمار لا يبغي حياة المكافح في ذاتها، فهو لا يلجأ إلى النَّيل منها، إلا إذا اضطرته الظروف إلى ذلك، بل لعلنا نراه في بعض الحالات يشعر بالخيبة والخسارة، إذا مات المكافح لأن موته أحياناً حياة لأفكاره، ولقد شعر بهذا الشعور، دون أي شك عندما قضى نحبه، ذلك المكافح (بن باديس) الذي قاد الفكرة الإصلاحية في الجزائر طيلة سنين عديدة. ذلك أن موته قد حرر نهائياً الفكرة الإصلاحية، التي كانت تشبه (فكرة متجسدة)، فأصبحت بموت صاحبها (فكرة مجردة) لا يجد الاستعمار إليها سبيلاً.
ومهما يكن من أمر، فإن المبدأ الثاني يقتضي من الاستعمار، وبوجه التفصيل، عزل المكافح في حلبة الصراع الفكري، من جانبين:
أولاً: أن ينفر من أفكاره الرأي العام في بلاده، بجميع الوسائل الصالحة لذلك.
ثانيا: أن ينفره هو نفسه، من القضية التي يكافح من أجلها بأن يشعره بعبث كفاحه.
فكيف يطبق الاستعمار فعلاً، هذين المبدأين في ظروف معينة أي عندما تدخل فكرة على المسرح في صورة كتاب.
اٍنني أوضحت في دراسة أخرى كيف تصرف الاستعمار في مثل هذا الموقف، فيضع إصبعه على (زر) خفي، لينطلق بذلك تيار من ردود أفعال مضادة للفكرة التي آذنت بظهورها مراصده، عندما دخلت إلى المسرح (1).
فيكفينا إذن أن نصِف للقارئ حالة حدثت فعلاً: عندما ظهرت الطبعة الفرنسية من كتابي (شروط النهضة ومشكلات الحضارة) منذ خمسة عشر عاماً، بالجزائر، وضع الاستعمار إصبعه على (الزر) الخفي، فانطلق التيار المضاد بثلاثة ردود أفعال.
فقد صدر رد الفعل الأول في جريدة (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) في مقالتين يصف صاحبهما الكتاب بأنه في مجمله، مقتبس من مقالات نشرتها جريدة باريسية كبرى، هي لسان حال الحكومة الاستعمارية تقريباً، بإمضاء مراسلها في القاهرة، المسيو فلان
…
ثم أتى رد الفعل الثاني في جريدة حزب وطني، في مقالتين أيضاً، يتظاهر صاحبهما بنقد نزيه للكتاب، فأورد نقده تحت عنوان (خطوة مخطئة واختبال)، وهو عنوان ذو إيحاء
…
كما نرى.
وأتى في الأخير، رد الفعل الثالث في الجريدة المركزية للحزب الشيوعي بالجزائر، وعلى الرغم من أن الموقف الشيوعي عموماً، يتسم بطابع (النقد الذاتي)، الذي من طبيعته التحري، حتى لا يترك للخصم فرصة، فإننا نرى الصحيفة الشيوعية المركزية تحقق هي الأخرى، خطة الاستعمار تجاه هذا
(1) راجع كتابنا (شروط النهضة).
الكتاب فتصوره للرأي العام، الذي لا يتصل به مباشرة لأنه مكتوب بلغة أجنبية، ولأن الأمية غالبة في البلد، تصوره بأنه ((كتاب يستحق الرضا من الاستعمار)).
ويجب أن نضيف إلى هذه المواقف الثلاثة، موقف الصحافة التقدمية التي لم تقل كلمة في الموضوع، فكان سكوتها من ذهب بالنسبة للاستعمار.
فلو حللنا الآن هذه القصة التي أوردناها، دون أي تعليق عن تركيب عناصرها الأساسية، فإنه يصعب علينا أن نجد فيها إمضاء الاستعمار، لأنه في الواقع لم يكن من مصلحته أن نراه. وهكذا نلاحظ أن القصة قد حققت فعلاً المبدأ الأول، إذ أننا لم نر في سطورها أن للاستعمار دخلاً في تصميمها، وتنسيق عناصرها وترتيبها.
ولكن النظرة الفاحصة تبدي بين السطور، الأشياء التي تخفيها السطور، فلو حللنا بعض التفاصيل التي لا يمكن أن نعمد إليها هنا، حتى لا نقع في إطالة غير ممكنة، فإننا سوف نرى في التفاصيل التي أتت مثلاً في جريدة العلماء، الإتقان الذي نجده عادة فيما يصنعه الاختصاصيون الذين يعملون بالمراصد الخاصة بالصراع الفكري، ولتوضيح هذه الملاحظة، بصفة عابرة، نقول على سبيل المثال، إن صاحب المقالة التي تنسب كتابي إلى مراسل جريدة كبرى تصدر بباريس، هو- كما نعرفه- لا يقرأ هذه الجريدة حتى يمكنه أن ينسب شيئاً إليها، وإذن فهو مكلف بأن يقول هذا القول.
المهم أننا إذا تجنبنا الخوض في تفاصيل جزئية وعدنا إلى القصة في جملها، فسوف نجدها بعد أن حققت المبدأ الأول الذي يحيطها بالغموض الكافي، قد حققت المبدأ الثاني أيضاً، لأن المعركة لم تعد بين كاتب يدافع عن قضية وبين الاستعمار الذي تتناقض مصالحه مع تلك القضية، بل هي أصبحت في ظاهرها، معركة بين ذلك الكاتب وبين هيئات وطنية تزعم بأنها تمثل تلك القضية.
وهذه الخطة التي تحوّل طبيعة المعركة لصالح الاستعمار تطبَّق بنجاح في ميدان كفاح الجماهير، كما تطبق في ميدان كفاح الفرد، فحينما تكوّن الأحداث والظروف وحدة كفاح شاملة ضد الاستعمار، نرى هذا الأخير يشرع في خلق وحدات كفاح جزئية، حتى يحدث الخلاف والتنافس بين القوى التي تقاومه، فتنحرف بذلك المعركة من معركة بين قوى الشعب المستعمَر والاستعمار إلى معركة بين القوى الشعبية ذاتها، كما وقع هذا في كوريا وفي الصين وفي الهند بعد التقسيم، وفي إندونيسيا إلى حدٍ ما.
وهذه الخطة تحقق للاستعمار هدفين:
أولاً- تحطيط من المستوى الروحي أو الأيديولوجي، الذي كانت تدور فيه المعركة ضده.
ثانياً- تشتيت القوى الموجودة في المعركة.
فأما النتيجة الأولى فإنها تنساق بطبيعة الحال: فالمعركة إذا ما فقدت طابعها بوصفها وحدة شاملة، فإنها تفقد بذلك من معنوياتها وشيئاً من قداستها في نظر الجماهير.
وهذه الملاحظة تفسر لنا ما يحدث في بعض المعارك التي لا زالت تجري تحت أعيننا اليوم.
والأمم التي لها تجربة في ميدان الكفاح السياسي تعلم أن أكبر مواقفها في التاريخ، هي المواقف التي أملاها ما يسميه العرف السياسي (الوحدة المقدسة)، مثل الوحدة التي كونتها الثورة الفرنسية (1)، للقيام في وجه الحلف الملكي الأوربي.
(1) في عهد من عهود تلك الثورة عندما تألفت الهيئة الثورية المعروفة باسم (هيئة السلم العام)( Comité de salut public) .
إن أكبر لحظات التاريخ هي دوماً اللحظات التي تتكون فيها وحدة كفاح شاملة ضد الطبيعة أو ضد البشر.
فعندما تكون المعركة على هذه الصورة فإنها تكون في مستوى القداسة، وذلك هو مستواها الأيديولوجي في أوجه.
ولكنها حالما تفقد طابع الشمول فإنها تهبط من هذا المستوى.
وعليه فالمعركة تصاب بالتدهور والانحطاط الأيديولوجي حالما تحتل فيها وحدات كفاح جزئية مكان وحدة الكفاح الشاملة، وحالما يحدث هذا الانحطاط أو الهبوط في المستوى الروحي، فإن القوى المكافحة تتبدد.
وهذه هي النتيجة الثانية.
وإننا نجد في تاريخ الإسلام صورة هذا التدهور الروحي، الذي يؤدي حتماً إلى التدهور السياسي، بوصفه نتيجة ثانية.
إن واقعة صفين فصمت الوحدة الشاملة التي بناها محمد صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه، فحطّت بذلك من مستوى المعركة التي بدأت يوم بدر، وهذا الحطّ أو الهبوط الأيديولجي لم يلبث أن أتى بنتائجه المشؤومة في الميدان السياسي
…
مصداقاً لقوله عز وجل {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال 8/ 46].
إن الاستعمار يطبق ضمناً هذه الاعتبارات في خططه المقررة ضد كفاح الشعوب المستعمرة: إنه يهدف أولاً، إلى الحط من مستوى كفاحهم الأيديولجي، وذلك بأنه يحاول قبل كل شيء فصم الوحدة الشاملة التي تضفي على ذلك الكفاح القداسة وتهبه قيمة خلقية عليا، وهو يعلم أنه يحقق بذلك الأهداف السياسية المقصودة.
ومن الطبيعي أن يكون فكر في تطبيق هذه الخطة، ضد وحدة الكفاح الشاملة التي تكونت في باندونج.
إنه فكر لاشك، كيف يحط من مستوى هذا الكفاح العارم. ويحل فيه وحدات كفاح جزئية مكان وحدة الكفاح الشاملة التي بعثت في قلبه الرعب، لأنها مكونة من شعوب إفريقية وآسيا جميعاً ..
فلكي يحقق الهدف الأول ما كان عليه إلا أن يبذل ما يستطاع، من أجل ألا تجد هذه الشعوب قاعدة نظرية في صورة كتاب مثلاً، تركز عليها أيديولوجية كفاحها، ويجب أن نعترف بأنه نجح حتى الآن في تحقيق هذا الهدف إلى حد ما، وربما يقول التاريخ كيف نجح
…
أما بالنسبة للهدف الثاني، فإن الاستعمار حققه أيضاً إلى حد ما بتصرفه إزاء بعض الاستعدادات الشخصية، وبتشجيع بعض المبادرات أو الإيحاء بها عند الحاجة.
فحينما يعقد البانديت نهرو خلال عام 1956، مؤتمرا للكتّاب الآسيويين بنيودلهي، فإنه من دون شك يعمل في نطاق تحرير االشعوب المستعمَرة؛ ولكننا إذا فحصنا عملاً كهذا بنظرة أدق، فإن جانباً منه يبدو لنا وكأنه يلتقي بنوايا الاستعمار، وذلك بقدر ما يكون في انعقاد مؤتمر الكتاب الآسيويين، تعويض عن وحدة كفاح إفريقي آسيوي شاملة بوحدة كفاح آسيوي جزئية.
وقد نعلم على ضوء ما بينا، أنه بمجرد هذا التعويض يحدث هبوط في المستوى الأيديولوجي، في الصراع الذي نشأ في مؤتمر باندونج، وهذا الرجل السياسي الكبير، الذي رافق غاندي في مرحلة التحرير، قدم بهذه الصورة، في الميدان الفكري، سابقة سيستغلها الاستعمار، في الميدان السياسي، بمساعدة رجل سياسي آخر، هو الدكتور نكرومه، الذي يقوم بعقد مؤتمر إفريقي (بأكره) في اليوم
الذي يجتمع فيه مؤتمر إفريقي- آسيوي (بكوناكري)، أو بعبارة أخرى: الرجل الذي يحاول أن يحل وحدة كفاح جزئية مكان وحدة الكفاح الشاملة.
وقد نعلم ما في هذه المبادرة من تحقيق لخطة الاستعمار بهدفيها المذكورين.
كما أننا نعلم عندما ينعقد مؤتمر الكتاب الزنوج في مكان ما، أن حدثاً كهذا يدل على نهضة الشعوب المستعمرة الفكرية، ولكن لا ننسى ما قد يكون وراءه من تقديرات الاستعمار، حتى لو فرضنا أننا لا نعلم مباشرة شيئاً عن هذه التقديرات بالنسبة إلى الصراع الإفريقي- الآسيوي.
وهكذا يستطيع الاستعمار بطرق مختلفة، تحويل المعركة التي تنشأ بينه وبين القوى التحررية إلى معركة، أو على الأقل إلى منافسة، بين تلك القوى نفسها، كما رأينا كيف يحوّل معركة بينه وبين فرد- يكتب مثلاً- إلى معركة بين هذا الفرد وإخوانه أنفسهم
…
وهكذا فلو عدنا إلى القصة الآنفة التي دلتنا على الخطة التي يطبقها الاستعمار، ليحوّل اتجاه المعركة عندما تكون في مستوى الفرد، ولو عبرنا الآن عن مفادها بمصطلح علم النفس، لسوف نجد أن الاستعمار استطاع، بمجرد وضع إصبعه على زر خفي، أن يحوّل المعركة إلى عملية نفسية ذات هدفين:
فمن جانب نرى أنه قد ألقى على الكتاب الذي صدر، كل الأضواء التي تشوه صورته أمام الرأي العام، وتخلق حوله شبهات، ليس من السهل إزالتها في بلد تسيطر عليه الأمية والسياسة العاطفية.
ومن جانب آخر نرى أنه قد خلق، أو حاول أن يَخلق، في نفس الكاتب عقدة، محاولاً أن يفصله بذلك عن القضية.
وهذان الجانبان يمثلان في الواقع تطبيقاً محكماً للمبدأ الثاني، يستطيع معه
هذا الاستعمار أن يحطم وحدة الجبهة المعادية له في البلاد المستعمَرة، ويعطل نشاطها الفكري كيما يبقى النشاط السياسي أعمى، والأفكار دون جدوى.
ومع ذلك فنحن هنا لا نحاول تفسير ظاهرة لا نملك كل أسرارها، إذ ليس لدينا معلومات مدققة تبين كيف نسق الاستعمار تفاصيل القصة، حتى تأتي ردود الأفعال، الموجهة ضد الكتاب موحدة على الرغم من صدورها من هيئات مختلفة، وإنما نريد أن نجعل هذه الظاهرة موضع التأمل لدى القارئ، ليدرك قوة الاستعمار في هذا الميدان.
وأمام هذه القوة يدرك خطورة الموقف الذي يوجد فيه من يكافح في هذه الجبهة، عندما يتم عزله على الصورة التي أشرنا إليها.
وقد يفهم القارئ من خلال المبدأ الأول والثاني، أنه ليس من مصلحة الاستعمار عندما يريد خنق فكرة، أن يدفع بجهاز البوليس والقضاء في المعركة، إلا في بعض الظروف، عندما يتأكد علمياً أن الخطة المدبرة قد تؤدي بالفرد الذي يجد نفسه في هذه الظروف إلى حافة الانتحار، ذلك لأن الخطة تكون قد أحاطت بجوانب حياته كلها، وطوقته مادياً وأدبياً، حتى يكون على وشك اليأس، وحينئذ ربما يتبين للاستعمار أن من كان قريباً من اليأس سيكون قريباً من الانتحار.
إن المختبرات التي تقوم أعمالها على علم النفس، توجه هذه العمليات بكل دقة، حتى يكون فصل من فصول المعركة في بعض الأحيان، قريباً من التجربة التي يجربها علماء الحياة على بعض الحيوانات الصغرى، لاكتشاف حقيقة من حقائق علمهم، وهكذا يصبح الكاتب الذي يحاول نشر فكرة، حيواناً تجرب فيه بعض وسائل الصراع الفكري، ولا يكون طبعاً لهذه التجربة العلمية، من النوع الخاص، أي صدى في الشارع أو في الصحافة. إذ حينما يمر الكاتب بمراحل هذه
التجربة، فإنه يمر في الواقع بمراحل عملية نفسية موجهة، فهو يطارد ويحاصر ويهدد بالاغتيال وبالتعذيب ولا ينتهي الأمر إلى هذا، لأن الاستعمار كان يهدف في الواقع إلى اغتيال أشنع، وإلى تعذيب أفظع، يبقى سرهما في خفايا النفوس المحطمة، وفي أوضاع أدبية ومادية أضر بالكاتب وبأسرته من الشنق أو الإحراق.
وقد يحدث في مثل هذه الظروف ألا يجد الكاتب مخرجاً سوى أن يوجه صرخة ليخرق بها الصمت الخانق الذي أحاطه به الاستعمار، فيوجه حينئذ كتاباً مفتوحاً إلى الرأي العام عن طريق صحيفة وطنية، غير أن الاستعمار قد أخذ الحيطة من هذه الناحية أيضاً، فتمر الأيام والأسابيع وتأتي أعداد الصحيفة متوالية، دون أن يجد الكاتب فيها الصدى الذي يخلصه من التطويق، الصدى الذي يأخذ بثأره من عدوه.
لقد خيبت الصحيفة الوطنية رجاءه، وهنا يجد الكاتب نفسه فجأة أمام نوع من الحيوان مزود بضمير فيه شق؛ كذلك الشق لصندوق الصدقات الذي توضع فيه الصدقات، والاستعمار يلقي في هذا الضمير ما شاء من النقود، حتى يسخره في تلك اللحظة لا يريد تحقيقه في جبهة الصراع الفكري.
ولا شك أنها أقسى لحظة يواجهها المكافح، الذي يشعر فيها أن عزله قد تم فعلاً من جميع النواحي، وهنا تتفتح الهاوية تحت قدميه، وإذا بالظلام يحوطه، ويغمر أعماق حياته فلا يرى أمامه طريقاً ولا حيلة.
تلك هي أقسى لحظات الصراع الفكري، لأن المكافح بدأ يشعر بعبث موقفه. كأنما ألقى بنفسه للتهلكة دون جدوى، ولا شك أن هذه الظروف تتنوع أشكالها، لكنها تتمسك بالطابع الذي يضعه الاستعمار على كل ظروف الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، تطبيقاً للمبدأين اللذين يكونان منهجه العام في
هذا الصراع، وبعبارة أخرى: إن الاستعمار سوف يجد في كل الظروف من يسلم إليه، مفاتيح القلعة عندما يلجأ إليها المكافح، ليتحصن فيها خلال معركة عنيفة، إنه سوف يجد من يسلمه تلك المفاتيح لأنه وضع بعض النقود في فتحة ضميره.
وغني عن البيان أن صيحة الفدائي، أو إشارة الخطر التي أطلقها قد تذهب دون أن تنبه الرأي العام، لأن الاستعمار استطاع عزله وإحاطته بصمت عميق.
إن هذه هي حقيقة الوضع الذي يوجد فيه الفدائي، في بعض مراحل الصراع، ولكن الأمثلة البسيطة التي قدمناها لا تعطينا الفكرة الصحيحة عن دقة الاستعمار ومهارته في هذا الفن.
إن فنه يبلغ أوجه من الإحكام، عندما لا تبقى لديه الوسائل المادية، بمعنى أنه لا يستطيع استخدامها في ظروف معينة، وحينئذ تضطره تلك الظروف إلى الوسائل العلمية البحتة.
ماذا يفعل الاستعمار عندما يكون ممكناً، أن يتصرف في المعركة بالإرهاب والإغراء، وبضمير يوجه بنقود يلقيها فيه من فتحته، وبما يملي على صحيفة (وطنية) كي تلزم السكوت، أو أن تختفي في ظروف معينة، عندما يكون غير كاف أو غير ممكن، تطويق المكافح بالصمت وبالظلام.
ماذا يفعل حينئذ الاستعمار؟
يجب أولاً أن نرى كيف يرتبط الصراع الفكري بالقضية السياسية في البلاد المستعمرة: إن هذه القضية تشكل على مسألتين هامتين هما حسب اطرادهما الطبيعي:
أولاً: تجميع قوى الكفاح التحرري من أجل الاستقلال السياسي.
ثانيأ: توجيه هذا التحرر من أجل الاستقلال النفسي.
فبالنسبة للمرحلة الأولى قد بينا كيف يحرص الاستعمار على ألا تتجمع تلك القوى تحت راية سياسية مقعدة، وكيف أنه يستخدم من أجل ذلك وسائل مختلفة. وقد رأينا مثلاً كيف يستخدم المنديل الأحمر والأضواء الموجهة.
وإن علينا هنا أن نكوّن فكرة عن المرحلة الثانية، حتى نعرف صورة الصراع الفكري في هذه المرحلة.
فكفاح الهند وباكستان مثلاً قد بدأ في ظروف واحدة، وعلى أرض واحدة، وقد حققت القوى التحررية التي تجمعت تحت راية هذا الكفاح الاستقلال السياسي كما نعلم.
كما أننا قد رأينا كيف انتهت هذه القوى، بعد أن حققت الاستقلال السياسي، إذ ذهب بعضها مع الهند، وبعضها مع باكستان في اتجاهين مختلفين تمام الاختلاف.
ونحن نرى اليوم بعد أن تحقق استقلال تركيا على يد أتاتورك، كيف أصبح من خلفه في أنقرة، يتصرف في هذا الاستقلال لصالح الاستعمار حتى أصبحت تركيا قاعدة للتجسس لصالح أمريكا.
من هنا نعلم مدى الأهمية التي يعطيها الاستعمار إلى هذه المرحلة، والمكان الذي تحتله في التخطيط العام لسياسته العليا، وبالتالي المكان الذي تحتله في الخطة المرسومة للصراع الفكري في البلاد المستعمَرة.
فإذا أدركنا أن مقتضيات تلك السياسة العليا تفرض رقابة شديدة على نقل وبيع السلاح في البلاد المستعمرة، وقد أدركنا ذلك بالتجربة المباشرة عندما قامت معركة التحرر، ولا بد أن ندرك أيضاً أنها تفرض رقابة شديدة على حركة الأفكار في تلك البلاد.
ولكن تصور هذة الرقابة الأخيرة سوف يكون ضعيفاً أو غير ممكن في تلك البلاد لسببين بيناهما فيما تقدم وهما:
أولاً: الأمية السائدة في البلد التي تجعل الشعب غير مؤهل للصراع الفكري، لأنه يجعل قيمة الأفكار أدوات كفاح وتحرر.
ثانياً: السياسة العاطفية القائمة في البلاد تجعل القيادة السياسية على حذر من الأفكار، فهي تخشاها كما يخشاها الاستعمار نفسه، لأنها عادة لا تتفق مع مركب الأفراد الذي يمثل تلك القيادة. وهكذا نجد أنه عندما يرتفع الستار عن حدث في الصراع الفكري، فإن هذا الحدث يبدأ كمسرحية ذات شخصيات خمس:
فكرة كشفت عن وجودها المراصد المختصة بالصراع الفكري، وشعب يجهل دخولها على المسرح، وقيادة تتجاهلها، وصاحبها الذي يحاول تبليغها، والاستعمار الذي حاول خنقها.
ولقد سبق أن تساءلنا كيف يفعل الاستعمار عندما يفقد الوسائل المادية وتضطره الظروف إلى الوسائل العلمية البحتة.
إن هذا السؤال يتضمن في الواقع جانبين يتعلق أحدهما (بالكيفية) والآخر (بالسببية).
ولسوف نتناوله، من الجانب الأول فقط، أعني سوف نتساءل (كيف) يفعل الاستعمار حتى يخنق الأفكار، لا (لماذا) يفعل ذلك؟ لأننا قد نعلم أحياناً السبب الذي يدفع الاستعمار لمقاومة الأفكار، دون أن نعرف (كيف) يقاومها.
فماذا يفعل عندما تعطيه مراصده إشارة عن ظهور فكرة؟ كيف يتصرف ليحول بينها وبين المجتمع الذي يحاول صاحبها نشرها فيه؟
هذا هو موضوعنا.
إنه ينبغي لنا أن نتصور الفكرة هدفاً يصوب إليه الاستعمار مدفعيته: فالفكرة هدف يمكن إصابته، منفصلة أو متصلة بصاحبها.
ولسنا نريد هنا أيضاً أن نعالج الموضوع في رحابته وسعته، وإنما نريد فقط، أن نلقي عليه ضوء تجربة خاصة نرى خلالها كيف يستخدم الاستعمار الوسائل العلمية في الصراع الفكري في حالة معينة. إننا نراه يصوب مدفعيته على اسم كاتب ليصيب فكرته إصابة، يصبح الاسم معها نقطة القياس لتوجيه خط النار لمدفعيته.
إننا نعلم أن الترسانة الاستعمارية التي تعد سلاح الصراع الفكري، مزودة بمختلف أنواع القذائف، ولكن نريد وصف نوع خاص منها، يمكن أن نقول إن مكتشفه هو العالم الروسي بافلوف، اكتشفه حينما قام، على ضوء تجاربه المشهورة، علم النفس التجريبي، الذي يهتم بدراسة رد الفعل المنعكس ( Réflexologie).
وربما أوردنا ضمناً، إشارة إلى هذا الموضوع في القصة التي ذكرناها عند الحديث عن الكتاب الذي نشر بالجزائر، فإن القارئ أدرك لا شك بين السطور أن ردود الأفعال التي تقبلته بها الصحافة (المناضلة)، كانت في الواقع طلقات من مدفعية الاستعمار، بقذائف من نوع خاص: النوع الذي يحدث في الرأي العام شيئاً من النفور نحو الكتاب.
فالقصة نفسها، تدخل في نطاق الأسلوب العلمي الذي يتبعه الاستعمار في الصراع الفكري، وتعطينا فكرة عامة أو مقدمة، عن كيفية استخدام بعض قواعد علم النفس في هذا الصراع، كما سنشرح ذلك بشيء من التفصيل فيما بعد.
وربما عرضت للقارئ إشارة إلى هذه القصة في الترجمة العربية للكتاب
نفسه، عندما نشرت بالقاهرة سنة 1957، فقد ذكرت مجملها في هامش إحدى صفحات تلك الترجمة، للفت نظر القارئ العربي إلى إحدى الظواهر التي تؤثر في الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ألا وهي القابلية للاستعمار.
ولكن حين أوردت هذه القصة، على سبيل التنبيه للقابلية للاستعمار، لم أكن أتوقع أن الاستعمار كان يعد في الوقت ذاته خطة لمقاومة جميع الكتب، التي أتيت إلى القاهرة من أجل نشرها بالعربية.
ولما لم يبق في استطاعته أن يمنع صدور هذه الكتب، بمجرد وضع إصبعه على زر، أو بإصدار أمر قاهر، كما كان الأمر ممكناً في الجزائر، فلم يبق إذن لديه إلا أن يستخدم وسائل أخرى، ومنذ هذا الحين تصبح خطته العلمية في الصراع الفكري، في كل وضوحها.
إن الكاتب يشعر في بعض الظروف، أنه ذرة يستطيع الاستعمار تحطيمها بكل سهولة، لولا أن تلك الظروف تضطره إلى احترام الشكليات، التي تصبح في النهاية هي الحصانة الوحيدة لذلك الكاتب، حينما يجد نفسه فرداً معزولاً عاجزاً.
ولكن احترام الشكليات هو نفسه من الأسباب التي تضفي على المعركة الطابع الخاص، عندما يلجأ الاستعمار إلى الوسائل العلمية البحتة التي نحن بصدد الحديث عنها.
فلنعد من هذا الاستطراد، إلى قصة صدور ترجمة (كتاب شروط النهضة ومشكلات الحضارة) التي تضمنت كما قدمنا، إشارة وجيزة إلى هذا الجانب من الصراع الفكري.
فهي تكوّن واقعة مادية من الصراع الفكري، في مرحلة من مراحله، واقعة تعطينا الفرصة لنرى رأي العين، كيف أن الاستعمار يستغل القواعد العامة
في علم النفس، فيطبقها على وسط إنساني معين قد درس من قبل استعداداته الخاصة، بالنسبة إلى مقتضيات الصراع الفكري، ونسيج القصة التي نتحدث عنها هنا يشمل هذه المقتضيات وعلاقتها بقوانين علم النفس.
والطريقة في ذاتها تتسم ببساطة ملحوظة، اتساماً تمثل معه في صورتها النظرية ما يمكن أن نسميه (مرآة الكف)، أي المرآة التي تعكس عليها حالة الحرمان، أو حالة نفور إزاء الشيء الموضوع للانعكاس.
والصورة النظرية لهذه المرآة تكون على النمط التالي:
ـ[مرآة الكف
مصباح نفسي عاكس
…
(موضوع الانعكاس)
…
مصباح نفسي عاكس
مصباح نفسي عاكس]ـ
وهذا التخطيط يطبق على علم النفس، قاعدة بصرية بسيطة: إننا نعرف أن صورة الشيء تتغير حسب الأضواء التي تسلط عليه، وتطبق هذه القاعدة في فن التنوير، خاصة في المتاحف حيث نريد عرض بعض الأشياء في ضوء خاص.
هذه القاعدة تطبق أيضاً في الإطار العقلي، (فموضوع الانعكاسات) هو هنا (فكرة) نريد أن نعطي عنها صورة معينة، وبما أن الفكرة شيء لا يرى؛ أي شيء لا يمكن عكسه على مرآة مادية، فيجب أن نعكسه على مرأة ذهنية، بإضافة ما يجعله مرئياً في هذه المرآة، فمن أجل هذا يكون من المفيد أن تلصق الفكرة باسم صاحبها، حتى تجرى عليها العمليات التي تجرى على (الفكرة المتجسدة).
وبعبارة أخرى، إن هذه العمليات تجري في الواقع على اسم صاحب الفكرة، ثم يلحق أثرها النفسي الفكرة بالتبعية، أي إن الانعكاسات التي تسلطها (مرآة الكف) على الاسم، تنعكس في النهاية عن الفكرة.
هذه هي القاعدة العامة.
والآن فلنشرح كيف تطبق هذه القاعدة في حالة وقعت فعلاً، وكيف تركب مرآة الكف في مثل حالة كهذه.
والواقع أنه في الوقت الذي كانت فيه ترجمة كتابي (شروط النهضة ومشكلات الحضارة) تحت الطبع، وأصبحت الترجمات العربية لمؤلفات أخرى متوقعة، ظهر في مكتبات القاهرة كتاب كبير يضم مجموعة المقالات التي نشرها السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في مجلتهما (العروة الوثقى)، والقارئ يعلم لا شك ما يكون لكتاب هذا عنوانه من قيمة لافتة، لأنه يعلم ما لهذا العنوان من صدى في تاريخ العالم الإسلامي الحديث، إذ أن كلمة (العروة الوثقى) تحمل دوي معركة فكرية سجلتها النهضة الإسلامية تحت قيادة الفقيدين العظيمين، وخاصة ما دار من جدل بينهما وبين أرنست رينان وجبرائيل هانوتو.
ولا يخفى أن ما يحمله عنوان كهذا- (العروة الوثقى) - من وقار عند الجماهير الإسلامية، وما يؤدي إلى نفوسها من إشعاع عهد ماجد لازال حياً في ذاكرتها، يجعل منه أحسن لافتة يوضع فيها شيء لإلفات النظر إليه بصورة معينة، وإذا استخدمنا مصطلحاتنا نقول: إنه يكون خير مرآة تعكس الأضواء التي نريدها على هذا الشيء حسب تصرفنا، لتظهره في الصورة التي نتمناها.
ولقد أورد مقدم هذا الكتاب، ذي العنوان المثير، اسمي بصفتي مؤلفاً لكتاب معين هو (مستقبل الإسلام) ورجع إليه مرتين في مقدمته، ولا شك أن
هذا يشرفني بصفتي مؤلفاً يُذكر اسمه على لوحة دعاية مثل (العروة الوثقى)، ولكن يجب أن أوضح للقارئ، أن اسمي قد ذكر على أنني مؤلف فرنسي ((عاش في الشمال الافريقي، وامتزج به وأحبه، واعتنق الإسلام، ولاقى الأهوال في سبيل الدفاع عنه)).
هذه هي القصة في كل بساطتها، أو في بساطة مظهرها: فهي في ظاهرها بريئة ومادحة فعلاً، ومن كتبها أو من طلبت منه كتابتها بهذه الصورة قد أودع فيها دون شك براءته ونيته الطيبة.
ولكن تجربة ربع قرن علمتني كيف أتعرف على حقيقة شيء من هذا القبيل: فإنني أعرف أين تصنع ولماذا تصنع هذه البضاعة. فإن من وضع عليها خاتمه، قد طلب منه ذلك كي لا يظهر الاستعمار في المعركة طبقاً للمبدأ الأول من منهجه، كما بينا ذلك؛ وهو لاشك قد فعل ذلك دون أن يعرف على أي بضاعة وضع خاتمه.
ونبقى إذن بالفعل أمام قصة بريئة على ظاهرها، لم يرَ فيها القارئ أثراً لكيد كائد، وليس من موضوع البحث هنا أن نقول كل ما تعنيه هذه القصة في إطار الصراع الفكري، وإنما نريد الاهتمام بما تعنيه في جانب معين بحد ذاته حتى لا نقع في تطويل غير مناسب في هذا العرض.
فنحن نريد هنا أن نعطي للقارئ فرصة التأمل في نبذة معينة من الصراع الفكري، فليعد نظره إلى ألفاظ القصة التي نحن بصددها ثم فلنقل له، لنضعه على الطريق المستقيم؛ إن مالك بن نبي لم (يعتنق الإسلام) - كما يقول صاحب مقدمة العروة الوثقى- بل هو يدلي إلى الإسلام بعرق مسلم منذ ثلاثة عشر قرناً على الأقل، ولعل القارئ حينما يعلم هذه الحقيقة يدب في نفسه شعور غامض بأنه أمام لغز يسلمه إلى الحيرة.
ولكن الاستعمار قد أخذ في حسابه جميع العناصر النفسية التي تكون هذا لموقف السلبي، فهو يدرك أن الوسط الإسلامي مصاب بشيء من ضعف الإرادة، الذي يتركنا في حيرتنا أمام بعض الألغاز فلا نحاول حلها؛ أو بصورة أعم إننا نقف في منتصف الطريق لا نحاول الوصول إلى نهايته، وهذا يتجلى في هروبنا من المشكلات حينما تفاجئنا.
وهكذا تتجدد المشكلة، فالاستعمار يدبر مكائده عن معرفة تامة بالنفسية المسلمة، فهو يعرف النقص الذي يمنع عقولنا من أن تضع بين الوقائع الارتباط المطلوب، الذي يجعلنا نضعها تحت قاعدة موحدة ونستخلص منها حقيقة عامة، ولا داعي للإطالة هنا، فقد أوضحت في غير هذا المكان هذا النوع من النقص، الذي لم يخطئ أحد المستشرقين الإنجليز حين أطلق عليه (الذرية) أي الاتجاه إلى اعتبار الوقائع والأحداث مجزأة منفصلة فردية، دون أي رباط عضوي بينها، كأنما هي في مجموعها لا تكون وحدة معينة، أي حلقة من التاريخ وفصلاً من فصوله، وإنما تكون في النظرية الذرية كوماً من الأحداث والوقائع جمعتها الصدفة، في غير ما تركيب ولا تنسيق، فلا يمكن أن نستخلص من كوم كهذا، كونته الصدفة المحضة أية نتيجة عملية؛ أي قانوناً عاماً نطبقه في حالات خاصة.
وهكذا عندما نفصل القصة التي نتحدث عنها، عن الملابسات التي تتضمنها بوصفها تفصيلاً من تفاصيلها وحلقة من سلسلتها في اطراد معين، فإننا سوف نعدها (غلطة مؤسفة) على الأكثر، وهذا كل ما نأخذه من واقعة عندما نعزلها عن قريباتها دون أن تفقد الواقعة- بسبب موقفنا البسيط والمبسط للأشياء- تأثيرها النفسي في سير الصراع الفكري، كما سنبين ذلك وكما يجب أن نفهم بذلك بداهة، إذ أن جهلنا لميزات شيء ما، لا يعني أنه يفقدها فالجاذبية كانت جاذبية قبل نيوتن.
أما إذا نطرنا للواقعة من خلال شبكة علاقاتها المنطقية العضوية، فإن
نظرتنا تشملها في نطاق اطراد تاريخي وتسلسل حوادث، تجعلنا نقدرها بوصفها نتيجة للواقعة التي قبلها وعلة للتي سوف تأتي بعدها، وحينئذ سوف يتحدد مركزها في الصراع الفكري. وتظهر لنظرنا أهميتها السياسية، إن أهميتها الحقيقية لا تبدو لنا حينما تكون منفردة، بل حينما ننظر إليها بمقتضى قرابتها من وقائع أخرى، أو بتعبير آخر بمقتضى شبكة علاقاتها في اطراد معين، يعطيها معناها الصحيح، بقطع النظر عن حرفية مضمونها، الذي قد يكون بسيطاً جداً.
وهذا ما يجب أن نراعيه بالنسبة إلى كل تفصيل يتصل بحياة الأفكار وبحركتها، بأن نقدر حساباً لكل جزئية تتضمنها ملحمة فكرة تكون حلقة من حلقات الصراع الفكري.
فينبغا علينا إذن أن نتناول (الأغلوطة) التي وردت في مقدمة العروة الوثقى، على أنها جزء من اطراد معين، أي بوصفها نتيجة للعنصر الذي سبقها، ومقدمة للذي سيتلوها.
فنحن نجدها مسبوقة بعنصرين مفسرين لها، لا بعنصر واحد: إنها مسبوقة بصدور ترجمة عربية لأحد كتبي في لبنان، نشرت دون علمي ثم ألغيت منها نبذة وجيزة عن حياتي، كما ن الناشر الفرنسي أضافها للطبعة الأصلية طبقاً للعرف المعمول به في بعض دور النشر بفرنسا.
فيجب إذن أن نقول أولاً إنه لولا التصرف في أحد كتبي دون علمي، وثانياً لولا إغفال نبذة عن حياتي في الطبعة الفرنسية، لما أمكن لصاحب مقدمة العروة الوثقى، أن يرجع لكتابي مرتين في سياق معين. ثم ما أمكنه أن يجد مسوغاً لإصدار حكمه عليّ بأنني ((كاتب فرنسي اعتنق الإسلام)).
وعليه فالأغلوطة، مهما كانت مقصودة أو صادرة عن سهو، فإنها بحكم
الوراثة النفسية التي تنشأ، في أي الأحوال بينها وبين العنصرين السابقين، تدخل حتماً معهما في اطراد نفسي في تسلسل منطقي واحد.
وعليه فكل حكم يفصل الأغلوطة عن هذا الاطراد، سوف يكون على ضوء ما قدمنا، حكماً (ذرياً)، أي حكماً مخطئاً على المسألة.
وواضح أن ظهور ترجمة عربية لكتاب لم أُسْتَأذن في ترجمته، وإغفال نبذة منه عن حياة مؤلفه، (والأغلوطة) الناتجة عنهما تتصل كلها بالسلسلة نفسها من الوقائع. ويجب أن أكرر هنا مرة أخرى، أنني لا أحاول تفسير (علة) الأمر، وإنما أهدف إلى توضيح (كيفية) وقوعه كي لا ننجرّ إلى استطراد لا يناسب هذا المقام.
ومهما يكن من أمر فعلى ضوء ما قدمنا، نجد أن الواقعة التي نحن بصددها. لا تتركب من عنصر، هو الخطأ الذي صدر فيما يتصل بشخص في مقدمة (العروة الوثقى)، ولكن من عناصر ثلاثة: ظهور الترجمة السابقة وإغفال شيء منها، ثم الخطأ الذي ينتج عن ذلك.
فالوقائع الثلاث متماسكة، وإذا ما تناولناها بوصفها وحدة، كما يبق مجال لأن نصدر على جزء منها حكماً قائماً على مبدأ الصدفة، ولم تعد تمر علينا (الأغلوطة) بسيطة، كشأنها حين يلقي القارئ النزيه، نظرته الأولى عليها، بل إنها إذا ما نظرنا إليها نظرة تشمل صلاتها السياسية وطبقنا عليها منطق الصراع الفكري، تدل بكل بساطة، على أن الأفكار التي جئت إلى الشرق من أجل نشرها، قد وقعت داخل شبكة المراصد الفكرية التي سبقت الإشارة إليها، وأن حركتها أصبحت موضع رقابة معينة.
هذه هي النقطة التي كان علينا توضيحها أولاً، فها نحن أولاء قد أوضحناها هنا بقدر الإمكان.
والآن يجب أن نرتب حولها العناصر التي أدلت بها مقدمة العروة الوثقى، لندرك جيداً كيف تكوّن هذه المجموعة من المعطيات المرآة التي قدمنا إلى القارئ فكرة عن صورتها النظرية، وعن كيفية تسخيرها لحاجة الصراع الفكري.
فالعروة الوثقى بحكم صلاتها التاريخية العريقة في ذهن القارئ المسلم، تكون بالنسبة إليه مرآة مثالية، يمكن أن تعكس على فكره ما نشاء عكسه، أي أنه في إمكاننا أن نستخدمها مرآة (كف) أو مرآة حرمان، إذا ما عكسنا عليها الانطباعات والخواطر السلبية متذرعين بالمؤثرات النفسية المناسبة كما سنبين ذلك.
إنه يمكننا استخدامها مرآة كف بالنسبة إلى أفكار كتاب من الكتب، إذا ما وضعنا اسم مؤلفه أمام (المرآة) بطريقة معينة، وفي الضوء المناسب للإيحاء الذي نهف إليه.
ولا يخفى على فطنة قارئ ما توحي به عبارة ((كاتب فرنسي اعتنق الإسلام))، عندما تظهر في ضوء خاص، يسلطه مصباح مزدوج، مركب من اسمين آخرين.
فإن اسمي في المقدمة المذكورة يظهر فعلاً بين اسم الأستاذ ليوبولد فايس مؤلف كتاب (الإسلام على مفترق الطرق)، واسم حيدر بامات مؤلف كتاب (مجالي الإسلام)، والقلم الذي وضع اسمي بين هذين الاسمين، هو قلم كاتب قد تذوقت كثيراً ما نشره عن التصوف في الإسلام، وإذا ما اعترفنا لهذا الرجل من ناحية بحسن النية، فإنه يجب أن نعترف من ناحية أخرى بدقة الاستعمار الجهنمية، إذ أنه لا يستخدم أصحاب الشهوات وذوي الميول السيئة فحسب، بل يستخدم أحياناً ذوي النوايا الطيبة؛ ومعروف كيف يستغل سمعتهم الخلقية مراعاة لمبدأ الغموض في كل الظروف. فهو في المجال السياسي خاصة، يستخدم
الفضيلة ضماناً ليبعد بها الشكوك، التي ربما تثيرها بعض العلاقات المريبة بين (مركب الأفراد) الذي يمثل سياسة عاطفية في البلاد المستعمرة، والجهاز الذي يشرف بالطرق العملية، على الصراع الفكري في تلك البلاد، ومن أثر هذا المبدأ في التطبيق، أنه يضع بين الرؤوس التي تتركب على الآلة الهاضمة رؤوساً لا يتطرق إليها الشك.
وإذن فلا غرابة أن يستغل الاستعمار رجلاً طيباً، دون علمه، ليقحم اسمي في (مرآة) مكونة من العناصر التي ذكرناها، أي من اسم (العروة الوثقى)، الذي يمثل- بسبب الهالة التي يحيطه بها تاريخ الإسلام الحديث- المرآة العاكسة في أجلى صورها، ثم اسمي الكاتبين الكبيرين، باعتبارهما مصباحين نفسيين. ليسلطا على موضوع الانعكاس الأضواء المناسبة، ثم اسم صاحب المقدمة الطيّب القلب بصفته ضماناً أدبياً يبعد الشكوك عن المرآة.
وعلى هذا فالتركيب العملي يتم على هذه الصورة:
ـ[العروة الوثقى
ليوبولد فايس
…
(اسم المؤلف المقصود)
…
حيدر بامات
الضمان الأدبي]ـ
فما هي الآن الآلية النفسية التي طبقت في التركيب؟.
أو بعبارة أخرى كيف تصاغ المشكلة في مصطلح علم النفس، في معركة فكرية أعلنت ببدئها مراصد الاستعمار، وأصدرت في شأنها الإدارة المختصة الأوامر اللازمة؟
إنه حينما تبتدئ المعركة ضد فكرة فإن اسم صاحبها لا يستخدم كما ذكرنا إلا في توجيه النيران، ولهذا يوضع في وسط المرآة، في مركز تلاقي الأضواء، أي مركز تلاقي الإيحاءات التي يراد عكسها عليه، كي يعكسها هو بدوره على الفكرة المقصودة بالذات.
فمن المؤكد مثلاً أن القارئ في العالم الإسلامي يطلع على الكتب القيمة التي نشرها الأستاذ ليوبولد فايس، ويستفيد منها فائدة عظيمة، ولكن هذه الأفكار - لمعامل شخصي يصدر عن تاريخ صاحبها- يختلف تأثيرها في (العقل) عن تأثيرها في (الضمير)، لأنها خاضعة لذلك المعامل الذي يربطها بصاحبها، فجهود أحد المؤلفين قد يؤدي إلى إدراك الحقائق، بينما يؤدي مجهود مؤلف آخر، ويهدف في أساسه، إلى تكييف الحقائق، إذ أن الأول يقلم بعض التفسيرات للقارئ، بينما يحاول الآخر أن يوحي إليه ببعض (التغييرات) الاجتماعية.
وهذا الاختلاف، في موقف المؤلف وتأثيره الخاص، إنما يحدث في صورة الفعل الإرادي أو غير الإرادي، بمقتضى صلاته الشخصية بالوسط الذي يتوجه إليه، حيث تنعكس في أفكاره آلياً كانعكاس لحياته الشخصية فيما يكتب.
وبعبارة أخرى لا يمكن لكتابات الأستاذ ليوبولد فايس أن تقدم للوسط الإسلامي مطالب (تغييرات) معينة في منهج حياته، أي أن تقدم له نظرية تقتضي تعديلاً في السلوك الجماعي، ولا دخل لإرادته في هذا الأمر، بل لعله يحدث بصفة لا شعورية تماماً.
وحين نؤكد هذا، فنحن أبعد ما نكون عن تقويم أفكار الأستاذ ليوبولد فايس، وإنما نذكر فقط واقعاً اجتماعياً- نفسياً يتصل بالوضع الخاص بهذا المؤلف، بالنسبة إلى الأوضاع العامة في المجتمع الإسلامي.
ولسنا نفقد الدليل على ذلك، لو كنا في موقف التسويغ، إذ يكفينا أن نذكر القارئ بالجدل الذي دار منذ سنوات حول اسمه، وكيف أسهمت فيه مجلة كانت تصدر آنذاك بالقاهرة، فقامت بالدفاع عنه، ولقد ترجمت هذه المجادلة في الواقع المحسوس، الظاهرة التي تحلل هنا آليتها النفسية.
وما يقال عن الأستاذ ليوبولد فايس يقال مثله عن الأستاذ حيدر بامات، فإن اسمه كاتباً، يستحق تقدير القارئ دون أي شك، ولكنه قد يكون هناك انعكاس حرماني على أفكاره بسبب التعامل الشخصي الصادر عن تاريخ الرجل.
فإذا حدث أن مؤلفاً أطلق على نفسه ذلك الاسم- حيدر بامات- في ظروف معيننة، ثم أطلق على نفسه أيضاً اسم جورج ريفوار، في ظروف أخرى، فإننا ندرك ما يكون لاسم كهذا من تأثير حرماني على أفكار صاحبه، كما ندرك في الوقت نفسه، أن تلك الأفكار قد تكوّن مجموعة هامة من (التفسيرات) القيمة. دون أن يكون لها فعالية من حيث (التغييرات) الاجتماعية المنشودة.
ولعل القارئ يدرك أننا قد تجنبنا حتى الآن الاعتبارات التي تتصل بالتخطيط السياسي العام، بينما نعلم أن خطة الاستعمار ضد الأفكار تشمل جانبين، الجانب الذي يهتم بالشؤون العالمية والجانب الخاص بالبلاد المستعمَرة، كما تجنبنا عامة الخوض في السياسة، على الرغم من أن محور الموضوع هو السياسة.
فإن الفكرة لا تقاوم إلا لأنها العضو الفعال في الحياة السياسية، ولكننا مع ذلك، تجنبنا الخوض في الاعتبارات السياسية، حرصاً منا على ألا نتناول سوى الاعتبارات ذات الطابع الفكري فحسب.
فإذا وضعنا هذه الاعتبارات في محيط المرآة التي قدمنا صورتها فسندرك ما يعكسه جهاز مركب على هذا النحو، من انعكاسات حرمانية، عن الاسم الموضوع للانعكاس في تلك المرآة.
فالقارئ المسلم الذي تتجه إليه الأفكار، المقصودة بالذات، يعكس عليها، بصفة آلية ما عكسته في نفسه (مرآة الحرمان) على اسم صاحبها، فيكون هذا الاسم بنقطة التقاطع، حيث تتقاطع انعكاسات الكف والحرمان المسلطة عليه من قبل تلك المرآة، التي تعكس عليه الإيحاءات السلبية الصادرة عن المعامل الشخصي، الخاص بالمؤلفين اللذين أقحم صاحب مقدمة العروة الوثقى بينهما في تركيب الجهاز، وهنا ينطلق هذا الجهاز من تلقاء ذاته طبقاً للقوانين النفسية المحددة، التي يجيد الاستعمار استخدامها في ميادين الصراع الفكري، وهو يعلم أن القارئ المسلم عامة بسبب تخلف بلاده، لم يمتلك المقدرة الكافية في نقد الأشياء، حتى إنه لا يؤسس أحكامه على الأفكار، على جوهرها وطبيعتها مباشرة، ولكن على صورتها في مرآة معينة، أي بعبارة أخرى على الصورة التي يريد الاستعمار إبرازها فيها، فهو يحكم عليهاطبقاً لانعكاسها على بصره، لا وفقاً لبصيرته؛ وبمقتضى الضوء النفسي الذي يسلط عليها من الخارج لا بمقتضى ما في جوهرها من برهان.
والحق أن هذا ليس شيئاً خاصاً بالشاب المسلم، فهو قد اتصف به عرضاً بسبب قصور بيئته بالنسبة إلى النمو العقلي، إذ إنها تُعَد حديثة العهد في هذا المجال؛ حتى إن مرآة العروة الوثقى تجبره في مثل هذه الظروف على أن يعكس ما يتلقاه من اسم الأستاذ ليوبولد فايس والأستاذ حيدر بامات على الأفكار التي أقدمها له في كتبي، ومما يزيد في استعداده لهذا ما يكون قد سبق في ذهنه عن (كاتب فرنسي اعتنق الإسلام).
وفي النهاية، ربما تصبح الأفكار غير مفهومة طبقاً لطبيعتها ولجوهرها، ولكن طبقاً لما تبدو في ضوء مصباحين نفسيين.
ومع ذلك فقد يكون للتركيب أهداف أخرى، خارج المجال الذي خصصناه بهذا التحليل، فقد تكون المرآة زمنية، تؤجل تأثيرها حتى تؤديه في ظروف
معينة؛ وبصورة عكسية يصبح الاسم الموضوع في نقطة الانعكاس، يلقي بدوره، ما تلقاه في هذا الوضع، على أفكار صدرت في كتاب معين، ككتاب (الفكرة الإفريقية-الآسيوية) على وجه المثال.
وقد يزيد التركيب من الدقة والإحكام بصورة شيطانية، حينما يجعل المؤلف الذي عرض اسمه في هذا الضوء الخاص عاجزاً على أن يصحح الوضع، لأنه من الصعب عليه، في مثل هذه الظروف أن يقوم بمثل هذا التصحيح. فالمرآة تصبح إذن، تعمل شبكة للأفكار، ولصاحبها نفسه؛ ويكون الاستعمار قد حقق بتركيبها هدفين، لأنه يكون قد صنع منها شبكة ذات دقة نفسية يتصيد بها الأفكار، وفي الوقت نفسه، شبكة ذات دقة أخلاقية لمؤلفها كي يمنعه من رد الفعل.
وتلك على وجه التحديد هي القمة التي تبلغها خطة الاستعمار في الصراع الفكري، ويتم فيها بكل دقة تطبيق مبدأ الغموض ومبدأ الفعالية
…
***